إسلام ويب

هم الآخرة [2]للشيخ : سعد البريك

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إننا لو نظرنا إلى حالنا وحال سلفنا الصالح لوجدنا الفرق الشاسع فيما بيننا وبينهم تجاه الآخرة والاهتمام بها، إن الهم الأكبر الذي كان عند الصحابة والتابعين هو النجاة من عذاب الله، وإن الهم الأكبر عندنا في هذه الحياة هو تحصيل المال، والاشتغال بالدنيا، ونسيان الآخرة، وهذا يرجع إلى أسباب ذكرها الشيخ حفظه الله.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعــد:

    عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    معاشر المؤمنين: كان الحديث في جمعة ماضية حول القصد إلى الدنيا والقصد إلى الآخرة، والاهتمام بالدنيا والاهتمام بالآخرة، والاشتغال بالدنيا والاشتغال بالآخرة، وما المحمود من ذلك والمذموم، وما الصحيح في ذلك وما الخطأ فيه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] ومر بنا ذاك الحديث الجامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه ابن ماجة بسند صحيح؛ يقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له).

    أيها الأحبة في الله: هذا حديث عظيم عجيب، فيه دلائل على أن من اهتم واشتغل بأمر الآخرة فإن الله جل وعلا لن يضيعه ولن ينساه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] .. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] ويقول جل وعلا: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت:60] هل رأيتم حشرة معها سلة تجمع في سلتها غذاءها؟ هل رأيتم يرقة معها خزينة تحمل في خزينتها طعامها؟: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت:60] من الذي يرزقها؟ من الذي يعطيها؟ من الذي يسقيها؟ من الذي يحميها؟ من الذي من السقم يعافيها؟ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60].

    دخل رجل يقال له بهلول على أحد الخلفاء فقام يحدثه ويعظه؛ فتأثر ذاك الخليفة، وكأنه طمع أن يعطيه وأن يحذيه وأن يمنحه من المال شيئاً، فقال: خذ، فقال: لا حاجة لي به، فقال الخليفة: يا بهلول! من الذي يعطيك طعاماً وشراباً؟ ومن أين تأتي بالمال؟ فالتفت إليه ذلك الذي يظن أنه من المجانين وهو من أعقل العقلاء، التفت إلى الخليفة قائلاً: أتظن أن الذي أعطاك الملك والخلافة ينساني؟

    التأثر بمواقف الانتقال إلى الآخرة

    أيها الأحبة: إن للاهتمام والاشتغال بالآخرة دلائل، وإن من أهمها وأبرز علامتها التي يعرف بها من كان للآخرة في قلبه اهتمام، ومن كان للآخرة في قلبه منزلة ومكانة:

    أولها: أن ترى المهتم بالآخرة متأثراً بمناظر الأموات، مناظر الجنائز، والقبور، تجده متأثراً يوم أن يرى مريضاً يحتضر، أو يرى ميتاً يغسل على نعشه، أو يرى جنازة محمولة، أو يرى كفناً وحنوطاً وسدراً، أو يرى سوراً للمقبرة، أو يرى مشهداً للقبر أو منظراً للّحد، من إذا رأيته اهتم لذلك وأطرق وأخذ يفكر ويتدبر، لينظر ما قدم وأخر، فاعلم أن في قلبه رجاء اهتمام بالآخرة، وما أكثر الذين يرون الحنوط والأكفان، وما يخطر ببالهم أن سيلفون بها! وما أكثر الذين يرون النعش وما يخطر ببالهم أنهم سيحملون عليه! وما أكثر الذين يرون المقابر وما يخطر ببالهم أن سيدفنون فيها! ما أكثر الذين يرون اللحود وما يخطر ببالهم أن سيودعون في ظلمتها! وما أكثر الذين يرون المرضى ينازعون الخلاص، ينازعون الفراق وما يخطر ببالهم أن واحدهم سوف يمر بمثل ما رأى!

    أيها الأحبة: إن من علامات الاشتغال والاهتمام بالآخرة أن ترى العبد مطرقاً عند المرض، متدبراً عند المريض، خاشعاً عند القبر، متألماً في رؤية اللحد يتخيل نفسه يوم أن يوضع في لحده أو يغلق اللبن عليه، أو يهيل التراب على قبره أو يشيعوه أو يودعوه، أو يغسلوه أو يحملوه، كم جنازة حملناها! وكم ميت غسلناه! وكم كفن اشتريناه! وكم .. وكم .. وما أقل ما نتدبر ونتأثر!

    الحزن للآخرة والاهتمام بها

    أيها الأحبة: إن من دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة التي يجزي ربنا جل وعلا عليها، ويجزي بها إقبالاً من الدنيا على صاحبها، واجتماعاً لأمره ولو كان متشتتاً، أن يحزن للآخرة ويتذكر الآخرة ويهتم بها، أن يتذكر الآخرة، أن يهتم بالآخرة، أن يكون عمله دءوباً للآخرة، فإذا رأى في الطريق شوكة أو أذى أو قذى أماطه، وقال: لعل بهذه الحسنة ترجح موازين الحسنات على السيئات، وما يدريك بعد رحمة الله أن تكون تلك الحسنة فيصل في حال العبد إما إلى جنة وإما إلى نار.

    أن إذا أقبل إلى قوم بش وهش وابتسم إليهم يريد بذلك صدقة تزحزحه عن النار، إذا رأى محتاجاً أغاثه يريد بذلك حسنة ينجو بها من النار، إذا دعي إلى بذل بذله يريد أن ينجو بعد رحمة الله من النار، أن يهتم للآخرة، لا توفر حسنة ولا تدخرها، ولا تتهاون بمعصية ولا تقم عليها:

    خلِّ الذنوب صغيرها     وكبيرها ذاك التقى

    واصنع كماش فوق أرض     الشوك يحذر ما يرى

    لا تحقرن صغيرة     إن الجبال من الحصى

    أن تحزن للآخرة أو أن تهتم للآخرة، فإذا أظلم عليك ليل تذكرت ظلمة الآخرة، وإذا أسفر صبح تذكرت أنوار الجنة، وإذا لبست خزاً، إذا لبست ناعماً تذكرت ثياب أهل الجنة، وإذا رأيت خشناً تذكرت سرابيل أهل النار، أن تحزن للآخرة وأن تهتم بها وأن تحاسب نفسك أولاً بأول؛ يقول عز وجل: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] ومر معنا كلام الحسن أنها نفس المؤمن، تلومه إن قصر في حسنة عاتبها على التقصير، وإن فرط في معصية حاسبها على التفريط.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088030867

    عدد مرات الحفظ

    775304655