معاشر المؤمنين! قد وعد الله عباده المؤمنين المخلصين بالجنة، وتوعد العاصين المعاندين المكابرين بالنار، وبين سبحانه أن هذه الجنة دار نعيمٍ لا يكدرها شيء، وبين سبحانه في هذه الجنة ألواناً من النعم، وألواناً من الخيرات والملذات، جاء عن هذه الجنة على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم: (
إن هذه الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) الله أكبر! الله أكبر!
يا عباد الله! تجولوا في هذه البلدان، وانظروا إلى أعظم القصور، وأكبر المراكب، وأفخم المفارش، واعلموا أن في الجنة ما هو خيرٌ منها، وأعظم منها وأبقى وأدوم منها؛ لأن نعيم الدنيا منتهٍ إلى زوال، فانٍ إلى محال، أما الدار الآخرة فنعيمها دائمٌ لا ينقطع.
ملذاتنا في هذه الدنيا: صحةٌ في البدن، لكن الأمراض تكدرها، اجتماعٌ بالأحباب، لكن الفراق ينغصه، نوالٌ للمال، لكن الفقر يهدده، حصول على العزة، لكن الذلة قد تفاجئه، حصول بكثيرٍ من الأمور، لكنها فانيةٌ منتهية:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ
[الرحمن:26-27].
الله أكبر يا عباد الله!
ويقول آخر:
من لم يغتنم حاضره فاتت آخرته
أتدرون أن أرباب الدنيا، وأصحاب المال، وتجار الأرصدة ما لم يسلطوا أنفسهم على أموالهم؛ لكي تكون عوناً لهم على الطاعة وشرفاً لهم في العبودية، فاعلموا أنهم والله أندم الناس يوم القيامة، يندمون على ما بين أيديهم من هذه النعم، وما سخروها لوجه الله جل وعلا، لماذا؟
الواحد منهم تحته الزوجات، ويعلم أنه يموت، فتنكحُ نساؤه من بعده، ويعلم أن أرصدته قد ضايقت البنوك ثم يعلم أنه يموت، فيقتسمها الورثة والعصاة وغيرهم، يعلمُ أنه في هذه القصور، وفي هذه الدور، ويعلمُ أنه يفارقها وبعد ذلك يأتي به أحبابه ليرموه في حفرةٍ ضيقةٍ مظلمةٍ محكمة الغطاء، ثم يعودون ينامون في غرفته ويتقلبون على سريره، ويتطيبون بطيبه، وينسونه وقد لا يذكرونه، فليست هذه الدنيا بدار طمأنينة.
نعم يا عباد الله! الصحة بين أيدينا، والمال في جيوبنا، وسخر الله لنا أشياء كثيرة، لكننا عن طاعة الله بها غافلون وننسى أننا نحتاج إلى حسنةٍ واحدة! ألاحق ولدي وتلاحق ولدك، والأم تلاحق ولدها .. ولدي تعبتُ عليك .. حملتك كرهاً .. وضعتك كرهاً .. أزلت الأذى عنك بيميني .. جعلت بطني لك وعاء وثديي لكي سقاء .. وحرمتني لذيذ النوم ببكاءٍ تتقلب فيه ... حسنةً واحدة، حسنةً واحدة!!
والأب يقول: يا ولدي أتعبتُ النهار، وأفنيت الضياء بحثاً عن لقمةٍ لأجلك، وسهرت الليل:
يا ولدي حسنةً واحدة، فيقول: يا أبي إليك عني! إليك عني يا أبي!! إليكِ عني يا أمي!! نفسي نفسي! نفسي نفسي:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
[عبس:34-36] لماذا؟!
أنسينا الصداقات؟! أنسينا العلاقات؟! أنسينا التجارات؟! لماذا؟ هل انقطعت المعرفة؟! هل زالت المودة؟!
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
[عبس:37] شغل، داهية، واقعة، حاقة، زاجرة، غاشية،
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
[عبس:37]، فما بال الناس؟
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
[عبس:38-41] اللهم لا تجعلنا منهم.
نعيم الدنيا والآخرة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أحبتي في الله! تعلمون أن الجنة تريد منا عملاً، فما هو العمل الذي قدمناه لها؟! إن واقعنا يشهد بالغفلات والتقصير والتفريط، ولكن الذي يطمع في الجنة، يحرص أن يبذل في هذه الدنيا عملاً خالصاً مباركاً يرجو به رحمة الله وجنته، ويحرص مع هذا أن يبقى العمل مستمراً بعد موته، إن أناساً الآن في قبورهم وفي لحودهم، لكن ملائكة الحسنات لا زالت تكتب حسناتهم! وإن أناساً أمواتاً في لحودهم وفي قبورهم، لكن ملائكة السيئات لا زالت تكتب سيئاتهم!
فيا عباد الله! ما دمنا نريد الجنة والعتق من النار، لا بد أن نجتهد في هذه الدنيا، وأن نبقي عملاً ينفعنا ويمضي لنا، ولو بعد موتنا، ولو بعد أن نلقى في لحودنا وقبورنا.
أيها الأحبة في الله! كل موظفٍ في الخدمة المدنية لو قيل له: إن راتبك التقاعدي سيقطع، إن النسبة التي تؤخذ من راتبك من أجل صرف التقاعد لك بعد انتهاء المدة أو تصرف لك عند حدوث ما يعيقك من العمل، أو تصرف لأولادك بعد موتك، لو قيل له هذا الكلام لزمجر وبعث البرقيات يريدُ أن يمضي الراتب ولو بعد إحالته إلى التقاعد ولو بعد أن تصيبه مصيبةٌ قد تعيقه من العمل، أو بعد موته يصرف راتبه تقاعداً لأولاده!
نحن أيها الإخوة! ينبغي أنت نكون أشد فطنةً لأمور آخرتنا من أمور دنيانا، نحن نريد حسناتٍ في التقاعد، نريد حسناتٍ وثواباً بعد انتهاء مدة الحياة، نريد مزيداً من الحسنات تكتب لنا ونحنُ في قبورنا، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقةٍ جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له).
فمن منا ورث علماً أو ترك علماً؟! من منا اعتنى بتربية ولدٍ صالحٍ لعل الله أن ينقذه من النار بسبب دعائه؟! يؤتى يوم القيامة بعبدٍ من عباد الله، في منزلةٍ من منازل الجنة، يقول: ربي كيف نلتُ هذا؟! من أين لي هذا؟! يعلمُ أنه ما قدم عملاً كفئاً لهذه الدرجة، فيقال: بفضل دعاء ولدك الصالح لك!!
أو صدقةٍ جاريةٍ يا عباد الله! اعلموا أيها الأحبة! أن الذي يموتُ مرابطاً في سبيل الله، يجرى عليه عمله إلى أن تقوم الساعة، إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من هذه الثلاثة، وكذلك المرابط في سبيل الله، من مات في الرباط أجري عليه عمله، وأمن من فتان القبر.
أيها الأحبة! بشرى أزفها إلى الدعاة إلى الله، إنهم لمن الذين برحمةٍ من الله وفضلٍ، من الذين تمضي لهم الحسنات والدرجات، وهم في قبورهم بعد موتهم.
ألسنا منذُ سنين طويلة ندرس كتب التوحيد والعقيدة النقية، لإمام الدعوة/ محمد بن عبد الوهاب ، نور الله قبره وجمعنا به في الجنة؟ هذا بفضل دعوته وفضل علمه وعقيدته، ألسنا نقرأ في صحيح البخاري ومسلم ، وكتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية ، وكم نفع الله بها خلقاً كثيراً؟
إن ذلك لمما يوضع في موازين أعمالهم، فأنت يا أخي تقدم على دارٍ ليس فيها إلا الحساب ولا عمل، فاحرص في هذه الدنيا، أن تبذل عملاً تمضي حسناته ولو بعد موتك، ادعُ إلى الله؟ ادعُ إلى سبيل ربك، (من دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به، إلى يوم القيامة) لو سألتُ أحدكم عساك بخير؟ نعم بخير عندي أربع فلل، وعشرة دكاكين، وكذا من الأسهم، فأسأل واحداً من طلاب الآخرة، عساك بخير، هل أعددت لما بعد تقاعدك من هذه الدنيا؟ يقول: نعم، هدى الله على يديَّ عشرةً من الضلالة، ، هدى الله على يديّ خمسةً من الفساق، آمن على يدي عشرةٌ من الكفار، أين الذي يقول هذا؟!
اعلم أن هذا هو رصيد الآخرة، أن تترك علماً، أو ولداً صالحاً، أو صدقةً جارية، أو تموت مرابطاً، أو أن يهدي الله على يديك عاقاً فينقلب إلى البر، قاطعاً فيعود إلى الصلة، فاسقاً فيهديه الله بفضل دعوتك، فاجراً فيتوب إلى الله بفضل دعوتك، من الذي يتاجر بهذه الدعوة؟! التجارة مع الله رابحة، التجارة مع الله رابحة، لا خطر فيها بالخسارة أبداً، من دعا إلى هدىً فله أجره، أنت دعوت هذا فهداه الله على يدك، كان لا يصلي فأصبح من المصلين، كان زانياً فتاب إلى الله، كان مرابياً فأقلع عن ذلك، ثم حسن التزامه واستقام، ثم هدى الله على يدي هذا الآخر شخصاً آخر غيره، وعلى يدي الثاني ثالثاً، وعلى يدي الثالث رابعاً، ثم تأتي يوم القيامة وفي موازين أعمالك حسناتٌ بعدد أعمال عشرةٍ من عباد الله!!
بماذا؟ بفضل الدعوة إلى الله، ادعُ إلى الله، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) يا طلبة العلم! يا شباب الإسلام! كثيرٌ منَّا قد آثر الصلاح والاستقامة على نفسه، وليس له دورٌ في إصلاح مجتمعه والدعوة إلى الله، فأين التجارة مع الله بالدعوة إلى دينه؟! أين التجارة مع الله بهداية الناس إلى سبيله؟! أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أولئك.
وفي المقابل يا عباد الله! عبدٌ من عباد الله يموت؛ لعله ترك شراً، نعم. لقد ترك خمسين ألف شريط من الفيديو، اشتراها الناس من محله، والذين اشتروها دفعوها لغيرهم، فضل أقوامٌ وضل بفعلهم أقوامٌ آخرون، ويوم القيامة يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم إلى يوم القيامة، ليس هذا من عندنا ومن كيسنا! بل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقصُ من أوزارهم شيئاً)
فيا خيبة المفرطين! الذين اتجروا بالأفلام والأشرطة والغناء! يا خيبة الذين ورثوا فناً أو أفلاماً، أو مسلسلاتٍ أو ما يسمى بنشاط فني! يأتون يوم القيامة، وأحدهم يجر نفسه، عاجزٌ عن أن يجر ذنوبه معه، فإذ به يحمل عليه أوزار أقوامٍ قد ضلوا بسبب بيعه ونشره للفساد، فنسأل الله أن يوقظ بصائرنا، وأن يهدي بصيرتنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا ميتاً إلا رحمته، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه، على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم قرب لهم من علمت فيه خيراً لهم ولأمتهم، وأبعد عنهم من عملت فيه شراً لهم ولأمتهم، اللهم سدد خطاهم على ما يرضيك، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، اللهم اهدهم بهدايتك، اللهم أصلح مضغ قلوبهم، اللهم أصلح جلساءهم، اللهم أصلح بطانتهم بمنك ورحمتك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين، وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إن بالأرض والعباد والبهائم من الجهد واللأواء ما لا يعلمه إلا أنت، اللهم أنزل علينا بركاتٍ من السماء، وأنبت لنا بركات الأرض تدر لنا به الضرع، وتنبت لنا به الزرع، اللهم أغثنا، اللهم لا تحجبه بذنوبنا، اللهم لا تحجبه بذنوبنا، اللهم لا سبيل لنا إلا ما أنزلت إلا بمنك وكرمك، اللهم نبرأ من آلاتنا وأجهزتنا وحولنا وقوتنا .. لا نصل إلى هذا الماء إلا بأمرك وقدرتك، اللهم لو شئت لجعلته غوراً:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
[الملك:30].
اللهم ائتنا به، اللهم ائتنا به، اللهم ائتنا به، اللهم اسقنا وأغثنا يا رب العالمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الأحزاب:56]..
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل:90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.