وبعد:
فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن آداب الهدية، وهي شعيرةٌ إسلامية جميلة جداً، فبها يتم سببٌ عظيمٌ للتآلف بين القلوب والاجتماع، وشيوع المودة بين المسلمين، وهذا من أعظم ما جاء في شريعة الإسلام.
أما الهدية: فإنها ما أتحفت به، والتهادي: أن يهدي بعضهم إلى بعض، يقال: أهديت له وإليه، والجمع هدايا، وهداوى، وهداوي، وهداوٍ كما هي في بعض روايات أهل اللغة، والهدية: مفرد هدايا، يقال: أهدى له وأهدى إليه، كلاهما صحيح، فيتعدى الفعل باللام وإلى، ويقال: أهدى الهدية إلى فلان، وأهدى له هدية، أي: بعث بها إكراماً له.
ويقال أيضاً: أهديت العروس إلى بعلها، أي: زفت إليه، وهادى فلانٌ فلاناً أي: أرسل كلٌ منهما هدية إلى صاحبه.
وبالنسبة للتعريف الشرعي للهدية، فإن العلماء قد ذكروا عدة تعريفات، ويمكن أن نقول عموماً: إن الهدية هي دفع عينٍ -سواءً كانت مالاً أو سلعة- إلى شخصٍ معين -الذي يراد بالهدية هذا الشخص المعين- لأجل الألفة والثواب، من غير طلبٍ ولا شرط.
لأجل الألفة والثواب: وهو الأجر من الله سبحانه وتعالى.
من غير طلبٍ؛ لأنه لو قال: أهدني أو أعطني ربما صارت رشوة.
ولا شرط كما يشترط بعضهم في الإعانة، بشرط الإعانة.
فإذاً الهدية: هي عطية بلا اشتراط مقابل، وهناك كلمات مرادفة لكلمة الهدية مثل: الهبة والعطية والصدقة، وقد جاء عن أهل العلم رواياتٌ في التفريق بينها، ولكن يمكن أن نقول: إن الهدية والهبة والصدقة والعطية بمعنىً واحد من جهة أنها تمليكٌ في الحياة بلا عوض، فالهدية والهبة والعطية والصدقة تشترك كلها في أنها تمليك في الحياة بلا عوض؛ لأنك تملكه هذا الشيء بلا مقابل، والعطية: اسمٌ شاملٌ للجميع.
والهدية يُتقرب بها محبة لك، والهبة والعطية معناهما متقارب حتى لا يكاد يوجد فرقٌ بينهما، والصدقة: التي تُدفع إلى الشخص لقصد ثواب الآخرة فقط.
فإذاً هناك فرقٌ بين الهدية والصدقة، من جهة أن الهدية يقصد بها التحبب وثواب الآخرة، والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة فقط.
وتُمتلك الهدية بالقبض، فإذا قبلها وقبضها صارت في ملكه، ولا تنتقل إلى ملكه إلا بقبضها سواء قبضها هو أو وكيله، واحتج جمهور العلماء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو أهدي إلي كراعٌ لقبلت).
فالهدية بناءً على ذلك لا تُملك بمجرد الإهداء، حتى تصل إلى الشخص المهدى إليه أو وكيله، فإذا استلمها صارت ملكاً له، وهذا ينبني عليه أحكام، مثلاً: هل يجوز للإنسان أن يرجع فيها؟ متى يجوز له أن يرجع فيها؟ أو متى تنتقل إلى ملكية الشخص الآخر بحيث لا تكون في ملك الأول؟
إذا قبضها المهدى إليه -استلمها- دخلت في ملكه، فمن مجرد استلامه دخلت في ملكه، أما لو قال: سأهديك، أو أهديتك، ولم يسلمه شيئاً، فإنها لا زالت باقية في ملك المهدي ولم تخرج من ملكه.
فأرادت استمالة قلب سليمان لدفع الضرر عنها، وأرادت مصانعته، وأن تثنيه عن دعوته لها ولقومها وتهديدهم لهم، وسليمان لم يقبل الهدية؛ لأنها لم تكن لوجه الله، ولا كان فيها معروف، وإنما أرادت إيقافه عن جهادها، عن الجهاد وقتال هذه البلدة وهي اليمن ، فلما رأى سليمان عليه السلام أن هذه الهدية ليس فيها خير ولم يرد بها وجه الله ردها، وقال: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ) النمل:36-37] ليعلموا أننا نريد الجهاد وإقامة الدين، وليست القضية مجاملات وهدايا، كما هي العادة بين الملوك: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37] حتى لا ينخدعوا بحطام هذه الدنيا أو يظنوا أننا نغتر بالهدايا أو أننا سنترك الجهاد لأجل هديتهم: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:37].
ومما يدخل -أيضاً- في الهدية مثل العطية والهبة، أو مما يقرب من معناها ما جاء في قوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] فالله عز وجل أمر بإيتاء النساء المهور.
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4] ومعنى نحلة: عطية عن طيب نفس.
وقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء:4] وهبنه لكم، وتنازلن عنه لكم: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] فإذا تنازلت عن جزء من الصداق لزوجها أو أعطته إياه بعدما استلمته منه دون ضغط منه ولا إكراه، وإنما عن طيب نفسٍ منها ورضا: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4].
فإذاً: من أعظم الحلال الذي يؤكل، المغانم: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69] وهو أعظم أنواع المال الحلال، بل هو أشد الأموال حلة، وقد فاتنا هذا النوع من المال بسبب ترك الجهاد.
وكذلك من الأموال الحلال الطيبة، ما تتنازل به المرأة من مهرها لزوجها، قال الله عز وجل: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] ولذلك جاء عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تستشفي فاستوهب درهماً من زوجتك عن طيب نفسٍ منها، ثم اشتر به عسلاً، وهاتِ إناءً واجمع فيه من ماء المطر، ثم اقرأ القرآن وأذب العسل فيه واشربه، قال: أما ماء المطر فإنه ماءٌ مبارك، والعسل فيه شفاءٌ للناس، والقرآن -أيضاً- فيه شفاء، ودرهم الزوجة هنيئاً مريئاً، فإنك تبرأ بإذن الله.
ولا شك أن الهدية سببٌ للمحبة وتآلف القلوب، وكان التابعون يرسلون بهداياهم، ويقول الواحد لأخيه الذي يهديه: نحن نعلم غناك عن مثل ذلك، وإنما لتعلم أنك منا على بال، يعني: نحن نعلم أنك مستغن عن هديتنا، ولكن لتعلم أننا نقدرك وأن لك في أنفسنا مكانة، وقال الشاعر:
هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ تولد في قلوبهم الوصالا |
وتزرع في الضمير هواً ووداً وتكسوهُ إذا حضروا جمالا |
وقال آخر:
إن الهدايا لها حـظٌ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدبِ |
يكون لها مكانة في النفس إذا جاءت.
وقال آخر:
إن الهدية حلوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا |
تدني البغيض من الهوى حتى تصيره قريبا |
وتعيد مضتغن العداوة بعد نفرته حبيبا |
وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقبل الهدية ويثيب عليها) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) وهو في صحيح البخاري.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمر شيئاً من العطاء فكان يقول عمر : (أعطه من هو أفقر مني يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مستشرف) أي: غير متطلع (ولا سائلٍ) ما طلبته (فخذه فتموله) أي: تملكه (فإن شئت كله وإن شئت تصدقت به، ومالا -إذا كان خالياً من هذه الشروط- فلا تتبعه نفسك) فإذاً: قوله: (إذا جاءك من هذا المال شيء فخذه) يدخل فيه الهدايا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله شيئاً من هذا المال من غير مسألة فليقبل، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه) مادام أن المال أتى من غير مسألة، وأنت لست مستشرفاً له، ولا متطلعاً له، ولا متعلقة نفسك به تهفو إليه وترجوه، فخذه ولا ترده، فهذا مال مبارك.
ومن الأدلة أيضاً -أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية- قصة بريرة رضي الله عنها، وجاء في صحيح البخاري عديدٌ من الروايات في هذه القصة، فمنها ما رواه في كتاب الأطعمة، وربما تكون هذه الرواية هي أوضحها وأتمها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوماً بيت عائشة وعلى النار برمةٌ تفور فدعا بالغداء، فأتي بخبزٍ وأدمٍ من أدم البيت فقال: (ألم أر لحماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ولكنه لحمٌ تُصدق به على
إذاً: المال لما انتقل من شخص اختلف حكمه. من المتصدق إلى بريرة صدقة، ومن بريرة إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام هدية، إذاً: يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام أن يأكل منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتي بطعامٍ سأل عنه: أهديته أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل؛ -لأنه لا يليق بمقام النبوة أن يأخذ من صدقات الناس وأوساخهم- وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري في كتاب الهبة.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، والسبب في ذلك كما تقدم، وهذه آيته عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة، أنه كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، والكتب المتقدمة كانت فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هناك فرقاً بين الهدية والصدقة، فالهدية نوع من الكرامة، ومن باب حسن الخلق، وتتألف بها القلوب، وكان عليه الصلاة والسلام يأكلها؛ لأنها من باب الإكرام ولا يردها؛ لأجل ألا يغضب الذي أهدى، أو يصبح في نفسه عليه شيء، فلا شك أن في أخذ الهدية تألفاً للقلوب وإبلاغاً له بأن إكرامك مقبول.
أما الصدقة من اليد العليا إلى اليد السفلى فلا تليق بمقام النبوة، وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ولو كانت قليلة ويسيرة، ولذلك قال: (ولو أهدي إلي ذراعٌ أو كراعٌ لقبلته) والكراع: ما دون الكعب، وما عليه إلا اليسير من اللحم، لكن لو أهدي إليه لقبله عليه الصلاة والسلام ولم يحتقر شيئاً، وبذلك أوصى نساء المؤمنين فقال: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة) والفرسن: هو في الأصل اسمٌ لخف البعير، فاستعير للشاة فهو ظلفها، ولم تجر العادة بإهداء ظلف الشاة، لكن ذكره على سبيل المبالغة، أي: اقبل الشيء اليسير من الهدية ولا ترده، فأحياناً قد يهدي إليك أخ شيئاً يصنعه بيده من الأوراق التي لا قيمة لها في الحقيقة، فاقبله تطييباً لخاطره وقلبه.
إذاً: كان هذا من كريم خُلقه عليه الصلاة والسلام، من كرمه أنه كان إذا جاءته الهدية لم ينس من حوله من الفقراء والمحتاجين، وكان من حضره يعطيه، وإذا أهديت إليه باكورة الثمر -أو الثمار- كان يعطيها لأصغر القوم سناً -الطفل-.
وكان صلى الله عليه وسلم يتألف بهداياه القوم، وربما كان رجلٌ حديث عهدٍ بالإسلام أو في قلبه شيء على الإسلام وأهله، أو على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزال يعطيه حتى يرضيه.
ومن الأحاديث الجميلة التي وردت في صحيح البخاري عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه) ولا يلزم أن يلبسوها؛ لأن لبس الحرير للرجال حرام لكن يمكن أن يعطوها زوجاتهم أو بناتهم، أو كما فعل عمر حين أهداها لأخٍ له مشرك بـمكة . (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه، وعزل منها واحدة لـمخرمة بن نوفل ، فجاء ومعه
وكان صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا في أقربائه، وكان عنده من الوفاء لذكرى زوجته خديجة ما يستخدم الهدية فيه لإحيائه، والتدليل على أنه باقٍ في نفسه ذكرى تلك المرأة الطيبة التي ساعدته بمالها ودافعت عنه بنفسها، وكان أولاده منها، وأن ذكراها الطيبة لا زالت موجودة وحية، فكان إذا ذبح الشاة يُهدي لصديقات خديجة .
ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على امرأةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) مع أنها ما رأتها، لكن غارت عليها من الذكر والسمعة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكرها دائماً حتى قالت عائشة : (ما تريد من عجوزٍ حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها؟! قال: إنها كانت وكانت... وكان لي منها ولد) .
قالت عائشة : (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على
السبب الأول: ألا يبقى له منةٌ عليك، أو أن تبادله محبة بمحبة، أو أن تُظهر له أنك كافأته على جميله بجميل، وأنك لم تنس الجميل، وأنه صنع إليك معروفاً فصنعت إليه معروفاً مقابله، ولا شك كما قلنا أن الهدية الأصل فيها هو التبرع، وأن الذي يهدي لا يشترط المكافأة.
وقد تكلم العلماء في حكم المكافأة على الهدية، وقال بعض أهل العلم: إن المكافأة على الهدية لا تجب، إذا أهداك شخص هدية لا يجب أن تكافئه عليها.
وقال بعض المالكية: تجب المكافأة على الهدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لكن مجرد فعله عليه الصلاة والسلام لا يدل على الوجوب.
هبة الرجل إلى من هو دونه، فهي إكرامٌ وإلطاف لا تقتضي الثواب والمكافأة بالمثل، فإذا استلمها هذا الأدون لا يستلزم ذلك أن يرد بهديةٍ مقابلها.
وثانياً: هبة النظير إلى نظيره.
وثالثاً: هبة الأدنى إلى الأعلى، إذا أهدى الأدنى للأعلى فإنه يكون من المؤكد في حق الأعلى أن يثيبه، وذلك بما جرت به العُرف والعادة.
فإذاً: حكم الإثابة على الهدية مستحب؛ لأنه ورد في السنة. إذا أهداك إنسان هدية يُسن لك أن تهديه أخرى، وخصوصاً عندما يكون الذي أهداك أقل منك منزلة أو سناً -مثلاً- والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه).
وقد أهدى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فعوضه صلى الله عليه وسلم ستة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) فالهدية على الهدية من شكر الناس.
إذاً: دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) الهدية على الهدية، وجاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أُعطي عطاء فليجز به إن وجد، وإن لم يجد فليثن به، فإن من أثنى به فقد شكر، ومن كتمه فقد كفره، ومن تشبع بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور).
وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وإذا لم يجد شيئاً، فأقل شيء أن يدعو لمن أهدى له الهدية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وحسنه: (من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء، وأجزل له في العطاء).
وينبغي كذلك على المدعو له أن يبادل الدعاء بدعاء، كأن يقول له: وجزاك، أو وإياك، ونحو ذلك، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فقال: اقسميها، فكانت
فيقول الخادم: (قالوا: بارك الله فيكم، فتقول
وكذلك من الضوابط في مسألة الإهداءات أن نبدأ بمن جاء في صحيح البخاري في كتاب الشفعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) فالجار الأقرب يُبدأ به في الهدية؛ لأن الإنسان قد تكون مقدرته محدودة على الإهداء، ليس عنده هدايا كثيرة تسع الجميع، فيبدأ بالأقرب باباً بالنسبة لهدايا الجيران.
وكذلك من الأحوال التي يتأكد فيها الإهداء: إذا احتاج الناس، إذا كانت هناك حاجة كما جاء في صحيح البخاري في كتاب المغازي: [أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنه صنع طعاماً فلما أوشك على النضج جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! طعيمٌ لي -طعيم: تصغير طعام، أي: هو قليل- فقم أنت يا رسول الله! ورجلٌ أو رجلان] عندي طعيم لو تأتي أنت ورجل أو رجلان قال: (كم هو؟ فذكرت له كم هو مقدار الطعام، فقال: كثيرٌ طيب).
ثم قال: (قل لها -يعني لزوجتك التي تطبخ الطعام- لا تنزعي البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قوموا) ومن حوله كان المهاجرون والأنصار، فقام المهاجرون والأنصار، والرجل يريد واحداً أو اثنين أو ثلاثة بالكثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام نادى المهاجرين والأنصار فلما دخل على امرأته قال: (ويحك -مصيبة- جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار، فقالت المرأة -وكانت فقيهة-: هل سألك عن مقدار الطعام؟! قلت: نعم. فاطمأنت) لأنه ما دام يعلم أن الطعام قليل ومع ذلك دعاهم، فلا بد أن يكون هناك سبب، فلما دخلوا قال: (ادخلوا ولا تباغطوا -النبي صلى الله عليه وسلم- فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقيت بقية، فقال عليه الصلاة والسلام للمرأة: كلي هذا واهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة).
فإذاً: تتأكد أن الهدية احتاج الناس إليها وصارت حاجة، فيكون إرسالها فيه أجر عظيم.
وبالنسبة لبعض الهدايا التي يتأكد عدم ردها: ما كان غير ذي مئونة ولا فيه كلفة، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عُرض عليه ريحانٌ فلا يرده؛ لأنه خفيف المحمل طيب الرائحة) رواه أحمد وأبو داود ، وصحح إسناده في صحيح الجامع الصغير .
فإذاً: الأشياء اليسيرة يتأكد عدم ردها.
أولاً: هل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رد هدايا؟ نعم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هدايا بعض المشركين، وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من أحدٍ هدية إلا أن يكون مهاجراً قرشياً أو أنصارياً أو دوسياً أو ثقفياً) والسبب أن أعرابياً وهب النبي عليه الصلاة والسلام ناقة فأثابه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فقال: (أرضيت؟ قال: لا. فزاده حتى عوضه ست بكرات) هذا الأعرابي كأنه يريد بالهدية أن يأخذ أكثر منها.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه العبارة الشديدة: أنه هم ألا يقبل هدية إلا من هؤلاء الأحياء من العرب، قال: (إن فلاناً أهدى إلي ناقةً فعوضته عنها ست بكرات، فضل ساخطاً، ولقد هممت ألا أقبل هديةً إلا من قرشي أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) رواه أحمد والترمذي .
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه فيظل يتسخط فيه عليّ، وايم الله! لا أقبل بعد مقامي هذا من رجلٍ من العرب هدية إلا من قرشيٍ أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) لأن هؤلاء لا يفعلون هذه الأفاعيل، هؤلاء الأربعة الأحياء من العرب معروفون بجودة الأخلاق، فالواحد منهم لا يلجأ إلى هذه الأساليب الملتوية، ثم يتسخط إذا أُعطي رداً عليها.
فالإنسان إذا أحس أن الشخص يُريد بالهدية إحراجه، فإن له أن يردها، وإذا كانت الهدية من حرام، فإنه يجب ردها. وإن كانت فيها شبهة فإنه يستحب له أن يردها، وإذا كانت رشوة، فإنه يجب عليه أن يردها، كأن يكون موظفاً صاحب منصب ولولا وظيفته ما أعطي الهدية، أو يكون موظفاً في الجوازات، أو موظفاً في المصلحة الفلانية، فإذا جاءته هدية من معقب الشركة، قال: هذه الشركة تهدي لك هذه الهدية، فلا يأخذها، لأنه يجوز له ذلك، ولو كان في غير هذه الوظيفة ما أعطوه، لكن لو أن جاره أو قريبه أعطاه، فليقبلها؛ لأنها ما جاءت من أجل أنه موظف في هذه الدائرة التي يراجعها الناس، وإنما جاءت لأنه قريب أو جار.
فإذاً: إذا اشتم منها رائحة التهمة أو الرشوة أو الريبة فإنه يردها.
فإذاً هناك بعض الحالات التي يجب فيها رد الهدية، أو يستحب فيها رد الهدية.
كذلك لو أهداك إياها فاجر فاسق، أو كافر يريد بالهدية أن يبقى له منةٌ عليك، حتى إذا قابلك انكسرت عينك وذلت نفسك له، ففي هذه الحالة لا تقبلها، لكن إذا جاءتك الهدية سليمة نقية ما فيها شائبة ولا ريبة ولا شبهة ولا حرمة فاقبلها ولا تردها، وربما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا وهو لا يحبها، لا يحبها من جهة نفسه؛ لأن نفسه لا تشتهيها لكن يأخذها إكراماً لصحابها، كما جاء في كتاب الهبة في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: [أهدت
إذاً: يأخذ الإنسان الطعام ولو كانت هذه الأكلة لا تعجبه، فيأخذها ويعطيها إلى أناس آخرين.
بعض الأحيان قد يطبخ جيرانك طعاماً، ويهدوك منه، وأنت لا يعجبك هذا النوع من الطعام مطلقاً، فلا غضاضة عليك لو أخذته وطيبت خاطرهم بأخذه، ثم أعطيته بعض الفقراء أو العمال أو المساكين، أو الناس الآخرين فهم يأكلونه أو يستفيدون منه.
وقالت عائشة: [ كان الناس يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
فإذاً: الهدية إذا كانت في يوم مُفضل أو ساعة أو مكان معين أو ظرف معين عند المهدى إليه تكون أوقع في النفس وأحسن، فهذا من آداب الهدية.
وقد حدثت قصة طويلة في هذا الباب رواها البخاري رحمه الله في كتاب الهبة وفي كتاب المناقب، وملخص هذه الهدية أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة فاجتمع صواحبي - تقول عائشة - إلى أم سلمة فقلن: (يا
وجاء في رواية أخرى: (أنهن وسطن
فعلى أية حال: النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحب أن يهدى إليه وهو في بيت عائشة؛ لأنه يحب عائشة رضي الله عنها، وأن تأتيه الهدية في هذا البيت يكون موقعها أجمل وأحسن، على أنه ينبغي على الإنسان المتزوج بأكثر من زوجة أن يراعي مسألة الغيرة أشد المراعاة حتى لا تتفاقم المشكلات وتعظم، ويكون هذا من أسباب القطيعة، أو من أسباب تنغيص عيشه في بيته مع زوجاته، وقد جاءت قصة حفصة مع النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يحب العسل والحلوى، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من أحدهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، تقول عائشة: فغرت، لماذا أطال عند حفصة أكثر من المعتاد؟ فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكةً من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت: أما والله لنحتالن له، وجاءت قصة العرفط والمغافير التي حصلت من حيلة عائشة رضي الله عنها، فالإنسان على أية حال يحتاج أن ينتبه إلى مسألة الغيرة بين الزوجات، ولا يكون هو سبب الشر، أو يكون هو مفتاح الشر.
فقد جمع العلماء بين هذين الحديثين وقالوا: إن الصيد إذا صِيْدَ للمحرم -صيد لأجله- فإن عليه أن يرده؛ لأن المحرم لا يأكل الصيد، لا يصيد ولا يأكل الصيد الذي صيد لأجله، لكن إذا لم يصد لأجله جاز له أن يأكل، فـأبو قتادة لما صاد حمار الوحش عندما لما تضاحك المحرمون من رفقائه والتفتوا ورأى الصيد وصاده، ما صاده لأجل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان بعيداً عنه، فهو صاده لأجل نفسه، وأهدى للنبي عليه الصلاة والسلام وأكل النبي صلى الله عليه وسلم.
فالفرق بين القصتين أن ما صيد لأجل المحرم لا يُؤكل، وإذا كان لم يُصد لأجله جاز للمحرم أن يأكل منه.
والشاهد الذي أورد الحديث من أجله هنا فهو تبيان أن الإنسان إذا رد الهدية لسبب، فإنه يُطيب خاطر المهدي بتبيان السبب.
وكذلك من الأمور التي تتعلق بالهدية والتي ذكرها أهل العلم: إذا مات المهدى إليه قبل وصول الهدية، فلمن هي؟ هل ترجع للمهدي؟ أو هي لورثة المهدى إليه؟
فالإمام أحمد رحمه الله سُئل عن ذلك، فقال مجيباً عن هذا السؤال: إن كان حاملها - لما حصل الموت- رسول المهدي رجعت إلى المهدي، وإن كان حاملها رسول المهدى إليه فهي لورثته.
فإذا حصل الاستلام من المهدى إليه أو من رسوله أو ولده دخلت في ملكه وإلا فلا.
وقد تكون الهدية من باب الصلة والبر إذا كانت بين الأهل والأقارب، أي: تكون الهدية من صلة الرحم، قد تكون من باب التحبب والتقرب إلى الله، كالهدايا التي تقدم للعلماء والصالحين.
قد يقصد بالهدية التوسعة كما إذا كانت من الغني للفقير، وقد يُقصد بالهدية تأليف القلب، كأن يعطيها الإنسان لمن بينه وبينه عداوة؛ لإزالة العداوة.
قد تكون الهدية لتأكيد الصحبة والمحبة، كما إذا كانت بين الإخوان والأصحاب، وقد تكون الهدية هدية تشجيع كما إذا أعطى المدرس هدية لطالب نجيب عنده، أو يحفظ القرآن، أو يستذكر دروسه، فهي هدية تشجيعية يُقصد بها التشجيع.
فإذاً الهدية لها عدة معانٍ جميلة ينبغي الالتفات لكل معنى منها، وقد تكون الهدية في مناسبة كالعيدين، أو مناسبة دينية أو اجتماعية موافقة للشرع مثل هدية زواج، أو هدية ولادة، أو هدية ختان، أو هدية إلى المريض، أو هدية للقيام من المرض، أو هدية للنجاح، أو للترقية، أو للمسافر، أو للعائد من السفر.
فإذاً: الهدية كلما كانت مناسبتها أحسن كلما كان نفعها أكبر، وكلما كانت أفضل عند الله سبحانه وتعالى.
ولا يجوز له أن يميز أحد الأولاد على بعض، كأن يُعطي هدية أو عطية أو هبة لولدٍ دون آخر دون سببٍ شرعي، فالراجح أنه حرام لا يجوز، ويكاد يكون هذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله خلافاً لجمهور العلماء، وقد نصر ذلك ابن القيم نصراً مؤزراً في تهذيب السنن في شرحه على أبي داود وذكر أدلة الفريقين ورجح المذهب القائل بعدم جواز أن يميز الأب ولداً من أولاده بعطية أو هدية أو هبة دون مسوغٍ شرعي، وحديث: (اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) ونحو ذلك من ألفاظ الحديث كلها تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يشهد على عطية النعمان وتمييزه عن بقية إخوانه.
ولذلك التمييز بينهم حرامٌ، ولا شك أنه من الأسباب التي تولد الضغائن بين الأولاد، أن يميز الأب واحداً منهم بشيء، والله سبحانه وتعالى قال: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11].
وبقي في موضوع الهدية بقية، وخصوصاً الكلام على الفرق بين الهدية والرشوة؛ لأنها مهمة في خِضم الحياة التي نعيشها.
فأقول أيضاً أيها الإخوة: إن الهدية العلمية الشرعية والنصيحة من أعظم ما يُهدى للإنسان المسلم.
ويدل على ذلك ما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عيسى أنه سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: (ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد) فإذا أهديت لإنسان معلومة دينية شرعية فلا شك أن هذه من أعظم ما يُهدى.
ومن الأمور والأحكام المتعلقة بالهدية ذكرنا هدية المحبة والمودة، وهدية الوالدين.
فأما بالنسبة لما يُهدى من المطعومات والمشروبات والأمور المستهلكة والملابس وكل ما لم يُقصد به المهر أو جزءاً منه، فإنه ملكٌ لمن أهدي إليها، فإذا فُسخت الخطوبة سيبقى عندها، لكن إذا كان قد أُعطي لها على أنه جزءٌ من المهر مثل الشبكة التي تعارف الناس على أنها جزء من المهر، فهذه إذا حدث ما حدث من الفراق، فإنها تكون من جملة الأشياء التي يسترجعها الرجل.
وبالنسبة لمن أهدى هدية طمعاً في المكافأة عليها، فإن هذا الشخص لا يكون له ثوابٌ عليها حيث أنه أراد من وراء الهدية أن يُهدى إليه، وإذا لاحظ المهدى إليه أنه قُصد من وراء الإهداء إليه أن يرد، مثل أن يكون غنياً وأهدي إليه من قبل فقير، فإنه إذا أخذها يأخذها على أن يُهدي ويُثيب ويكافئ؛ لأنها أعطيت إليه بهذا القصد وإلا فلا يأخذها.
فقال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان شيئاً من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك؛ لأنه لما قضى له الحاجة ماذا أراد الذي قضاها: هل أراد جعلاً؟ هل أراد مقابلاً مادياً؟ هل قال: أسعى في المعاملة أو أقضيها في مقابل مادي؟ هل قال: أسعى لك في المعاملة أو أقضيها لك -مثلاً- أو أتابعها لك أو أنهي لك هذه القضية بمقابل كذا من المال؟ لا. إنما فعلها لوجه الله.
فإذا أهدي له هدية فإنه لا يأخذها؛ لأنه يريد أن يتم له الأجر، لكن إن أخذها فإنه يأخذها بقصد المكافأة عليها، ويثيب عليها وتكون واحدة بواحدة ويبقى له أجر ما عمل.
لكن ما حكم أخذ الهدية على الشفاعة؟
الجواب: الراجح أنه لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً عليها فقبلها منه، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) ولعل من الحكم من وراء هذا الأمر -وهو عدم جواز أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة الحسنة- أن الجاه نعمة من الله ينبغي أن يُستخدم في خدمة عباد الله مجاناً بدون مقابل، وينبغي أن يتسارع إليه الناس المستطيعون، لنصرة حقٍ أو رفع ظُلم، ولا ينبغي لمن ساهم بجاهه في جلب حقٍ أو دفع ظلم أن يأخذ مالاً على ذلك، حتى لا يتكاسل الناس عن هذه المسألة، ويشترطون الأجر، فيقول أحدهم: لا أتوسط لك إلا بمقابل.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه لا يجوز أخذ الأجرة عليها.
وقال بعض الفقهاء: لا يجوز أخذ العوض مقابل الدفع عن المظلوم، وإنه يجب أن تُقضى له الحاجة مجاناً.
وقال ابن الجوزي : يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، وقال: والواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغه للسلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة.
إذاً: لا يجوز أخذ المقابل على هذه الشفاعة وخصوصاً إذا كانت لجلب حقٍ أو دفع ظُلم.
وقد أفتى ابن تيمية رحمه الله -في مسألة أخذ العوض أو الهدية على قضاء الحاجة- بعدم الجواز، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، ولما سئل ابن مسعود عن السحت قال:إنما السحت أن يستعينك على مظلمةٍ فيهدي لك. فلا تقبل. يقول: تعال ادفع عني هذه المظلمة فإذا أهدى لك هدية لا تقبل؛ لأنه سحت، لو قبلتها فهذا سحت.
وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفاً فرده ولم يقبله، وقال مسروق : سمعت ابن مسعود يقول: [من رد عن مسلمٍ مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت، فقال الرجل: يا
وجاء نصرانيٌ إلى الإمام الأوزاعي وكان يسكن بيروت فقال: إن والي بعلبك ظلمني وأريد أن تكتب فيَّ إليه، وأتاه بقلة عسل -هدية معه- فقال له: إن شئت رددت عليك قلتك وأكتب إليه؟ وإن شئت أخذتها ولا أكتب؟ -أنت بين أمرين إما أن تأخذ هديتك وأكتب لك , وإلا لا أكتب لك ولا أقبل هديتك- فقال النصراني: بل اكتب لي وارددها، فكتب له أن ضع عنه من خراجه، فشفّعه الوالي فيه، وحط له عن جزيته ثلاثين درهماً. أي: كان قد أخذ أكثر من الجزية الشرعية.
فإذاً: لا ينبغي الاستعانة بالهدايا على قضاء الحوائج وتيسير المهام؛ حتى لا تتوقف الأمور على ذلك وتضيع المروءات والأخلاق بين الناس، ويكون التعامل بينهم على أساس مادي، فيضيع باب الاحتساب ويضعف الوازع الديني عند الناس.
وكذلك من الأشياء التي لا ينبغي قبول الهدية فيها مطلقاً: الهدية مقابل حفظ الأمانة، كأن يستودع أحد عندك أمانة ثم جاء فأخذها كاملة فأعطاك هدية فلا تأخذها منه، إلا بنية أن تكافئه عليها، حتى يبقى أجرك عند الله موفوراً، وحتى لا تصبح قضية حفظ الأمانات بين الناس مقابل هدايا ومكافآت، وينبغي أن يُسعى في قضاء الحوائج للناس ابتغاء الأجر من الله سبحانه تعالى، وينبغي أن يبذل المسلم جاهه بدون مقابل؛ لأن الجاه زكاة مثل المال.
ولذلك فإن الذي يُعطي شخصاً مالاً وهو مضطر، أعطاه إياه؛ لأنه ما عنده طريقة أخرى يصل بها إلى حقه أو يدفع الظلم عن نفسه، فيجوز له أن يدفعها؛ لأنه مضطر، لكن لا يجوز للآخر أن يأخذها، وإنما يستخدم جاهه في مساعدته، أما إذا كانت الهدية لإحقاق باطل، أو إبطال حق فلا شك أنها محرمة تحريماً عظيماً.
أولاً: أن يكون الغرض منها حصول الثواب الأخروي، كأن يكون المهدى إليه فقيراً أو عالماً أو صالحاً.
ثانياً: أن يُقصد بالهدية جلب المحبة والتودد، مثل أن يُعطي المخطوبة يتودد بالهدية إلى قلبها. فهذان جائزان.
ثالثاً: أن يقصد بها غرضاً دنيوياً، كأن يعطي الفقير غنياً هدية على أمل أن يُعطيه أكثر، فيجوز للغني أن يأخذها إذا كان سيعطيه فعلاً.
رابعاً: أن يكون المراد بها الاستعانة على فعل أمر معين، كالمحتاج إلى السلطان في مسألة، فيُعطي وكيله هدية، فهذا إذا كان في إحقاق باطل أو إبطال حق فلا شك في تحريمه.
وإذا كان العمل في أخذ حقه أو دفع الظلم عن نفسه، فقد يجوز الإعطاء، ولكن لا يجوز الأخذ أبداً.
أما الأشياء المباحة كأن يتوسط له في جلب بضاعة -مثلاً- ليس مضطراً إليها ولا محتاجاً إليها، يريد أن يتوسع بها، فهذه الهدية في هذه الحالة الأحوط ألا يأخذها؛ لأن فيها استعمال الجاه بمقابل.
وعلى أية حال فإن تحريم أخذ القاضي للهدايا هو القول الأحوط، وقد رجحه ابن قدامة رحمه الله تعالى، ولا شك أن القاضي إذا أخذ الهدية فإن ذلك سيكون باب شرٍ عظيم.
اللهم إلا إذا كان هدية لا علاقة لها بالقضاء أبداً، كما إذا أهدى له أخوه هدية، أو جاره أهداه هدية للجوار فقط، أو من -مثلاً- قاض آخر يكون زميلاً له، أي: لا علاقة له بالقضاء مطلقاً، فهو يجزم تماماً أنها لا علاقة لها بالقضاء، فهذا يجوز له أخذها.
ولذلك قال النووي رحمه الله: إن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية حرم عليه قبول الهدية.
وإذا كانت له عادة بالهدية من قبل ولم تكن له قضية عند القاضي أو حكومة -العلماء يسمونها حكومة- جاز قبولها، وإن كان له حكومة أو قضية عند القاضي فلا يجوز للقاضي أن يقبلها حتى لو كان المهدي له سابق عهد بالهدية، قبل أن يتولى القاضي القضاء.
كذلك فإن من الأشياء التي يمكن أن تكون بريئة، الإهداء للقاضي بعد التقاعد من القضاء، أو أن يهدي له شخص شيئاً ما، وهذا الشخص لا علاقة له بمجال القضاء ولا يأتي إليه في خصومة مثل أن يكون في بلدٍ آخر فيه قاض آخر، فأهدى له هدية من بلد إلى بلد، فهنا لا يطمع أن يكون له عند القاضي شيء، وإذا أهديت للقاضي هدية؟ قال بعض أهل العلم: يردها إلى بيت المال.
كانوا يهدونه لنبوته يتقربون بها إلى الله، لكن نحن لماذا يهدوننا؟! لسلطاننا وإمرتنا، ولذلك قال: هي رشوة، فإذاً: لا يجوز له أخذها من الرعية.
أما بالنسبة لمسألة قبوله هو لهدايا من ملوك الأرض -مثلاً- كما أهدى النجاشي وأكيدر دومة الجندل وغيرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، فقبلها عليه الصلاة والسلام، فإن كان فيها مصلحة للمسلمين أخذها، وهذا الباب فيه تفصيل، لكن لعلنا لا نحتاج إليه في هذا المقام والزمان.
وفي رواية: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً) أي: يقول: لو لم تكن موظفاً عندنا وكنت في بيت أبيك وأمك هل كانت تأتيك الهدية؟ لو كنت صادقاً اقعد في بيت أبيك وأمك وانتظر الهدية.
إذاً: كل هدية تأتي للموظف بسبب وظيفته حرامٌ عليه أخذها؛ لأنها رشوة، وهذه مسألة صريحة لا تحتاج إلى نقاش، ويقع بسبب قبول الموظفين في الأماكن العامة للهدايا من المراجعين والناس فسادٌ عظيم.
وعن سليمان بن يسار : (أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث
وقال ابن تيمية رحمه الله: وما أخذ ولاة الأمور وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (هدايا العمال غلول) أي: خيانة.
الخلاصة: لا يجوز للموظف أخذ الهدية من الناس مطلقاً، إلا إذا كانت هدية لا علاقة لها بالوظيفة أبداً، مثل هدية شخصية، أبوه أهداه هدية، أو أخوه، لا علاقة له بأنه موظف أو غير موظف، فهنا في هذه الحالة يأخذها، لكن أن يأخذ من عامة الناس ومن المراجعين فهذا حرام وسحت ولا يجوز.
وقد تكون الهدية بأشكال كثيرة، كأن يقول صاحب ورشة لشخص: هات أصلح لك السيارة، هات نراعك فيها، هات نعطك أثاثاً بنصف السعر، فهذا كله سحت، حرام سواءً كان بشيءٍ مادي، أو خصم، أو خدمة مثل إصلاح سيارة أو تأجيرها، أو أشياء مجانية، لشخصه هو فهي حرام، ولا يجوز للآخر أن يدفعها، وإعطاء الهدية للموظف في الجوازات أو الشرطي أو لشخص في المرور حرام مطلقاً، وذكرنا استثناء في موضوع دفع الظلم عن نفسه وهي قضية أخرى.
وكذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدية اليهود لما أهدوه الشاة التي وضعوا فيها السم، ووردت أحاديث بمنع أخذ الهدية منهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نقبل زبد المشركين) وزبد المشركين: هو عطاؤهم وهداياهم، فكيف جمع العلماء بين هذه الأحاديث؟
قال بعضهم: إن أحاديث المنع ناسخة، والأخذ منسوخة.
وقال بعضهم: أحاديث الأخذ ناسخة، وأحاديث المنع منسوخة.
وقال بعضهم: إنه إذا أُهدي إليه عليه الصلاة والسلام خاصةً لا يقبل، وفيما أهدي للمسلمين يقبل، لكن هذا فيه نظر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أُهدي هدايا خاصة، فقد أهداه المقوقس ملك الإسكندرية بغلة ومارية القبطية له خاصة، فهذا قد لا يكون جواباً صحيحاً أو راجحاً.
وقال بعض العلماء: إذا كان الذي أهداه قصد الموالاة فيردها، وإذا كان الذي أهداه يُرجى بقبول هديته تأليفه إلى الإسلام وتأنيسه فيأخذها، وهذا جمعٌ جيد.
وقال بعضهم: إن كانت من أهل الكتاب قبلها، وإن كانت من أهل الأوثان لم يقبلها، وقال بعضهم: إن كانت من المحاربين لم يقبلها وإن كانت من غير المحاربين قبلها، فلعل الراجح إن كانت من غير المحاربين ومن غير أهل الأوثان من أهل الكتاب، الذين يراد بقبول هديتهم تأليفهم، فيقبل وإلا فلا.
فالجواب: إذا كان المشرك محارباً فلا يجوز إهداؤه؛ لأنه لا يوجد بيننا وبينه إلا السيف، وإذا كان غير محارب فالله يقول: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8] كانت أم أسماء مشركة، فلما رغبت في صلتها قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (صلي أمك) والوصل عام يمكن أن يكون بالهدايا أو بغير الهدايا، والصلة عامة لهذه الأم المشركة.
فإذاً: يجوز أن نهدي المشرك خصوصاً إذا أهديناه لأجل تأليف قلبه، ودعوته إلى الله.
ما حكم إهداء الكفار في مناسباتهم الدينية مثل الأعياد؟
الجواب: لا يجوز ذلك مطلقاً؛ لأنه مشاركة وإقرار ولا ينبغي إظهار الفرحة، أو مشاركتهم بفرحتهم مطلقاً مهما كانت، وأصحاب أبي حنيفة يشددون في ذلك جداً، حتى قالوا في بعض كتبهم: من أهدى إليهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم عيدهم فقد كفر.
ثابتةٌ بالسنن القويمة وقد روي إذهابها السخيمة |
يُشرع للمسلم أن يقبلها وأن يثيب كرماً فاعلها |
إذ صح مروياً عن النبي وهو دليل الخلق المرضي |
وبين مسلمٍ وكافرٍ تحل مالم يخف وداً لمنعٍ قد نقل |
يجوز ردها بدون مانع شرعي إذ قد منع الشارع |
القاضي والأمير والشافع أن يقبلها نصاً صريحاً في السنن |
وإن تكن إلى جوارٍ تهدي فقدم الأقرب عن ذي البعدِ |
وإذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فإنها فكلما لطفت ودقت كانت أبهى، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع، وبعث أبو العتاهية إلى الفضل بن ربيع بنعل وكتب معها:
نعلٌ بعثت بها لتلبسها تسعى بها قدمٌ إلى المجدِ |
لو كان يمكن أن أشركها جلدي جعلت شراكها خدي |
وقال رجل لـأبي الدرداء : إن فلاناً يقرئك السلام، فقال: هدية حسنة ومحملٌ خفيف.
طبعاً الكتاب والشريط الإسلامي لا شك أنه من أعظم ما يُهدى في هذا الزمان.
ومن الهدايا الساعة، لكن لا تكون مطلية بالذهب أو فيها صلبان، وكذلك الأقلام لا تكون مطلية بالذهب.
ومما يهدى أيضاً الملابس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أهديت له ألبسة، وهي من الأشياء الجيدة التي وردت فيها السنة مثل الثوب وغيره.
الأطعمة والأشربة أيضاً كانت تُهدى، كما تُصدق على بريرة ، وبريرة أهدته لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، والمصحف وهو داخل في كتب العلم، لأنه هو أعظم كتاب على الإطلاق، ولا شك أنه كلما قرأ فيه، والغالب أن يُقرأ فيه كثيراً -يعني: المصحف- أكثر من أي كتاب آخر، يؤجر عليه الإنسان.
والمركوبات، ولكن هذه أشياء مكلفة أي: لا يتيسر لعامة الناس أن يهدوها إلا إذا كان صاحب يسار فأهدى سيارة مثلاً.
وكذلك الآلات التي تستخدم في حفظ المعلومات كالحاسب الآلي أو الآلات الحاسبة التي تهدى للطلبة أو الأشياء القرطاسية كالمساطر وعلب الهندسة والدفاتر ونحوها، وكذلك الشاة تهدى للمتزوج من باب المساعدة في الوليمة، وقد ثبت في السنة مساعدة صاحب الوليمة أو الزوج بما ييسر عليه مئونة حفلة الزفاف، وإهداء الزوجة من الحلي.
ينظر في حاجته فيعطيه هدية تناسب حاجته، وكذلك إهداء مبلغ من المال.
الورد للمرضى من عادات الكفرة ولذلك لا ينبغي إهداء الورود للمرضى، ومن عاداتهم حمل العروس باقة وردٍ بيدها في حفلة الزفاف، لكن لو أهداه ورداً في غيرها كأن يأتي لأمه بوردٍ أو قرنفلٍ أو ياسمينٍ أو فُل -مثلاً- وجده جيداً وطيباً فلا شك أنها هدية جيدة ومحمودة.
وإهداء النصيحة، أو إهداء العلم الشرعي، أو تعليم حديث كما مر معنا من الهدايا الطيبة، وكذلك العسل.
فعلى أية حال الهدايا كثيرة وهذا طرف منها وأمثلة، وبذلك نختم الكلام عن موضوع الهدية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم بالسبيل القويم، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه الكريم، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر