وبعــد:
فحديثنا في هذه الليلة عن أدبٍ آخر من الآداب، وهو أدب الاستئذان، هذا الأدب العظيم الذي جاءت به هذه الشريعة المباركة، وكلها خيرٌ وبرٌ وإحسان ونفعٌ للمسلمين في كل أحوالهم، العلم والإعلام، وأذان من الله ورسوله، أي: إعلام، وأذن للشخص أي: أباح له ذلك، واستأذن: طلب الإذن، والسين والتاء تفيد الطلب، فالعلم والإعلام والإباحة والأنس والنداء معانٍ للاستئذان تتضمنه.
وأما بالنسبة للاصطلاح فإن الاستئذان: هو التماس الإذن تأدباً خشية الاطلاع على العورة، وهو أيضاً: استباحة المحظور على وجه مشروع، وهو أيضاً: طلب في الدخول لمحلٍ لا يملكه المستأذن، هذا كله استئذان.
ولا شك أن هذه الشريعة التي تريد سعادة المجتمع، وأن يكون مجتمع إيمان وبرٍ وتقوى، ويتبين فيه خصائص هذه الأمة التي قال الله فيها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] لا شك أن هذا الأدب يبين رغبة الشريعة في هذه الرفعة والمكانة، والإنسان صاحب غرائز وشهوات وميول ورغبات، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك، وحينما حرم الزنا حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج وكل ما يؤدي إليه، ومن المعلوم خطورة النظر في المجتمع الإسلامي، وإنه إذا أطلق يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ولذلك كان شأنه خطيراً، فنزلت أحكام الاستئذان لمعالجة قضايا البصر، وهو -أي الاستئذان- أدبٌ رفيع يحمي حرمة البيوت ويحافظ عليها.. وأي حرمة أعظم من أن جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم العين التي تنظر بغير استئذانٍ عيناً مهدرةً لا دية لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذن؛ فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح) رواه البخاري .
فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن رجلاً ينظر بفتحة الباب، وكان في يده مدراة يصلح بها شعره لها حد، فأخبر الرجل أنه لو علم أنه ينظر إليه لأدخلها من الباب ففقأ عينه، ولذلك نص العلماء على أن الذي ينظر من شق الباب على شخصٍ في بيته وملكه بغير إذنٍ فأدخل صاحب البيت شيئاً في الثقب ففقأ عين الناظر أنها عينٌ مهدرة لا دية فيها.
كل ذلك من أجل حرمة البيوت، والشريعة تريد حماية حرمة البيوت، وتريد أن يكون المجتمع نظيفاً والناس يعيشون في عفة، وتمنع الاطلاع على العورات، فهذه العورات محفوظة في الشريعة، وليست فقط عورة البدن، بل كل ما يمكن أن يكون عورة، فللطعام عورة، وللأثاث عورة، وللباس عورة، وللبدن عورة، والإنسان يحب أن يطلع عليه الناس وهو في حالة تجمل متهيئاً لنظرهم، ولذلك فإن الناس لا يريدون أن يطلع شخصٌ على بيوتهم وهي على غير ترتيب، ولذلك إذا استأذن شخصٌ على إنسان في بيته وفي غرفته وهي ليست مرتبة سارع إلى ترتيبها، ففي الاستئذان مراعاة لمشاعر الناس الذين لا يريدون إظهار أشياء ليس من المناسب أن يطلع عليه الآخرون، وربما يكون في البيت بقايا طعام، ربما يكون إنسان فرغ لتوه من طعامه، ولا يريد من الشخص الغريب أن يدخل عليه وفي بيته بقايا طعام مثلاً، فالاستئذان يفيد؛ فيرفع بقايا الطعام قبل أن يدخل الضيف، إذ ليس من المستحسن عنده أن يدخل عليه ضيفٌ فيرى البقايا أو أوساخ أو أشياء غير مرتبة، أو يرى في ثوب نوم أو بقميص داخلي ولو كان ساتراً للعورة، لكن الإنسان لا يحب أن يراه غيره في هذه الحالة، ولذلك الاستئذان فيه مراعاة لمشاعر الناس، بالإضافة إلى قضية ألا يطلع أحد على العورة وألا تثار الشهوة، وألا تقوم الفتنة، وألا يقع الزنا.
ولذلك نلاحظ أن آية الاستئذان جاءت بعد الزجر عن الزنا والقذف، فلما ذكر الزجر عن الزنا والقذف في سورة النور ذكر الاستئذان والزجر عن دخول البيت بغير استئذان؛ لأنه ربما أدى إلى وقوع أحد المحظورين، ولذلك فإن أدب الاستئذان يؤدي إلى قطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، وربما يصادف الإنسان حال خروجه رب الدار، وليس فيها إلا امرأته فتذهب به الظنون كل مذهب، وربما أدى ذلك إلى خراب البيت وإلحاق الأطفال بحال اليتم والضياع.
وقد أباح الله للمماليك والصغار الطواف في البيوت بغير استئذان لحاجة أهليهم وأسيادهم إلا في الأوقات الثلاثة التي جاء النص عليها وهي: ما قبل الفجر.. ووقت الظهر، وبعد العشاء، فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذن حتى لو كانوا داخل البيوت من الخدم أو الإماء والعبيد أو الأطفال الصغار، وذلك لأن هذه الأوقات الثلاثة يأوي فيها الرجال إلى نسائهم وأزواجهم وتنزع فيها الثياب، ولذلك جعل الدخول محظوراً لكي لا تقع الأنظار على عورات الأهل من الأبوين، وهذا أدب يغفل عنه الناس، ويتساهلون في دخول الخدم عليهم ودخول الأطفال الصغار، وربما أدى ذلك إلى أن يرى الطفل أشياء تبقى في مخيلته أو في ذهنه وهو في صغره، وربما أدى ذلك إلى أضرار في كبره.
فهذه أول آية من آيات الاستئذان، وهي آية الاستئذان العام التي أدب الله بها عباده المؤمنين، كان الرجل في الجاهلية إذا لقي أخاه لا يسلم عليه، بل يقول له: حييت صباحاً، وحييت مساءً ونحو ذلك، فأبدلهم الله خيراً من ذلك تحية أهل الإسلام، أنفع الخير والثناء وهي دعاء صالح وطيب، وهذا النهي في الآية وهو قوله: (لا تدخلوا) للتحريم، فمعنى ذلك: أن الدخول لا يجوز إلا بإذن؛ لما في ذلك من الاطلاع على العورات والتصرف في ملك الغير بغير إذن، وهذا نوعٌ من الغصب.
نعم. فهو بيت لك سواء استأجرته أو كان ملكاً لك، فتدخل فيها في أي وقتٍ ما دام بيتك، وقوله سبحانه: تَسْتَأْنِسُوا الاستئناس: من آنس شيئاً إذا أبصره ظاهراً أو مكشوفاً أو إذا علمه، وهذا الاستكشاف: هو العلم يكون بالاستئذان، وقد يكون الاستئناس ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له زالت الوحشة، وكذلك فإن الاستئناس يفيد الاستئذان وزيادة: (تستأنسوا) ليس فقط معناها: تستأذنوا، فهي أعلى من الاستئذان، حتى تستشعروا أنس أهل البيت بكم، ففيها إشارة لطيفة إلى أن الزائر لا ينبغي أن يدخل إذا تبين له من حال صاحب البيت أنه لا يرغب في دخوله ولو صرح لك بالإذن، فإن بعض الناس يأذنون لكن على كره ومضض، فلما قال الله: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] عرفنا أن المسألة لابد أن يكون فيها أنس وليس مجرد الإذن؛ لأنه قد يحرج، فبعض الناس إذا استأذنت عليه يتردد يقول: تفضل ولكن لم تخرج من نفسٍ طيبة، فإذا كان كذلك لا تدخل لأن الله قال: ( حتى تستأنسوا ) فيحصل الأنس، فإذا أحسست أنه لم يحصل أنسٌ فلا تدخل.
وحتى في مسألة أخذ المال، ما أخذ على وجه الحياء فهو حرام .. وإن كان أعطاك وسلمك بيده، لَكنْ فيه إحراج، وقع عليه الأمر وقعاً شديداً لا يملك إلا أن يأذن مرغماً، فهذا لا يدل على أنه خرج بطيب نفسٍ منه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27] -أي: الاستئناس- أو التسليم خير من أن تدخلوا بغتةً.
بعض الناس يكبر عليه أن يقال له: ارجع، يكبر عليه جداً، والله يقول: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28] فلماذا تستكبر عن شيءٍ ذكره الله وأرشد إليه؟
والذي يقال له: ارجع فيغضب ويزبد ويرغي ويقاطع صاحب البيت فلا يرجع، هذا إنسان متكبر يرى أن مقامه فوق الآية: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] وأطهر من إلحاحكم وأحسن من الوقوف في الباب، وخيرٌ من الإصرار على الدخول، إن قيل لك ارجع فارجع ولا تلح ولا تصر، فتضمنت الآية الرجوع في حالتين: في حالة عدم الإذن الصريح كأن يقال: لا تدخل لا أسمح لك بالدخول، ارجع.
وكذلك في حالة عدم الإذن الظني كأن لا يكون في البيت أحد أو سكتوا، افرض أنك طرقت الباب فسكتوا، أنت سمعت أصواتاً وصياحاً داخل البيت، طرقت الباب سكتوا، واصلت الطرق لم يتكلم أحد، هذه معناها: ارجع؛ لأنه لم يأذن.
قال الله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28] فيدخل في علمه سبحانه وتعالى، أنه يعلم من يدخل بإذن ومن يدخل بغير إذن، فيجازي كلاً بعمله.
كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع.. من دينه وتقواه؛ لأنه تحقق شيء في الآية فينصرف مستبشراً بالخيرية التي ذكرها الله، يريد أن يقال: ارجع؛ لأن الله يقول: خيرٌ لكم فصار من أهل الخير والخيرية في هذه الآية، وهذا الحكم في البيوت المسكونة سواء فيها متاع للإنسان أو لا، وفي البيوت غير المسكونة التي لا متاع فيها للإنسان.
فلعل ما يتضح به المقصود إن شاء الله أن نضرب مثالاً: بيوت على الطريق يأوي إليها الناس لابن السبيل، فنادق وفيها غرف ودكاكين وحوانيت في الشارع،كل هذه تدخل في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] فمثلاً: استأجرت غرفة في فندق أو تريد أن تدخل محلاً في الشارع، كدكان، أو بيت في الطريق مبني لابن السبيل يدخل يستظل فيه وينام، وهو مفتوح لأي واحد يدخل، فهذه لا تحتاج إلى استئذان فقد يكون المتاع: الاستظلال، وقد يكون المتاع: أن تشتري حاجة، وقد يكون المتاع أغراضاً وضعتها في غرفة الفندق، فلا يحتاج أن تستأذن عند الدخول في غرفتك في الفندق، ولا يحتاج أن تستأذن عند دخول دكان في الشارع يبيع، ولا يحتاج أن تستأذن في مبنى في الطريق مهيأ لاستقبال المسافرين أو جعل لابن السبيل يأوي إليه، فإن بعض الناس يقيمون على طرق السفر أو أماكن مظللة مثلاً لاستراحة المسافرين بدون أجرة باباً مفتوحاً بالمجان، فليس هناك من حرج في دخولها، وليس من الضرورة أن يكون فيها متاع يعني: فيها جهاز أو فيها عفش وما شابه ذلك، بل يدخل فيها ما سوى ذلك من الحاجات، بل لو أن إنساناً يريد أن يدخل خربة ليقضي حاجته من بولٍ أو غائط فلا يحتاج أن يستأذن في دخول هذه الخربة، فإن ذلك من المتاع الذي يقصده بالدخول.
فإذاً: مثل هذه الأشياء لا حرج من الدخول فيها. وهذا الاستئذان العام.
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58] هؤلاء الأحرار، وليس المراد الذين لم يظهروا على عورات النساء؛ لأن الذي لم يبلغ الحلم قد يعرف أحوال النساء فيميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة، وله التفات إلى النساء وإلى ملابس النساء وزينتهن ويصف النساء، فقوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58] أي: الأحرار غير البالغين، وليس خاصاً بالذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء لكن ما بلغوا الحلم، أما ابن السنتين ونحوها ليس من الذين يظهرون على عورات النساء، ولا يميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة أو يصف ويهتم بشئون النساء وله ميلٌ إلى ذلك.
وهذه الأوقات الثلاثة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي أوقات الخلوة والتصرف التي يمكن أن يأتي فيها الإنسان أهله في العادة، فالله عز وجل يعلم أن الاستئذان الخاص مثلاً: استئذان الخدم أو الإماء أو الأطفال على الأبوين مثلاً، كل وقت يشق فجعله واجباً في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنه يوجد مشقة، لأجل الطواف بالخدمة، وقضاء الأشغال والحوائج، فإذا كانت كلما تريد أن تتحرك من مكان إلى مكان تستأذن سيكون هناك مشقة، لكن جعل هناك أوقات معينة ليس فيها دخول إلا باستئذان، وهي مظنة خلع الثياب ومظنة إتيان الرجل أهله واستراحته وقيلولته ونومه، وكانوا في الحر يخلع الرجل إزاره ورداءه، فربما تعرى فينكشف فيطلع غير المستأذن على شيء غير مناسبٍ على الإطلاق.
وقوله عز وجل: ( ليستأذنكم ) يدل على أنه ينبغي أن نربي أولادنا على هذا الأدب، يجب أن يربى الأطفال على عدم اقتحام غرفة نوم الأبوين إلا بإذن، ويربى الأولاد ألا يدخل الواحد على غرفة الآخر إلا بإذن، فقد يغير ثيابه بعد استحمام أو لأجل الخروج من البيت ونحو ذلك، ولما استغرب أحد الناس قال لـابن عمر : [أستأذن على أمي؟ قال: أتريد أن تراها عارية؟] فربما أنها تبدل ثيابها، فلابد أن يستأذن استئذاناً خاصاً حتى في الدخول على الأم، وبالذات غرف البنات، ينبغي تعليم من يدخل الاستئذان قبل أن يدخل، هذا أدب إسلامي حصل فيه تفريط أو إخلال يؤدي إلى كوارث.
فإذا كنت عند شخص في زيارة، فالأدب إذا أردت الانصراف أن تستأذن قبل أن تقوم وليس أن تقوم وتمشي، فهذا احترام لصاحب الدار ولأخيك المسلم، ويكون هذا الاستئذان مصحوباً بالسلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا انتهى أحدكم إلى مجلسٍ فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة).
ولذلك روى البخاري رحمه الله في الأدب المفرد : باب إذا جلس الرجل إلى الرجل يستأذنه في القيام، وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: جلست إلى عبد الله بن سلام فقال: إنك جلست إلينا وقد حان منا القيام، فقلت: فإذا شئت، فقام، فتبعته حتى بلغ الباب.
فإذاً: عرفنا الآن التحية عند دخول البيوت، والتحية عند الانصراف، ولنعلم كذلك بأن هذا الأدب وهو أدب الاستئذان بنوعيه العام والخاص، أدب كريم، أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظافرت في ذلك دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فقال بعض العلماء: إنه مستحب، وقال بعضهم: إنه واجب بنوعيه الخاص والعام، قال ابن مفلح : فيجب في الجملة، وأدلة الوجوب كثيرة مثل: الأمر أو النهي، والأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع) وهذه اللام في قوله: ( ليستأذنكم ) هي لام الأمر، هذا ظاهره يدل على الوجوب ثم ستر العورة واجب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) والاطلاع على العورة محرم، فالمسألة كبيرة.
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا استأذن فقيل له: ادخل بسلام، رجع وقال: لا أدري أدخل بسلامٍ أو بغير سلام، فهذا امتناع ابن عمر رضي الله عنهما الدخول لما قيل له: بسلام، احتمال أن يكون المراد ادخل بسلامك لا بشخصك، ولأنهم اشترطوا عليه شرطاً لا يدري أيفي به أم لا، فمن ورعه كان يرجع.
فالمهم الصيغة: السلام عليكم أأدخل، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه استأذن فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟
ولكل قومٍ عرفٌ في الاستئذان، ولذلك لو استأذن بأي كلمة: ممكن أدخل؟ لا بأس، أأدخل؟ لا بأس، لكن الصيغة الأتم والأكمل (السلام عليكم أأدخل؟).
فهذه الصيغة الأفضل، وقد جاء عن عبد الملك مولى أم مسكين قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي فلما بلغ الباب قال: أندر؟ قالت: أندرون، وهذه العبارة معناها بالفارسية استئذان، فإذاً يمكن أن تدخل على شخص لا يعرف العربية، فتستأذن عليه بلسانه بالإنجليزية أو بغيرها، المهم أن يفهم أنك تريد الدخول وتسمع إذناً صريحاً.
منع من ذلك جمهور العلماء؛ لأن ظاهر الحديث الاكتفاء بالثلاث والزيادة عن الثلاث إزعاج، يعني يمكن تقول: ما سمع من أول مرة، كان ساهياً أو لاهياً، نستأذن إذن مرة ثانية، وهكذا، فقد يكون سمع، ولو كان يريد أن يأذن لأذن، وقال ابن عبد البر رحمه الله: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها.
وبعض العلماء قال: يجوز الزيادة إذا لم يكن فيها إزعاج وإحراج لصاحب البيت، أي لو أن إنساناً مثلاً خاصم شخصاً أو بينه وبينه خصومة، فأراد أن يتصالحا فذهب إلى مكانه، وأراد من الزيادة على ثلاث استرضاء الشخص الذي بينه وبينه خصومة، فلم يقصد بالزيادة على الثلاث الإحراج أو الإزعاج، قصد أن يسترضيه ويلح عليه ويقبل منه الدخول، ويقبل منه الاعتذار، فلا بأس فلها معنى ولها وجه.
وقد جاء في حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: فرد
فالنبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بالثلاث ورجع، قالها في قوله وعملها بفعله صلى الله عليه وسلم، وإذا تحقق المستأذن أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثلاث؛ لأنهم لما سمعوه ولم يأذنوا دل ذلك على أنهم لا يريدون الإذن، وعدم الزيادة على الثلاث ثابت في السنة.
الطلاق ثلاث مرات: المرة الثالثة ليس فيها رجعة، فنجد أن الثلاث في الشريعة جاءت في أمورٍ كثيرة أنها منتهى الأجل ونهاية المطاف.
ولذلك الآن من الأمور التي أهلكتنا قضية المجاملات الفارغة، يعني: مثلاً واحد أوصل الثاني إلى بيته بعد العمل بعد تعبه وإرهاقه وعرقه وجوعه، الذي حصل وصله إلى البيت، فهذا الذي ينزل بيته يقول: تفضل معنا، هل هو يقصد فعلاً حقيقة هذه الكلمة؟ لا يقصدها، بدليل أنه لو تفضل معه لصارت نكبةً عليه، هذه تفضل معنا يعني: مع السلامة، لكنهم يقولونها بعبارةٍ أخرى، فلذلك ينبغي عدم الوقوف عند هذه الألفاظ المجردة، بل ننظر إلى ما وراء ذلك من المعاني والأحوال.
فإذاً: هذه الآثار الصحيحة كما بين ابن حجر رحمه الله تدل على الاستئذان حتى على المحارم، ويستأذن الرجل على أمه ولو كانت عجوزاً، وأن هذا الاستئذان أمرٌ مفروض لعموم البلوى التي تحصل داخل البيوت، وربما يكون الخطر من الداخل أعظم من الخطر من الخارج.
ولماذا أمرنا ألا ندخل على أهالينا ليلاً من السفر؟ لا يطرق الرجل أهله طروقاً لئلا يقع منها على أمرٍ يكرهه، ينتظر حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، وبعد ذلك إذا أراد أن يدخل فليدخل.
طبعاً الآن لو أن إنساناً أخبر زوجته بالهاتف أنا سآتي هذه الليلة، فقد حصل المقصود فيجوز أن يأتي ليلاً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في أسفاره ينتظر قرب المدينة ، يعني: أهل المدينة يكون عندهم خبر أنه سيدخل قريباً، إذا وصل في الليل لا يدخل في الليل، ينتظر لئلا يدخل الرجل على زوجته في حال يكرهها، يعني: هو جاء من السفر مشتاقاً إلى زوجته، وزوجته غير ممتشطة وغير مستعدة، فعند ذلك كان عليه الصلاة والسلام يبيت خارج المدينة ثم يدخل في الصباح، إذا جاء في النهار دخل، ويمهل، لماذا يمهل؟ قال: (حتى تستحد المغيبة) التي غاب زوجها تستحد يعني: تحلق العانة بالموس، ونحو ذلك من لوازم التهيئ للزوج، فالمقصود التهيئ للزوج لأنه إذا رآها متفرقة الشعر في حالة العرق والمهنة وهو آتٍ من سفر مشتاق إليها نفر منها، وقد تحدث وحشة بينهما، ولذلك أمرت المرأة بالتهيئ لزوجها إذا جاء من سفر ولا يطرقها طروقاً في الليل إلا إذا أخبرها قبل أن يأتي، كما إذا اتصل عليها قال: سآتي أنا في الليل، الطائرة ستصل في الليل ونحو ذلك.
بالنسبة لموضوع تقديم الاستئذان كنا نتكلم عن موضوع الاستئذان والسلام أيهما قبل؟ يقول ابن القيم رحمه الله: وفي هذه السنن رد على من قال بتقديم الاستئذان على السلام، ورد على من قال: إن وقعت عينه على صاحب الدار قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، وهذان القولان مخالفان للسنة، لأن السنة أن يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم أأدخل (ولا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام) حديث رواه البيهقي ، وصححه الألباني : [إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم فقل: لا. حتى تأتي بالمفتاح " السلام] رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة من كلام أبي هريرة، كان إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم يقول: لا. حتى تأتي بالمفتاح، ويقصد بالمفتاح السلام، فإذاً يقدم السلام على الاستئذان.
يقول البخاري رحمه الله في صحيحه : باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن، وساق حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو إذنه) وجاء في حديث أبي هريرة أنه قال: ادع أهل الصفة قال: فجاءوا فاستأذنوا، فإذاً كيف نجمع بين الحديثين، قال: ابن القيم رحمه الله: إن جاء الداعي على الفور من غير تراخٍ لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخ في المجيء عن الدعوة وطال الوقت احتاج إلى استئذان، فلو إنك قلت لشخص: ادع لي فلاناً فذهب وكلمه، فجاء هذا مباشرةً، يدخل عليك مباشرة ولو بغير استئذان، لكن لو دعاه فجاء بعد فترة من الزمن فيحتاج إلى استئذان، وقيل: إذا حضر مع الرسول فلا يستأذن، وإن تأخر عن الرسول لزمه الاستئذان، فـأبو هريرة ما كان معهم، ولذلك لما جاءوا استأذنوا، وأما قوله: رسول الرجل إلى الرجل إذنه فذلك إن جاء معه، ولذلك جاء في رواية (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذنٌ) رواه أبو داود ، وصححه الألباني .
ففي هذا دلالة على أن الدعاء إلى الوليمة إذنٌ بالدخول والأكل، وهذه مسألة واسعة تختلف فيها الأعراف، يعني مثلاً: بعض الناس يقول: الليلة العشاء عندي، يأتي الناس يجدون باب البيت مفتوحاً، ما معنى فتح باب البيت؟ معناه الإذن فلا يحتاج إلى قرع باب ولا استئذان، تدخل مباشرة إلى المجلس، هذه واضحة من أعراف الناس، وإبراهيم عليه السلام كان بابه مفتوحاً للضيوف، ولذلك قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:24-25] دخلوا عليه معناه: أن بيته مفتوح للضيوف، وقد اشتهر بذلك عليه السلام.
فإذاً: لا يقوم مواجه الباب بحيث إذا فتح الباب رأى كل شيءٍ وراء الباب، وقد جاء رجل إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فقام على الباب، فقال: هكذا عنك -تنح يميناً أو شمالاً والآن الإنسان يتنحى في أي جهة؟ يعني: لا يستقبل الباب بل يذهب يميناً أو شمالاً، يذهب عكس اتجاه فتحة الباب، أي في الجانب الذي لا يرى منه إلى الداخل؛ وإنما يكون في الجانب الآخر، فإذا كان الباب يُفتح يميناً وقف إلى الشمال، وإذا كان الباب يفتح شمالاً فيقف يميناً، والمهم أنه يجلس في المكان الذي إذا افتح الباب لا يرى ولا يطلع، وإذا جعل ظهره للباب أو جنبه بحيث أنه لا يرى وتأخر عن الباب فهذا من الأدب، وبعض الناس بل قلة منهم من يراعي هذه الأشياء، مع أنه من الدين والشريعة ومن السنة وفيها أجر؛ ولكن يوجد تهاون في الحقيقة وإهمال في هذه الأمور.
الآن البيوت أدوار وطابق ثانٍ وثالث، ويكون الإنسان في بابٍ وراء بابٍ وراء بابٍ (أبواب مغلقة ..) فلو قلت: السلام عليكم، بأعلى صوتك والمكيفات شغالة لا يمكن أن يسمعك، فيقوم الآن الجرس مكان الكلام، فأنت تطرق الجرس أول مرة وثاني مرة وثالث مرة، فإن رد عليك تقول: السلام عليكم فلان، تقديم الاسم أحسن، لكن إن سأل أهل البيت تأكد الجواب؛ لأنه قد ورد في الصحيحين عن جابر قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دينٍ كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا أنا كأنه كرهها) فأنا: هذه ليست تغني بالتعريف، فعندما يقال: من؟ لا تقل: أنا؛ وقل: فلان، وإذا كان في أكثر من شخص بهذا الاسم فيقول: فلان الفلاني، لأنه لو طرق الباب وقالوا: من ؟ قال : عبد الله، مَن عبد الله؟ فيقول: فلان بن فلان، أو أبو فلان المقصود أن يعرفه صاحب البيت بشخصيته، بكنية معروفة مشهورة أو باسم العائلة الأول والأخير، المهم أن يأتي له بالاسم الذي يتميز به، لأن صاحب البيت لو أذن لك على أنك فلان وأنت لست بفلان فإذنه لا يغني، وليس المقصود مخادعة صاحب البيت حتى يظن أنك فلان فيأذن ثم يتضح أنه شيءٌ آخر، فهذا ليس استئذان.
وبعض الناس يضع يده على الجرس ولا يرفعها، والجرس يواصل الطرق، بعض الأجراس تواصل التصويت بالضغط على الزر، وهذا من قلة الأدب، وجبريل لما صعد بالنبي عليه الصلاة والسلام للسماء جعل يستأذن فيقال: من؟ فيقول: جبريل، فيقال: ومن معه؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً كان يوجد تعريف بجبريل وبمن معه، هذه قد تكون من الإحراجات أن يأتي واحد معه ثلاثة يطرق الباب فيقال: من؟
فلان
تفضل! ويدخل معه ثلاثة، عرِّف وقل: معي فلان وفلان وفلان، المشكلة أن عدم التعريف يسبب إحراجاً لصاحب البيت، فلابد من الإفصاح وتقديم المعلومات، فإذا دخل الإنسان إلى البيت فإن هناك آداباً للمجلس قد سبق بيانها في غير هذا الموضع.
وكذلك فإن الإنسان إذا جاء إلى منزل ليس فيه أحد فلا يسقط الإذن؛ لأن داخل البيت قد يكون فيه أشياء لا يراد منه أن يطلع عليها.
ويقول ابن القيم رحمه الله: يقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان؛ إذا صارت القرائن قائمة على أنه إذن، أو أنه نقل إذن من صاحب البيت، وقد يكون الإذن بغير الكلام كأن يجعل علامة تدل على الإذن، مثلاً طرقت الجرس قلت: السلام عليكم أأدخل، فتحوا الباب بالزر الكهربائي، هذا الفتح معناه إذن بالدخول، وقد يحصل هذا في بعض البيوت إذن بالدخول، لكن يجب أن يتأكد الإنسان لأن أحياناً تطرق البيت تقول: السلام عليكم يظنون أنه ولدهم الذي خرج إلى البقالة، فيفتح الباب تلقائياً بالزر الكهربائي، هذا ليس معناه إذن لك بالدخول، فينبغي أن تتأكد أن الفتح لك أنت يا أيها المستأذن.
وكذلك يمكن أن بعض الناس قد يكون بينه وبين شخص علاقة خاصة فيقول: أنت ما يحتاج أن تستأذن إذا أردت أن تدخل البيت، يعني هذا ما يحتاج استئذان أبداً تجيء على المجلس مباشرةً، النبي صلى الله عليه وسلم قال لـابن مسعود : (إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي -يعني السر- حتى أنهاك).
وكذلك فإن الاستئذان قد يكون على إنسان يصلي، فماذا يفعل؟ لو أنه سبح يوحي لك بالإذن فادخل، أو الانتظار قد يسبح يعني: بالانتظار حتى يفتح لك الباب، أو يتقدم المصلي فيفتح لك الباب ونحو ذلك.
فهذه بعض الأشياء المتعلقة بالاستئذان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤدبنا بأدب كتابه، وأن يعلمنا سنة نبيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر