وبعد:
فحديثنا في هذه الليلة أيها الإخوة عن أدبٍ آخر من الآداب الشرعية، وهو أدبٌ نحتاج إليه باستمرار، ألا وهو: (أدب الأكل)، أو: (آداب الطعام)، وهذا الأدب من الآداب التي أطال العلماء في شرحها؛ نظراً لكثرة الآثار الواردة فيها والأحاديث والنصوص الشرعية، وقد سبق أن قلنا: إن الشريعة تهتم بجميع نواحي حياة الإنسان، وكلما كانت الناحية أكثر وجوداً في حياة الشخص المسلم، كانت الشريعة أكثر تطرقاً لما يتعلق بهذا الأدب من التفصيلات.
أما بالنسبة إلى هذا الأدب فإننا نحتاج أن نلخص بعض فروعه قبل أن نبدأ في تفصيله، فنقول: والله المستعان.
إن آداب الطعام، أو آداب الأكل كثيرة؛ فمن آداب الأكل:
أولاً: غسل اليدين قبله، لما رواه النسائي بإسنادٍ صحيح ورجاله رجال الشيخين، غير محمد بن عبيدة وهو صدوق، كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه) وهذا حديثٌ عزيزٌ جيد في هذه المسألة.
ثانياً: تسمية الله سبحانه وتعالى قبل الطعام، كما دلت عليه أحاديثٌ كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله) وقد جاء صريحاً بلفظ: (يا غلام! إذا أردت أن تأكل فقل: باسم الله).
ثالثاً: أن يأكل بيمينه: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( وكل بيمينك).
رابعاً: أن يدنوا من الطعام: لقوله عليه السلام في حديث الغلام أيضاً: (ادن يا بني).
خامساً: أن يأكل مما يليه: لقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وكل مما يليك).
سادساً: الاجتماع على الطعام، وعدم الأكل متفرقين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه) وينتج عن ذلك أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة والستة.. كما رواه ابن ماجة وهو حديثٌ صحيح.
سابعاً وثامناً: ألا يمسح يده بالمنديل أو بغيره حتى يَلعِقها، أو يُلعقها كما جاء عند النسائي وهو حديثٌ صحيح: (إذا أكل أحدكم الطعام فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعِقها، ولا يرفع الصفحة حتى يلعقها فإن آخر الطعام فيه البركة) وهذا هو الأدب الثامن، والذي قبله لعق الأصابع، والثامن: لعق الإناء. فإن آخر الطعام فيه البركة.
تاسعاً: إذا سقطت اللقمة ألا يتركها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فليمط ما رابه منها وليطعمها، ولا يدعها للشيطان).
عاشراً: انتظاره حتى يذهب فوره ودخانه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنه أعظم للبركة) يعني: الطعام الذي ذهب فوره.
الحادي عشر: عدم النفخ في الطعام، وقد يكون لهذا أضرار لا نعلمها.
الثاني عشر: الأكل من جوانب الطعام كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها -أي وسطها- يبارك لكم فيها) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلوا باسم الله من حواليها واعفوا رأسها، فإن البركة تأتيها من فوقها) وقال أيضاً في الحديث الصحيح: (إن البركة وسط القصعة فكلوا من نواحيها ولا تأكلوا من رأسها).
الثالث عشر: أن يجلس على الأرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد؛ فإنما أنا عبد) وقال أيضاً في الحديث الآخر: (آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء).
الرابع عشر: إذا أتاه خادمه بالطعام أن يناوله منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه علاجه ودخانه؛ فليجلسه معه -يعني إجلاس الخدم معهم- فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلةً أو أكلتين).
إذاً: بما أن الخادم قد شق عليه عمل الطعام، وهو الذي قد جاءه من حره ودخانه فمن المكافأة له وقد اشتهاه أن يجلسه معه، وهذا أيضاً فيه تواضع، بالإضافة إلى المكافأة على ما حصل له.
الخامس عشر: أنه إذا لم يعجبه شيءٌ من الطعام فإنه لا يتأفف ولا يتذمر وإنما يتركه فقط، كما جاء في الحديث: (إن اشتهاه أكله وإلا تركه) (ولما قدم الضب للنبي صلى الله عليه وسلم ترك أكله، وقال: إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه).
السادس عشر: تفتيش التمر من الدود: فقد جاء في حديثٍ صحيح رواه أبو داود وغيره: (عن
السابع عشر: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في مسألة ما يقال بعد الأكل ولهذا أذكارٌ كثيرة سنأتي عليها إن شاء الله، ومنها: الحمد لله، وما يقال أيضاً: لصاحب الوليمة، إذا دعاك فأجبت دعوته وطعمت عنده فماذا تقول له؟ وهذا سيكون إن شاء الله في موضوع: آداب الوليمة، وإجابة الدعوة، لكن في آداب الأكل سنتطرق إلى الصيغ الواردة في حمد الله تعالى لأنها كثيرة.
الثامن عشر: أن الإنسان إذا طبخ لحماً مثلاً فإن عليه أن يكثر المرق ويغرف منه للجيران، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا طبختم اللحم فأكثروا المرقة، فإنه أوسع وأبلغ للجيران) وقال أيضاً: (إذا طبخ أحدكم قدراً فليكثر مرقها ثم يناول جاره منها) يعني من هذا المرق ومن هذا الطعام.
التاسع عشر: ماذا يفعل إذا وقع الذباب في الإناء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن أدبٍ يتعلق بذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) وفي رواية: (وإنه يقدم السمّ ويؤخر الشفاء، فإذا غمسه كله ذهب ذلك).
العشرون: كف الجشاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كف عنا جشاءك) وفي راوية: (أقصر من جشائك) وهو: الصوت الغليظ الصادر من الفم كما سبق بيانه.
الحادي والعشرون: تنظيف اليدين من بقايا الطعام، خصوصاً إذا أراد أن ينام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمرٍ -وهو رائحة اللحم ودسامة اللحم وزهومته ودهنه- فلم يغسل يده فأصابه شيءٌ فلا يلومن إلا نفسه) .
الثاني والعشرون: أنه إذا وضع العَشاء وحضرت صلاة العِشاء، فإنه يقدم العَشاء ولا يعجل عن طعامه.
الثالث والعشرون: في طريقة الجلسة، أن يجلس ناصباً اليمنى جالساً على اليسرى، أو يجلس القرفصاء كما جاء أيضاً في رواية، ولا يجلس متكئاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا آكل متكئاً).
الرابع والعشرون: النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه لأنه قد ورد في الحديث الصحيح أيضاً: (النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه) .
الخامس والعشرون: عدم الشبع: لقوله في الحديث: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، حسب ابن آدم لقيماتٌ يقمنَ صلبه) وذم التوسع في ألوان الطعام والشراب.
السادس والعشرون: الأكل بثلاثة أصابع: فإنه قد ورد في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام كأن يأكل بثلاثة أصابع، وكان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث) .
السابع والعشرون: ألا يقرن بين تمرتين خصوصاً إذا شاركه غيره، لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقران) وهو الجمع بين تمرتين ونحوها من الفواكه أو من الثمار التي تكون مفردة، فإنه لا يجمع بين حبتين منها، إلا أن يأذن له صاحبه، لأن في الحديث قوله: ( إلا أن يستأذن الرجل أخاه ).
الثامن والعشرون: النهي عن الجلوس على المائدة التي فيها محرم، وهذا من الأحكام، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على مائدةٍ يشرب عليها الخمر).
التاسع والعشرون: الاعتدال في الطعام، حتى في أنواعه، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول: نكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا) وهذا يدل على اعتداله صلى الله عليه وسلم في أنواع الأطعمة التي كان يتناولها.
الثلاثون: عدم أكل الثوم والبصل والكراث، ولا يقربن المسجد إذا أكل الثوم والبصل والكراث، وعدم أكله لمن أراد أن يأتي المسجد.
الواحد والثلاثون: الاعتناء بما دلت الشريعة على فضله من الأطعمة كالتمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بيتٌ لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه) وفي حديثٍ آخر: (بيت لا تمر فيه جياعٌ أهله) وكذلك قال: (كلوا الزيت وادَّهنوا به) فالتمر إذاً قد ورد الاعتناء به، وكذلك زيت الزيتون المعروف، وكذلك الخل فقد قال: (نعم الإدام الخل) وما راق للإنسان أكله من الأطعمة بعد ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- يعجبه الذراع والدباء -القرع- وهذا عائد إلى النفس.
وفي الاعتناء بالأطعمة التي ورد الشرع بها أيضاً: إكرام الخبز -عدم القائه والاستهانة به- فإنه قد قال: (أكرموا الخبز) ولم يصح النهي عن قطعه بالسكين، وإنما الذي ورد إكرامه، فلذلك لا يلقى، والإنسان لو رآه يعتني به أكثر من غيره، للأمر بالاعتناء بإكرامه، فإذا رآه ملقىً مثلاً أخذه فوضعه أو جعله في مكان مرتفع أو أطعمه للدواب أو نحو ذلك.
فهذه طائفة من آداب الطعام وشيء من الأحكام المتعلقة بها، وما يتعلق بالوليمة وآداب الدعوة والضيف، هناك أشياء مرتبطة بها مثل: الأطعمة ومثل: عدم سؤال صاحب الدعوة عن طعامه إذا كان مسلماً، كأن يقول: من أين هذا؟ ومن أين اشتريته؟ من جهة الشك فيه أو في أمانته، أو ربما أتى له بأشياء محرمة، فإذا كان عدلاً لا يسأل عن طعامه من أين أتى به، أو هل هو حلالٌ أم لا؟ أو هل هو مذكى أم لا؟ ولعل هذا سيأتي إن شاء الله في آداب الدعوة والوليمة.
وأيضاً: بوبوا في الأطعمة، فإن العلماء يذكرون في مصنفاتهم آداب الأكل وأحكام الأطعمة.. والصيد والذبائح ماذا يحل منها؟ وماذا يحرم؟ وهناك بعض الاشتراك، لكن الذي يهمنا نحن الآن التركيز عليه هو قضية آداب الأكل.
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد) .
والمراد بالتسمية على الطعام قول: باسم الله، والبسملة قول: بسم الله الرحمن الرحيم، وقد ورد هذا صريحاً حيث قال: ( سم الله ) لكن الكلمة قد جاء مصرحاً بها كما جاء عند أبي داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً: (إذا أكل أحدكم طعاماً فليأكل باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره) وهذا أدب يلحق بالتسمية أصلاً أو تبعاً لها، فهذا الحديث بين صفة التسمية.
وهناك حديثٌ آخر أيضاً رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في السلسلة : عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم _حِحر وحَجر كلاهما صحيح- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! إذا أكلت فقل باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).
قال الشيخ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، وقد ذكرت طرقه وخرجته في الإرواء ، وإنما خرجته هنا من طريق الطبراني بهذا اللفظ؛ لعزته وقلة وجوده في كتب السنة المتداولة.
وفي الحديث دليلٌ على أن السنة في التسمية على الطعام، إنما هي: باسم الله فقط، فإذاً: جاء الحديث بلفظ ( سم الله ) وجاء في حديث: (اذكروا اسم الله تعالى عليه يبارك لكم فيه) وجاء النص على الكلمة التي تقال وهي: باسم الله.
( وأما ما ذكره الغزالي من آداب الأكل في كتابه الإحياء: أنه لو قال في كل لقمة: باسم الله كان حسناً، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى: باسم الله، ومع الثانية: بسم الله الرحمن، ومع الثالثة: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم أر في استحباب ذلك دليلاً ).
إذاً السنة: باسم الله، والزيادة عليها غير محمودة؛ لأنها زيادة على السنة، ولذلك ذكر الشيخ الألباني في بعض كلامه العيب على من يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قلت له: باسم الله فقط، فإنه يجيبك وماذا فيها؟ يعني: لو زدنا ماذا في هذه الزيادة؟
وقد سبق بيان أن كلمة العامة: زيادة الخير خيرين، أنها ليست بصحيحة على إطلاقها، وأن الزيادة على السنة توقع في البدعة، وأن مجاوزة ما جاء به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه فتح الباب، والخطير من ذلك: الاستدراك على الشريعة، لأنه كأنه يقول: ما جاءت به الشريعة فهناك ما هو أفضل منه، ويحكم رأيه فيقول: عندي وفي رأيي أن: بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من باسم الله؛ لأن فيها ذكر كلمة: الرحمن والرحيم، وهما اسمان من أسماء الله عظيمان.
فنقول: ليست المسألة بالاستحسان العقلي، المسألة بالدليل، ما دام أنه قد ورد النص على باسم الله، فنلتزم به.
وواضح من كلام ابن حجر رحمه الله أن التسمية مرة واحدة فقط في بداية الطعام، وأنه لا يكرر ذلك في اللقم المختلفة. لكن لو نسي قال: باسم الله في أوله وآخره. لكنه يقولها مرة واحدة.
وهذا الحديث وهو: حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه وهو صحابيٌ صغير، ولكنه حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ونقله، وهو أنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فجلس وكانت يده تطيش في الصحفة ومعنى تطيش: تتحرك في نواحي الصحفة المختلفة ولا تقتصر على موضعٍ واحد يميناً وشمالاً، وكذلك معناها: تسرع.. فالطيشان في الصحفة إذاً: الإسراع والتجول فيها يميناً وشمالاً، وعدم الالتزام بمكانٍ معين، أو الالتزام بالأكل مما يليه.
وأما بالنسبة للصحفة فهي: التي تشبع الخمسة وهي أكبر من القصعة.
فمنهم من قال: إنه للاستحباب ومنهم من قال: إنه للوجوب، وقد اقترنت المسألة -مسألة سم الله- بمسألة لا شك بوجوبها وهي: قضية الأكل باليمين، لأنه قال: (سم الله، وكل بيمينك) ولا شك أن من القرائن التي يستدل بها على وجوب أمرٍ من الأمور أن يكون مقترناً بشيءٍ آخر الأمر فيه للوجوب قطعاً، ولا شك أن الأكل باليمين واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من أكل بشماله، فقال: (لا استطعت) وقال لمن رآها تأكل بشمالها: (أخذها طاعون غزة) وفعلاً بعد سنواتٍ مرت بـغزة وكانت فيها طاعون فماتت منه.
إذاً: هذه قرينة تدل على أن التسمية واجبة، وصيغة الأمر واردة في الحديث في جميع الأوامر (سم الله) (كل بيمينك) (كل مما يليك) ونص الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب: الأم على الوجوب، ولكن أكثر الشافعية حملوه على الندب وبذلك جزم النووي رحمه الله تعالى، هذا بالنسبة لقول: باسم الله.
لقد ذكر ابن تيمية رحمه الله طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، فلنعد إلى ذلك قبل أن نسترسل في التفاصيل:
فقد ذكر الإمام تقي الدين أحمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى في موضوع آداب الطعام ما يلي:
قال: وأما الأكل واللباس فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه ولا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فكان إذا حضر خبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر فاكهةٌ وخبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر تمرٌ وحده أو خبزٌ وحده أكله، وإن حضر حلوٌ أو عسلٌ طعمه أيضاً، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القثاء بالرطب، فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين -ربما بعض الصوفيين الذي يدعون الزهد، إذا حضر بين يديه لونان من الطعام قال: لا آكل لونين ارفع واحداً حتى آكل- ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة بحجة أنه يشغل عن العبادة أو أنه منافٍ للزهد، فإنه يأكله ولو كان مشوياً لذيذاً يأكله -مادام حضر، ما دام حلالاً طيباً- وكان أحياناً يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء، وأحياناً يربط على بطنه حجراً من الجوع، وكان لا يعيب طعاماً فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه، وأكل على مائدته لحم ضبٍ فامتنع عن أكله وقال: (إنه ليس بحرام، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه).
وقال رحمه الله تعالى: كذلك في مسألة أكل الطيبات.
بعد ما أتى بحديث الإنكار على الثلاثة الذين حرموا ما أحل الله على أنفسهم، وقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، قال عليه الصلاة والسلام: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) طبعاً هذا فيه رد على النباتيين الذين يأكلون الأشياء النباتية من باب الزهد، يقولون: لا نأكل اللحم؛ لأن أكل اللحم منافٍ للزهد، فإذاً هؤلاء مبتدعة ومن أنواع البدع البدع التركية؛ لأنه يترك أشياء لم تأمر الشريعة بتركها، مثل أكل اللحم تزهداً وتقرباً، فهذه من أنواع البدع، لكن إن تركه؛ لأنه يضر به، أو لوصية الأطباء واقتصر على أكل الفاكهة والخضار، فإنه ليس بمبتدعٍ والسبب في ذلك نيته، فإن نيته في الحالة الأولى: تركه تقرباً إلى الله، وفي الحالة الثانية: تركه لأنه يضر به.
فقال رحمه الله: وقد كان اجتمع طائفةٌ من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه وذكر الحديث... ثم قال: وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] فأمر بأكل الطيبات والشكر لله، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطاً مضيعاً لحق الله.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) فهذه الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها والانحراف عنها إلى وجهين، ملخص الوجهين:
أولاً: قومٌ يسرفون في تناول الشهوات.
ثانياً: قومٌ يحرمون الطيبات.
فإذاً الانحراف في هذا سيأتي من هذين الطريقين، الطريق الأول: قوم يسرفون في تناول الشهوات، والله يقول: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31].
الطريق الثاني: قومٌ يحرمون الطيبات والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].
كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر، كما جاء في الحديث فاجتره خالد -الضب اجتره خالد- وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما.
وذكر ابن القيم رحمه الله طائفة مما أكل عليه الصلاة والسلام فقال: وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج.. كما سيأتي في حديث الرجل الذي تنزه عن أكل لحم الدجاج؛ لأنه رآه يأكل شيئاً منتناً فدعاه أبو سعيد وقال: أكله النبي عليه الصلاة والسلام، دعاه إلى أكل الدجاج.
وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما، وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج، ولحم الحبارى، ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر الذي أتى به أبو عبيدة ، وأكل الشواء والرطب والتمر وشرب اللبن خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر -طبعاً هذا ليس بمسكر- وأكل الخزيرة وهي: حساءٌ يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الإقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد -وهو الخبز باللحم- وأكل الخبز بالإهالة وهي الودك -الشحم المذاب- وأكل من الكبد المشوية، وأكل القديد -اللحم المجفف- وأكل الدباء المطبوخة، وكان يحبها، وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحب التمر بالزبد، ولم يكن يرد طيباً ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر، حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار، وكان طعامه يوضع على الأرض في السفرة، وهي كانت مائدته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ، وهو أشرف ما يكون من الأكلة فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة، والجشع الحريص يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة، وكان لا يأكل متكئاً والاتكاء على ثلاثة أنواع:
أحدها: الاتكاء على الجنب.
الثاني: التربع.
الثالث: الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة -هذا رأيه رحمه الله- وكان يسمي الله تعالى على أول طعامه ويحمده في آخره، فيقول عند انقضائه: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفيٍ ولا مودعٍ ولا مستغنٍ عنه ربنا -غير مكفي: من الكفاية، ولا مودع: أي غير متروك الطلب- فإنه دائماً يطلب وربما قال: الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم... إلى آخر الألفاظ التي ذكرها رحمه الله.
وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه، ولم يكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، وكان أكثر شربه قاعداً وذكر موضوع الشرب، والشرب ستأتي له آدابٌ خاصةٌ به إن شاء الله تعالى.
وهي مسألة الأكل مما يليه: والأكل مما يليه قد جاء في الحديث: ( كل مما يليك ) وفي هذه المسألة عنون البخاري رحمه الله: باب الأكل مما يليه، وقال أنس -جاء بحديث معلق- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذكروا اسم الله وليأكل كل رجلٍ مما يليه) لأن مسألة الأكل مما يليه واضحة وينبغي أن يجمع بين الأشياء، بين الأكل مما يليه وبين إلعاق الإناء، فإن قال: الإنسان كيف يكون ذلك؟
نقول: إنه يأكل مما يليه بحيث يظهر قاع الصحفة فيلعقها، يعني: الناس عندما يأكلون، بعضهم يأكل أفقياً ويتوسع، وبعضهم يأكل عمودياً تقريباً، فأيها الأقرب للسنة في الجمع بين لعق الإناء وبين الأكل مما يليه؟
لا شك أنه إذا أكل مما يليه دون أن ينتشر يميناً وشمالاً بحيث إذا ظهر قاع الصحفة لعق ما يليه، وليس المقصود أنه يلعق كل الإناء أو (التبسي) فهذا قد لا يتيسر بل ربما انبشم ولما يلعقه كله، فإذاً يأكل مما يليه حتى إذا ظهر قاعها لعقه، فإنه ينظفه ويأتي عليه بأصابعه فيكون مكان أكله محفوظاً عن الانتشار.
وكذلك فإنه مما يشكل في الموضوع حديث تتبع الدباء من حوالي القصعة، فقد يظهر في بادئ الأمر تعارضاً بين حديث تتبع الدباء في القصعة وبين قضية الأكل مما يليه، وحديث تتبع الدباء رواه البخاري عن أنس : (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه، قال
فإنه قال رحمه الله: بابٌ من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه الكراهية، وهذا القيد في قوله: إذا لم يعرف منه الكراهية مهم؛ لأن تتبع الأشياء كثيراً مما يكرهه الناس، إذا كان يأكل مع جماعة فتتبع مما عن يمينه وشماله فإنه يأكل مما عن يمين غيره وعن شمال غيره من هاهنا ومن هاهنا، لكن إذا كان يعلم أنهم لا يعيبون ذلك ولا يكرهونه، فهل يحق له أن يأخذ منه إذا علم ذلك؟
فظاهر فعل البخاري رحمه الله وصنيعه في هذه الترجمة أنَّ له ذلك.
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى، أن الجواب عن هذا التعارض يمكن أن يقال: إن المسألة فيها تفصيلٌ: أنه إذا كان لوناً واحداً فلا يتعدى ما يليه، وإذا كان أكثر من لون فيجوز.
وقد حمل بعض الشراح هذا الحديث على ذلك فقال: إن كان الطعام مشتملاً على مرقٍ ودباءٍ وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وبعضهم قال: هذا يحمل على ما إذا كان يأكل لوحده فيجوز له أن يتتبع الشيء الذي يريده، وقد جاء في بعض طرق الحديث أن الخياط تركه يأكل وذهب لعمله، أو أنه محتاج للذهاب فذهب، وإذا كان يأكل لوحده من صحن بناءً على ذلك، فإنه لا يكون هناك محذور في كراهية الآخرين لتتبعه لشيءٍ معين، فيمكن أن يكون الجمع بهذه الطريقة أيضاً، فإذاًً نقول:
أولاً: إذا كان يعلم أن غيره لا يكره ذلك.
ثانياً: إذا كان الطعام ألواناً وأصنافاً، فأمامه -مثلاً- رز أبيض، وفي الناحية الأخرى رز أحمر وهو يريد الأحمر فإنه إذا أخذ مما هو بعيدٍ عنه مما يلي غيره لا بأس بذلك.
وثالثاً: أن نقول: إنه إذا كان يأكل لوحده جاز له أن يتتبع ما يريد، وبهذا يكون الجواب على هذه المسألة.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ ليتقذر صنيعه أو يكره منه فعله، فكون يده جالت في الطعام لأجل ذلك فإنه لا يكون قد آذى غيره مطلقاً، بل هناك أمر أدق من هذا ألا وهو: أنهم كانوا يتبركون بلعابه صلى الله عليه وسلم، وبريقه الذي يمسه يده، ولذلك لو أكل من أمام غيره لربما كان ذلك فيه إكرام له، من هذه الجهة.
وبعــد:
سبق أن تكلمنا -أيها الإخوة- عن موضوع آداب الأكل، وعددنا بعض الآداب مع ذكر بعض الأدلة في ما يتعلق بكل أدبٍ من الآداب، وسنكمل إن شاء الله الكلام عن الموضوع في هذه الليلة، وسبق أن ذكرنا أن الناس يقعون في الطعام في محذورين، وأن الانحراف في مسألة الأكل يحدث من جهتين:
الجهة الأولى: الإسراف فيه.
والثانية: تحريم ما أحل الله منه.
وهذا هو الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الناس يقعون في الأكل في انحرافين أو هم على طرفين: الإسراف فيه، وتحريم ما أحل الله منه.
وهناك بعض القصص التي ذكرها الذهبي رحمه الله في كتاب: سير أعلام النبلاء التي تبين بعض ما وقع فيه هؤلاء.
قال في ترجمة أحد الزهاد: أنه عمل له خلوةً فبقي خمسين يوماً لا يأكل شيئاً، وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما فما الظن؟ -يعني فما الظن بالامتناع عن الطعام هذه الفترة الطويلة- وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع) ثم قلَّ من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطاباً لا وجود له في الخارج -يعني: الذي يجوع هذا الجوع المفرط، فإنه يسمع أشياء لا وجود لها في الحقيقة، لكن من شدة الجوع يتراءى له ويتخيل- فإن كان متمكناً من العلم والإيمان فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلاً بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده وطمع فيه الشيطان، وادعى أنه وصل إلى مرتبة عالية ونحو ذلك، وبقي على مزلة قدم وربما تزندق وقال: أنا هو، كما يقول: هؤلاء الصوفية ، يقول: أنا هو، يعني أنا الله سبحانه وتعالى.
وقال: نعوذ بالله من النفس الأمارة ومن الهوى، ونسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا. آمين.
ثم قال في ترجمة رجلٍ آخر من الزهاد قال: صام طائر أربعين يوماً أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن؛ فليبسه قرع رأسه واختلط في عقله، قلتُ: -الذهبي يقول- فعل هذه الأربعينات حرامٌ قطعاً، فعقباها موتٌ من الخور أو جنونٌ واختلاط، أو جفافٌ يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبداً في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطابٌ من الله سبحانه وتعالى، مع أنه في الحقيقة من الجوع.
وفرقٌ بين هذا وبين ما يحصل من زهد بعض الزهاد، أو أنهم كانوا لا يفرطون في الشبعة، فرق بين هذا المغرق في ترك الطعام، وبين من يترك الشبع ولا يترك الطعام.
ولذلك لما نقل عن الشافعي رحمه الله، قال أبو عوانة الإسفرائيني : حدثنا ربيع قال: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذُ ستة عشر سنة إلا مرةً فأدخلت يدي فتقيئتها، يعني: مما وجد عليه من الأذى فيها.
فقول الشافعي : ما شبعتُ منذُ ستة عشر سنة إلا مرة، لا يدل على أنه تارك للطعام، وإنما يدل على أنه كان يقل منه، ولأن الإكثار منه والنهم فيه ربما يسبب الأضرار، وقد مات أحد من ترجم لهم الذهبي رحمه الله في السير بسبب أنه كان أكولاً.
قال: كان فلان أكولاً، فقال أحد رفقته لما قدموا مكاناً معيناً: أهدي إليه فالوذج لم ينضج، يعني: لم يكن مطبوخاً طبخاً جيداً، فقلنا له: يا فلان لا تأكله فإنا نخاف عليك، فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فلما استقر في معدته شكى وجع بطنه وانسهل إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض له، فتفاوضنا في أمره، ولم يكن لنا سبيلٌ إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندر ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج، وبتنا فلم نصبح حتى أوصى ومات فغسلناه ودفناه.
فإذاً: النهم قد يكون أحياناً سبباً في الموت، وربما مات بعضهم فعلاً من كثرة الطعم.. انبشم ومات.
وينبغي أن يكون الطعام -كما ذكرنا- من الحلال؛ ولذلك فإن أكل الحلال من أسباب إجابة الدعاء وقد أطعم أبا بكر غلامه طعاماً من كهانة تكهن بها وهو لا يحسن الكهانة، فلما علم أبو بكر قاء ما في بطنه.
وأكل معمر من عند أهله فاكهة، ثم سأل فقيل: هدية من فلانة النواحة، هذه امرأة تعمل بالنياحة وتأخذ أجرة على النياحة، وأهدتهم فاكهة، فلما علم أن الفاكهة من فلانة النواحة قام فتقيأ، وذلك لأنه لا يدخل بطنه إلا الحلال.
وكذلك فإن صاحب الأكل اليسير الحلال لا يحتاج إلى الأطباء، ولا تعرض له كثير من الأمراض التي تعرض للأكولين، عن ابن سيرين أن رجلاً قال لـابن عمر : أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟ قال: شيءٌ إذا كظك الطعام فأصبت منه سهل -إذا صار عندك كظة الطعام وأضر بك وازدحم عليك؛ عملنا لك هذا فسهل- فقال: ما شبعتُ منذُ أربعة أشهر، وما ذاك ألا أكون له واجداً، ليس لأني لا أجد الطعام، ولكن عهدت قوماً يشبعون مرة ويجوعون مرة، فكان يقتدي بهم رضي الله تعالى عنه.
فإذاً ينبغي أن يكون الإنسان في مسألة الطعام معتدلاً غير مكثرٍ منه ولا مفرطاً فيه.. ولا يكون في ذات الوقت تاركاً له بالكلية بحيث يضر بصحته وببدنه، وعليه أن يتحرى الحلال، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع فترةً طويلة؛ لأنه كان لا يجد عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان لزهده في الدنيا لا يطلب ما لا يجد وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن وجده أكله وإلا لم يتطلبه ولم يتكلفه، وعلى الآكل أن ينوي بأكله الاستعانة على طاعة الله تعالى.
وهناك أطعمة يستحب الأكل منها، كالأضحية والعقيقة بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأكل كل رجلٍ من أضحيته) فأمر بذلك.
وهناك مأكولاتٌ لا يجوز أكلها مطلقاً كالخنزير والميتة.
وهناك مأكولاتٌ يجوز أكلها لبعض الناس دون بعض، كالكفارات والنذور، فالذي يخرج الكفارة، أو أنه نذر أن يذبح ذبيحةً للفقراء لا يجوز له أن يأكل منها، بينما يجوز للفقير أن يأكل منها.
ومن الأطعمة التي يستحب الأكل منها كذلك، الأكل مع الضيف إيناساً له، إجابة الوليمة والأكل من وليمة النكاح.
هذا ما يتعلق ببعض الأحكام العامة في الأكل، وسبق أن ذكرنا بعض الآداب، ونتابع الكلام في تفصيل بعض هذه الآداب، من آداب ما قبل الأكل التي ذكرناها تسمية الله سبحانه وتعالى، وذكرنا بعض التفاصيل المتعلقة بذلك، ومما يضاف أيضاً إلى ما سبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي) وهو حديثٌ حسن يبين أن الاجتماع على الأكل من آداب الطعام، وأن الإنسان يحاول قدر الإمكان ألا يأكل لوحده ما أمكنه وأن يجلس مع آخرين.
وكذلك فإنه قد ورد حديث ضعيف: (أن الإنسان إذا قال: باسم الله أوله وآخره، قاء الشيطان جميع ما أكله) لكن ذلك لا يستبعد، ولكن يحتاج إلى صحة الدليل، لكن الشيطان إذا ما سمى الإنسان ماذا يقول لأصحابه؟ أدركتم العشاء، وإذا دخل وما سمى الله عند دخوله البيت؛ قال الشيطان لمن معه: أدركتم المبيت.
فإذاً التسمية عند دخوله البيت مانع للشياطين من المبيت مع أهل البيت، وكذلك التسمية عند بدء الطعام مانعةٌ لهم من أن يطعموا معهم.
وكذلك فإنه قد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة أنه قال: (كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده) هذا من الآداب التي تضاف وهو: انتظار الكبير أو العالم حتى يبدأ بالطعام، لكن الحديث في التسمية على أية حال، ولكن هذا الأدب في القصة، قال: (لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعاماً فجاءت جاريةٌ كأنها تدفع -كأن واحداً يدفعها- فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية، ليستحل بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع يدهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل) رواه مسلم.
فإذاً هؤلاء جاءوا دفعهم الشيطان، ليأتوا للطعام لكي يستحل الشيطان بواسطتهما الطعام؛ لأنهما لم يذكرا اسم الله تعالى، النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيديهما قبل أن يضع يديهما في الطعام، ثم سمى النبي صلى الله عليه وسلم وأكل.
فإن أكل بشماله فهو آثم، ويدل على ذلك حديث: (الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام يأكل بشماله فأمره أن يأكل بيمينه، قال: لا أستطيع؟ قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها ) يعني هذا الرجل قال: لا أستطيع.. كبراً وإلا فهو يستطيع فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت.. دعا عليه فلما دعا عليه شُلت وما استطاع أن يرفعها مطلقاً.
لكن هناك بعض الحالات التي يجوز للإنسان أن يأكل فيها بشماله مثل: شلل اليد اليمنى فعجز عن رفعها وحركتها، وأن يكون بها جراحة، ومقطوع اليد، فهذا لا حرج عليه أن يأكل بشماله.
فالعيب قد يكون من جهة الخلقة، وقد يكون من جهة الصنعة، قد يعيب شكل الطعام هذا، أو يعيب صنعته، ولا شك أن الأول أشد إذا عاب شكل الطعام، وإذا كان يعود إلى الصنعة: كأن يقول: حامض، مالح قليل الملح، غليظ، رقيق غير ناضج، ونحو ذلك فهذا تجنبه من حسن الأدب.
لكن هناك سؤالٌ ليس به عيب، وهو أن يسأل ما هذا الطعام، أي وضعوا بين يديك طعاماً لا تدري ما هو!! قد يكون فيه شيء أنت لا تريده ولا تحبه ففي هذه الحالة لا بأس أن تسأل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن ذلك، فيسأل للاطمئنان، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن خالد بن الوليد ، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة : وهي خالته وخالة ابن عباس ، فوجد عندها ضباً محنوذاً -ضباً مشوياً- قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد.
معناه: أن الضب لا يعيش في مكة ، ولا الحجاز ، ويكون في نجد : (فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قل ما يمد يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له -هذا هو الشاهد ما يسأل هذا حلال أو حرام، لا، بل يسأل ما هو هذا؟- وأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب، فقالت امرأةٌ من النسوة الحضور: أخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما قدم له هو الضب، فقلت: يا رسول الله هو الضب، فرفع رسول صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال
فمن أراد بالسؤال أن يعرف هل هذا النوع مما هو يشتهيه أو مما يكرهه فلا بأس أن يعرف ما هو هذا، يسأل عن نوع الطعام أو من أي شيء صنع ونحو ذلك، ولأن بعض الأطعمة من طريقة الطهي لا تعرف وتتغير ملامحها، هذا الضب مشوي بطريقة لم يظهر فيها، ولذلك ما تميز له إلا بعد أن قالوا له هو ضب.
بالنسبة لوعظ من يسيء الأكل فقد تقدم حديث عمر بن أبي سلمة الذي يدل على مشروعية وعظ من يسيء الأكل.
وكذلك أورده البخاري رحمه لله تعالى في كتاب الشركة: باب القران في التمر بين الشركاء حتى يستأذن صاحبه، وأتى بحديث جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعاً حتى يستأذن صاحبه، قال ابن بطال : النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر.
أي أن المسألة فيها خلاف: هل النهي عن القران للتحريم أو أنه من حسن الأدب أن لا يقرن؟
قال: لأن الذي يوضع للأكل سبيله سبيل المكارمة لا التشاح باختلاف الناس في الأكل، الناس قدراتهم وطاقاتهم في الأكل وحاجاتهم مختلفة، هذا يأكل قليلاً وهذا يأكل كثيراً وهكذا.. لكن إذا استأثر بعضهم بأكثر من بعض لم يحل له ذلك، يعني: واحد يستولي على شيء دون الآخرين لا يحل له ذلك، إذا كانوا شركاء مثل المناهدة، وهي: أن يدفع كل شخصٍ قدراً من المال، فيشترون بهذا المال المجتمع طعاماً لهم جميعاً، ثم يقسمونه بينهم أو يجتمعون عليه، هذه هي المناهدة وقد وردت في السنة، وكانوا يستعملونها في الأسفار، يأخذون اشتراكات من كل واحد من الرفقة ثم يشترون بها طعاماً للجميع، فإذا نزلوا منزلاً للغداء أو العشاء ونحو ذلك أكلوا مجتمعين.
فإذا تفرد بعضهم بالطعام دون بعض وقد اشتركوا جميعاً في قيمته فلا شك أنه فيه شيءٌ من الظلم، ثم إن البخاري رحمه الله تعالى: قد أورده أيضاً في كتاب الأطعمة، وقال: ثم يقول (إلا أن يستأذن الرجل أخاه فإذا أذن له جاز) والمراد بالأخ: رفيقه الذي اشترك معه في التمر مثلاً، سوء اشتركا في القيمة، أو أنه كان مهدى إليهما جميعاً، فإذا أكله دون أخيه لا شك أنه من الظلم، وكذلك فإن الإقران هذا يدخل فيه غير التمر ما كان مثل التمر، ولذلك لو كانوا وضعوا بين أيديهم عنباً أو خوخاً أو مشمشاً أي شيء مما له ثمرٌ مما هو منفصل، ولذلك قال ابن حجر : في معنى التمر الرطب وكذا الزبيب والعنب ونحوهما، لوضوح العلة الجامعة.
بعضهم قيد النهي عن الإقران بما إذا كان في حال الفقر.. وأما إذا كان موسع فلو قرن بين الاثنتين فإنه لا يكون ظالماً للآخر؛ لأن الآخر عنده زيادة وموجود.. الخير كثير، فلو قرن يعني أنه لا بأس به، على أساس أنه في غير وقت الفقر والشدة.
وكذلك قالها بعضهم: أنه مقيد بما إذا كانوا مشتركين فيه، أما إذا أعطاهم الطعام واحد غيرهم دون اشتراك فيقرنوا هم دون صاحب الطعام، لكن هذا يصلح إذا قلنا: العلة في القران هي الظلم، فهنا لا ظلم فلا بأس، لكن لو قلنا مثلاً: من العلة الشره، أنه إذا أكل اثنتين مع بعض صار كأن عنده نهم وشره، فهنا حتى لو كان هو مالك الطعام، فإن العلة لا تزال موجودة.
وكذلك من آداب الآكل قضية المضمضة بعد الطعام، ولعل هذه لم نذكرها في الآداب ونضيفها الآن، وقد جاء في حديث سويد بن النعمان (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بـالصهباء فحضرت الصلاة، فدعا بطعامٍ فلم يجده إلا سويقاً فلاك منه، فلكنا معه ثم دعا بماء فمضمض، ثم صلى وصلينا ولم يتوضأ).
قد يقال: هذا محله إذا كان سيصلي بعده لكن على أية حال، فالمضمضة مما يزيل الأوساخ أو مخلفات الطعام وكذلك السواك، ومما يكون فيه محافظة على الأسنان؛ فإن من أسباب تلف الأسنان بقايا الطعام التي تكون موجودة ومحبوسة فيها؛ فإذا تعفنت وأنتنت بين الأسنان سببت التسوس والآلام والأضرار.
ولذلك المضمضة بعده والتسوك لا شك أنه مما يحافظ الإنسان به على صحته، ومن الأشياء التي يتأكد المضمضة فيها اللبن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مضمضوا من اللبن فإن فيه دسماً).. (أو فإن له دسماً) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
يعني: اللبن فيه دسم فالمضمضة ليست مثل شرب الماء، فهذا الدسم يحتاج إذهاب أثره إلى مضمضة، واستخدام الأدوات في الطعام جائز، مثل الشوكة والسكين والملعقة، ومن الأدلة على ذلك حديث الصحيحين: عن عمرو بن أمية الضمري (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاةٍ في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها، ثم قام فصلى ولم يتوضأ) .
أما حديث (لا تقطع اللحم بالسكين) فقد بين الإمام أحمد رحمه الله أنه ليس بصحيح، وكذلك النهي عن تقطيع الخبز لم يثبت فيه شيء عن تقطيعه بالسكين، فتقطيع اللحم والخبز بالسكين لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استخدم الأدوات أثناء الأكل كاستخدام السكين، فلو أكل واستخدم الملعقة والشوكة وغير ذلك لا بأس به، لكن ينتبه الذين يستخدمون الشوكة والسكين أن عليهم أن يمسكوا الشوكة باليد اليمنى، وأنهم إذا احتاجوا للقطع باليمنى فإنهم لا يأكلون مباشرة، يقطعوها باليمين أولاً، ثم يأكل بالشوكة باليمين، أما ما يفعله بعضهم المقلدين للكفرة من إمساك الشوكة باليسرى والسكين باليمنى ثم يقطع باليمنى ويأكل مباشرةً باليسرى فهذا من إشراكهم للشيطان معهم في الأكل.
أما السكرجة جاء في تعريفها: أنها فارسية تكلمت بها العرب، وأن معنى هذه الكلمة: قال بعضهم: القصعة المدهونة، وقال بعضهم: أنها قصعة ذات قوائمٍ من عودٍ كمائدةٍ صغيرة، فلماذا لم يأكل على السكرجة؟
قال بعض أهل العلم: ترك أكله على السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم أو استصغاراً لها؛ لأن عادتهم الاجتماع على الأكل وهذه تضيق الدائرة، أو أنها كانت تُعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم، ولم يكونوا غالباً يشبعون فلا يحتاجون إلى شيءٍ يوضع عليه فيساعد على الهضم، الآن الناس يكثرون الطعام ويشربون بيبسي للهضم.
طيب لا يحتاج أن تشرب بيبسي إذا كنت لا تكثر من الطعام، لكن صارت الآن الأمراض والأشياء التي تستخدم للإعانة على الهضم نتيجة خطأ أساسي في البداية، فالذي يظهر والله أعلم أن الأكل على الطاولة ليس بمحرم، وإن الأكل على الأرض أحسن، وأكثر تواضعاً وهو السنة، لكن لو أكل على الطاولة لا حرج إن شاء الله، لكن لو سأل واحد ما هو الأفضل نأكل على الأرض أو نأكل على الطاولة؟
نقول: على الأرض؛ فهي جلسة النبي صلى الله عليه وسلم وهي التواضع: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) لكن لو أكل على الطاولة لا حرج، ولعل الأكل على الأرض من مزاياه أن الإنسان يستطيع أن يجلس الجلسة التي وردت في السنة، وهي: نصب الرجل اليمنى والجلوس على القدم اليسرى، لكن لو أكل على الطاولة في الغالب لا يتمكن أن يجلس هذه الجلسة، وأقول: لأجل هذا فإن الأكل على الأرض هو الأفضل والأقرب إلى السنة، ويمكن الإنسان إلى الجلسة المشروعة فيه، لكن الأكل على الطاولة لا يصل إلى أن يكون محرماً ألبتة.
ثم إن الإنسان قد يستطيع في بيته أن يكيف على أشياء، لكن في بيوت الناس والمحلات العامة لا يكاد يوجد الأكل على الأرض.
فلا شك أن الأصل أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نأكل متكئين وهذا هو الأحوط على الأقل، فقيل في صفة الاتكاء: أن يتمكن من الجلوس على أي صفةٍ كانت، يعني: يأخذ راحته ويتمكن، ويجلس جلسة فيها اطمئنان وراحة تامة، طبعاً من المحذور فيها أنه سيكثر من الطعام تبعاً لطريقة جلسته، وقيل: أن يميل على أحد شقيه على الجنب، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض.
وقال الخطابي : تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته فيجعل تحته فرشاً وشيئاً مريحاً للجلوس، يعني: كأنه يرى رحمه الله أن الاتكاء داخلٌ فيه، يعني: أي وضعية فيها راحة تامة، بحيث إن الإنسان يجلس فترة طويلة، فيتسبب في مزيدٍ من الأكل، قال: ومعنى الحديث (إني لا أقعد متكئاً على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزاً) .
وجاء في حديث أنس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمراً وهو مقعٍ) -من الإقعاء- وفي رواية (وهو محتفز) والمقصود: أن يجلس على وركيه غير متمكن، وعموماً يدل ذلك على كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئاً لا بصفةٍ بعينه، اتكاء على جنب، اتكاء على اليد، اتكاء على الوطاء، جلسة مستمكنة يستريح فيها تماماً ويأخذ راحته فيها، كل ذلك داخلٌ فيه، ولعل الأكل وهو على جنب مما يضر به، فلا ينحدر الطعام في مجاريه سهلاً هنيئاً فربما يتأذى به لو أكل متكئاً، وقيل: إن ذلك من فعل الملوك الأعاجم الأكل متكئاً، ولذلك صار مكروهاً .
والمستحب إذاً للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى، فإذاً هناك كيفيتان للجلوس على الطعام قد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه.
الثانية: أن يكون ناصباً للرجل اليمنى جالساً على الرجل اليسرى.
ولا يستبعد أن تكون العلة مجتمعة في أشياء كثيرة -مثلاً- طبية وشرعية، قد تكون أقرب للتواضع وأبعد عن مشابهة الأعاجم.. تؤدي إلى عدم الإكثار من الطعام، وهكذا..
ثم ليتهم إذا ما أكلوه اليوم الثاني تصرفوا من اليوم الأول! لا، يرمى كأنه صار غير صالح للأكل، يعني: إذا زاد شيء لابد أن يرمى، أما يوم الثاني لا يمكن أن يبقى عندهم؛ وعلى أية حال، فإن هذا من صنيع المترفين ولعله يخشى على من فعل ذلك أن تزول منه النعمة.
كذلك ورد الوصية بالتلبينة للمريض وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (مجمةٌ لفؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن) ما هي التلبينة؟
حساء، يعمل من دقيق أو نخالة، ويجعل فيه عسل سميت تلبينة تشبيهاً لها باللبن في رقتها وبياضها.
جاء كذلك أن الخل نعم الإدام، حتى قال جابر : فالخل يعجبني منذُ سعمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول.
وجاء كذلك الثريد قال: (فضل
وكذلك اللبن: الإنسان إذا شرب اللبن أكل أي طعام يقول: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه، لكن اللبن يقول: وزدنا منه، لا يقول: وارزقنا خيراً منه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإني لا أعلم طعاماً أفضل منه أو خيراً منه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
المكفي: من انكفأ الإناء إذا انقلب للاستغناء عنه، يعني: أن نشكر نعمة الله ولا نكفرها، وأن هذا الطعام نعمة من الله لا نكفرها، ولا مودع: غير متروك الرغبة إليه والطلب منه، ولسنا بمستغنين عنه، فهو فيه حمدٌ لله سبحانه وتعالى على هذا الطعام، وأنه يتمنى من الله سبحانه وتعالى أن تدوم هذه النعمة، وألا تنقطع.
وكذلك قد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين).
وكذلك جاء في الحديث الذي صحح إسناده النووي رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً) لأنه أذىً لمن لم يجعل له مخرج، لأن هذه نقمة، ومصيبة، ولذلك بعض الناس يعملون عمليات جراحية لأجل أن يجعل له مكان تخرج منه الفضلات.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر له ما تقدم ما ذنبه) حسنه الترمذي .
وكذلك فإنه قد جاء: (اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه -وأما اللبن فيقال- اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن) قال الترمذي حديثٌ حسن.
وقد صحح الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديثاً مشابهاً لهذا، فيما يقال عند شرب اللبن.
لاشك أنه مضر من جهة الصحة، وأنه يعرقل هضم الغذاء الأول، فبعد الفراغ من الطعام وجدت طعاماً آخر، فأضفته إلى الأول وهكذا قبل أن يتم هضم الأول، تدخل وجبة على وجبة فلا شك أن هذا مما يضر في الطب، فما صحة حديث النهي عن إدخال الطعام على الطعام؟
واغسل يديك ولا تمسح بمنشفةٍ قبل الطعام ففيه الأمن من علل |
ولا تغسل الصبيان أيديهم قبل الشيوخ ولا تمسح من البللِ |
فمما ذكروه أنه يترك تنشيف اليدين قبل الطعام؛ لأنه ربما كان في المنديل وسخٌ تعلق في اليد؛ فإذا أكل تعلق الوسخ بالطعام، لكن إذا كان المنديل نظيفاً فلا بأس أن يمسح يديه ولا حرج في ذلك، فهم يقولون: لا ينشف إذا غسل قبل الطعام حتى يدخل بيديه نظيفتين للأكل مباشرةً، وإذا غسل بعد الطعام نشف يديه لأنه لن يدخل يديه في الطعام.
ونقي شوك طعامٍ أنت آكلـه ولا تكن حاطباً يوماً على دغل |
كحاطب الليل إن يقبض على حطـبٍ حوى البلاء ونوع الإثم والأصلِ |
فهذا يفيد تنقية الطعام الذي فيه شوك أو أذى قبل أكله، والذي يأكله من غير تنقية يسمونه: بحاطب ليل؛ لأنه ربما أخذ مع اللقمة شيئاً يضره.
نضيج فاكهةٍ قبل الطعام فكل ما لم يطب أكله فاطرحه في الذبل |
يعني أن تقديم الفاكهة قبل الطعام أحسن؛ لأنه أسرع لهضمها، وبعضهم يستند بقوله تعالى: في ضيافة أهل الجنة أو طعام أهل الجنة: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21] فقدم الفاكهة على الطعام، لكن هذا لا يستلزم أن يكون دليلاً، فمجرد ذكره معطوفاً عليه لا يكون دليلاً على تقديم الفاكهة، ثم إن الوضع في الجنة قد يختلف عن الدنيا.. على أية حال سواء قدموا الفاكهة قبل الأكل أو بعده فالأمر واسع.
كل بالثلاث إذا جمد الطعام أتى وبالجميع إذا سمح الطعام ولي |
في الأكل من أصبعٍ مقت الإله ودع دون الثلاث ففيها كبر ذي خيلِ |
يعني: أن الأكل بثلاث إذا كان الطعام جامداً يمكن أكله بثلاث هو السنة، والأكل بأصبع واحد مقت، وبالاثنين كبر، فلذلك السنة الأكل بثلاث، وإذا كان لا يمكن أكله بثلاث فإنه يؤكل بأكثر من ذلك للحاجة.
وقال بعض الحكماء: من كثر أكله كثر شربه، ومن كثر شربه كثر نومه، ومن كثر نومه كثر لحمه، ومن كثر لحمه قسا قلبه ومن قسا قلبه، غرق في الآثام، ولا شك أن هذا مما هو معين، ويسبب الخمول والكسل.
ولا تكن نهماً في الأكل واقتصد وانفي عن العرض وصف الجوع والبخل |
إن الرغيب مشئومٌ في الأنام فكن زهيد أكل ترى في الناس ذا نحلِ |
فالتوسط في كل شيء حسن، والله يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] فالإنسان يتوسط في أكله فلا يقصر فيه حتى ينسب إلى التحشم، ولا يبالغ فيه حتى ينسب إلى الشره.
ومما ذكروه أيضاً: أنه إذا قدم له طعامٌ فإنه لا يطعم منه غيره ولو كان قطاً إلا بإذن صاحب الطعام لأنه هو مالكه.
ومن آداب الأكل التي ذكروها: أنه ينبغي للآكل حال أكله أن لا يديم النظر إلى جليسه؛ لأن ذلك يخجله فيترك الطعام قبل أن يشبع.
وينبغي كذلك: ألا يقضم الخبز في فمه ثم يضعه في الطعام، فبعض الناس إذا أراد أن يغمس شيئاً بالخبز قضم الخبز بأسنانه ثم وضعه في الأكل، وهذا يورث أن تعاف النفوس الأخرى -نفوس الجالسين- الأكل فقد يلتصق بها من بصاقه أو يكون في فمه شيءٌ من البخر، والرائحة الكريهة، فيكره له ذلك، وهذا النوع يسمونه المهندس؛ لأنه يهندس اللقمة ثم يضعها في الطعام، كما سماها صاحب كتاب: عجائب الأكل، أو الآكل المهندس الذي يقضمها بأسنانه قبل أن يدخلها في الإناء وإن هذا مما يسبب التقزز والنفور فلا يفعل ذلك.
المعنى الأول: الأمن من تطاير البصاق حال المضغ، وقد يقع ذلك في الطعام فيورث قنافةً يعني: تقززاً وأذىً عند الآخرين.
وثانياً: أنه إذا ضم شفتيه لم يبق لطعامه فرقعة وصوت، فإن بعض الناس ربما ينزعج من صوت المضغ الذي يخرج من الآخرين، فإذا أطبق الشفتين أمن من تطاير البصاق، وأمن ثانياً من إصدار الصوت المزعج عند أكله للآخرين.
وكذلك ألا يتنخم، لا يخرج النخامة أو البلغم، ولا يبصق، ولا يتمخط بحضرة الآخرين عند الطعام، ولاشك أن هذا أيضاً مما يسبب القرف لدى البعض أو الأكثرين.
ومنها: ألا ينفض يديه على الطعام، بعض الناس وخصوصاً الذين يأكلون الرز من هذه (التباسي) وهذه الأواني فإنه يأكل وينفض يديه بعد كل لقمة على هذا الإناء ثم يأكل وينفض يديه وهكذا، وربما نفضهما على من بجانبه، على أية حال هذا أيضاً من الأشياء التي تسبب النفور، وربما وقع شيءٌ على ثوب الجليس أو على طعامه فيسبب تقذراً.
وكذلك ذكرنا عدم خلط النوى بالتمر، وكذلك كل ما كان مثل التمر، كالبرقوق مثلاً لا يخلط النوى بالثمرة، لا يخلط ما أكل بما لم يأكل، طبعاً أنتم ترون الآن -أيها الإخوة- أن هذه الأشياء فيها دقة بالغة، ولا شك أن بعض الناس يقولون: هل في الشريعة ذوق؟
مثل هذه الأشياء ربما كان بعض الناس لا يتصورون أن هذه تكلم عنها العلماء، لكنهم تكلموا عنها وذكروها وفصلوا فيها تفصيلاً عجيباً، كل الأشياء التي تخطر ببال الإنسان من القضايا المتعلقة بالذوق والأدب والنظافة، والبعد عن القرف والتقزز والقنافة وما يكرهه الآخرون كلها مذكورة ومكتوبة، مما يدل على الأدب في هذه الشريعة وأن العلماء فهموا ذلك ودونوه، وكانوا يلاحظون من الواقع الأشياء التي تنافي الأدب أو التي هي من الأدب فينصون عليها، ولو ما وردت فيها الأحاديث لكنهم ذكروها.
وقلنا: إنه لا يتصرف بالطعام في غير الأكل إذا كان ليس هو صاحب الطعام، ولذلك قالوا: لا يطعم الهر والقط وغيره إلا إذا أذن صاحب البيت.
وأيضاً من آداب الطعام: تصغير اللقمة، وجودة المضغ قبل البلع، لأن بعض الناس يبلع بدون مضغٍ جيد، فهذا يضره من جهة ويدل على شرهه من جهة، لأنه يريد أن يأكل أكثر كمية في أقل وقت.
وقد سئل النووي رحمه الله عن مسألة وهي: هل ورد حديثٌ في تصغير اللقمة؟
فقال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتصغير اللقمة ولا بتدقيق المضغ، ولكن نقل عبادي في الطبقات عن الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: في الأكل أربعة أشياء فرض، وأربعة سنة، وأربعة أدب، أما الفرض:
فغسل اليد، والقصعة، والسكين، والمغرف، والسنة: الجلوس على اليسار، وتصغير اللقمة، والمضغ الشديد، ولعق الأصابع، والأدب: أن لا تمد يدك حتى يمد من هو أكبر منك، والأكل مما يليك، وقلة الكلام، هذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى، فإذاً تصغير اللقمة، وجودة المضغ من آداب الطعام.
وقد ينبني على هذا دقائق وفروع فقهية، لكن بعضها فيه مبالغات، كما قالوا: لو أكل الضيف تمراً وطرح النوى فنبتت شجرة فلمن هي؟ فعش أيها الضيف ويا صاحب المنزل حتى تنبت الشجرة ثم سل عن هذا الحكم.
وهذا ليس من الدين في شيء، هذا يرجع إلى حال الضيوف فإن كانوا ممن يرون أن تجلس معهم اجلس معهم، وإن كانوا لا مانع عندهم أن تذهب اذهب، لكن أن تقول: أنا سأحكم العادات والتقاليد، ونحن عاداتنا ما نجلس مع الضيف عند الأكل، ولو كان الضيف يريدك أن تجلس، إذاً هذا من قلة الأدب وليس من الأدب في شيء، ضع العادات على جنب وخذ ما جاء في الشريعة التي أمرت أو حثت على الإيناس واللطف وحسن العشرة، فإذا كان من حسن العشرة أن تجلس مع الضيوف فاجلس معهم وكل معهم، وآنسهم.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت اللقمة من أحدكم فيأخذها وليمط عنها الأذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان) فلماذا لا يلتقطون حبات الأرز التي وقعت ويأكلونها؟
وهناك في العالم الذين يتمنون حبة رز؛ بل ربما تبع بعضهم نملة حتى يراها تذهب إلى شيء في الأرض من حبة شعير أو قمح صغير فيأخذه قبله، إذا كثرت النعمة عند الناس استهانوا بها ولا يعرفون قيمتها إلا إذا فقدوها.
وما يورده بعض العامة لأولادهم ( من أن اللقمة تتبع صاحبها يوم القيامة وتجري وراءه إذا لم يلتقطها ) ليس له مستند صحيح، ولذلك لا ينبغي أن نخوف الناس بالأحاديث الضعيفة والموضوعة وعندنا من الصحيح ما يغني عنها.
وكذلك: (الإناء يستغفر للاعقه) هذا حديث معروف أنه ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هناك ما يغني عنه في لعق الإناء من الأحاديث التي وردت.
وبعض الناس يأكلون وغيرهم ينظر إليهم بتشهي الطعام، ولكن لسبب أو لآخر لا يجعلونه يشارك معهم، فذكر أهل العلم كراهية أنه يأكل بحضرة من يشتهي الطعام دون أن يشاركه فيه، حتى قالوا: ولو كان قطاً.
حتى قال بعضهم: فإن في نظرة هذا من السموم التي ربما أثرت في الآكل، نظرة المتشهي للطعام ولو كان قطاً قد يكون فيها شيء، ولذلك يرمى له بشيء.
لكن الآن جعلت مطاعم فيها طاولات منفصلة، ولا يمر عليك الناس الغادين والرائحين، السوق في الماضي كان الأكل فيه دناءة وقلة مروءة؛ لأنه يأكل أمام الناس الغادي والرائح، والأكل ينبغي أن يكون فيه شيء من الاحتشام والآداب التي يصعب تطبيقها في السوق، وخصوصاً إذا كان يتمشى ويأكل، فليس من الأدب أن يأكل ويتمشى بين الناس.
أما الشرب فإنهم رخصوا فيه، قالوا: لنقص زمنه.. لأنه لا يأخذ إلا شيئاً يسيراً، ثم قد يحتاج.. يصيبه العطش ويحتاج وقد جوزوا للمعتكف أن يخرج على بيته للأكل والشرب، ولو كان معتكفاً ما دام لم يحضر معه طعاماً وما تيسر إحضار الطعام معه.
ثم إن بعضهم: فرقوا بين الشيء الذي يخرج من الأسنان هل يبتلع أم لا؟
فقال بعضهم: إذا أخرجه بالخلال استحب طرحه وكره ابتلاعه، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه، ونقلوا ذلك عن الشافعي رحمه الله، ولم يظهر لي الفرق وما هو السبب في هذا؟ ولعل الأكل الذي يكون بين الأسنان نتيجة طول اللبث أو المكث فإنه يحدث له تغير أو رائحة؛ فإذا ابتلعه ربما يكون له ضرراً عليه، فهذا النوع من العالق الذي يطول مكثه يحتاج إلى عود إلى إخراجه، لكن الذي يخرج باللسان قد يكون مما يسهل إخراجه، ولذلك إذا خرج باللسان فلم يكن قد حدثت له فترة مكث في الفم، فما حصل له هذا التغير أو النتن، والله أعلم.
طبعاً: تعشى وتمشى، واضح التمشية بعد العشاء، ولا ينام حتى ربما يهضم طعامه لأن نومه طويل، والغداء في وسط أو في أول النهار، وبعده قيلولة، تغدى وتمدى، والأصل طبعاً تمدد، لكن اختصر على دالٍ واحدة.
وكما في قوله تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [القيامة:33] قالوا: هي أصلها يتمطط، فكان من علم الأولين بالطب أن النوم بعد الغداء مفيد.. والعشاء لابد من المشي بعده، وهذا موجود في أمثال العامة اليوم، حتى بنفس اللفظ هذا، مثل قديم لكنه ساري المفعول، تعشى وتمشى، وتغدى وتمدى.
وأيضاً: مما ذكره الأطباء في الماضي التي دونها أهل العلم أن يعرض نفسه على الخلاء قبل النوم، يعني: إذا أكل قبل أن ينام يدخل الخلاء حتى لا يحتبس فيه البول والغائط فيضره ذلك؛ لأن النوم قد يأخذ وقتاً طويلاً، فيدخل الخلاء قبل أن ينام.
أنه لا يشرع في الأكل إذا كان عند الآخرين حتى يؤذن له، فمثل أن يقول: سموا الله أو كلوا ونحو ذلك، وقال بعضهم: يكفي أن يضع الطعام بين أيديهم، فإن مجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على إذنه لهم بالأكل وأنه لا يشترط لفظ معين، فإذا كان العرف جارياً أنه بمجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على الإذن لهم بالأكل يمشي على ذلك، أما إذا كان جرى في العرف أنه لا يبدأ إلا إذا قال صاحب البيت: سموا الله أو باسم الله، أو كلوا أو تفضلوا أو اشرعوا أو ابدأو ونحو ذلك، فإنه ينتظر حتى يبدأ ويقدم لهم صاحب الطعام أو يأذن لهم بمثل هذه الألفاظ.
وقال النووي رحمه الله: الصحيح في تقديم الطعام أنه لا يجوز الأكل بلا لفظٍ سواء دعاه أم لا، بشرط ألا يكون ينتظر غيره.
وقال ابن العماد : يشترط أن يكمل وضع السماط، يعني: ليس من أول طبق يأتي به معناه: اشرعوا في الأكل قال: يشترط أن يكتمل وضع السماط: يكتمل وضع الطعام بأنواعه أو بما يريد إحضاره وبعد ذلك يشرعوا فيه.
نحن ذكرنا قضية غسل اليدين، وقضية الحديث الذي ورد في الوضوء للجنب، أو غسل اليدين للجنب قبل الطعام وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وثبت في حديثٍ آخر من طريقٍ عزيز ذكره الشيخ: ناصر في السلسلة غسل اليدين قبل الطعام عموماً للجنب ولغير الجنب، وللمحدث وغير المحدث.
ولا شك أن الشخص الغريب أو الشخص الذي يأتيك لأول مرة على طعام ربما يكون في نفسه شيءٌ من الحياء، ويحتاج منك إلى شيء من الإلحاح أو شيء من التشجيع على الأكل، فهذا من الأداب مع الضيف، وهذا داخل في آداب الضيف ربما استبقناه هنا، لكن على أية حال لا يقسم بالحلف على الكل هذا من الأمور السيئة المنتشرة بين الناس.
وينبغي كذلك الحذر من استعمال الحار بعد البارد، والبارد بعد الحار، في الأكل والشرب وفي الشرب أكثر لأن ذلك ربما أضر به، وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في مسألة اللقمة: ويحرم عليه لو كان الطعام قليلاً أن يأكل لقماً كباراً مسرعاً في مضغها وابتلاعها حتى يحرم أصحابه، فلا شك أن هذا من الجشع، فلو كان الطعام قليلاً فلا يكبر اللقمة إذا كان مشتركاً ومعه أناسٌ آخرون حتى يكون هناك عدلٌ في الطعام.
لكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن أهله ببقرة.
فالأكل أثناء المحادثة مما يكون فيه إيناس، ولذلك فإنه لا بأس به وليس بحرام، بعض الناس يظن أن الحديث أثناء الأكل مما يكره أو مما ينهى عنه، وليس ذلك بصحيحٍ على الإطلاق، وللشرب آداب كما للأكل آداب، لكن حيث إن موضعنا هو آداب الأكل فنقتصر عليه.
ونكتفي بهذا القدر من آداب الأكل، وبذلك يكون قد انتهى هذا الموضوع مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة، ومن كلام أهل العلم، والآداب التي ذكروها واستحسنوها مما يتبع العرف الحسن والذوق الطيب، والأدب الذي تهواه وتميل إليه النفوس ذات الفطر الصحيحة والسليمة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: نعم. لا شك في أن هذا من الإسراف، ولكن المسألة أحياناً تعتمد على قدرة الشخص المادية أن يشتري طعاماً، لكن في بعض الحالات يكون هذا إسراف حتى في حق أغنى الأغنياء، فيكون الطعام غالي الثمن بغير فائدة، وإنما مجرد لأنه من المطعم الفلاني، ففي هذه الحالة يكون إسرافاً.
الجواب: نعم. الخل: هو هذا الخل المعروف في يومنا وهو يؤخذ من عدة أشياء، فهناك خل من العنب، وخل من التفاح وغير ذلك، الخل أنواعٌ كثيرة، وبعضه له فوائد طبية، بحسب المأخوذ منه.
الجواب: قد لا نقول: إن الأكل بالملعقة سنة، لأنك إذا قلت إن الأكل بالملعقة سنة معناها أنه كان عليه الصلاة والسلام يأكل بالملعقة، نعم، إن المغارف والملاعق كانت معروفة في عهدهم وقد جاء في بعض الأحاديث ذكرها، لكن يمكن أن يقول الشخص: إنك إذا كنت مخيراً بين الأكل بالملعقة أو الأكل بالخمس الأصابع فإن الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة، يعني: لا تقول: هو سنة، لكن تقول: هو أقرب إلى السنة من عدة جهات:
أولا: أنه يمسكها بثلاث أصابع، والذي يأكل بخمس أصابع يأكل بالخمسة معاً؛ فهي أكثر من الثلاث.
ثانياً: أنه إذا أكل بالملعقة كانت اللقمة أصغر مما إذا أكل بالخمس.. أليس كذلك؟
ولا شك أن تصغير اللقمة من السنة، وتكبيرها من الجشع، ولذلك الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة من الأكل بالخمس من جهة تصغير اللقمة.
ثالثاً: أنه إذا أكل بالخمس نثر الطعام أمامه وتساقط، وإذا أكل بالملعقة يمكنه أن يتحكم فيه، فكان الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس؛ لأن الأكل بالخمس يؤدي إلى تناثر الطعام، وأكثر هؤلاء الذين يأكلون بالخمس ويتناثر بينهم الطعام لا يكلفون أنفسهم جمعه ولا أكله، وإنما يبقى هكذا. فمن هذه الجهة يكون الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس.
كذلك يمكن أن يقال: إن الأكل بالملعقة أكثر تحكماً من الأكل بالخمس؛ لأنه عند أكله بالخمس كما قلنا يتناثر الطعام. لكن لو كان الإنسان يستطيع أن يأكل بثلاث أصابع والطعام يؤكل بثلاث أصابع، لأن من الطعام ما يؤكل بثلاث أصابع ومنه ما لا يؤكل بثلاث أصابع، فمثلاً: ما كان متماسكاً كالثريد، وكالتمر المخلوط بالسمن والزبد (حيس) هذا يمكن أن يأكل بالثلاث أصابع، لا داعي أن يأكل بالخمس أبداً، فلو قيل لك: تأكله بثلاث أصابع أو تأكل بالملعقة أيهما هو السنة؟
بثلاث أصابع أفضل، لكن بين الخمس وبين الملعقة قد تكون الملعقة أقرب إلى السنة من الخمس، ثم إن الذين يستخدمون الخمس ليسوا سواء، فبعضهم يستخدمها استخداماً جيداً، وبعضهم يستخدمها استخداماً في غاية الرداءة.
فإذاً هناك طعام لا يمكن أن يؤكل بثلاث، الرز -مثلاً- كيف تأكل الرز بثلاث أصابع؟ ولذلك قد يكون هناك عذر أن يأكل بأكثر من ثلاث أصابع، لكن ليس العتب هنا في استخدام أكثر من ثلاث للحاجة، العتب في طريقة الاستخدام، وإذا كان الأكل بالملعقة سلبياته أقل فيكون هو أحسن، وهناك من الأطعمة ما لا يمكن أكله لا بثلاث أصابع ولا بخمس مثل: الحساء، كيف يحتسي بأصابع؟ لا يمكن، فطريقة الاحتساء إما أنه يشرب من الإناء مباشرة أو أنه يبتلعه بمغرفةٍ أو ملعقةٍ مثلاً.. فإذاً المأكولات تختلف، ومنه ما يحتاج إلى إمساك بالقبضة كالتفاح مثلاً، فأنواع الأكل تتحكم في الطريقة التي تستخدم في أكلها.
الجواب: فيما يتعلق بالدباء ليست هذه سنة تعبدية، فلا يترتب على أكل الدباء أجر من جهة أنه سنة مثل الأكل بثلاث أصابع أو التسمية أو الأكل باليمين، لا. هذه لا تقارن بهذه مطلقاً.
الجواب: عشراً عشراً كما ثبت في السنة، بعد الصلاة عشراً عشراً، وبقية الصلوات مرة أو ثلاث مرات، كما ورد في السنة.
الجواب: الدعاء قبل كل صلاة لا بأس به، بل هو من أوقات الإجابة بين الأذان والإقامة، لكن تعيين دعاء معين يقوله فهذه مشكلة إذا ما ورد في السنة، ولذلك لا يواظب على دعاءٍ معين.
الجواب: هذه المسألة طويلة ولكن الخلاصة: اختلف العلماء فيها في الصلاة الجهرية، منهم من قال تجب القراءة، ومنهم من قال: لا تجوز القراءة، ومنهم من قال: إذا كانت الصلاة جهرية لا يقرأ، وإذا كانت سرية يقرأ، وهذا أوسط الأقوال وأعدلها، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الجواب: يسقط عن الطفل إذا لم يستطع أن يقول، لكن يذكره أمامه أبوه أو أمه من باب التعليم.
الجواب: نعم. إنهم ليسوا متفرقين تماماً لكن لو اجتمعوا في صحنٍ واحد يكون أحسن.
الجواب: سبق أن سألت هذا السؤال الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: لا. يؤكل أو إذا خشي أن يكون نزل عليه الداء، يطعم للبهائم ولا يرمى.
الجواب: إذا كان هؤلاء لم يعرف عنهم أنهم يقومون بقتلها بطرق غير شرعية فإننا نأكل، هذا الأصل من حل أكل طعام أهل الكتاب، لكن إذا وردت الأخبار، وتكاثرت الأنباء، وتعددت المصادر، وجاءت الروايات والصور وشهادات الناس الذين زاروا تلك المصانع، أنهم يصعقون ويرمون الدجاج في أحواض المياه المغلية، وهي حية، أو يضربون البقر بالمسدس مثلاً.. فيقتلونها فعند ذلك لا نأكل، لأن الشبهة صارت قوية جداً، الآن جاءت الأخبار وتكاثرت وأصلاً عندهم جمعيات الرفق بالحيوان، تمنع الذبح وتقول: رفقاً بالحيوان لا تذبح، ورفق بالإنسان الذي يأكل هذه الميتة!!
الجواب: سبق أن ذكرنا الحديث الذي رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل التمر فتشه وأخرج ما فيه من السوس ثم أكله).
الجواب: إذاً دخلنا في عيب الطعام قبله أو بعده أو معه، ما دام أنه حصل العيب فهو عيب، ولكن إذا أراد أن يبين لصاحب المطعم عيوب الطعام لا بأس، فهذا لمصلحة المسلمين لكن الآن ما صار لأجل مصلحة المسلمين كأن يقول: يا أخي اهتم بطعامك أنتَ تفعل فيه كذا وكذا ونحو ذلك، فهذا لا بأس، هذا قصده نصيحة للمسلمين.
الجواب: لا. يختلف التربع عن القرفصاء.
الجواب: العبرة بالذي يوصل الطعام إلى الفم، فإذا كانت اليسرى فهو حرام.
الجواب: إذا كثرت الشبه عن هذا اللحم الذي يستخدمه أو الدجاج فإنك تسأله، لكن إذا كان يستخدم طعاماً مستورداً من بلاد المسلمين لا تسأل، أو من بلاد أهل كتاب لا يعرف عنهم شيء غير الذبح فلا تسأل.
الجواب: حرام، لا تجوز، الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نيران جهنم، ومثلها الأواني والصحون والملاعق والسكاكين والشوك وكلها داخلة فيها.
الجواب: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، بعضهم قال: يشترط لكي تكون مجيباً للدعوة أن تأكل من الطعام، الذي هو وليمة الزواج، وقال بعضهم: لا يشترط ولعله هو الأرجح.
الجواب: نعم. لأنه قال: الشيطان يأكل بشماله، ولا مانع أن يكون هناك عدة وسائل للشيطان تمكنه من الأكل مع الإنسان، منها: ألا يذكر اسم الله، ومنها: أن يأكل بشماله، وإذا أكل بشماله وما سمى الله شبع الشيطان.
الجواب: حرام. لأنه استفاد من الربا لشيءٍ وهو دفع الضرر عن نفسه.
هذا بالنسبة لأسئلة هذا الدرس.. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر