أما بعد:
عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فقد جعل الله جل وعلا تقواه طريقاً لجناته، وسبيلاً إلى رحمته وفضله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1].
عباد الله! بالقرآن العظيم علم محمد صلى الله عليه وسلم الجيل الأول والرعيل الأمثل، ذلك أن الله جل وعلا جعل في طيات كتابه من عظيم النواهي والأوامر، والروادع والزواجر، وصادق الأخبار، ما أحيا به قلوب الأخيار، وأنبت به أنفساً زكية في أجساد الأبرار.
قال ابن عطية رحمه الله: أجمع أهل التأويل على أن المقصود: تقوى الشرك؛ فإن من اتقى الشرك وكان عمله على الشرع الصحيح قبل الله جل وعلا منه عمله، وليس هذا بإيجاب على الله، ولكنه مما أخبر الله جل وعلا به عن ذاته العلية قال: قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:27-28].
قال أهل العلم من أهل التأويل والأخبار: إن هابيل كان أقوى جسداً وأعظم قوة من أخيه، لكن الذي جعله يبقي على أخيه هو الخوف من الله، قال الله جل وعلا: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28]، والخوف من الله أعظم مقامات الصالحين، وعد الله جل وعلا عليه أعالي الجنان، قال سبحانه وهو الصادق: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وقال جل ذكره: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]، بل إن الرجل يكون مباركاً أينما حل، موفقاً في قوله، موفقاً في فعله، إذا كان ممن يخاف الله، قال الله جل وعلا عن رجلين من بني إسرائيل وفقا يوم خذل بنو إسرائيل موسى، قال الله جل وعلا: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، فالخوف من الله من أعظم ما يقرب من طاعته، بل من أعظم ما يقرب من رضاه إذا كان مقروناً بالرجاء والطمع في رحمة ربه تبارك وتعالى، لكن نفس قابيل جبلت على الشر، ولم يلجمها بلجام التقوى، فلما لم يلجمها بلجام التقوى سعت به إلى أن يقتل أخاه ويقطع رحمه، ويكون أول من سفك الدماء في الأرض، قال الله جل وعلا: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:30]، إن المؤمن إذا لم يرقب الله جل وعلا ولم يخشه تغلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء فأوردته المهالك، قد يقع بين يدي الرجل أموال اؤتمن عليها فيقول: لا رقيب ولا حسيب، فيختلسها أو يسرقها أو يأكلها سحتاً ظناً منه أن أحداً لا يراه، وينسى علم علام الغيوب جل جلاله، يبيت الشخص ويخطط لخلوة محرمة أو استدراج للغلمان، أو الوقوع في الفواحش، أو السعي إلى الزنا ظناً منه أنه بذلك يحقق رغباته وشهواته، والله جل وعلا يقول: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]، وهكذا كل أسلاب الذنوب والمعاصي، تسول لهم أنفسهم، وينزغ الشيطان في قلوبهم حتى يقعوا في المهالك، ثم يندمون ولات ساعة مندم، قال الله جل وعلا: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، اللهم إنا نعوذ بك من ذل الفضيحة يوم العرض عليك! قال الله جل وعلا: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ [المائدة:31]، يأبى الله جل وعلا إلا أن يذل من عصاه، فقد قدر هذا الرجل على أن يحمل صخرة ويقتل أخاه، ثم بعث الله جل وعلا له غراباً ليريه، والغراب: إمام في الفساد، فلم يبعث الله له طيراً مكرماً، لم يبعث الله له حمامة ولا صقراً، ولا أياً من الدواب التي كرمها الله، بل لما كان قابيل فاسقاً بعث الله جل وعلا إليه من جنسه، بعث الله له طيراً من الفواسق التي أحل الله قتلها في الحل والحرم، قال الله جل وعلا: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [المائدة:31]، إن ذل المعصية نقل ابن آدم من كونه مكرماً بما كرم الله به أباه لأن يصبح أذل من الغراب؛ لأنه عصى الله جل وعلا وسفك الدماء، قال الله جل وعلا: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، علمني الله وإياكم من القرآن ما ينفعنا، ونفعنا الله بما علمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
أيها المؤمنون! كان الناس بشرع من الله من لدن آدم إلى يومنا هذا، والشرائع على اختلافها اتفقت على تحريم القتل، فقد منع الله الاعتداء على الدماء، وشرع القصاص ردعاً وكفاً للظالمين والمجرمين، كل ذلك ليعلم العباد جميعاً أن سفك الدماء من أعظم الحرمات، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فالمؤمن يتقي الله جل وعلا في دماء المسلمين، ويتقي الله جل وعلا في أعراضهم، ويتقي الله جل وعلا في أموالهم، على أن الله جل وعلا شرع لأولياء الدم ثلاثة أمور: إما المطالبة بالقصاص، وإما الرضا بالدية، وإما العفو. وطرائق القتل تختلف: فما كان قتلاً عن مشاحنة وخصومة عارضة فتغليب العفو هنا أفضل، قال الله جل وعلا: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وقال جل وعلا: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وأما ما كان عن ظلم وغدر وانتهاك أعراض فإنه قد يبعد العفو أن يكون الأفضل، وليس الأمر على إطلاقه، ولكن كل حادثة تقدر بقدرها.
ألا وصلوا وسلموا على خير من عفا، السابق إلى كل فضل ومجد، المولود في مكة المسترضع في بني سعد، نبينا الأمين الحبيب الصادق الوعد، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد ما تلاحمت الغيوم، وما تلألأت النجوم، وارض اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا عزيز يا غفار! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان، اللهم إنا نسألك لباسي العافية والتقوى، وأن توفقنا ربنا لما تحب وترضى، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم وارفع اللأواء والضراء عن إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال يا رب العالمين! اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر