أما بعد..
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزي القائمين على هذه السلسلة العلمية المباركة خير الجزاء، في اختيار الحديث، والتذكير بركنٍ عظيم، ومهمٍ جليلٍ من أعظم المهمات الدينية والشرعية، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان الخطاب بهذا الأمر موجهاً إلى كل فردٍ بعينه، أو كان موجهاً إلى الأسرة أو إلى من تولى أمراً من الأمور، إذ أن ذلك من صفات المؤمنين، وذلكم هو باب الخير، وسبب الخيرية والكرامة والرفعة التي استحقت بها أمتنا هذه أن تكون خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولن أفيض في مقدمةٍ ربما سبق الأجلاء من أصحاب الفضيلة في بداية هذه السلسلة حتى البارحة إلى الحديث عن كثيرٍ من جوانبها، ومباحثها ومسائلها، ولكني سأختصر الحديث على موضوع محاضرة هذه الليلة وهو " دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".
أحبتنا في الله: تعلمون جميعاً أن كثيراً من الآباء وليس بدعة يشقون في النهار ويسهرون الليل؛ خوفاً وشفقة وحباً ورعاية وعناية واهتماماً بالأولاد من البنين والنبات، وهل جُل مهمات سعي الوالد إلا لأجل إكرام أهله وأسرته، زوجةً وأولاداً؟
بل ولا تسل عن بالغ الرعاية وعظيم الرعاية بهم في الطعام والشراب، واللباس والدواء، والتعليم والترفيه، ولك أن تعجب غاية العجب مما تراه من جرِّ بعض الآباء ذريته وأسرته إلى سخط الله ومقته وعذابه، وتلك والله مسألة غريبة داعية إلى الدهشة والعجب، أن ترى أباً يسهر الليل ويشقى النهار، وينفق كل ماله، من أجل ترفيه وإسعاد هذه الأسرة، في لباسها وطعامها، وشرابها ودوائها، والترفيه عنها وكل احتياجاتها، ثم بعد ذلك تراه في ذات الوقت نفسه يعمد إلى هذه الأسرة ليسمح للصوص لتتخطفهم ذات اليمين وذات الشمال، يتخرمونهم من كل جانب، يقفزون عليهم في الأسواق، يدخلون عليهم الباب بلا استئذان، إنهم ليس بالضرورة أن يكونوا لصوصاً ممن تلاحقهم الشرطة، أو ممن يمنعهم القانون، ولكنهم لصوصٌ ربما دخلوا عبر الشاشات والقنوات والإذاعات، وترى هذا الأب الذي يزعم أنه ما ترك شاذة ولا فاذة، ولم يدخر نقيراً ولا قطميراً على هذه الأسرة إلا وصرفه وأنفقه وبذله لها، تراه في ذات الوقت يرى أسرته تخطف، ويرى أولاده وبناته وزوجاته يهاجمون، ويرى الخطر محدقاً بهم من كل جانبٍ، ثم لا تراه يتحرك ولا تراه يدفع عنهم، ولو أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لالتفت إلى حجم القنابل الموقوتة التي زرعت في بيته عبر هذه القنوات، أو عبر كثيرٍ من الوسائل التي لم يلتفت لها ولم ينتبه إليها.
أيها الأحبة في الله: الحديث عن دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلفت النظر على وجه الخصوص إلى دور المرأة في هذا الركن العظيم، وذلك لأمورٍ أهمها:
أن النساء يبقى الأولاد معهن فترة أطول من مكث الرجال معهم، ثم إن الأولاد أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء خاصة في فترة التوجيه والتقبل والاستجابة، وتلكم فترة الطفولة، فلا يستطيع أحدٌ أن يدعي أن أولاده من البنين والبنات في حال التوجيه والاستجابة والانقياد والإذعان يبقون معه أكثر مما يبقون مع أمهاتهم، إذ الواقع والطبيعة، بل والفطرة والغريزة والجبلة، كل ذلك شاهدٌ على أن الأطفال يبقون مع النساء أوقاتاً أضعاف أضعاف ما يبقى الآباء أو الرجال معهم، ثم لا تنسى أن للمرأة دوراً في إكمال دور الرجل في الأمر والنهي، إذ لابد من موافقة ومتابعة من قبل المرأة للرجل في الاحتساب والأمر والنهي وإلا لأصبح المنزل طرفين، طرفٌ يبني، وطرفٌ يهدم، أمٌ تبني، وأبٌ يهدم، أو العكس أبٌ يبني وأمٌ تهدم.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
إن من المشكلات التي تعاني منها كثيرٌ من الأسر والمجتمعات: أن ترى أماً صالحةً طيبةً مباركة، تعتني بالرعاية والعناية والاهتمام بهؤلاء النشء، ثم تجد في المقابل أباً يهدم ما بنته المرأة، أو العكس ترى أباً حريصاً على تعليم أولاده، يدخلهم حلقات تحفيظ القرآن، يمنع عنهم المجلات الخليعة، يذود ويبعد عنهم تلك القنوات الضارة السامة، وفي المقابل ربما ابتلي النشء وهؤلاء الأطفال بأمٍ لا تبالي في أي وادٍ هلكت الذرية وتلكم مصيبة وأي مصيبة، ثم إن للنساء أثراً كبيراً على أزواجهن، وهذا ملاحظ ومشاهد، بل ولك أن تعلم بكل قطعٍ ويقين أن كثيراً من الرجال سبب هدايتهم إلى الاستقامة والثبات على طاعة الله، هو فعل زوجاتهم ودأب الزوجات على دعوة الأزواج إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وطاعته.
والأسرة -أيها الأحبة- من عموم المؤمنين الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] ولا حاجة إلى سرد الأدلة، في أن الأمر والنهي شاملٌ متناولٌ جميع أفراد الأمة ولا يختص بذلك طائفة، وإن كان على ولاة أمور المسلمين أن يخصصوا طائفة معنية بالسلطة ولها القوة في ارتباطها بالسلطان والأمر والنهي، لتباشر شيئاً لا يستطيعه من يحتسب بنفسه أو يحتسب على عامة الناس بقلبه أو بلسانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما تعلمون أيها الأحبة- شاملٌ عامٌ في حق الذكر والأنثى، والأب والابن، والأم والأخ والأخت، ومن تحته جملة من الذرية أو من الأسرة، ومن له ولاية ومسئولية، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صدر خطابه (من رأى) كلمة (من) كما قرر أهل الأصول من صيغ العموم: فتعم كل مسلم ومسلمة؛ فرداً ولياً، أو حاكماً على الأسرة، أو ولياً على الصغير واليتيم، أو غير ذلك، ولا أخال إلا أنه قد سبق في هذه المحاضرات التي طرحت في أول هذه السلسلة المباركة بيان كثيرٍ من الأحكام المتعلقة بهذا المهم العظيم مما يغني عن إعادتها، وحسبكم قول الله عز وجل في الآيات التي سمعنا طرفاً منها آنفا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
ثم أمرٌ بالوصية العظيمة التي أمرنا بها، بل وذكرنا فيها في حال موت نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بها: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17].
ثم وهو يأمر ولده أن يأمر بالمعروف: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] إذ الآمر لا بد أن يصيبه ما يصيبه من حال الناس، إما من يستطيل في عرضه، وإما من أحدٍ يرده أو يكذبه، وإما من شامتٍ أو حاسدٍ أو حاقدٍ أو عدوٍ، وربما تسلط على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر باليد، ومع ذلك فإن من احتسب بهذا الأمر المهم العظيم الذي كرامة فاعله عند الله بالجنة عالية، فإنه لا بد أن يوطن نفسه للصبر على ما يفعل.
ثم توجيهٌ في مسألة السلوك: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان:18] لا تنظر إلى الناس باحتقار، لا تنظر إلى الناس بتصغير، لا تتكبر عليهم: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:18-19] إياك والرعونة! لا ترفع من صوتك من غير حاجة، كل ذلك من الآداب الجميلة والرائعة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في محيط الأسرة الذي يتمثل من وصايا لقمان لابنه.
نعم، أيها الأحبة: من تأمل هذه الوقفة الجميلة الرائعة التي تجسد مشهداً وصورةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيط أسرة الولد المؤمن يأمر وينهى ويحتسب ويدعو أباه المشرك، في هذه الآيات تأمل هذه المسائل:
صدر إبراهيم عليه السلام كل نصيحة لوالده بقوله: يا أبتِ! مذكراً والده برابطة الأبوة التي هي من أقوى الروابط، ومن شأنها أن تجعل كلا الطرفين حريصاً على مصلحة صاحبه.
الثانية: أنه طلب من والده أن يتدبر في فعله، حيث أن الأب يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً.
الثالثة: أنه لم يصف والده بالجهل المفرط؛ لأنه كان في مقام الدعوة، فيتألفه ويستأنس حاله، ويتقرب إليه ولا يتهمه بجهلٍ مطبقٍ وغباءٍ فاحشٍ وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وإن كان الشرك جامعاً لهذه الصفات، لكنه في مقام الدعوة يحتاج أن يتألفه، بل بين له بأدبٍ جم: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] إن معي طائفة من العلم ليست معك، ثم أخبر أباه أن إعراضه عن توحيد الله بالعبادة ليس إلا بسبب اتباعه للشيطان الذي هو عدو له، ثم لم يقل لأبيه: إن عذاب الله لاحقٌ بك مرتبطٌ بك، بل أخبر بأدبٍ رفيع أنه يخشى أن يصيبه عذاب من الرحمن.
وقال تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:55]وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] كل هذه الآيات دالة على ضرورة تخصيص الأسرة بمزيدٍ من العناية والرعاية والحياطة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن من واجبنا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ليس الذي قد بلغ وناهز الاحتلام أو تجاوز هذه المرحلة، بل ينبغي أن نأمر الصغير الذي لا يزال يتعلم بدقة الأحرف والكلمات، نعلمه كيف يكون لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، نعلمه كيف يبدأ يومه بذكر الله سبحانه وتعالى، إذا رأى هذا الطفل الذي لم يفقه بعد سبب حبنا لشيء، أو سبب بغضنا لشيء، أو سبب قربنا لشيء، أو سبب بعدنا عن شيء، إذا رأى هذا الطفل منا نفرة عن المنكرات، فإنه ينفر منها جبلة قبل أن يعرف أحكامها وعللها ومناطها، وإذا رآنا نحب أموراً من طاعة الله، فإنه ينشأ ويتعلم حبها والتعلق بها قبل أن يعرف العلة في ذلك وتعلق المناط به، وهذا غاية الأمر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه |
نعم أيها الأحبة: إن من أهم الأمور التي ينبغي أن نعلم الصغار عليها مسألة الصلاة، لأنها سترتبط بهم في حياتهم إلى أن يموتوا، سترتبط بهم في حلهم وترحالهم، في ظعنهم -في سفرهم- وإقامتهم، بل وسترتبط بهم في حال الأمن والخوف، بل وترتبط بهم في كل أحوالهم في الصحة والسقم إن قياماً أو على جنوبهم أو على مضاجعهم أو على جميع أحوالهم (مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشر) ودل ذلك على أن الصغير إذا رئي منه عنادٌ أو التفاتٌ أو عدم اهتمام بمسألة الصلاة وقد بلغ العاشرة أو أدركها، فينبغي أن تزاد له الجرعة في الأمر والنهي ولو تعلق الأمر بشيء من الترغيب والترهيب، أو بشيء من العقوبة اللينة التي لا تجعله يكره ويمقت ويحقد، بل تجعله يهاب ويخشى ويرغب ويتعلم بإذن الله عز وجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفرقوا بينهم في المضاجع) وتلك والله من الأمور المهمة، وإن كنا نرى اليوم أن أذناب الغرب، والذين انصهروا وذابوا في بوتقة رياح التغريب الوافدة من الحظيرة الغربية ولم يبالوا بها؛ بهذه القضية يدفعون الثمن غالياً، إن أناساً يصيحون ويقولون بأعلى أصواتهم: أطفال مساكين.. لماذا نفرق بينهم في المضاجع؟ طفل عمره عشر سنوات أو تسع سنوات، أو حول هذا السن، لا يفقه.. لا يعرف القضايا الجنسية.. لا يعرف الأمور الجنسية.. لا يعرف معاني التذكير أو التأنيث.. لا يعرف الذكورة أو الأنوثة! لماذا نسيء بهم الظن؟ تأمرونا أن نفرق بنيهم؟!
نعم؛ لأن الذي خلق هو الذي أدرى، والذي خلق هو الذي شرع: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] فرقوا بينهم في المضاجع وإلا فإن العاقبة ما وقع لكثيرٍ من الذين أهملوا هذه القضية، ولم يلبثوا إلا وقد رأوا نذر الشر والبلاء والفاحشة والعار قد ظهرت على أولادهم وبناتهم، لأنهم استخفوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الواقع اليوم أن كثيراً من الأزواج يتحدثون في أناسٍ والزوجة تسمع وتتلذذ لذلك، ولو كانت ممن تعتني بالأمر والنهي لقالت: يا زوجي الحبيب! يا زوجي العزيز! ألا تظن أن في هذا الكلام غيبة؟ أتظن أن هذا يجوز؟ ألا تظن أن هؤلاء سيأخذون ثواب عملك؟ ألا تظن أن هؤلاء الذين نتكلم فيهم، حتى ولو أشركت نفسها معه بصيغة الخطاب حتى لا تجعله في زاوية المهاجم لتقول: ألا ترى أن هؤلاء الذين نتكلم فيهم أليسوا يأخذون من أعمالنا؟ أليسوا يأخذون ثواب صلاتنا وصيامنا؟
أليسوا يقتصون منا إذا استطلنا بألسنتنا في أعراضهم يقتصون منا من حسناتٍ نجنيها؟
فحينئذٍ يذكر كل واحدٍ منهم الآخر، وذلك أمرٌ لا بد منه.
إن الحاجة ماسة إلى الأمر والنهي في الأسرة ليست في مرحلة معينة، بل منذ ولادة الطفل، والحاجة إلى التربية وإلى الأمر والنهي؛ لتحقيق العبودية وبناء الشخصية لمراحل مبكرة أمرٌ لابد منه، ولذلك لم يكن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مختصراً على الكبار، بل أمر الصغار ونهاهم، فهذا هو الصحابي الصغير كان غلاماً يجلس على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة -أي: يأكل تارة هنا، وتارة من وسط الصحفة، وتارة من طرف الإناء- فيأمره صلى الله عليه وسلم ويؤدبه وينهاه، ويقول له: يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ولك أن تنظر إلى هذا المشهد الجميل يوم قدم أحد أبناء فاطمة أحد أبناء النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحسن أو الحسين أخذ يأكل تمراً من تمر الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (كخٍ كخٍ) يعني: أخرجها لا تأكلها دعها، مشيراً إلى أن آل البيت لا يحل لهم أن يأكلوا الصدقات أو الزكاة، ما أجمل هذه المعاني! وما أجمل هذه الصور التي تمتلئ بالأمر والنهي!
تشير إلى دعوته وأمره بالمعروف، وهو قيام الليل عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأة دعت زوجها إلى الصلاة من جوف الليل، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) وروى الأئمة أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء).
بالأمس القريب سمعت من أحد الأفاضل غاية سخطه، وغاية انزعاجه من أبيه الذي بلغ من العمر سبعين عاماً، وما ذاك إلا أن والده في هذا السن قد تزوج مرتين أو أكثر من ذلك وهو منكرٌ على والده أنه يتزوج، فقلت: يا سبحان الله! أتنكر على أبيك شيئاً أنت احتجت إليه بعد حين؟! أتنكر على أبيك أنه تزوج على أمك؟! نحن لا نقول لك: اضرب الدف على رأس أمك فرحاً بدخول ضرةٍ عليها، وإن كانت قد بلغت من الكبر عتياً، ولا نقول لك: ينبغي أن تتشمت على أمك لدخول ضرة عليها، ولكن لا يعني ذلك أن تسخط على أبيك، ولا يعني أن تهجره، ولا يعني ذلك أن تقصر في حقه، بل إن أباك لو أمرك أن تذهب بزوجته -وهي ضرة أمك- أن تذهب بها في سوقٍ أو مستشفى أو أمرٍ أو حاجة لقضائها؛ فإنه يتعين عليك أن تطيع أباك وألا تعق أمك، مع غاية المراعاة والعناية لمشاعر أمك.
إننا لنسمع العجب العجاب من بعض البنات يوم أن ترى مجموعة منهن أو بعضهن يرتكبن العقوق المتعمد مع سبق الإصرار والترصد ضد أبيهن؛ لأن أباهن قد تزوج على أمهن زوجة أخرى، ويا سبحان الله! ألأنه قد فعل شيئاً مما شرعه الله وقرر أمراً قد أذن الله به عز وجل: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] ؟! ألأنه تزوج الثانية أو الثالثة يجوز للبنات أن يهجرن أباهن؟! يجوز لهن ألا يسلمن عليه؟!
هل يجوز لهن ألا يتبسمن في وجهه، وأن يقابلن الابتسامة بالاكفهرار، وأن يقابلن البشاشة بتقطيب الجبين، أو يقابلن الرقة واللطف واللين في الكلمة والعبارة والجملة بالصوت الأرعن، وهو العبارة الفضة الغليظة؟
لا. هذا لا يجوز، فهذا عجبٌ عجابٌ في كلا الطرفين، بعضهم ينكر على أبيه إذا فعل شيئاً مباحاً، وتجده يعقه ولا يحترم أمره ونهيه، وبعضهم يظن أن فعل والده للمعصية موجبٌ أو مؤذنٌ بإسقاط جميع حقوقه، ومن تأمل قول الله عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] إذا أمرا بالشرك، إذا أمرا بمعصية الله فلا تطعهما، ولكن يبقى الجانب الآخر: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] والمصاحبة بالمعروف تعني: طاعتهم، تعني: خدمتهم، تعني: الرعاية، تعني: الدعوة، تعني: الاهتمام والرفق واللطف واللين والمحبة.
إني لأعجب من شابٍ اتصلت أخته إلي وقالت: إن فلان بن فلان الذي تعرفه وهو ممن عليه سيماء الصلاح، يرفع صوته على أبيه، ويهز يده أمامه، ولا يكترث لأمره، ولا يلقي له بالاً أبداً، فقلت: ولم يا أمة الله؟ فإني لا أعرف عن فلان إلا كل خير.
قالت: لأن والدنا مسرفٌ شرهٌ في التدخين على ما هو عليه من صلاحٍ، بعض الناس مبتلى والعياذ بالله، قد تجده محافظاً على الصلوات وصاحب صدقات وأعمال خيرة، لكنه ابتلي بمعصية من المعاصي، هذا الأب قد ابتلي بشرب التدخين، فما كان من ولده إلا أن أغلظ عليه إغلاظاً عظيماً، وأثر في فؤاد الأب، بل وكسر قلبه، وذلك لا يجوز البتة، ولما سألته أبدى شيئاً من الاعتذار ووعد بعدم معاودة ذلك.
الشاهد أيها الأحبة: أننا حينما نمارس ونطبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنزل لا نتصور أننا في صالون ونأمر وننهي، ولا نتصور أننا في سيارة، أو نأمر الإخوان، أو القريبات أو العمات، أو الذي معنا في إطار الأسرة أن نأمرهم من علو، ينبغي أن نجعل مع الحسبة دعوة، وكلكم يعرف أساليب الدعوة وأهمها: العلم والحكمة والبصيرة، والرفق واللين والشفقة على المدعو، الحرص على المدعو ألا يفلت من يدك، ينبغي أن يتلطف الكبار في دعوة الصغار بالرفق واللين؛ لأنه أدعى إلى القبول وعدم النفرة خاصة إذا كان الولد في مرحلة المراهقة، وهذه قضية أخرى.
وكذلك بشيء من الشكر والثناء، والتقدير والإعجاب، وإعلان ذلك بين أفراد الأسرة أن فلاناً تجنب الكذب وبإمكانه أن يكذب، أن فلاناً رد الأمانة وكان بوسعه أن يأخذها ويجحدها، أن فلاناً لم يفعل كذا وكان بوسعه أن يفعل ذلك، هذه من الأمور المهمة والجلية.
أيها الأحبة: ربما يتحول الأمر والنهي للأبناء، وخاصة المراهقين، ربما يتحول من الشفقة والخوف عليهم والحرص على سلامتهم إلى التحدي وإثبات الوجود وبيان القوة واستعراض العضلات، وحينئذٍ يبدأ مسلسل المطاردة بين الأب وابنه والأم وبنتها، أو بين الوالدين والأولاد، كيف يأتي ذلك؟
حينما يسمع الأب أن الولد قد ارتكب منكراً من المنكرات، ثم يأتيه بكل ما أوتي من صوتٍ عالٍ، وأغلظ عصا يملكها، وبأقسى عقوبة يملكها، ثم يلوح ويزمجر ويزأر ويصول ويجول على هذا الولد، لأفعلن بك، ولأقطعنك إرباً، ولأجعلنك أسوة، ولأحبسك، يريد الأب في صورة كهذه أن يثبت جدارته، أن يقول: نحن هنا، الأسد في المنزل.. رب البيت لم يغب.. إن المسئول عن البيت حاضر، ولا يمكن أن تطوف هذه الألاعيب، ونحو ذلك، ولا يعلم أنه في المقابل يزرع حلبة للمصارعة يدخل هو وولده في جولاتٍ خاسرة تنتهي بهروب الولد من المنـزل، تنتهي بكراهية الولد لأبيه، تنتهي إلى عدم الاستجابة، حتى ولو أذعن أمامه، فإذا خلا بنفسه ورأى أن الحسيب أو الرقيب من الوالدين أو ممن يبعثهم الوالدان عيوناً على هذا الولد قد ابتعدوا، حينئذٍ.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري |
إنني أحذر من هذا الأسلوب في التربية، أحذر الآباء الذين يظنون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة يعني أن تجرب أغلظ العصي، وأن تجرب أشد أنواع العقوبة، وأن تلوح بأقسى العبارات، وأن تهدد بغليظ القول وفظ الكلام، إن ذلك يحول ولدك إلى ندٍ لك، بالأمس كنت أباً تأمر فيأتمر بأمرك، وتنهى فينتهي عما نهيت عنه، وتدعو فيستجاب لك، وتتكلم فينصت لكلامك، أما إذا بدأت الاحتساب في المنـزل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة، إذا بدأت بهذا الأسلوب، فإنك ترفع ولدك من درجة البلوى إلى درجة الند والقرين والمنازلة، وتدخل أنت وإياه في حلبة، ثم كلٌ منكم يقول: من الذي ينتصر؟ وربما انتصرت على ظاهر الحلبة وأمام الجمهور أمام الأم والإخوة والأخوات، ولكن الابن قد جعل الشيطان ينتصر لما خلا به، وجعله يفعل ألواناً من المعاصي والمنكرات، بعضها لا يميل الولد إلى فعلها، ولا يرغب أن يقع فيها، غاية ما هنالك أنه أراد أن ينتقم من أبيه، أراد أن يثبت لوالده الذي هدده ورفع الصوت عليه أنه قادرٌ على أن يفعل كل ما توعده على فعله، ربما جريمة واحدة، فسرد عليه الأب جملة من الجرائم، إن فعلت كذا .. وإن فعلت كذا .. وإن فعلت كذا .. وعد عليه عشر جرائم، ثم قال: لأقطعنك وأذبحنك وأطردنك وأسجننك وأجلدنك وأفعلن بك، والولد مشكلته واحدة، وهذا عد له عشراً، ثم يدخلون جولة أو حلبة المنازلة والمصارعة، ثم ينتقم الولد لرد الاعتبار وهذه الشخصية التي كسرت وحطمها الأب، خاصة إذا كان الأمر والنهي أمام الأقارب أو أمام الجيران، إن بعض الآباء أرعن في أمر ولده ونهيه، فتراه لا يحسن النصيحة والأمر والنهي إلا أمام الناس، بل ربما الولد يحتاج أن تأمره وتنهاه على خلوة حتى وإن كانت المشكلة على إطار البيت، حتى لو لم يكن في البيت إلا الأب والأم والإخوة والأخوات، وبلغوك قالوا: إن فلاناً فعل كذا، خذ فلاناً على انفراد ولا يلزم أن يكون من أول يوم أو ثاني يوم، خذه في الوقت الذي تراه قد هدأ وسكن واطمأن، ثم تنفرد به، يا بني! بلغني أنك فعلت كذا، وأنت تعلم حبي لك، وتعلم شفقتي عليك، وتعلم أنني ما أسهر الليل إلا لأجلك، وما أكدح في النهار إلا لأجلك، وتعلم شفقتي بك واعتزازي وفخري بصلاحك واستقامتك، وخوفي عليك من قرناء السوء، يا بني! هل فعلت ذلك؟ يقول لك: نعم، فعلت ذلك، فتقول: يا بني! إني أخشى عليك، وتعلم أن هذا أمرٌ قد حرمه الله، وقال الله عز وجل فيه كذا .. وتعلم أن هذا قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذا .. وكذا .. وتعلم يا بني أن مغبة هذا الأمر خطيرة، وأن عاقبته وخيمة، وأن الأمر ربما وصل إلى كذا وكذا .. وتكون العاقبة والحال، ثم بعد هذه النصيحة الرقيقة اللطيفة خذ ولدك هذا واحتضنه وقبله على خديه، وقبله على جبينه، واجعل رقبتك على كتفيه شيئاً ما، واسأل الله وأنت تحضنه، واجعله يسمع هذا الدعاء: اللهم لا تخزني فيه، اللهم لا ترني فيه يوماً أسوداً، اللهم لا تفرح عليه حاسداً، اللهم لا تشمت به عدواً.
اجعله يسمع هذه الدعوات التي هي جزءٌ من النصيحة، أتظن أن ولدك بعد ذلك يجرؤ على أن يخالف أمرك؟
لا والله، لكن كيف يجرؤ على المخالفة إذا قلت: يا أنا يا أنت في البيت، يا رأسي يا رأسك، لا نجوتُ إن نجوتَ، لا يصلح هذا الأسلوب! أو تقول لأمه: أخبريه أن الليلة هي الفاصلة هي القاضية هي المهلكة، بعض الأبناء يهرب ويسعى في الشوارع ضائعاً تائهاً هائماً على وجهه، ثم يأتيه بعض قرناء السوء ويأخذونه ويسكنونه يوماً أو يومين، وربما تفاقم الأمر وكانت المسألة إنكار معصية صغيرة، ثم أوقعوه في فواحش، ثم أوقعوه في كبائر، ثم جعلوه ربما مطية يروج، ويبيع ويشتري، ويوزع ويقسم، ويناول مخدرات ومحرمات ومصائب كبيرة.
ونحن -أيها الأحبة- في مجتمعٍ نتصارع مع عناصر شتى في تربية الأولاد، من منّا يقول: أنا الذي أنال نصيب الأسد مع أولادي؟ المدرسة لها نصيب، والمنـزل له نصيب، وربما الجيران والأقران في الشارع لهم نصيب، وكلٌ له نصيب، وبعض البيوت لا تجد للآباء فيها نصيباً، النصيب لفئتين: للقنوات الفضائية، وللمدرسة والخادمة ذات النصيب الباقي، والأب لا يعرف شيئاً من ذلك.
أيها الأحبة في الله! ختاماً أؤكد هذه المسألة وهي أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان المنكر من الوالدين، فلا بد أن نعالجه بمزيدٍ من الطاعة، في طاعة الله، ومزيد من الحب والهدية، والعناية والرفق واللين، والكرامة والتودد، وإننا مهما تكلمنا عن البر وفضله وثوابه وعظمة وجزائه عند الله عز وجل؛ إلا أن كثيراً منا لا يحسنون كيف يتقربون إلى آبائهم وأمهاتهم، هل فينا -يا عباد الله- من رأى والده ذات يومٍ قد مد رجله، فأقبل فقبل رجل والده؟
هل فينا من رأى ذات يومٍ والدته قد مدت رجلها، فنـزل وخر وقبل رجل والدته؟
هل فينا من يتعود أن يقدم حذاء والديه إذا أراد أن يخرج أو يدخل؟
نعم. فينا وقليلٌ ما.
إذا جلست على طعام هل تقدم أطيب ما فيه لوالديك؟
إذا وجدت نفسك تشتهي هذه القطعة، ثم امتدت يدك إليها تقول: مادامت لذيذة في نفسي وفي خاطري فإنها في فم والدي أو والدتي ألذ؟
هل تتلطف في أن تقدم طيب الطعام لهم؟
هل تهيئ الطعام إذا كنت على فاكهة، أخذت تقطع من هذه الفاكهة وتلينها وتجعلها قطعاً صغيرة ورقيقة حتى يأكلها متلذذاً بها، أو أن الواحد يقعد كأنه طاحونة بر، وعنده شاي، ومركب له طقم ضروس، ما يحسن الأكل، ثم يقوم قبل والده؟
هذا ليس صحيحاً، هناك مسائل نحتاج أن نتفنن في التودد للوالدين، أن تجد على الوالد ثوباً خشناً ثم تأتي فوراً بثوبٍ ناعمٍ رقيقٍ طيب تقول: يا أبت! هذا ألذ هذا ألطف، إن الذي يقدم البر لوالديه، بإذن الله إذا أمرهم بأمرٍ ائتمروا، فيه خير، وإذا نهاهم عن منكر انتهوا؛ لما يرونه من أن التزامه قد دعاه إلى البر والعناية والرعاية، أما هذا الذي لا يعرفهم إلا افعلوا ولا تفعلوا، فإذا جاء البر ما عرفوا منه شيئاً، فقولوا لي بالله وأسألكم بالله، كيف يأتمران بأمره، وينتهيان عن نهيه؟!
هذه مسألة مهمة جداً.
إنك لتعجب من أناسٍ يهون على أحدهم أن يشرح عرض والده أو والدته مما يلقى من المعاملة معهم، ولو فتشنا في الأمر لوجدنا أن شيئاً كبيراً من المسئولية وحملاً ليس بالقليل منها يتحمله؛ لسبب انصرافه عنهما وعدم العناية بهما والرعاية لهما، فذلك أمرٌ مهم.
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا |
وهذه مشكلات وتقع، وبعض الناس ربما أراد أن يعالج مشكلة ففجر منها مشكلاتٍ ولدت مشكلات أخرى، وذلك لعدم قدرته على الأمر والنهي، وعدم تصرفه المناسب، وعدم الحكمة التي تعني: فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.
الجواب: سيجمعون ويقولون: نريد أن نطيع الله.
طيب، ماذا تقترح يا فلان؟ ماذا نفعل في هذا؟ ماذا تقترحين يا فلانة؟
سيقولون: نقترح جميعاً إبعاد هذا المنكر، نقترح جميعاً أن يعامل بهذه الطريقة، نقترح جميعاً فإذا لم يكن الجميع على قلبٍ واحد، فليكن الذين على هدى وعلى صراطٍ مستقيم من أهل البيت أن يصلحوا الحال، وأن يتخذوا موقفاً ولو رقيقاً لطيفاً، في أحد البيوت أبٌ مولعٌ بالدش والقنوات، وأسرته صالحةٌ، والأم مؤمنة تقية، وقد أزعجهم وجود الدش، والوالد مصر على بقائه، فتصوروا ماذا حصل؟! اجتماع قصير وقرر فيه المجتمعون بعد محاولات باءت بالفشل في إقناع الوالد بإبعاد هذا الجهاز (مستقبل القنوات الفضائية) قالوا: قررنا أن نتوجه إلى أبينا بالالتماس الآتي: أيها الوالد الحبيب الكريم! نريد منك أن تخرج هذا لتجعله في طرف الدار بأقصى مكانٍ من البيت، وألا يكون لنا فيه صلة ولا علاقة خاصة الصغار والأطفال، فما كان منه إلا أن استجاب.
نعم أيها الأحبة! قضايا الإنكار في البيوت تحتاج إلى لين وحكمة ورفق، وإلى لطف وعناية وموعظة حسنة، أقول: لا ندعي الكمال في بيوتنا، ففيها من الأخطاء، وربما فيها من المخالفات والمنكرات التي ينبغي أن ننتبه لها.
هل سيوافق على أن أخلو بولده أو يخلو أحدٌ بولده ليحدث ولده ساعتين أو ثلاث؟
لا. ماذا ستقول له؟ وما الغاية؟ وما الحاجة إلى هذه الجلسات الطويلة؟ وماذا عندك؟ وماذا وراءك؟ إذا كان بعض الآباء أصابه الشك من لقاءات ولده ببعض الأخيار، فأقول: سبحان الله! كيف ترفض ذلك وتقبل أن يبقى ابنك أو ابنتك أمام القناة الفضائية خمس ساعات أو ست ساعات، من الساعة التاسعة إلى الساعة الواحدة أو الثانية في الليل، أربع ساعات أو خمس ساعات؟ كله تعليم وغرس؛ البنت تتعلم كيف تخرج؟! تتعلم كيف تعاكس؟! تتعلم كيف تخدع؟! تتعلم كيف تحتال؟! إذا كان بجوار هذه القناة هاتف أخذت الهاتف وأخذت تتصل: ممكن نشارك، أنا أقول، أنا أفعل، أنا .. أنا إلى غير ذلك، هذا يجوز يا عباد الله؟! أليست مسئولية؟ أليست قضية تحتاج إلى أمر ونهي؟ وبعضهم يقول: مشغولون والله ما عندنا وقت لهذه القضايا:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه وحيدا |
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا |
أو في المقابل يقول: لا. نحن ربيناهم تربية ممتازة، أنا أثق بأولادي، وأثق ببناتي، هذا لا يخطر أن يقع لأولادي أو بناتي، سبحان الله! من المخلصين الأخيار! من المصطفين! معصومين! ما يمكن أن ترد الصغائر والكبائر؟
ما هذا الظن الذي تظنه وأنت تقرب منهم السم الزعاف وتقول: لا. معصومون لا يمكن أن يفعلوا ذلك، هذه من المصائب والمشكلات الطائفة في البيوت والمنكرات التي يجب أن يتعاون أفراد الأسرة أو الأقارب على إزالتها.
في الصين الكبرى التي عدد سكانها مليار ونصف المليار، وربما الآن قاربوا اثنين مليار الصين الكبرى لما فتحت أول سلسلة مطاعم ما تسمى: (مكدونوم) وقف الجيش بالقوة أمام الناس، لأن الناس في حصار شيوعي ويريدون الانفتاح أمام الغرب، فيعرفون أن القضية ليست قضية أن الناس تريد أن تأكل خبزة في وسطها قطعة مما يسمى بالهمبرجر أو بالدجاج أو بالسمك أو غير ذلك، لا، القضية أنه يوجد اتجاه.. يوجد انسجام.. توجد رغبة.. يوجد تلذذ.. يوجد ارتياح للغرب، وأنا لا أقول: هذا حرام، لا يقول أحد: والله جاءنا شيخ وقال: إن (وينديز) و(بيتزا هت) و(بتزإن) و(مكدونم) حرام، لا، ما قلنا ذلك، لكن أقول: إن الانسياق: تأتي للولد بالبر الطيب، والسمن والأكل الطيب، المتعوب عليه النظيف الذي لا شك أنه مفيد وقيمته الغذائية عالية، لا يقبله، ماذا يقبل؟ يقبل أكلة قد ثبت علمياً من قبل متخصصين أو محللين أن فيها من الأضرار وهي خالية من الفوائد، منخفضة السعرات الحرارية، منخفضة كذا .. الشيء الكثير تجده يقبل بها، وأقول: إن الحاجة أن نعظم في نفوسنا حب المسلمين، وحب الإسلام، وأمور الإسلام، وآداب الإسلام، وأن نقلل من شأن أمور الغرب، خذ على سبيل المثال ما يسمى بـ (البرنيطة) التي في فترة ما قلَّ أن تجد شاباً في المرحلة الابتدائية والمتوسطة إلا على رأسه (برنيطة)، ليست (البرنيطة) محرمة في ذاتها، لكن الهزيمة النفسية، لما وجدت (البرنيطة) في القناة الفضائية قبل أسبوع، لبست هنا بعد أسبوع.
وتلك مشكلة يا إخوان! وينبغي أن نلتفت إلى تأثر المجتمع، أحد المسئولين في فرنسا وقف -وهم كفار يشتكون من كفار- يقولون: مشكلة عندنا خمس قنوات تلفزيونية فرنسية ولا يزال الشعب الفرنسي يسجل معدلات طلب على الأفلام الأمريكية، حسبك من كافرٍ يشكو من كافر، فما بالك بالمسلم إذا شكا من الكافر، مع أن بينهم وعندهم ولديهم من وسائل التحدي في شتى المجالات ما لا يوجد عندنا في مواجهاتهم، فيا أحباب! هذه مسألة عظيمة وهي من المنكرات التي ينبغي أن نلتفت لها، إذا يوجد شيء معين يكفي أنه تقليد غربي، علينا أن نبرأ منه، وأن نعلم أولادنا كيف يكرهون الكفار، وكيف يكرهون الكفر، وكيف لا يقبلونه، مثلاً: بعض الناس تؤتى إليه بالهدايا فيما يسمى: بعيد الكرسمس، أو عيد رأس السنة، أو ميلاد المسيح، ويقول: بمناسبة عيد المسيح صديقنا الأمريكي أو النصراني قدم لنا هدية، ويحضر الكعكة أمام الأطفال وعليها صورة (بابا نويل) أو الأم (تريزا) أو نحو ذلك، وتلك مشكلة، ينبغي أن يقول لهم: هذا شخص يعمل معنا، يحسب أننا غير فاهمين، وأعطانا هدية بمناسبة الكرسمس، ثم اذهب أنت وعيالك وارموها في الزبالة والعيال ينظرون، حتى لو كانت أجمل أنواع الكيك وأطيبها، ليست القضية أن تخسر كعكة بمائة ريال، القضية أن تقتلع شيئاً اسمه تقليد غربي يوشك أن يغرس في نفس أولادك، فكل قضية متعلقة بغرس تقاليد غربية ينبغي ألا نوردها، وأضرب لكم مثلاً: لو قلنا: هذا زي يلبسه البعثيون العراقيون نريد من شبابنا أن يلبسونه، أعوذ بالله! هؤلاء البعثيون الذين دمروا الناس وتسلطوا على الناس وجروا الأساطيل، وأنشبوا الحروب، وفجروا القضايا، وجوعوا المنطقة، تريد منا أن نقلدهم؟! لأنك تكرههم، ولذلك ما تقبل أن تقلد شيئاً من تقاليدهم أبداً، حتى الفنانين يعتزلون الفن حقهم، والرياضيين يقاطعون المنتخب حقهم، وكل على مستواه يقاطع ما يقابلهم، لكن مسألة الحب لما كان في النفوس شيء من الرضا في الغرب ما كان هناك إشكال أن يقلد الغرب سواءً في بنطلونه، أو في قميصه، أو بلوزته أو في الكاب أو في غير ذلك.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب |
إذا كانت الأم لا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فلا تسأل عن ذهاب البنت إلى المدرسة وهي لم تصل الفجر، إذا كانت الأم لا تذكر صلاة العصر إلا إذا دخل المغرب، فلا تسأل عن أن البنت أن تجمع بين المغرب والعشاء، وتلك من المصائب الموجودة في بعض البيوت، وهل تعلمون أن بعض البيوت فيها من الأسر من يؤخرون صلاة المغرب والعشاء إلى آخر الليل، ويقول: إن شاء الله مقصرين وسيتوب الله علينا، ولا يوجد أحد يأمر وينهى وتلك مصيبة، وتتحمل المرأة المسلمة مسئولية كبيرة.
إلى أن نجد البنت خرجت في وقت متأخر؟
إلى أن نبحث عن البنت في ساعة فلا نراها في البيت ولا نعلم أين ذهبت؟
تلك مصيبة وأي مصيبة، بدعوى أن أولادنا لا يزالون وما يزالون بخير، ما عليهم إلا كل خير، لا تسيئون بهم الظن إلى غير ذلك.
إذا كان رب الدار بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ |
المجلات الخليعة يأتي بعض الآباء أو الإخوة ويرمي بها، ينبغي أن ننتبه هذه من المنكرات الموجودة.
الغيبة والنميمة في بعض الجلسات، عدم التفريق بين الصغار في المضاجع، وقد مر بنا الكلام عن ذلك.
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب |
تستطيع أن تقوم المرأة من بدايات الزواج، لأنها راغبة حريصة: ما رأيك فيني؟ لعلك أحببتني.. لعلي أعجبتك؟ تتمنى أن تتأكد أنه في ضمانات لاستمرار الحياة الزوجية معك، فإذا أثبت لها أن الضمانات موجودة شريطة أن يعدل هذا ويغير هذا ويصلح هذا، هي ستعدل وستتمنى كل ما تريد، وكذلك العكس؛ الزوجة ينبغي أن تكون لبيبة في إدراك ما يحتاج إليه الزوج في بيان منفعته، والأمر اللطيف بالعرض الظريف، في مصلحته ودعوة الزوج إليه بإذن الله عز وجل، وهنا مسألة -أيها الأحبة- نريد أن نعقد اجتماعاً في بيوتنا، البيت الذي لا يعقد فيه اجتماعات أعتبر أن هناك حلقات اتصال مفقودة، كل واحد تارك هذا يدخل في وقته وهذا يخرج، لابد أن توجد جلسة شبه يومية، إن لم تكن يومية، كل يومين كل ثلاثة أيام، جلسة ماذا عندك؟ وما هي أخبارك؟ وما هي الملاحظات؟ أعطني يا فلان! تقريراً على إخوانك، ووزع مسئوليات؛ أنت مسئول على اللمبات تطفؤها، وأنت على الشبابيك تقفلها، وأنت تأكد على الأبواب هي مغلقة قبل ما ننام، ووزع مسئوليات، وهناك اجتماع دوري مستمر على أساس تعرف ما الذي يدور في الأسرة، أما أنك ما عندك وقت تجلس، قد تكون مشغولاً، لكن لا يعني ذلك ألا تجتمع، نريد اجتماعاً، الأب الذي يريد أن يحقق شيئاً في بيته يحتاج أن يعقد اجتماعات دورية، الفنادق الناجحة تجتمع كل يوم، المكاتب الناجحة تجتمع كل يوم، الشركات الناجحة تجتمع كل يوم، كلٌ في دائرته، كلٌ في قسمه لمعرفة ماذا جد، وما الذي انتهى، وما الذي ينبغي أن يفعل، حتى يحافظ الجميع على مكاسبه، ومكاسبنا هم فلذات أكبادنا، هم من نرجو أن يكونوا عملاً صالحاً يستمر لنا بعد موتنا، فلا بد أن نجتمع بإذن الله عز وجل معهم على طاعة الله ومرضاته، ويتخلل هذا الاجتماع موعظة قصيرة، أو كلمة، أو شرح حديث، أو شرح آية، إلى غير ذلك، فيه نفعٌ عظيم بإذن الله.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، واجعلنا ممن يفوزون بهذا الثواب العظيم من عنده سبحانه.
أسأله سبحانه أن يجعل أنفسنا وأولادنا هداة مهتدين، صالحين ومصلحين، لا ضالين ولا مضلين.
كما أسأله سبحانه أن يحفظنا وأن يحفظ ولاة أمرنا وأن يوفق علماءنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا على طاعته، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر