أيها الإخوة: درسنا هو غربة الإسلام الثانية وشدني إلى هذا الموضوع هو ما نعيشه في مراحلة الاستضعاف، التي نرى فيها الدين قد أصبح غريباً بين كثيرٍ من الناس في العالم، وحملته بين مطارد ومضطهد في كثير من أنحاء العالم، ولكن الله سيتم هذا النور، وسيعلي هذه الكلمة -ولابد- كما وعد عز وجل.
ونحن نريد أن نلقي الضوء على مزيد من ملامح هذه المرحلة.. مرحلة الاستضعاف، الوقت الذي لا يكون فيه لحملة الإسلام كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وفي الوقت الذي يحيط فيه أعداء الإسلام ويتربصون بالمسلمين من كل جهة، لابد على المسلم في هذه المرحلة أن يعرف واجبه، وأن ينظر ويتبصر في طبيعة هذا الزمن وهذا الوقت الذي يعيش فيه، لذلك كان عنوان هذا الدرس (استعينوا بالصبر والصلاة).
إنه توجيه مناسب جداً للمسلمين الذين يعيشون في هذا الوقت، إنها أوامر إلهية تناسب طبيعة الحال تماماً، وهي ما نحتاجه فعلاً في هذا الزمن، (استعينوا بالصبر والصلاة) اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128]، وقصة هذه الكلمة (استعينوا بالله واصبروا) عظيمة، عندما أرسل موسى لبني إسرائيل، نظر الله إلى بلاد مصر في ذلك الزمان، فإذا بها تحت هيمنة فرعون الطاغية، والله سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون سيأتي قبل أن يخلق السماوات والأرض.
وبعث الله موسى لإنقاذ هؤلاء المستضعفين من بني إسرائيل، لكي يُعدوا لخلافة الطغاة المتجبرين المتكبرين، وأرسل إليهم موسى عليه السلام، فصدع بالحق، وبيّن الرسالة، ودعا فرعون وقومه إلى الله عز وجل، وجمع بني إسرائيل، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يقودهم وأن يربيهم، وأن يعدهم لوقت النزال الذي تكون فيه المعركة قد قامت بين فرعون وجنده، وموسى ومن معه من المؤمنين.
قال الله عز وجل: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127] سبحان الله! قوم فرعون الملأ الطغاة، يقولون لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهل كان موسى مفسداً في الأرض؟ وهل كان قومه المستضعفون يستطيعون أن يفسدوا في الأرض؟ ولكن هذه طبيعة الملأ، وبطانة السوء، وحاشية الفساد، نفخوا في فرعونهم، فقالوا له ليستفزوه ويستحثوه ويوغروا صدره على موسى: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127] قيل: إن فرعون كان يعبد آلهة، ذكر بعض المفسرين كما في تفسير ابن كثير ، أنه كان يضع عقداً في عنقه يعبده، وقال بعضهم: إنه كلما رأى بقرة جميلة حسنة دعاهم إلى عبادتها.
ولهذا السبب صنع بعد ذلك السامري العجل؛ ليلهي به بني إسرائيل عن التوحيد ويشغلهم بعبادته عن الله.
وعلى أية حال: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127] وفي قراءة: وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ [الأعراف:127] أي: عبادتك؛ لأنه كان يأمرهم بعبادته، فماذا كان رد فرعون؟ قال: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] هذا التأكيد الثاني؛ لأنه كان قد شرع فعلاً في استحياء نساء بني إسرائيل وقتل أولادهم، ولكنه الآن يشدد ويؤكد على المسألة أنه سيفعل ذلك أيضاً مرة أخرى، وهذا هو التأكيد الثاني كما قال ابن كثير رحمه الله، سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127].
وفي خضم هذه المحنة، وفي أتون هذه الأزمة والشدة التي يواجهها بنو إسرائيل.. قال موسى لقومه! كيف تكون المواجهة؟ أناس عزل ضعفاء ليس عندهم شيء، وفرعون عنده كل القوة والسيطرة والهيمنة والبطش والإرهاب.. قال فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [الأعراف:127]، فماذا سيفعل العزل؟ ماذا سيفعل هؤلاء المساكين؟ وموسى المؤيد بالوحي من الله يملك الجواب، قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
لا أظن أن الواقع الذي نعيشه يحتاج للتعبير بأكثر من هذه الكلمات مما نحتاج إليه لمواجهة الواقع الجديد: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إننا لو فكرنا انطلاقاً من الموازين الأرضية والمقاييس الدنيوية، لا يمكن أن نأمل بنصرٍ للمسلمين، ولكن عندما نفكر انطلاقاً من السنن الربانية والموازين الشرعية؛ فإنه لابد أن نثق بأن الله سينصر الدين مهما كان أبناؤه ضعفاء قال الله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إن موسى وبني إسرائيل كانوا لا يملكون سلاحاً مماثلاً لسلاح فرعون أبداً، ولا جنداً يماثلون جند فرعون مطلقاً، ولما تحقق الأمر واستعانوا بالله وصبروا، وجعلوا بيوتهم قبلة، وصاروا يعبدون الله، كافأهم الله عز وجل بأن أغرق فرعون ومن معه، ونصر موسى ومن معه عليهم، بأن ابتلع البحرُ فرعونَ ومن معه.
وإنا لو صدقنا الله، وعبدناه، واستعنا به، وتوكلنا عليه، فلابد أن يرسل الله من نقمته وعذابه على الكفار ما يهلكهم ويشرد بهم، ويجعلهم عبرة للأمم القادمة.
فماذا قال بنو إسرائيل لموسى: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129] قالوا: نحن نتعرض للأذى قبل أن تأتينا يا موسى ومن بعد أن جئتنا، لم يتغير شيء، قال موسى يصبرهم: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
وكأن موسى يقول لبني إسرائيل: لو جاءكم يوم انتصرتم فيه وملكتم الأرض، فلابد أن تفوا بما عاهدتم الله عليه؛ لأن الله إذا استخلفكم فإنه سينظر كيف تعملون.
أناس في مرحلة الاستضعاف يقول لهم نبيهم: إذا انتصرتم وملكتم البلاد والعباد لابد أن تكونوا صادقين مع الله في تصرفاتكم؛ لأنكم ستكونون في حالة امتحان وابتلاء لكن من نوع آخر.. امتحان وابتلاء بالسراء بعد أن كنتم ممتحنين ومبتلين بالضراء.
أيها الإخوة! إننا لابد أن نترسم في هذه المرحلة عدة ملامح.. مرحلة الاستضعاف التي عاشها بنو إسرائيل مع موسى، وعاشها الضعفاء من قوم نوح مع نبيهم، والمسلمون من قوم شعيب مع نبيهم، ومن سائر الأنبياء الذين كان وراءهم مؤمنون اتبعوهم عاشوا مع أنبيائهم فترات استضعاف، وعاش المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترة استضعاف ثلاثة عشر عاماً، ولكن الله نصرهم، وأذن لهم بالغلبة على عدوهم.
فما هي ملامح هذه المرحلة؟ وما الذي نحتاج إليه؟ وما الذي يجب أن نفعله؟ وما هو واجبنا تجاه الأزمة الحاضرة؟
إن الجاهليات المعاصرة قد بنت أنظمة وشيدت أبنية، قالوا عنها: حضارية، وقالوا ما شاءوا أن يقولوا، لكنها في الحقيقة مصادمة لدين الله، ومصادمة حتى لفطرة البشر، ورسالتنا نحن رسالة تغييريه، ليست رسالة ترقيعية، أو تغييراً جزئياً، أو إزالة بعض المنكرات، وإنما طبيعة الرسالة التي يجب أن نحملها طبيعة تغييريه، لابد أن تُقتلع الجاهلية من جذورها وأن يحل محلها نظام إسلامي كامل.
لا يمكن أن يرضى المسلم بأنصاف الحلول، أو بتطبيق جزئي للإسلام، ولا يمكن أن يُضحك على المسلم ببعض التغييرات الجزئية الهامشية الجانبية، وتترك الأمور الأساسية بدون تغيير كما يوافق الشرع.
أيها الإخوة: إن هذه المهمة التغييرية تنبؤنا بأننا لا يمكن أن نسكت لقاء بعض المكاسب التي نحققها في الواقع، وإنما لابد أن نطالب بالمزيد، ونستمر في العمل حتى يحدث التغيير الشامل؛ لأننا في الحقيقة أصحاب دين ومنهج، ولسنا أصحاب مكاسب دنيوية ولا أطماع شخصية.
ولذلك فإن المسلمين الصادقين لا يمكن أن يسكتوا ببعض المناصب مثلاً أو ببعض الوجاهات، وهذه نقطة لا يفهمها ولا يعيها كثير من الذين يعملون للإسلام من خلال بعض البرامج التي يظنون أنهم يستغلون الديمقراطية من أجلها، بل الحقيقة أنهم يسكتون ويرضون بأمور جزئية، يظنون أنها مكاسب كبيرة جداً، والحقيقة أن المسلم لا يمكن أن يهدأ إلا بعد أن يرى الواقع أمامه مستقيماً تماماً على شرع الله.
ونحن نعلم -مع يقيننا بهذه القضية- أن التغيير لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، وأن المسألة لا يمكن أن تحدث بانقلاب مفاجئ يتغير الواقع فيه تماماً من الصفر إلى المائة، ولم يحدث هذا في تاريخ دعوات الأنبياء.
إننا نعلم أن المسألة لابد أن يحدث فيها تدرج، ودعوة مستقيمة جادة؛ لكي تجتمع الجماهير في النهاية على الإسلام، نحن نعلم أن المهمة صعبة، وأن التغيير قد يكون بطيئاً جداً، لكن هناك فرق بين أن يكون التغيير الشامل هو هدفك الأكبر، أو أن يكون تحصيل بعض المكاسب الجزئية هو هدفك الأكبر.
لابد أن يستقر في ذهن ووعي كل مسلم، أن الإسلام دين تغيير، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن التغيير يبدأ من الفرد وينتشر في المجتمع، وهناك تغيير أفراد وهناك تغيير المجتمع، كما أن هناك انحرافاً لدى الأفراد، فهناك انحراف لدى المجتمع، وانحراف المجتمع مكون -ولاشك- من انحراف الأفراد، مما أدى إلى انحراف النظم، فصارت الأنظمة الجاهلية مستقرة في بلدان المسلمين.
أيها الإخوة: إن التغيير هو (تغيير أفراد زائد تغيير المجتمع) ولابد أن يكون للإسلام قاعدة جماهيرية ذات نفوذ عام، وعند ذلك يمكن أن يحصل التغيير المنشود، وأما من جعل مصلحته الشخصية فوق مصلحة الإسلام، وقبل مصلحة الدين، فلا يمكن أن يصل، ولا يمكن أن يغير.
فإذا جعلنا الإسلام ومصلحة الإسلام هي المقدمة على مصالحنا الشخصية، وجعلنا الإسلام هو شغلنا الشاغل، وهمنا الذي يؤرقنا ليلاً ونهاراً، فإننا يمكن أن نعمل وننتج، وأما إذا جعلنا الإسلام شيئاً جانبياً، ومصلحة الإسلام قضية هامشية، وقدمنا لقمة العيش وأكل الخبز -كما يقولون- على مصلحة الإسلام، فلا يمكن أن نغير، وعند ذلك فإن الله سيأتي بقوم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
نحن الآن في معركة أفكار، وفي صراع تصورات مع الجاهلية، صحيح أننا لا نقوى على المواجهة بالسلاح في هذه المرحلة، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ورحم الله مجتمع الدعاة إذا عرفوا طبيعة المرحلة.
فنحن الآن نقارع الجاهلية، ونقارع مفكريهم، وأساطين الكفر ومتكلميهم، ونقارع كل من لديه شبهات ومبادئ جاهلية، نقارعه باللسان وبالقلم، نحن الآن نعيش في صراع فكري، يجب أن نرد على الشبهات، ويجب أن نواجه، وأن ندحض الأفكار الأخرى، ونعلن الحق، ونصدع بالدين، ونبين تصوراتنا للناس، ينبغي إعلان هذا الإسلام، وتوضيح جميع جوانب الإسلام للناس، ولابد أن يكون الإسلام منهج حياة واضح للناس.
لا يكفي أن نقول للناس: إن الدين هو شعائر تعبدية في المساجد، وهو أذكار تتلى في الصباح والمساء، وبر الوالدين وصلة الرحم، لابد أن نوضح طبيعة هذا الدين، وجميع جزئيات هذا الدين، نحن أمناء على الشريعة، لابد أن نبلغها للناس.. نبلغها كما أنزلها الله عز وجل، لا نبلغ أجزاء وقطع، نحن نبلغ الدين كاملاً، ولابد أن نشتغل بتبليغ الدين بقوة.
إن أعداء الله يطرحون أفكارهم ليلاً ونهاراً في جميع الوسائل، ولا تخرج مطبوعة ولا فيلم، ولا وسيلة من الوسائل الإعلامية، إلا ويطرح أعداء الله فيها أفكارهم وشبهاتهم، فماذا فعلنا نحن من أجل مواجهة هذه الأمور، ولا يجب أن نقف في موقف المدافع، بل يجب أن نغزوا بالأفكار الإسلامية عقول العالمين، ينبغي أن نغزوا بتصورات الشريعة الإسلامية أفئدة العالمين، هذا دين عالمي.. دين ليس لقطرٍ ولا لبلد، هذا دين عالمي أرسل الله نبيه للعالمين بشيراً ونذيراً لكل الأرض.
ولذلك لو وجدت إنساناً من أي بلد فأنت مكلف أن تبلغه هذا الدين بالطريقة المناسبة، وبالأولوية الشرعية الصحيحة.
إن هذا الدين دين لكل أهل الأرض، ليس ديناً إقليمياً، ولا يحده وطن ولا بلد معين، دين عالمين ينبغي أن ينشر لجميع أهل الأرض.
أيها الإخوة: من هذا المنطلق نقول: إننا كمستضعفين الآن لا نستطيع إعلان الجهاد على أهل الأرض؛ لأننا لا نملك مقومات المواجهة العسكرية مع الكفار، لكننا نملك إسلاماً بمبادئ وتصورات يجب أن نبلغها للناس، انظر لإبراهيم عليه السلام كان مستضعفاً في قومه.. لم يكن عنده جيش ولا سلاح لكنه برز على قومه وناقشهم وأفحمهم وأسكتهم، قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80] نظر إلى الشمس والكواكب والقمر، وجلس يقول: هذا ربي، من باب التنزل مع الخصم في النقاش، أي: كأنه يقول: نفترض أن هذا هو الرب: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76] .. قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] .. فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ... [الأنعام:78-79].
يعلم التوحيد أصلاً، ولكنه في نقاش معهم، ومع أبيه.. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:43-45] نقاش مع أبيه ومع المجتمع ومع الملك، يقول للملك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258].. وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].
إبراهيم ظهر عليهم بالحجة والبيان، وهذا ما ينبغي أن تفعلوه الآن أنتم يا أبناء الإسلام، فإن الإسلام الآن يتعرض لهجمات فكرية شرسة، يتعرض لسهام توجه إليه، عليكم أن تكسروا هذه السهام وتردوها، وتغزوا بأفكاركم الإسلامية أفئدة العالمين.
أيها الإخوة: يجب أن نقتدي بقوة وجرأة ووضوح فكرة إبراهيم في عرض الحق.
ويجب أن يكون عندنا هذه المقدرة لنبين، ولابد أن تكون بجميع الوسائل.
ينبغي أن تكون الدعوة الإسلامية في العالم بوسائل تكافئ الوسائل التي يستعملها أعداء الدين في الهجوم على الإسلام، وبعض الناس لو قلت له: ما هي الوسائل لديك لتبليغ الدعوة؟ ربما لا يزيد عن: الخطب والمواعظ فقط، لكن أعداء الإسلام عندما وجهوا سهامهم لأفئدة المسلمين وعقولهم، لم يوجهوها بالخطب والمواعظ فقط بل إذاعاتهم تبث مواعظ وخطب تبشيرية، وعندهم قساوسة يخطبون بالمسلمين، وينادون بالأب والابن وروح القدس، ولم يقتصر عملهم على هذا فقط، بل استخدموا جميع القنوات والوسائل، وأنواع المطبوعات، والوسائل المرئية، والمسموعة، والمقروءة، يستخدمون جميع أنواع البث، فنحن أبناء الإسلام ينبغي علينا أن نكافئ هذه الوسائل بوسائل أخرى، وقد يقول البعض: إننا لا نملك مثل إمكاناتهم، وهذا صحيح.. إننا لا نملك أقماراً صناعية، ولا نملك وسائل بث مباشر؛ لكن هل استخدمنا جميع الوسائل المتاحة؟
أيها الإخوة: إن وسائل الدعوة تحتاج إلى تطوير لمكافئة ومواجهة هذه الحملة الشرسة، فهل ابتكرنا واستخرجنا جميع ما في جعبتنا من الوسائل التي نكافئهم بها؟ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لكن ليس عندنا إلا الخطب والمواعظ!
نعم إن الدعوة الآن تعيش نوعاً من الانتعاش في الوسائل الإعلامية التي ابتكرها بعض الدعاة إلى الله، مثل فعل الكتيب الإسلامي والشريط الإسلامي، وهي وسائل مهمة من الوسائل الإعلامية للدعوة، تنقل بها الأفكار والتصورات، وتوضح بها المواقف، ويرد فيه على أعداء الله.. وسيلة يتربى عليها أبناء المسلمين، وتكشف فيها المؤامرات على الإسلام؛ لكن المسألة لازالت تحتاج إلى تطوير في هذه الوسيلة وفي غيرها من الوسائل.. تحتاج لتطوير في الطباعة والنشر والتوزيع، والوصول إلى المنافذ كلها، ويحمل ذلك أبناء الإسلام، لا يجوز لنا أن نعيش بوسائل بدائية في حمل الأفكار الإسلامية، لابد من دراسة وتخطيط، وإعداد للوسائل الفعالة، وإذا نظرت إلى المشاريع التجارية لا بد لها من دراسة لجدواها الاقتصادية، وخطط لكل شيء، من تكلفة المشروع، والعمالة، والمواد المستهلكة، والآلات، والأشياء المجلوبة من الخارج، والضرائب عليها، أليست الدعوة أولى بهذه الدراسات وهذا التخطيط من المشاريع التجارية؟
أيها الإخوة: حقاً إننا لازلنا نعيش في مرحلة بدائية، والواجب علينا أن نرتقي بهذه الدعوة مراحل إلى الأعلى وإلى الأمام، ينبغي أن تستغل جميع الإمكانات المتاحة في نشر الدعوة.
أيها الإخوة: إن إعلام الكفرة منظم ومدروس، ومؤتمرات المبشرين على درجة متناهية من الدقة، فماذا فعلنا نحن أبناء الإسلام من أجل ذلك؟ مرة من المرات جلب لي أحد الإخوان ملف مؤتمر تبشيري عُقِدَ في أمريكا من أجل دراسة أوضاع المبشرين في العالم، والبقع التي يراد غزوها، وماذا حصل حتى الآن؟ مناقشة ومراجعة لما حصل، وتقويم للوضع، وإعدادٌ للمستقبل، ويأتون بالأرقام الدقيقة، وأماكن تجمع المسلمين، وأعداد المسلمين في كل ولاية، وما هي نوعياتهم وأجناسهم؟ وما هي لغاتهم وأعمالهم؟ هل هم طلبة، أم فنيون وعمال، أم مهندسون وأطباء؟ ونحو ذلك.. إحصائيات دقيقة من أجل وضع الشرائح التي سيوجهون إليها سهامهم.
ويقول لك: دراسة حالة واقعية، قام المبشر فلان الفلاني بعرض النصرانية على الطالب فلان الفلاني، من بلد كذا من بلدان العالم الإسلامي، يدرس الهندسة الفضائية أو هندسة الطيران، وأعطاه نشرة كذا وكذا في النصرانية ، وفتح معه موضوع كذا وكذا، وأعطاه في الأسبوع الأول كذا، والأسبوع الثاني والثالث والرابع كذا، وانتهت المسألة بفشل المبشر، والشاب المسلم بقي على إسلامه.. ما هي أسباب فشل المبشر؟ أولاً.. ثانياً.. ثالثاً.. رابعاً، دراسة دقيقة لأسباب الفشل، يدرسون حالات واقعية من النجاح والفشل، ويجربون مراراً وتكراراً، بوسائل لا نقول: إنها وسائل معقدة جداً وتكنولوجية ولا يمكن أن نستوردها ونأخذ بها! لا، إنما هي أشياء فيها أنواع من التنظيم الدقيق والترتيب المدروس.
ينبغي علينا أبناء الإسلام ألا تكون تصرفاتنا عشوائية، وجهودنا مبعثرة، لابد أن يكون عندنا ارتقاء وتطوير في الأساليب؛ من أجل إنجاح هذه الدعوة.
إنما حصل من نشر الكتاب والكتيب، والشريط والمجلة، والنشرة نجاح طيب، لكنه لا يكفي، فالإسلام دين عظيم يحتاج لوسائل أعظم من هذه.
العلمانية : هي مذهب فكري إلحادي يرمي إلى نزع الدين من حياة المسلمين، وعزل الدين عن حياة المسلمين، وجعل الدين في جهة وحياة المسلمين في جهة أخرى، إنهم يريدون منا باختصار أن نقول: ما شأن الدين في الاقتصاد، وفي الأمور الاجتماعية، وفي الأمور السياسية، وفي العادات والتقاليد ... إلخ.
يريدون أن يقدموا لنا الإسلام في قالب معين، أن الدين في المسجد، وأنه مقصور على شعائر معينة، وقد تكون المسألة في عقد النكاح والطلاق.. ونحو ذلك، يقدمون لنا الدين في قوالب معينة، يريدون حصر الدين في زوايا، ونشر الإلحاد والتمرد على شريعة الله في بقية الأنحاء والأجزاء من جسد الأمة الإسلامية وواقعها، فنحن الآن معركتنا الأساسية مع هؤلاء، ورحم الله مسلماً عرف عدوه، ومعرفة العدو جزء مهم من القضية، ومعرفة مخططات هؤلاء الناس شيء آخر مهم جداً.
أقول لكم قصة الرجل الذي ذهب إلى جامعة من الجامعات في إحدى بلدان العالم الإسلامي، فوجد فيها تيارات علمانية، وغزو فكري مركز وموجود ومسيطر، قد عشعش في هذا المكان، ثم العجب أنه يرجع من هناك ليقول: إنهم أشخاص سوء، إنهم يدخنون! فلا يصلح أن نكون بالسطحية التي لا نرى فيها منكراً أعظم من التدخين.
لابد أن نضع نصب أعيننا، أن أعظم المنكرات هو تنحية الشريعة عن التطبيق في الواقع، من الألف إلى الياء.
والمهمة الواجبة على المسلم هي معرفة أفعالهم في الماضي والحاضر، ومعرفة خططهم المستقبلية وشخصياتهم حتى الأسماء، وقنواتهم التي يصبون فيها سمومهم والوعي بكتاباتهم، والزوايا التي يسطرون فيها أفكارهم، لابد أن نقرأ قراءة نقدية بخلفية شرعية، فنعرف أن هذا خطأ ومخالف للإسلام، على ضوء الخلفية الشرعية التي يجب أن تكون موجودة لدى الفرد المسلم، وإلا فإننا سنكون سذج، إما أن ننقد شيئاً لا يستاهل النقد، أو أن نغفل عن أشياء مهمة جداً في الصميم يُطعن فيها الإسلام، لا يمكن أن نترك المجتمع نهباً للعلمانيين، ويجب أن يبرز من شباب الإسلام قدوات وقادة في المجتمع، ليقطعوا الطريق على قيادات العلمانيين، فإن الجماهير لابد لها من شخصيات تعجب بها، ولابد لها من قادة ميدانيين في المجتمع.
فإذا تخاذل شباب الإسلام عن البروز بتميزهم العقدي والمظهري والعبادي والأخلاقي، إذا تخلف شباب الإسلام عن الظهور في المجتمع كقدوات مؤثرة، وكقادة لجماهير الأمة، فإن أهل العلمنة هم الذين سيتبوءون الأمكنة ويقودون الناس، كما فعلوا في الماضي.
فنقول: لابد أن تنهضوا أنتم يا شباب الإسلام! ويا كهول الإسلام! ويا صغار المسلمين! كل بحسب قدرته وطاقته أن يبرز في المجتمع.. المدرس في مدرسته، والمدير في دائرته، والمهندس في إدارته، والشيخ والعالم والواعظ والخطيب، لابد أن يبرز كل واحد بما عنده من الدين.
أنت إذا برزت اجتمع حولك الناس، وأخذوا ما لديك بأسلوبك الحسن، ولكن إذا تقوقعت أتحت المجال لأهل السوء أن يبرزوا، وكلما خفت صوت إسلامي، ارتفع صوت النفاق، وكلما توارى قلم إسلامي عن التسطير، حل محله قلم نفاق يكتب ليسمم أفكار وعقول أفراد الأمة، وهذا شيء معروف بالتجربة والواقع، فأين ألسنتكم وأقلامكم؟ وأين مجهوداتكم في نصرة شريعة الله؟
يجب علينا أن نحاصر العلمانيين، وأنا أقول: إن العلمانيين هم المنافقون؛ لأنهم أناس يظهرون الدين ومصلحة الإسلام، ويخفون الحرب الشعواء على الإسلام وأهله، ولذلك تراهم يستشهدون بأشياء شرعية، ونصوص شرعية في كتاباتهم. ومنهم من يقول: نحن نحترم جداً ابن جرير الطبري ، سبحان الله! أنت العلماني الخبيث! ما لك وابن جرير الطبري ؟ وما صلتك بـابن جرير الطبري ؟ وماذا تعرف عن ابن جرير الطبري ؟ وما مدى اقتناعك وإيمانك بآراء وكلام وعلم ابن جرير الطبري ؟
الآن جئت لتجتزئ من تفسيره شيئاً معيناً تعلق عليه تعليقاً يروق لمزاجك الفاسد، ويكتبون باسم الضرورة والمصلحة الشرعية، ويكتبون باسم مرونة الشريعة وتطوير الفقه، ويستخدمون كلام الأئمة، ويقولون: الإمام مالك يقول: "من شيوخي من أستسقي بهم الغمام ولا آخذ منه"، ويريدون بهذا الحق باطل، أي: أن الدعاة والمشايخ والعلماء للبركة، وليس للأخذ عنهم.
إنهم بهذا القول يريدون أن يقولوا للناس: هؤلاء الدعاة والمشايخ للبركة، لكن لا تأخذ عنهم شيئاً، لأن الذي يؤخذ من عندنا نحن العصريين، والواعين، والمتقدمين، والمتحضرين والمتفتحين، أما هؤلاء فهم رجعيون ومنغلقون.
فهم يتكلمون بأشياء من الإسلام، فهل وعينا تماماً الأبعاد التي تنطوي عليها كلماتهم؟ وماذا يريدون؟ وكيف الرد عليهم؟ لا يجوز أن نجعلهم يسرقون أضواء الإسلام أبداً ويتلبسون بها، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك، فمشاعل نور الإسلام بأيدينا نحن دعاة وأبناء الإسلام وليست بأيديهم هم، إنما يأخذوها ليطفئوها، ويضللوا بها الناس.
وهؤلاء أعداء الدين يصطنعون أبطالاً ليلتف حولهم الناس، وقد يقولون كلاماً جريئاً ليعجب بهم الناس، ويفتعلون انتصارات وهمية، مثل ما فُعِلَ لـأتاتورك لكي يظهر ويبرز، وكان الجيش التركي في هزائم متوالية وأمام جيش اليونان تراجع بعملية مدروسة وانسحاب تكتيكي للجيش اليوناني أمام الجيش التركي بقيادة أتاتورك ؛ ليظهر أتاتورك بطلاً شجاعاً أنقذ الأمة من الكارثة، فرفع على أعناق الناس، ولكنه رفعٌ ليضربهم ويضرب دينهم وإسلامهم، فمنع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب المرأة وطمس هوية المسلم.
ولكن الله عز وجل أهلكه، وكشف باطله، وظهر في تركيا اليوم من العناصر الإسلامية وأهل الدين من يبرهن على أن الدين لا يمكن كبته ولا إطفاء نوره.
يقول لي أحد الإخوان: ذهبت إلى هناك، فمشيت في إحدى البلدان، فقيل لي: لا تصدق دعك من العاصمة والمدن الكبيرة، لكن ادخل في الداخل حجاب كامل، قرية عددها ثلاثون ألف نسمة لا تكاد ترى فيها امرأة سافرة.
ورئيس بلدية مسلم، أول ما وصل إلى ذلك المنصب أصدر قراراً بإغلاق ملاهي الدعارة في البلد، فقامت إحدى الداعرات وتكلمت في عرضه بأنه رجعي ومتخلف، ويريدنا العودة إلى الماضي والعصر الحجري! فقال لها بأسلوب جريء وقوي: أنا على استعداد لفتح هذه الملاهي، إذا كنت أنتِ أول داعرة تكونين رأس مال المحل، فأخزاها الله وسكتت.
أيها الإخوة: هذا الدين دين عظيم، ونحن حتى الآن لا ندرك عظمة هذا الدين، هذا الدين لا يمكن أن يطفئ نوره مهما فعلوا، يضرب الإسلام في مكان، وتمر عليه عشرات السنين وإذا به يظهر مرة أخرى، يقتل علماؤه، ويشرد دعاته ويسجنون ويضطهدون، وإذا بأجيالٍ جديدة لم يحسب لها أعداء الإسلام حساباً تهب مرة أخرى، لتعلن أن الإسلام موجود، وأن الهوية الإسلامية موجودة.
( وَأَعِدُّوا ): فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
( مَا اسْتَطَعْتُمْ ): ما نكرة، والنكرة في سياق الأمر تفيد العموم ، أعدوا عموم أنواع القوة، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] من ضمن القوة رباط الخيل، كل شيء تستطيعونه.
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] من الكفار.
وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60] من المنافقين ومن غير المنافقين، أناس ليس عندك فكرة أنهم من أعداء الله، فإذا رأوا قوة الإسلام هابوه، وأنت لا تعلم عنهم، لكنهم خافوا لما رأوا قوة الإسلام وأهله.
وإن هذه الآية تأمر بالإعداد قبل أن تأمر بالجهاد، هناك آيات أمرت بالإعداد وآيات أمرت بالجهاد، قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29].
وآيات أمرت بالإعداد قبل الجهاد ومنها هذه الآية، وأي عاقل يعرف أن الإعداد قبل الجهاد، والآن أكثر بلدان المسلمين لابد أن تكون في مرحلة الإعداد؛ لأنها لا تملك مقومات إعلان الجهاد، وبعض الناس الذين لا يحسبون حسابات الأمور جيداً، لا يتصورون ولا يعرفون ولا يدركون ما هي مستلزمات المعركة، وهؤلاء يمكن أن يجروا بكل سهولة إلى معركة جانبية تستهلك فيها الطاقات والقوة الإسلامية القليلة، ويحصد فيها المسلمون وتنتهي القضية.
هؤلاء المساكين الذين ما فقهوا الواقع، ولا فقهوا شريعة الله أولاً، ولا فقهوا أن مرحلة الإعداد قبل مرحلة الجهاد.
أيها الإخوة: لابد أن نفرق بين مرحلة الإعداد ومرحلة الجهاد.
فهذا صلاح الدين سلك طريق النصر بشكل صحيح، أعدّ الأمة للمواجهة.. شحذ عزائمهم، وعظهم وذكّرهم بخطبائه وعلمائه وفقهائه.. إعداد متكامل.. إعداد العدة والسلاح، ونقل الأسلحة والعتاد من مكان إلى مكان، وحشد الأشياء، وكان إعداده للجهاد يسير جنباً إلى جنب مع إصلاحاته الداخلية، فكان يحارب العقائد الفاسدة، فمن الذي قمع الباطنية ؟ صلاح الدين.
من الذي أنهى دولة الفاطميين في مصر ؟ صلاح الدين.
من الذي حارب فرق الحشاشين ؟ صلاح الدين.
ولقد حاولوا اغتياله لأنه كان يصلح من الداخل، ويعد الأمة للمواجهة في الخارج، حتى الضرائب المضروبة ظلماً أصلحها، وأصلح أفكار الأمة، وشجع العلماء، وأشاع العدل؛ فانقادت له الأمة وكانت الانتصارات العظيمة.
صلاح الدين لم يجاهد من أول ما ظهر، ومن قبل صلاح الدين إعداد العدة في عهد نور الدين، فلما صلحت الأمة جاهد في سبيل الله.
أيها الإخوة: إن هذه الأمة في كثيرٍ من شعوبها تعيش حياة الدعة والترف، وتعيش حياة الذل والهزيمة.
إن كثيراً من الجماهير تريد أكل الخبز، وأكثر ما يفكر أحدهم به هو تأمين مستقبله ووظيفته، وأكل طعامه وشراء بيت وسيارة، ووفرةٍ مالية للمستقبل، واستثمارات.. وهكذا.
هؤلاء الذين ينغمسون اليوم في حياة الترف والدعة، لابد أن تأتي عليهم أحداث وتهزهم لتوقظهم، ولعل فيما جرى من الأحداث رحمة بالأمة من جهة إيقاظ هؤلاء النائمين، وتنبيه هؤلاء الغافلين.
إن الإسلام الآن مضطهد.. آلاف المسلمين يقتلون، بعضهم يقتلون بأيدي بعض! نعم، لكن عندما تحصل هذه النكبات لابد أن تستيقظ الأمة، وعندما يشعر الناس بالخوف يستيقظوا، وعندما يعيش الناس تحت الضغوط تصقل شخصيات كثير منهم؛ ولذلك إذا حدثت حروب ونكبات بالمسلمين، من آثارها الإيجابية: أن تهون الأرواح لتقدم إذا وجهت بشكل صحيح في سبيل الله، وعندما يقتل أناس كثيرون في مجتمع فيه ترف ودعة وانحطاط وبرود، جهودهم للإسلام في ثلاجة، والدعوة في إجازة، عندما تحدث هذه المصائب في مكان سيشعرون أن أرواحهم يمكن أن تبذل بسهولة الآن، فلماذا لا يبذلوها في سبيل الله؟ فإذا توجهوا هذه الوجهة دب تيار الجهاد في الأمة؛ ولذلك فإن أعداء الإسلام يريدون شراً، ولكن لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
متى تحمست الأمة للجهاد وصحا المسلمون؟
لما تكاملت الحملات الصليبية، هذا معه مليون مقاتل، وهذا ريتشارد ، وهذا ملك الألمان، وهذا وهذا، وذبح المسلمون في القدس ، وخاضت خيول الصليبيين في دماء المسلمين إلى الركب عندها استيقظت الأمة، وانتفضت وقامت.
ولذلك فهذه المصائب المتوالية لها فوائد كبيرة وعظيمة عندما تحدى العلمانيون بشيء من الأمور مشاعر المسلمين، استيقظ كثير من الهائمين والغافلين وتوجهوا، وتنور الناس، واستعدوا حتى ندم هؤلاء على فعلتهم، وقالوا: ياليتنا ما فعلناها وأخرناها، لقد كان توقيتنا سيئاً جداً.. لماذا؟ لأن ردة الفعل كانت أقوى من المتخيل والمتصور، ولأنه تحرك للإسلام أقوام، وهتف له وخطب له كثيرون، وصارت المسألة في المطالبة بتغيير المنكرات كثيرة وكبيرة، فانتعش الإسلام.
ولذلك فإن الناس الذين ألفوا حياة الترف والدعة، لابد لهم من هزات توقظهم، فإذا شبعت نفوسهم بطلب الموت لإعلاء كلمة الله، قاموا يجاهدون في سبيل الله، ويقدمون أعناقهم لأجل الدين، ويقتلون أفواجاً أفواجاً، ليعز هذا الدين وترتفع رايته.
والعلم الشرعي ضوابط تضبط تصرفات المسلم وسلوكياته، وكلما فكر في شيء يحاول أن يفعله ينظر هل هو في الكتاب والسنة؟ هل هو مخالف للكتاب والسنة أم ماذا؟
وفي الحقيقة فإن هذا العلم يجنبنا مهاوٍ وقع فيها كثير من المتحمسين، ودخلوا في مغامرات ومهاترات قتل فيها عدد من الأبرياء من المسلمين ممن لا ذنب لهم، أحياناً بحجة أنهم يبعثون على نياتهم، وأحياناً أنهم من جنود فرعون وهامان وقارون ، فهم مرتدون عن الإسلام.
إن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال من هذه المغامرات والمهاترات والانجراف في مهاو استعراض القوة، في وقت ليس من المناسب استعراض القوة فيه أبداً، والدخول في مواجهات وتفجيرات للموقف، لا يمكن أن يتحملها موقف المسلمين أصلاً، هؤلاء الناس لم يفطنوا دين الله، وكثير من هؤلاء يقودهم الجهل والتعصب الأعمى، ورفض سماع الحق.
أيها الإخوة: للعلم الشرعي ضوابط وقواعد مستندة للأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، مشروحة بكلام العلماء، فكم أخذنا من العلم الشرعي، وكم قرأنا منه، وكم تفقهنا فيه؟
يجب ألا تضيع الأصول الفكرية للمنهج الإسلامي المستمد من الكتاب والسنة في وقت الأزمة، ففي أوقات الأزمات يتصرف الناس بعفوية، وغالبهم يسيرون بلا دليل وبلا بصيرة، إلا الذي عنده علم بالكتاب، قال تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40]، وقال تعالى: قَال الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] .. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ [القصص:80] ويقول: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6]، ويقول: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فهذا القرآن العظيم آياته محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم.
ليس هدف المسلم طرد غازٍ ولا مستعمر، وإنما المسألة نشر الدين وقتال كل من يقف في وجه الدين.
أيها الإخوة: إن المتأمل لسيرة صلاح الدين يجد أنه لم يكن همه تطهير بقعة معينة، بل صلاح الدين يقول لمستشاره وصديقه القاضي الفاضل في أواخر عمره، يقول: حتى إذا يسر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت وراء هذا البحر إلى جزائرهم -إلى الأماكن التي أتى منها النصارى من أوروبا- أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
إذاً: الهمة والهدف ليس مكاناً محدداً ولا بقعة معينة، والمسألة هي القتال لنشر الدين في الأرض كلها، وإعداد الأمة قبل ذلك، والمسلمون ليسوا مرتزقة، يأخذون أعطيات لقتالٍ لهدفٍ دنيوي معين، فالمسلمون نيتهم في الجهاد إعلاء كلمة الله، ولا شيء آخر أبداً؛ لأن ( أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة... منهم: رجل قتل في المعركة، يؤتى به يوم القيامة، فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: في سبيلك، قاتلت وقتلت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء وقد قيل، اسحبوه إلى النار، فيسحب إلى النار ) هذا الذي قاتل بخلاف الذي تولى وتقاعس أصلاً.
أيها الإخوة: لابد من التوكل على الله، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، ويقول: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتاب فتح المجيد مبيناً أنواع التوكل المحرمة، وذكر منها: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالتوكل على الأموات أو الطواغيت في جلب النفع أو النصر أو الحفظ أو الرزق، فقال: هذا شرك أكبر.
ثانياً: التوكل على الأسباب الظاهرة: كمن يتوكل على أمير أو سلطان في دينا أو في شيء أقدره الله عليه؛ من مال أو دفع أذى.. ونحو ذلك، فهذا شرك أصغر، فإذا اعتمدت على الطواغيت في الحفظ أو النصر فهو شرك أكبر، وإذا اعتمدت على شخص يملك الشيء، واعتمدت على أسبابه هو فهذا شرك أصغر، فإن اعتقدت أنه هو الذي ينصر من دون الله، ويرزق من دون الله، صرت مشركاً شركاً أكبر.
يروى أن رجلاً أوصى أولاده مودعاً الدنيا، أخذ حزمة من العصي، ثم أمرهم أن يكسروها وهي مجتمعة فلم تتكسر واستعصت، ثم فرقها عليهم، فكسروها آحاداً بكل سهولة، فقال لهم مودعاً وموصياً:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحاداً |
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا |
من السهولة أن تؤكل الأمة عندما تكون شيعاً وأحزاباً، فيضرب بعضها ببعض، ولكن لا يمكن أن تصبح الأمة لقمة سائغة إذا اتحدت في جسد إسلامي واحد إن السبيل الأول لوحدة المسلمين هو التزام المنهج الصحيح منهج أهل السنة والجماعة.
والثاني: نبذ التحزب والتعصب، الضيق الذي يفرق المسلمين، فلابد من سلامة المنهج ووحدة القيادة، فإذا سلم المنهج، وتوحدت القيادة؛ انتصرت الأمة، قال الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
ولقد كان الجيش الإسلامي في الماضي في عهد السلف ، إذا استعصى عليهم فتح أتى بهم الخليفة، فسألهم:
أولاً: ما هي السنن التي تركتموها؟
ثانياً: ما هي المعاصي التي وقع الجند فيها؟ لأن هذه الأشياء هي التي تسبب الهزيمة، ولابد أن نتحلى بأكبر قدر من ضبط النفس، وهذا مصطلح صحيح يستعمله بعض الساسة، لكننا نستعمله لنبين حقيقة إسلامية مهمة، فالمسلمون لا يجوز لهم أن يُستجروا إلى ما يخططه لهم أعداء الإسلام، من أمور جانبية تستهلك قواهم، وتستنفذ طاقاتهم، وتضعفهم.. أبداً.
المسلم يضبط نفسه، وكلما أراد أعداء الإسلام أن يستفزوا المسلمين -وأقولها لكم وبكل ثقة وتأكد سيحاولون استفزاز المسلمين- يجب على المسلم أن يضبط نفسه عن أي تهور أو تصرف مستعجل يوافق خطة أعداء الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة تعرض لاستفزازات كثيرة جداً، آذوه وسبوه وشتموه، ألقوا سلا البعير على ظهره، عذبوا أصحابه أمامه وقُتل بعضهم وهو يسمع أخبارهم، قتلوا في مكة يشاهد الصحابة يعذبون ويقتلون وهو يضبط نفسه ويضبط من معه، حتى تحين اللحظة المناسبة، لم يُستجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معركة وهو في مبدأ أمره ولا زالت الخلية طرية، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويطوف بها، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، مع أنه من أقوى الأمة نفساً على الشرك، وأكره العباد للشرك، يصلي عند الكعبة ويطوف بها وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، هو يصلي لله لا للأصنام، ويطوف لله لا بالأصنام، وضبط نفسه ولم يفعل شيئاً يجر الأذى عليه وعلى المسلمين باستئصال شأفتهم وحصدهم أبداً، فضبط نفسه وأصحابه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرجوا على الكفار بالسلاح في مكة مطلقاً، ولم يستعملوا السلاح في مرحلة الاستضعاف أبداً، ولو قال قائل: من العسير جداً على نفسي أن أبقى بارداً حيال كل المنكرات الموجودة أمامي؟
أقول لك: نعم، ينبغي أن يثور دمك، وأن تغلي غلياناً من المنكرات التي تشاهدها أمامك، لكن ماذا تفعل؟ ستأتي منكرات كما ورد في بعض الآثار: تأتيكم منكرات لا تستطيع التغيير.. ماذا تفعل؟ هل ترمي بنفسك وبحفنة ممن معك لتهلك، لا يمكن وليست مصلحة شرعية، سترى منكرات كثيرة لا تستطيع تغييرها، وترى في الواقع بملء عينيك أموراً لا يرضاها الله ورسوله، ولكن اضبط نفسك، أنكر بحيث لا يترتب على الإنكار منكرٌ أعظم.
وأقول وأعيد وأكرر في أكثر من مناسبة: الآن المعركة بالكلام مع أعداء الإسلام، والجهر والصدع بالحق والجرأة فيه مطلوبة، الآن الشغل باللسان والقلم.. الآن الدعوة بالتبيين والتوضيح، هذا هو الأوان الآن، أما التغيير بالقوة في مكان وزمان لا يستطيع المسلمون في ذلك فهو تهور وعدم حكمة، لا يصلح أبداً أن يقع ذلك من المسلمين.
وبالنتيجة فإن الناس الذين يرون المنكرات تستشري أمامهم، سيكونون أحد قسمين، والثالث الوسط بينهما، فقسم متهور قد يفعل من التصرفات ما لا يحمد عقباه، وقد سبق أن شرحت ذلك في محاضرة (فقه المحنة) وقسم ثان سيصاب بالإحباط واليأس ويقعد في بيته، ويقول: لا أمل للإسلام ولا يمكن أن تقوم للدعوة قائمة، فالناس سيكونون إما يائس أو متهور، إلا من فتح الله عليه -وأنتم منهم إن شاء الله- بعلم وبصيرة من الكتاب والسنة، وفهم للواقع وفقه فيه، واسترشادٍ بكلام أهل العلم بالشريعة وبالواقع، لا يكفي العلم بالشريعة فقط ولا العلم بالواقع فقط، واسترشاد واستشارة واستبيان وطلب البيان من أهل العلم بالشرع والواقع، وعند ذلك ستكونون إن شاء الله مقدمة الطلائع الإسلامية التي تقيم للإسلام عزه وعماده بإذن الله.
وإن قال قائل: قد أجد رجلاً يقبل امرأة في السوق ما زلت لم تشف غليلي بالكلام، وتقول: اضبط نفسك!
أقول: أنكر وتكلم ولكن بلسانك، أما أن تبطش بيدك لا يمكنك أن تفعل ذلك الآن، وقد تجد رجلاً يحتضن امرأة على الحشائش في قارعة الطريق، ماذا تفعل؟ تقول: عجزت وبكيت وهربت، أو تقول: تهورت فرجمتهما بالحجارة، لكن أنكر وتكلم واصدع بالإنكار باللسان، وبين وعزر لكن بأي شيء؟ بما جاء في الشريعة من أنواع التعزيرات باللسان، قل: يا فاجر! يا فاجرة! يا سافل! يا سافلة! تفعل هذا عليك غضب الله تزجر لكن باللسان، أما أن تستخدم اليد، فإنه لابد من الضوابط الشرعية وإلا ستضيع أموراً كثيرة.
فالابتلاء سنة الله في عباده المؤمنين، ولابد من الابتلاء للتمحيص، ليمحص الله عز وجل عباده، يبلوهم بالشر وبالخير.. يبلوهم بالضراء والسراء، لا يمكن أن يعيش العبد بغير ابتلاء أبداً.
ونقول: بالسراء وبالضراء، حتى أن بعض الناس عندما يقولون: نحن ما ابتلينا بالضراء، هل يعني أنه ليس فينا خير؟ نقول: لا، هناك من أبناء الصحابة والتابعين لم يبتلوا بالضراء، فلعلهم عاشوا في عصور زاهية، عصور عز للإسلام، لكنهم ابتلوا بالسراء، ثم إن الإنسان لا يعدم أن يبتلى بشيء من الأشياء.. بفقد ولد أو والد، أو عزيز، أو مال.. ونحو ذلك، فلابد أن يحصل له ابتلاء من الابتلاءات.
وقد يدفع الله عن الناس الابتلاء بأذكار الصباح والمساء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .. (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم).. ( اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي ) قال وكيع : أي: الخسف.
إذاً: أدعية قد يقي الله بها عباده شرور كثيرة، وآفات عظيمة، واظبوا عليها.
أيها الإخوة: لو وقع الابتلاء فماذا يكون الموقف؟
هذا موضوع طويل كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لكي أتكلم عنه بشكل مستقل، ولكن لحاجة في نفسي كنت أقول: إنه يدرج في الموضوع إدراجاً، وإن كنت أرى أنه لابد أن يفرد بشيء، أو تحت عنوان، مثل: (التصرف الصحيح عند الابتلاء) ولعله يحصل، لكنني أقول مجملاً ومختصراً: لابد أن نصبر، ولابد من التربية قبل الابتلاء، ولابد من الصبر معه، ولابد من الإخلاص بعده، فلا نحدث الناس على سبيل التفاخر بالأشياء التي حصلت لنا، وأوذينا وحصل لنا، لا. فإذا نزل الابتلاء لابد أن تكون هناك تربية قوية، وإلا لا يمكن أن يصبر الإنسان.
ثانياً: لابد من الصبر وعدم الجزع والفزع، فإن بعض الناس إذا ابتلوا فقدوا صوابهم، وطارت عقولهم، وقالوا: من أين أوتينا؟! لابد من الرضا بقضاء الله عز وجل، لو وقع عليك شيء هذا قضاء الله وقدره، وأنت تقدم للإسلام تحتسب هذا عند الله، ولا مانع أن تدفعه ما أمكنك، ولا نقول للمسلم: إذا وقع عليك ابتلاء استسلم تماماً، حاول أن تدفعه عن نفسك بما تستطيع، ولا تخبر به رياء، ولا تشتكي إلى الخلق.
في أحد المجالس كنا عند الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فجاء رجل من بلد من البلدان الإسلامية، قال: يا شيخ! أنا محتاج إلى مساعدة، قال الشيخ: هات أناساً يزكوك، قال: ليس عندي، أنا طلبت العلم، وأنا دخلت السجن وعذبوني، قال له الشيخ: أنت طالب العلم، إذاً أنت تعلم من بديهيات الأشياء أن الشخص لابد له من أناسٍ يزكوه، قال: يا شيخ! أنا عذبت، قال له الشيخ: لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر.
إذاً اسكت من الشكوى إلى الخلق، إذا أوذيت فاحمد لله، فتؤجر إذا أصلحت النية، ونقول: (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا) والإنسان لا يقول: أين الابتلاء؟ أنا مستعد لمجابهته.. أنا إيماني قوي وحديد ونار، لا، أنا حديد ونار على من يعتدى لكن تعال أنت الآن واعمل بهذه القاعدة الإسلامية: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاثبتوا).
فهذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا، الصبر على الابتلاء، وعدم إيذاء المسلمين، وعدم التسبب في أي شيء يؤذي المسلمين.
ألم تر قول الراهب للغلام: فإن ابتليت فلا تدل علي، لأن الإنسان قد يبتلى ويحصل له أي شيء، لكن لا يتسبب في أذى لأي شخص آخر من المسلمين، ويقي بنفسه إخوانه.
أقول: إن الأمر لعله يكون شيئاً مما كان مع موسى وفرعون، وأختم لكم بهذه الآيات: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:4-6] كانوا يخشون أن يظهر غلام من بني إسرائيل يكون على يديه تقويض عرش مملكة فرعون، ولكن إذا قضى الله أمراً فلابد أن يكون.
أيها الإخوة: هذا استضعاف بني إسرائيل، وهذا التمكين حصل لهم بعده، والدعوات من بعدهم، فما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى يبتلينا الآن، ويتسلط علينا الأعداء من كل جانب، لكن تكون النتيجة في النهاية نصراً للإسلام والمسلمين، وما ذلك على الله بعزيز، والله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا تستبعد يا عبد الله نصراً قريباً للإسلام، ولكن علينا العمل، والمتابعة، وبذل الجهد، والإخلاص، والتربية، والتعلم، والإعداد للجهاد، إن هذه المسئوليات علينا لابد أن نقوم بها لله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والحمد لله أولاً وآخرا.
.
الجواب: هناك أشياء مهمة، هذه الصور كثير منها استهزاء بعباد الله المسلمين، لكن في نفس الوقت يجب أن توضع الأمور في مقياسها الصحيح، فلا نحمل الأشياء أكثر مما تتحمل؛ لأن بعض المتحمسين عندما يمتلئ صدره بالعداوة -ولابد أن يمتلئ الصدر بالعداوة- قد يتصور في كل شيء هجوماً على الإسلام والمسلمين، وهو ليس كذلك، فقد يكون الأمر منكراً صغيراً، وقد يكون شيئاً طبيعياً، لكنه يتخيل ويحمّل الأشياء مالا تتحمل، لذلك عندما ننكر لابد أن ننكر الشيء الواضح الجلي الذي ليس به خفاء، والأشياء المظنونة نحذر منها ولا نكون مغفلين.
الجواب: نعم ولا شك وغير الكويتيين من المسلمين أجمعين، أي مسلم لحق به أذى واضطهاد فلابد أن يصبر، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجا، قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5] والله عز وجل من سنته في الكون أن يعقب الشدة فرج، ويأتي فرج ربك من حيث لا يحتسب الناس، ونقول: إن الله سبحانه وتعالى ينصر المظلوم على الظالم، والمظلوم إذا دعا الله فإن الله لا يرد دعوته، ويقول: (لأنصرنك ولو بعد حين).
الجواب: لقد نبهنا في بعض المناسبات على أن هذه الحملات على أهل الإسلام لإدخال الشهوات قد استعرت الآن أكثر من أي وقت مضى، والآن سيكون هناك عشرات ومئات وألوف العروض التي تقدم عن الفواحش، وإظهار العورات؛ لإفساد شباب الأمة وإفساد الأمة عموماً، ولذلك سيجد بعض الناس أنفسهم مضطرين في النهاية -العقلاء بالطبع- إلى إخراج الوسائل التي تعرض الإفساد من بيوتهم.
كان أول يقول: أنا أتحكم وأتحكم، لكن في النهاية صارت المسألة عندك في الصباح وفي الليل وفي الظهر، وكان من قبل أشياء وتقطع منها بعض المقاطع، لكن الآن تعددت القبلات والاحتضانات وصارت الآن مسائل أخرى، ولذلك فإن هؤلاء العقلاء -ونرجو الله أن يجعلنا جميعاً من العقلاء الذين يتبصرون بالدين- سيجدون أنه لابد من حسم الشر وبتره من أساسه.
الجواب: هناك كتاب عنوانه: أهمية الجهاد في نشر الدعوة إلى الله ونشر الدعوة الإسلامية، للشيخ علي بن نفيع العلياني ، وهو كتاب جيد وقيم وأنصح به، وهو لا يغطي كل الموضوع، فموضوع الجهاد طويل جداً، لكنه شيء من الأشياء المهمة في هذا الأمر.
الجواب: نعم، تصوروا قريباً كنت في نقاش مع أحد الأخوان، الخبر كالتالي:
فتى وفتاة يتناقشان، وتأتي له بهدية -هذا كله في فلم كرتون- تأتي له بهدية إلى البيت على أنه مريض، ثم يستقبلها، ويقول لها: تفضلي واصعدي معي إلى الغرفة، وتصعد معه إلى الغرفة ومعه قطة، وتكون غرفته مبعثرة، فتعرض عليه أن ترتبها له، ثم يتحاوران ويتناقشان.. إلى آخره، ثم يأتي مشهد فيه عرض لبنتين من أصدقاء الفتى والفتاة، تقول إحداهما للأخرى: فلانة ذهبت إلى بيت فلان، فتقول الأخرى: نعم، فترد عليها وتقول: لكن صعدت إلى غرفته، فتقول الأخرى: لا يمكن ذلك، ولكنهما يشاهدانهما من بعيد في الغرفة مع بعض، فتقول إحداهما للأخرى: إن فلانة لا يمكن أن تدخل غرفة فتى لوحدها وليس معها أحد، ثم تقول الأخرى ضاحكة: لا لا.. إن معها أحد إنه القط الصغير.
عندهم الآن تدريب -لأن هذا تدريب عملي لأولادنا الصغار- أن يتدربوا على العلاقة مع البنات والأولاد، ولا يمكن عرضها لأناس كبار، وإن كان عرضت وانتهت، ولكن بالنسبة للصغار فهو شيء طبيعي، وممكن يحصل النقاش، ويمكن أن يستضيفها في غرفته، وتدخل معه لوحدها وأن القط يزيل الخلوة.. سبحان الله العظيم! هذا حكم جديد ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ولا الآخرين، الآن فقط سمعنا أن القط يزيل الخلوة.
أنتم قد تدهشون ربما إذا علمتم أن العلماء يقولون في المسائل المتعلقة بالخلوة، قالوا: ولا يجوز لامرأة أن تخلو بحيوان أو بهيمة فيها ميل إلى النساء أو في النساء ميل إليها كالقرد، سداً للذريعة، إذا حصل الفساد والشر، فما بالك الآن.
الجواب: نقول: الذل هنا ليس ذل الدين، وليس ذل النفس، وإنما هو أقلة في العدد والعتاد، أي: الذل الدنيوي، وليس الذل الشرعي أو النفسي.
الجواب: الابتلاء لابد منه، والمرأة حارسة للقلعة، وقد يبتلى زوجها فينبغي أن تكون هي كذلك مستعدة لجميع الأشياء، والصبر إذا كان عندها قليلاً، فلابد أن تكون مستعدة، وتتربى وتوطن نفسها على ما سيأتي.
الجواب: ماذا تقول في الكلمة التي بعدها: (فإن لم يستطع فبلسانه) فإن لم يستطع لا يعني أنه لا يستطيع هو، وإنما تدخل عدم الاستطاعة أيضاً إذا كان سيؤدي إلى منكرٍ أكبر منه، فليست القضية خوف وجبن، لا، وإنما لا يستطيع لأنه يعلم ما يترتب على هذه الأشياء من منكرات، وبالمناسبة أقول أيضاً: هذا لا يعني إذا رأيت منكراً في بيتك لا تغيره باليد، أنا أتكلم عن المنكرات العامة، المنكرات التي يترتب على إنكارها باليد مفسدة أعظم، أما إذا رأيت المنكر في البيت وتستطيع أن تغيره باليد فغيره، كل منكر تستطيع أن تغيره باليد ولا يترتب عليه مفسدة، فغيره باليد.
الجواب: في بعض المقالات في مجلة البيان -على ما أذكر- هناك ذكر لقضية تطوير وسائل الدعوة، فيمكن للأخ أن يرجع إليها، وإن كان لا يحضرني الآن ذكر الأعداد التي فيها هذا الأمر.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر