عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) في روايات أنهم: (الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس)
معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة في الله! لو تأملتم هذا الحديث لوجدتم مصداقه من الواقع دليلاً من دلائل معجزات نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالغرباء في هذا الزمان هم المؤمنون حقاً، وغربة المؤمنين من بين سائر الناس واضحة جلية فالمسلمون غرباء من بين سائر أمم العالم وشعوبه، المسلمون الذي هم على دينٍ صحيح وعلى ملة نقية، وعلى عقيدة واضحة، وعلى محجة صالحة، وهم غرباء من بين سائر الأمم والشعوب في هذا الزمان، ولا يغركم كثرة الإحصائيات؛ لقول الله جل وعلا: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] تعداد الملايين من المسلمين ولو نقبت ودققت وكشفت أحوال الكثير منهم لوجدت عجباً عجاباً، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تعبد الله بغير ما شرع، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن القبور والأضرحة تنفع وتضر من دون الله، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال منازل لا يدركها الملائكة ولا المرسلون، أين حقيقة الدين من تلك الأمم؟ أين حقيقة الإسلام في تلك الشعوب؟
إذاً: فالإسلام النقي الصافي غريبٌ بين شعوب الأرض، وهذا أمرٌ واضح، وإذا تأملت تعداد المسلمين وجدت الذين يحافظون على الأركان والفرائض غرباء من بين سائر المسلمين، فما أكثر أن تلقى أناساً ينتسبون إلى الإسلام بجوازاتهم أو بحفائظ نفوسهم أو بهوياتهم ولكن انتسابهم إلى الإسلام انتساب الصورة لا الحقيقة، انتساب الشكل لا المضمون، انتساب القالب دون القلب.
فيا عباد الله! كم رأينا من المسلمين يدعون الإسلام وهم يتعاطون الربا، وكم رأينا من المسلمين الذين يدعون الإسلام وهم يفعلون الزنا، كم رأينا من المسلمين ينسبون إلى الإسلام وهم يشربون الخمور، كم رأينا من بعض شباب المسلمين ينتسبون إلى الإسلام والصلوات لا يعرفونها إلا قليلاً، كم رأينا من المسلمين من ينتسب إلى الإسلام وهو لا يراعي الحلال والحرام في بيعه وشرائه، في إنفاقه واكتسابه.
إذاً يا عباد الله: المسلمون المطبقون لأحكام دينهم ولأركان ملتهم هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه البسيطة، وإذا تأملت هؤلاء الغرباء وجدت فئة هم أخص منهم بالغربة، أولئك الذين يعملون بهذه الأركان وهذه الفرائض على وحي من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى نهج وهدى من شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمتمسكون بالسنة العاملون لها المقدرون لجلالها هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه هذه البسيطة، وإذا تأملت أولئك وجدت الذين يدعون إلى الله بما عملوا وعلموا غرباء من بين سائر المسلمين.
وإذا تأملت أولئك وجدت طلبة العلم والعلماء غرباء من بين سائر المسلمين، ثم إذا دققت وفحصت وجدت الدعاة إلى الله بما يعلمون هم غرباء من بين سائر أولئك العلماء، وإذا تأملت أكثر وجدت الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم غرباء من بين سائر الدعاة، وإذا تأملت أحوال الأمم والدول وجدت الأمم التي تحكم شريعة الله أو وجدت الأمة التي تحتكم إلى كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم، تنتقد إذا قطعت رقبة القاتل، وينالها من الكلام إذا قطعت يد السارق، وينالها من التعليق والتشويه إذا قتلت المفسدين المخربين، إذاً فالأمة التي تحكم كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم في هذا الزمان، وصدق الحسن البصري رحمه الله حين قال: [الناس هلكى إلا العالمون فهم غرباء بينهم، والعالمون هلكى إلا العاملون فهم غرباء بينهم، والعاملون هلكى إلا المخلصون فهم غرباء من بين سائر الذين يعلمون، والمخلصون على خطرٍ عظيم].
نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه وتوحيده إلى أن نلقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله! إن كانت غربة المؤمنين العالمين العاملين المخلصين الصادقين في هذا الزمان واضحة، إلا أن بقاءهم حقيقة نبوية ومعجزة من الله لنبيه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فأبشروا يا عباد الله! أبشروا يا إخوة الإسلام! أبشري يا أمة محمد! مهما ادلهم ظلام الباطل، ومهما تلاطمت أمواج الضلالة، ومهما اكلولح الظلام في هذه الدنيا المتخبطة بالفتن والشهوات، إلا أن وردة عطرة وريحانة فواحة تظهر في هذه الأرض، تلكم طائفة من الدعاة، طائفة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يلقون الله جل وعلا.
أيها الأحبة في الله: إن الدعاة إلى الله بعد علمٍ وعمل وصدق وحق في هذا الزمان غرباء، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] كل الإنسانية (أل) في كلمة الإنسان هي (أل) الاستغراق، وقد استغرقت جنس الإنسانية: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] كل الإنسانية في خسارة وفي تباب وفي هلاك إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] أولئك والله هم الغرباء في هذا الزمان، وحسبكم بغربة الدعاة إلى الله وغربة المتمسكين بشريعة الله المطبقين لسنة رسول الله، أن ترى ألواناً من التعليق أو الشماتة أو الاستهتار أو الاستهزاء تنال بعضهم في بعض الأماكن والمجالس.
نعم يا عباد الله! (القابض على دينه كالقابض على الجمر) وإن كان قل في هذا الزمان المستهزئون في المجالس إلا أن المؤمن لا يزال يقبض على الجمر؛ مما يراه من فتنٍ في الأسواق والطرقات وكثيرٍ من الأماكن، ولكن الله يثبته بالاستغفار والذكر والدعاء وغض البصر، والبعد عن الباطل ومجافاة أهله.
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته الشافية الكافية:
فروى أبو داود في سننٍ له ورواه أيضاً أحمد الشيباني |
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ للعاملين بسنة العدنان |
فروى أبو داود في سننٍ له ورواه أيضاً أحمد الشيباني |
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ للعاملين بسنة العدنان |
ما ذاك إلا أن تابعهم هم الـ غرباء ليست غربة الأوطان |
فسل الكليم المستهان عن الذي يلقاه من جمرٍ بلا نيران |
القابض على دينه -يا عباد الله- كالقابض على الجمر، المتمسك بالسنة، المتمسك بالشريعة، يجد نفسه في غربة بين كثيرٍ من الأمم، وقد يجد الإنسان نفسه في غربة حتى بين أهله وذويه، فيستغربون السنة في ثوبه، ويستغربون السنة في وجهه، ويستغربون السنة في صلاته، ويستغربون السنة بحركاته وتصرفاته.
فيا عباد الله! عودة إلى السنة وتمسكٌ بالشريعة، فذلكم والله هو سبيل العزة، وهو سبيل المنعة، وهو سبيل الرفعة، وهو سبيل السيادة، وهو سبيل الرضا والطمأنينة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلالة، وأراد نساءنا وبناتنا بتبرجٍ وسفورٍ واختلاط، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رأس الخلائق، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، اللهم اخزهم على رءوس الأشهاد، حسبنا الله ونعم الوكيل! حسبنا الله ونعم الوكيل! حسبنا الله ونعم الوكيل!
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم وسع لحده، اللهم افسح في قبره، اللهم افتح له أبواباً إلى الجنان، اللهم افتح له سبيلاً من روحها وريحانها ونعيمها يا رب العالمين، يا من لا يعجزه شيء، آمنا بك وبقدرتك التي لا يردها شيء وأنت على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر وارفع وأكرم وأعز من ساعدهم وعاونهم وبذل ما عنده لهم برحمتك يا رب العالمين، اللهم أعز من أعزهم، اللهم ارفع من رفعهم، اللهم أكرم من بذل ما يستطيعه معهم، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم وحد صفوفهم، واجمع شملهم، وثبت أقدامهم وانصرهم على أعدائهم، اللهم وفقهم للصالحات وجنبهم السيئات برحمتك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون،
فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر