وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .
أما بعـد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن أمورٍ تتعلق بالتنجيم مثل أبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد.
وتكلمنا عن بعض الأمور المتعلقة بالكهانة والسحر والدجل الذي يفعله كثيرٌ من الجهلة وأعوان الشياطين، وحكم الذين يذهبون إليهم من المسلمين، وبينا صوراً كثيرة للبدع المنتشرة في هذا المجال.
ونريد أن نختم الكلام عن هذا الموضوع في هذه الخطبة بتبيان الواجبات على المسلم:
- ما هو دوره في إنكار هذا المنكر الذي قد استشرى وانتشر كالهشيم في مجتمعات المسلمين؟!
- ما هي الوسائل التي يجب اتخاذها؛ لكي نحارب هذه الأمور المنافية للعقيدة والمخالفة لها من جميع الوجوه؟!
ونحن نجمل بعض النقاط التي تتعلق بهذا الواجب حتى تتكون لدى المسلم فكرة واضحة عن الأمور التي تساعده في محاربة هذه الأشياء.
واعلموا -بادئ ذي بدء يا إخواني- أن طريقة الشريعة في محاربة الأوبئة والأمراض تتلخص في قضيتين أساسيتين:
الأولى: تحقيق الشروط.
والثانية: انتفاء الموانع.
أما الأول: طريقة الشريعة في محاربة إتيان الكهان، أو البدع المتعلقة بالسحر والدجل والشعوذة، إذا تأملت فيها فإنك تجد الإسلام قد جاء بنصوص فيها تحقيق شروط التوحيد، التي تؤدي إلى هدم قواعد السحر والكفر والكهانة والتنجيم وغيرها. هذا من باب تحقيق الشروط.
وأما الثاني: فإنك تجد الشريعة قد جاءت بنصوصٍ تحرم إتيان الكهان والسحرة، بل إن فيها ألفاظاً شديدة من جهة الخروج عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر بما أنزل عليه، وهذا من باب تحقيق انتفاء الموانع.
ولذلك كان لا بد للمسلم عندما يحاول أن يحارب هذه الأشياء أن يبحث عن سبب المشكلة أولاً، فقد تجد أن السبب عند من يأتي المنجمين، أو قراء الكف أو من يفتحوا أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. قد تجد السبب في هذا أنه لا يؤمن بقول الله عز وجل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، ولم يستقر في قلبه وعقله مطلقاً أن الله عز وجل هو المتفرد بعلم الغيب، وأنه لا يمكن لأي أحدٍ آخر أن يعلم الغيب إلا الله عز وجل.
عدم الإيمان بتفرُّدُ اللهِ بعلم الغيب، هذه المسألة هي سبب البلاء والمشكلة، ولُب الموضوع، فإذا أردت أن تواجه هؤلاء الناس فإن عليك أن تقر في أذهانهم هذه المسألة، وتأتي بالنصوص من القرآن، والسنة، وأقوال علماء السلف ، أن الله هو وحده الذي يعلم الغيب، وأن من ذهب إلى أناسٍ يعتقد أنهم يعلمون ما يحدث في المستقبل فإنه قد نازع الله تعالى في حقٍ عظيمٍ من حقوق الربوبية، وهو: علم الغيب، وهذا كفرٌ شنيع، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإذا تأملت -مثلاً- وأردت أن تعالج أحوال الناس الذين يُعلقون التمائم الشركية، والأحجبة التي يسمونها بـ(العزائم)، فإنك ستجد أن هـؤلاء الناس يعانون من نقصٍ خطـير في فهم قول الله عز وجل: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] والإيمان بهذا النص وما شابهه.
فإذاً: لو كانوا يؤمنون بأنه إذا مَس الإنسانَ ضرٌ فإنه لا يكشفه إلا الله عز وجل، فلماذا يذهبون إلى أولئك الكهان والعرافين، يطلبون منهم أن يكشفوا هذا الضر الذي نزل بهم؟!
وبالجملة؛ فإن تعليم الناس أسماء الله وصفاته من الأمور التي تحارب الشرك والدجل من أساسهما.
وإذا انتقلت معي إلى الشطر الآخر، وهو انتفاء الموانع، فإننا يجب أن نُعلِّم الناس ما هو حكم إتيان الكهان؟
وماذا يكون حكم من صدقهم؟
ونأتي لهم بالآيات والنصوص الدالة على ذلك.
ويُدَرَّس دروسٌ خاصة في هذا الجانب .. يُجمع لها الناس، وخصوصاً النساء في البيوت اللواتي طالما صدَّقن بهذه الدجل والشعوذة، نتيجة قلة العقل والدين الذي طُبعت عليه المرأة.
فلو وجدنا -مثلاً- أن في مجتمعنا مسألة تعليق التمائم والعزائم منتشرة، وتعليق الأوتار والخيوط، فنأخذ مثلاً: كتاب التوحيد لمجدد الدعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وشرحه فتح المجيد ، فنستخرج لهم من هذا الكتاب الأبواب المناسبة لمحاربة هذه الأدواء التي انتشرت فيما بينهم، ونقرأ عليهم: ( باب: مِن الشرك لُبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه ) والأبواب التي تتكلم عن العزائم والتمائم وحكم تعليقها، والتصديق بما فيها.
وإذا رأينا أن السحر هو المنتشر فننتقي لهم -كذلك- الأبواب التي تتكلم عن السحر والنشرة: وهي إزالة السحر وحله عن المسحور، وما حكم إتيان الكهان لرفع السحر أو إزالته؟
وهكذا تعليم الناس وتوعيتهم بهذه الأمور، وتوزيع الكتيبات والأشرطة المتضمنة للشروح الجيدة لأبواب التوحيد، وكذلك الأبواب التي تبين أنواع الشرك حتى يحذرها الناس.
فنقـول لـهم مثلاً: إن في القـرآن الكريـم آية يقول الله فيها: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] .
إذاً: في القرآن شفاءٌ من الأمراض البدنية والقلبية، وهذا السحر أو العين مرضٌ من الأمراض التي تصيب البدن بأشياء خفية، علاجها في القرآن الكريم.
ومن أمثلة ذلك:
- المعوذات القواقل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] .. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] .
- وسورة الفاتحة.
- وآية الكرسي.
- وتُقرأ الآيات التي فيها مثل قول الله عز وجل: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81] .. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، على مَن أصيب بالسحر، فتنفعه بإذن الله.
وتُقرأ الآيات التي فيها الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد.
- وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ [القلم:51]، فتنفع من أصيب بالعين بإذن الله.
وهذا يقع كثيراً في بيت الإنسان المسحور أو متاعه الشخصي، فينقِّب عنه، فإذا وجده أتلفه، فيكون هذا من أسباب زوال هذا السحر والضرر عن المسحور.
وقد تنفع الحجامة كما بيَّن ذلك ابن القيم رحمه الله في الزاد .
ونبين للناس -أيضاً- أن هناك آياتٍ وأذكاراً ودعواتٍ جاء بها الإسلام؛ كنحو ما قدمنا قبل قليل من الآيات، ونحو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام -فيما علمنا- الاستعاذات:
- (أعوذ بكلمات الله التآمات من شر ما خلق).
- (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة) .
- وغيرها كثير من الأذكار الواردة في علاج هذه الأمور.
وكذلك علاج العين في صب غُسالة العائن على المعين، بأن يؤمر فيتوضأ ويَغسل داخل إزاره وأطرافه، ثم يُؤتي بهذه الغسالة فتصب على المعين من خلفه، فيزول أثر العين بإذن الله، كذا روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صح في ذلك.
ويُقرأ على الذي أصابته العين: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك) رواه مسلم .
فإذاً: أيها الإخوة! نربط هؤلاء الذين قد وقع فيهم هذا المصاب بالله عز وجل:
- قرآن؛ كلام الله.
- أذكار؛ يُذكر الله فقط.
- تعاويذ؛ عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نتعوذ؟ وبِمَ نتعوذ؟ ومن أي شيءٍ نتعوذ؟
فالقضية هي ربط هذا المريض بالله فقط.
وهكذا ينفع العلاج إذا تم التوكل على الله.
ويأتي بعض الناس يقولون: قرأنا فلم ننتفع، وجرَّبنا فلم نبرأ؟!
فنقول: إن البلاء في نفوسكم أنتم، ليس في الآيات، والأذكار، والتعويذات النبوية، فلو صح التوكل في قلوبكم على الله لَبَرِئتم؛ ولكن لما أقبلتم على هذه الأشياء بنفس المجرب الذي يشك؛ هل تنفع أو لا تنفع؟! هل تؤثر هذه الآيات أو لا تؤثر؟! وتأخذونها مأخذ المجرب الذي يشك في الأمور؛ فلذلك لم تنفع، فالبلاء في نفوسكم أنتم لا في هذه الآيات والأحاديث .. صححوا التوكل والإيمان في قلوبكم، فإنكم سوف تبرءون باستخدامها بإذن الله.
إذا استطاع الإنسان أن يصل إلى أحدٍ من الدجالين أو المشعوذين أو قابَلَه، أو مر على مجلسٍ من مجالسه فعليه أن يبين لهذا الكاهن أو الساحر أو الدجال أن فعله هذا شرك، ويقيم عليه الحجة.
فناقشه عليه الصلاة والسلام، وأفحمه، وأخبره أنه قد خبأ له آية من الآيات، وهي شرطٌ من أشراط الساعة، وهي: الدُّخَان الذي يخرج، ولم يخبره عليه الصلاة والسلام ما هو الشيء الذي خبأه له؛ ولكن - ابن صياد - كانت الشياطين تنزل عليه، فتخبره بالخبر النازل من السماء .. استرقوا السمع، لكنهم لم يسترقوا منه إلا نصف الكلمة، لم تسمع الشياطين إلا (الدُّخُّ.. الدُّخُّ..)، لم تسمع الكلمة كاملة؛ (الدُّخَان.. الدُّخَان)، فنزلوا على ابن صياد ، فأخبروه، فقال: الدُّخُّ.. الدُّخُّ..! فقال عليه الصلاة والسلام: (اخسأ! فلن تعدوَ قدرك؛ فإنما أنت من إخوان الكهان) فأقام عليه الحجة، وألزمه بالحق، وكشف باطله، وبيَّن أنه من إخوان الكهان.
وسبق أن ذكرنا في مرة ماضية مناقشته رحمه الله تعالى لبعض المنجمين.
هذه التمائم والعزائم والأوراق المنتشرة يجب أن نمزقها ونحرقها أمام الناس؛ لنبين لهم أنه ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا بإذن الله، وأن من يمزق هذه ويحرقها لا يصيبه شيءٌ إلا بإذن الله، وأنني قد مزقت هذه الورقة أمامكم -أيها الناس مثلاً- فما أصابني شيء وهذا كذب، وحتى لو أصابني فإني أعتقد بأن ما أصابني ليس بسبب تمزيق هذه الأوراق، وإنما لأن الله قدَّر عليَّ هذا إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:49-50] فالقضاء والقدر من الله تعالى، فنمزق ونحرق هذه الأشياء ونقول للناس: انظروا! ماذا تغني عنكم؟! وماذا حصل لنا لما أحرقناها ومزقناها؟! فنبين للناس عملياً دجل وكذب ما هو مكتوب فيها.
أو يقول: أريد مالاً، أو أريد شيئاً .. أو غيرها من الأشياء.
أو يقول: إن الجني يطلب منك أن تدعوه، وتقول: يا فلان! اشفني أو عافني أو أزل كربتي، فيقع في الشرك، وهو دعاء غير الله.
فنكشف للناس فنقول: انظروا ماذا يطلبون لكي يزيلوا الضر -بزعمهم- الذي نزل بكم، يطلبون منكم أن تقعوا في عين الشرك.
ولذلك إذا وجدت -يا أخي- بعض الآيات في الأحجبة التي يكتبها هؤلاء المشعوذون فلا تظن بذلك خيراً، ومثل هذا لا يُفْرَح به أبداً، فإنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فإنهم يكتبون كلام الله بالنجاسة، بأن يأخذ من النجاسة شيئاً ويقطُر قلمُه بها، فيكتب بها الآيات بعدما يلوثها بحبرٍ ونحوه، أو يكتب كلام الله بالدم النجس وغيره، وقد يقلبون الحروف، ويكتبون الآيات بالمعكوس لكي يضلوا الناس، ويهينوا كلام الله عز وجل.
وتلك المرأة التي سمعت كلام الكاهن المشعوذ، فكَوَت ابنتها بثلاث كوياتٍ بمسمارٍ محمى، فصارت تلك العلامات في ظهر البنت حتى الآن، هذه البنت التي تشكو إلى الله صنيع أمها الجاهلة، وتقف تلك الكويات والتشويهات التي في ظهرها عقبة أمام كل خاطبٍ ومريدٍ للزواج.
فإذاً: تبيين هذه الأشياء وعرضها للناس يزيل الغشاوة عن أعينهم.
فماذا نقول للناس عند ذلك، وهذه الحكاية منتشرة بين الناس:-
نقول: إن الكلام الذي أخبروا به إما أن يكون خبراً عاماً من الممكن أن يحصل جداً لأي إنسان، كما سبق أن بينا ذلك في موضوع التنجيم وأبراج الحظ، فتراهم يكتبون:
- مكافأة مالية ستصلك، وكل الناس ممكن أن تصله مكافئات مالية، فإذا حدثت قال: صدق الكاهن، وأي صدقٍ في ذلك؟!
- ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد -من الممكن جداً أن ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد- فنبين لهم هذه الخديعة، وإن كانوا قد أَخبروا بأشياء لا تحدث في العادة، فقال لك مثلاً: إنك ستذهب إلى الصين ، وتقابل كذا وكذا، وحدث لك أن ذهبت فعلاً، فنقول للناس عند ذلك: الأحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشياطين يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء، فيسمع الخبر الذي تتناقله الملائكة -يوحي الله عز وجل للملائكة افعلوا كذا، ولفلان كذا وأنزلوا كذا- فيسمع بعض الشياطين الخبر فينقلونه إلى شياطين الإنس، فيكذبون معه تسعة وتسعين كذبة، ثم يخبرون الناس) والمشكلة عند الناس أنهم لا يتذكرون من كلام الكاهن إلا التي صدق فيها، يكون الكاهن قد أخبر مائة خبر، صدق مرة وكذب تسعاً وتسعين كذبة فالناس لا يتذكرون ولا يعْلَق في أذهانهم إلا الخبر الصادق، فيقولون: فلان صدق! عجباً! لقد أخبر بما تحقق فعلاً! إذاً: هو يعلم ما في الغيب، وينسون تلك الكذبات.
فنقول لهم: هذا بسبب استراق السمع من الشياطين الذين يخبرون أولياءهم من شياطين الإنس، فيخبرونكم أنتم به فتضلون.
كذلك أيها الإخوة: يأتي بعضهم فيقول: لقد ذهبنا إلى الكاهن أو العراف الفلاني، وقبل أن نسأله عن أي شيء إذا به بمجرد ما أخبرناه عن اسم الآتي إذا به يخبرنا عن اسم أبي وأمي، وأسماء أخوالي وأعمامي، وأين كانوا يعملون، وكيف انتقل أحدهم من بلدٍ إلى آخر؟ وماذا جاء لفلان من الأولاد؟ فكيف عرف الكاهن هذا؟! وهذا الكاهن من بلد بعيد ذهبت إليه؟!
فنقول له: يا أخي! اعلم أن الجن قال الله عنهم: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] هم يروننا من حيث لا نراهم، ويرون أحوالنا، ويسمعوا كلامنا، فينقله هذا الشيطان إلى ذلك الكاهن الذي تأتيه، يقول له: إن فلاناً له من الأخوال والأعمام كذا، وأبوه كان لونه كذا، وعمله كذا، وتوفي في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني .. يخبرك الكاهن فتصدقه.
ولو أنك علمت أن الله يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] وعلمت بأن مع كل إنسانٍ شيطان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن مسعود : (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) فكل واحد منا -الآن- معه قرينٌ من الجن وقرينٌ من الملائكة، فهذا الملك يحثه على عمل الخير، وذاك الشيطان يحثه على عمل الشر .. فهذا الشيطان الملازم للإنسان يعرف أحوال الإنسان ويراها، ولذلك شرعت لنا التسمية وقراءة المعوذات لنستعيذ من شره.
فهذا القرين الملازم لك يعرف أحوالك، فيخبر الكاهن الذي ذهبت إليه بأحوالك الشخصية حتى لو أغلقت الغرفة على نفسك وفعلت أشياء، فيقول لك الكاهن: لقد أغلقت عليك الغرفة في اليوم الفلاني، وفعلت كذا.
من الذي أخبر الكاهن؟!
إنه الشيطان الملازم لك، فقد وصل الخبر إلى الكاهن عن طريقه.
ونحن لو عرفنا هذه الأحاديث لم نستغرب مطلقاً من تلك الأخبار والتفصيلات الدقيقة التي يخبر بها بعض المشعوذين.
وكذلك تلك القصة التي حدثت مع بعض الصالحين، لما دخل على بعض الأمراء وعنده عراف يقول للناس: خذوا ما شئتم من الحصى في أيديكم فإني أعرف كم عددها! فيأخذ الناس الحصى ويخبئونها عن ذلك الرجل فيعُدُّونها، ثم يقول ذلك العراف: في يدك كذا من الحصى ويكون كلامه صحيحاً، فلما جاء ذلك الرجل الصالح قال: أتحداه أن يعرف ما في يدي، فأخذ قبضة من الحصى، فلم يعدها وقال: للعراف: كم في يدي من الحصى؟ قال: كذا، فعَدَّها، فاذا هي بخلاف ما قال العراف، فقالوا له: كيف فعلت؟!
قال: أنتم عددتم الحصى لَمَّا قبضتموها، فعدَّ معكم القرين، فأخبر العراف، وأنا لم أعدها، فلم يعد معي القرين، فلم يستطع أن يعرف.
إذاً: أيها الإخوة! لا ننخدع بهذه الألاعيب والأشياء التي نسمعها.
وفقنا الله وإياكم لأن نعيش ونحيا على التوحيد، وأن نموت على التوحيد، وأن يكون آخر كلامنا من الدنيا شهادة التوحيد، وصلى الله على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.
ومما ينبغي عمله -يا إخواني- كذلك مع هؤلاء الناس الذين يصدقون بهذه الترهات: أن نزيل استغراباتهم من بعض الحوادث الحقيقية التي تقع، ونبين لهم ما هو سبب وقوعها؛ حتى نسد عليهم الطريق أمام الذهاب إلى العرافين والكهان.
فبعض الناس سمعتهم يشكون ويقولون: تختفي علينا الأموال من بيوتنا بطريقة عجيبة! نغلِق عليها، ونضعها في أماكن لا يعرفها أحد، ولا يدخل الغرفة أحد .. لا خادم ولا خادمة ولا إنسان، ولا يمكن أن يصل إلى ذلك المكان أحد، أو جميع مَن في البيت موثوقٌ فيهم، ومع ذلك اختفت الأموال، فقد يأتي هؤلاء الشيطانُ فيقول لهم: اذهبوا إلى الساحر أو الكاهن الفلاني حتى يعلمكم من الذي أخذها؟ وأين توجد؟ فيقعون في شيءٍ من الشرك.
ولكن إذا راجعنا نصوص أئمة الإسلام لوجدنا الجواب واضحاً:
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى عن بعض الأشياء التي يقوم بها بعض شياطين الجن، يقول: "وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه، وتأتي به".
فإذاً: هؤلاء الشياطين الذين ينفذون من الجدران، ويدخلون البيوت التي لم يقل صاحبُها عندما أقفل بابها: باسم الله، ولم يقل صاحب المال لما أودعه في مكانه: باسم الله، يستطيعون أن يذهبوا إلى المال فيخرجوه ويسرقوه من جوف البيت، ولم يرهم أحد، فيمكن أن يفعلوا هذا، ويأتون به إلى الكاهن، ويُنصح أولئك المساكين أن يأتوا الكاهن، فيذهبون للكاهن، فيقولون: لقد سُرِقْنا، أين المال؟ ابحث لنا عنه؟ فيقول: أنا آتيكم به، ثم يغيب ويخرج المال، وهو عين المال والمجوهرات والمصوغات التي سرقت، فيتعلق الناس بهذا الكاهن.
ومن الذي جلبها إليه؟!
إنه الشيطان الذي سرقها من داخل البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله.
ويقول شيخ الإسلام : "وأعرف في كل نوعٍ من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومَن وقعت له مما أعرفه ما يطول حكايته، فإنه كثيرٌ جداً".
كان شيخ الإسلام رحمه الله مركز معلومات، يأتيه الناس القاصي منهم والداني .. يشكون إليه، وهو يعلمهم التوحيد، ويكشف لهم الخداع والألاعيب.
هكذا يجب أن يكون موقفنا مع الناس.
فنقول له: قبل أن تضع نقودك سَمِّ الله، واحرص على أن تكون أموالك حلالاً، فلا تصل إليها الشياطين بإذن الله، هذا بعد أن يكون قد تأكد أنه لا أحد من أهل البيت قد سرقها؛ لأنها قد تكون حادثة سرقة عادية جداً.
كذلك من كشف ألاعيب هؤلاء وحِيَلهم: أن الشياطين تستطيع أن تتشكل، وتقلِّد أصوات بني آدم بدقة، فيقوم بعض جهلة العُبَّاد ينادون أولياء الله الميتين أو الأحياء يقول: يا سيدي فلان! اشفِ مريضي، فيقلد الشيطان صوت ذلك الميت؛ لأنه كان قد ضبطه، أو الحي البعيد، فيقول: نعم، قد أجبتك، فيظن هذا المسكين أنه قد دعا ذلك السيد أو الولي فأجابه، وهذا أيضاً من الأشياء التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله.
وقد يخبرك يوماً من الدهر إنسانٌ أنها قد حدثت له، أو قال لك: أسمع أصواتاً لا أدري من أين مصدرها .. أسمع شخصاً يناديني باسمي وألتفت فلا أرى أحداً.
ولقد حدثت قصص واقعية للسلف بسبب إيذاء الشياطين الذين يريدون أن يخيفوا بني آدم فينادونهم في الليل بأصواتهم وأسمائهم.
كذلك أيها الإخوة: يجب علينا أن نبين للناس ما حكم الأموال التي تُدفع إلى هؤلاء الكهان والمشعوذين؟
ونقول لهم: إن الأجرة التي تدفع لهؤلاء الناس حرام، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن حلوان الكاهن، ومهر البغي).
حلوان الكاهن: هو الْحَلاوة الْمَالية النقدية .. الأجرة التي تدفع للكاهن من أجل قيامه بالعمل من كشف الغيب، وإزالة الضرر .. ونَحوِه.
وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (حلوان الكاهن خبيث).
فإذاً: هذه الأجرة لا يجوز دفعها ألبتة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الأجرة المأخوذة على ذلك، والهبة، والكرامة التي تُعطى للساحر والمشعوذ والكاهن، حرامٌ على الدافع والآخذ".
وهناك مسألة وهي:-
لو قال إنسان: أنا عندي عقارات وقد اكتشفت أن إحدى الشقق المؤجرة يسكن فيها أحد الكهان، وأن الناس يأتونه ليَقرأ لهم الغيب والمطالع والفأل، ويعالج أمراضهم بالشعوذة، ماذا أفعل؟
أقول لك: اسمع هذه الفتوى من شيخ الإسلام :
"يحرم على الملاك -ملاك العقارات- والوكلاء -كأصحاب المكاتب العقارية مثلاً- إكراء الحوانيت أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق، إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون".
قال شيخ الإسلام : "ويجب على ولي الأمر وكل قادرٍ السعي في إزالة ذلك، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو الدخول على الناس في منازلهم لذلك، وإن لم يفعل ذلك -أي: يغير المنكر- فيكفيك قول الله عز وجل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]، وقوله سبحانه وتعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63] ".
يجب أن نتناهى عن المنكر، وأن نبين للناس هذا الدجل.
ثم قال شيخ الإسلام : "والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله".
وختاماً أيها الإخوة: أُذكِّر كل مسافرٍ إلى أي بلدٍ من بلاد المسلمين، أو حتى بلاد الكفار في الإجازة القادمة؛ لأن كثيراً من إخواننا المقيمين في هذه البلاد يذهبون إلى بلادهم في الإجازة، أو من يذهبون إلى الـخارج للعلاج وما شابه ذلك.
أذكرهم بأن عليهم واجباً أساسياً من الواجبات وهو: الدعوة إلى الله، ونشر التوحيد، ومحاربة الشعوذة بين أقربائهم ومعارفهم وأصدقائهم، في بلدانهم التي يذهبون إليها، ويتزودون لذلك بكتب التوحيد النافعة، وينشرونها بين الناس ويبينونها لهم.
وحتى -أيها الإخوة-: في بلاد الكفار -مع الأسف- لما نام أهل السنة في سباتٍ عميق، ماذا حصل؟!
انتشرت بين الكفار الدعوات الصوفية والشعوذات باسم الإسلام.
ترى رجلاً أمريكياً دخل في الإسلام، فعندما تُدَقِّق في أحواله تجد أنه على دين الصوفية المخرفين، سواء ارتفع كفرهم أو نزلت بدعتهم.
فإن كان يؤمن بوحدة الوجود وهو: أن كل ما ترى بعينك فهو الله، فيكون قد انتقل من النصرانية إلى الردة والإلحاد.
وإن كان على بدعة مثل: حِلَق الذكر المبتدعة بالطبول، وهذا موجود في أمريكا وغيرها.
من الناس يزعمون أنهم دخلوا في الإسلام، ما وجدوا أمامهم إلا أولئك المنحرفين، ليعرضوا عليهم الصورة المحرفة المشوهة للإسلام من تلك الطرق المبتدعة، فيكون أحسن أحوالهم أنهم انتقلوا من دين النصرانية إلى البدع.
فنحن قد نقابل هؤلاء في سفرنا -مثلاً- الذي ينبغي أن يكون سفر طاعة أولاً وآخراً، فنبين لهم، وندعوهم إلى الله، ونبين لهم التوحيد، ونتلو عليهم النصوص من القرآن والسنة، ونحارب تلك الشعوذات في البلاد التي نذهب إليها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم بين لنا دينك وفقهنا فيه.
اللهم واجعلنا على ملة التوحيد، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله.
اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأصلح لنا بيوتنا وذرياتنا ونساءنا وأزواجنا.
اللهم واجعلنا من التائبين لك، الأوابين إليك، المنيبين إليك، واجعل لنا بلاغاً إلى خير.
اللهم وفقنا لما يرضيك، وكن معنا يا رب العالمين.
اللهم وفق أبناءنا في اختباراتهم، وكن معهم، واجعل عملهم في رضاك.
اللهم واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد.
وصلّ يا رب وسلِّم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: صلوا عليه في هذا اليوم العظيم، الذي تضاعف فيه أجر الصلاة على رسولكم عليه الصلاة والسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر