بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا في الدروس السابقة عن بعض آثار صلح الحديبية المجيدة، ومن هذه الآثار -كما ذكرنا في الدرس السابق-: فتح خيبر، والآن نقف وقفة لتحليل الوضع بعد فتح خيبر.
تحليل الوضع في أوائل العام السابع من الهجرة:
أولاً: حيّد جانب قريش، وبدأت الأرض تتناقص من حول قريش، وشعرت قريش بعظمة الدولة الإسلامية وخاصة بعد فتح خيبر، وكانت قريش تعتبر خيبر من أقوى حصون الجزيرة العربية مطلقاً، وكانت تعتبر اليهود من أشد الناس قتالاً ومن أقواهم عدة، فكانت هزيمة اليهود في خيبر ضربة كبيرة جداً ليس لليهود فقط، ولكن لقريش في عقر دارها، لم تتصور قريش أن المسلمين بلغوا من القوة إلى الدرجة التي تمكنهم من فتح خيبر.
ثانياً: أمن المسلمون جانب اليهود بعد هزيمتهم في خيبر، وأصبح للمسلمين اليد العليا بلا منازع في الصراع الذي بينهم وبين اليهود بصفة عامة، ورأينا قبل هذا أن المسلمين لم يكتفوا فقط بفتح خيبر، ولكنهم فتحوا أيضاً وادي القرى وتيماء وفدك، يعني: جميع التجمعات اليهودية الموجودة في شمال المدينة المنورة.
ثالثاً: ازدادت قوة المسلمين بشكل ملحوظ، وكان ارتفاع الروح المعنوية عند المسلمين عالياً جداً؛ لأن فتح خيبر كان فيه خير كثير جداً للأمة الإسلامية، ليس من الجانب العسكري فقط، ولكن من الجانب الاقتصادي أيضاً، وذكرنا قول السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت: ما شبعنا من التمر إلا بعد فتح خيبر. وكذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وفوق ارتفاع الروح المعنوية انضم المسلمون من أماكن مختلفة في الجزيرة العربية إلى قوة المدينة المنورة، وجاء المسلمون من الحبشة، وهذا حدث تزامن مع فتح خيبر ولم نذكره في الدرس الماضي، ففي أواخر خيبر بعد أن تم فتح خيبر جاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون من الحبشة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أسهم لهم من أسهم خيبر؛ لأنه اعتبرهم مشاركين في الغزوة حيث جاءوا بهذه النية من الحبشة، فكانت إضافة كبيرة جداً للدولة الإسلامية، وقدم أيضاً الأشعريون وعلى رأسهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه من اليمن، وقدم كذلك الدوسيون وقبائل دوس قبائل كبيرة من اليمن، جاءت أيضاً في ذلك الوقت وعلى رأسهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وقدم المسلمون من قبائل أخرى كبيرة إلى المدينة المنورة، وازدادت أعداد المسلمين بعد فتح خيبر أو بعد صلح الحديبية، بل إن المسلمين قدموا أيضاً من مكة المكرمة ذاتها، بعد أن تنازلت قريش عن بند إعادة المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة، بعد الحرب التي شنها عليهم أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه وأصحابه، كما ذكرنا في الدروس السابقة، وبدأت قوة الدولة الإسلامية تنمو، وفي نفس الوقت بدأت قوة قريش تقل، ثم إن هناك عدداً كبيراً من العرب بعد صلح الحديبية أسلم ودخل في صف المسلمين، لم يكن يقوى على إعلان إسلامه قبل صلح الحديبية.
إذاً: بعد أن وضعت الحرب في الجزيرة العربية أوزارها وأمن الناس جانب قريش دخل في الإسلام من كان متردداً.
رابعاً: بقي من الأعداء القدامى للمسلمين قبيلة غطفان، وقبيلة غطفان مجموعة من المرتزقة يؤجرون للهجوم على الغير، استأجرهم قبل ذلك اليهود لحرب المسلمين في الأحزاب، وحاصروا المدينة المنورة بستة آلاف مقاتل مع أربعة آلاف من قريش، وكان الجميع عشرة آلاف، وكانوا يريدون استئصال الدولة الإسلامية تماماً، ولهم تاريخ معقّد مع المسلمين، ففي أكثر من مرة يحدث منهم نوع من الغدر بالمسلمين وقتل عدد من المسلمين، وما أحداث بئر معونة وغيرها من الأحداث ببعيدة من المسلمين، وآخر الأحداث التي حصلت من غطفان كان حصار الأحزاب، ثم محاولة معاونة يهود خيبر في حربهم ضد المسلمين لولا أن فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحالف الذي كان بين اليهود وبين غطفان، عن طريق إرسال سرية إلى غطفان كما فصلنا في الدرس السابق.
لقد تخلص المسلمون من عدوين: من قريش عن طريق المصالحة والمهادنة، ومن اليهود عن طريق الحرب كما في فتح خيبر، ولم يبق أمامهم سوى عدو واحد كبير وهو غطفان، بهذا التحليل أستطيع أن أحدد أهداف المرحلة القادمة.
لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم هدفان رئيسان في العام السابع من الهجرة، أو في الفترة التي تلت فتح خيبر.
الهدف الأول: هو نشر الدعوة، واستغلال الهدنة التي حصلت بين المسلمين وبين قريش بعد صلح الحديبية.
الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان وتأمين جانبهم، والانتقام لكرامة الأمة الإسلامية من حصار غطفان ومن حرب غطفان المرة تلو المرة للمسلمين.
من اللافت للنظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لتحقيق هذين الهدفين سلك مسلكاً واحداً وهو إظهار القوة والعظمة والعزة للإسلام والمسلمين، فكما أن الإسلام دين وشريعة وقرآن يتلى يؤثر في قلوب الكثير من الناس، إلا أن هناك الكثير من الناس لا يتأثرون إلا بمظاهر القوة، ولا ينبهرون إلا بعزة الإسلام وسيادته على الغير، والطابع الذي كان يغلب على السنة السابعة هو إظهار القوة الإسلامية والعظمة الإسلامية والعزة الإسلامية، وقد ظهر ذلك في مراسلات الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في حروب الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في عمرة القضاء، وظهر تأثر الكثير من أهل مكة وأهل الجزيرة بصفة عامة -بل والعالم أجمع- بمظاهر القوة الإسلامية التي ظهرت في العام السابع من الهجرة.
لننظر هنا كيف حقق النبي صلى الله عليه وسلم الهدفين في السنة السابعة من الهجرة عن طريق إظهار القوة الإسلامية.
إذاً: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاة هنا وهناك يدعون الناس إلى الإسلام، وبدأت القبائل تفكر في الإسلام بطريقة جديدة دون خوف أو وجل من قريش، فهناك أعداد كبيرة من العرب دخلت في الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية.
وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا).
نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.
ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.
فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، وزمن البعثة النبوية فترة محدودة جداً وقصيرة، لا يمكن أبداً أن تستوعب كل هذه الأحداث، إلا إذا نظرت إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا أضفت إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة مسألة البركة التي يُنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين، عندها تستطيع أن تفهم كيف فعلوا هذه الأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان، وكانت كل أعمالهم هذه خالصة لله عز وجل، حتى إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عندما حكى هذا الحديث كره وندم أن حدّث بذلك الأمر، وقال: (ما كنت أصنع بأن أذكره)، فهو ندم على ذكره لذلك الأمر، وتمنى أنه لو كتم هذا الأمر ليصبح عمله بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن الحمد لله على أنه حدّث بذلك الأمر؛ ليصل إلينا فنتعلم منه ونُعلمه لإخواننا وأبنائنا.
ومع كل هذه الشدة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع أن تحدث معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة التي تغزى في عقر دارها، ولكن لم يرد ولم ينشب قتال أصلاً لا كبير ولا صغير، فقد آثر أهل غطفان ألا يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين على أقصى تقدير لا يزيدون عن سبعمائة كما ذكرنا، وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عُقر دار غطفان، وفي الطرق والدروب التي خبروها وعرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة جداً، قد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري ، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم.
سبحان الله! هذا الأمر في عُرف أهل الدنيا عجيب، كيف يهرب هؤلاء الغطفانيون وهم في هذه الظروف المستقرة من جيش ظروفه صعبة كجيش المسلمين، هذا الكلام وهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، إنه تأييد رب العالمين سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ولعامة المؤمنين الذين ساروا على طريقه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: قبل أن يصل إلى أرض المعركة يكون الجيش الذي هو ذاهب إليه مرعوباً منه.
إذاً: هذا الأمر تأييد رب العالمين لجيش المؤمنين، هذا أمر مفهوم بالنسبة لعموم المؤمنين، ورأوه كثيراً، رأوه في بدر وفي الأحزاب وفي قتال اليهود في المعارك المختلفة بدءاً من بني قينقاع وانتهاء بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أحد عندما كان المسلمون مرتبطين بالله عز وجل، قال تعالى تعليقاً على النصف الأول من غزوة أحد: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151] أي: أن الله سبحانه وتعالى إذا ارتبط به المسلمون ألقى في قلوب أعدائهم الرُعب، هذا بدون حسابات مادية وبدون أعداد وعدة، فهو أمر غير مفهوم تماماً عند أهل الدنيا، لكنه أمر مفهوم ويقيني عند المؤمنين؛ لأنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى معهم، لكن الجديد في غزوة ذات الرقاع الشعور أن هناك قوة خارقة إلى جانب المؤمنين، وهذا الشعور وجد عند أهل غطفان، وذلك عندما وجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم يرتعبون من غيرهم، فهؤلاء يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، وحياتهم كلها في حرب، وكل عيشهم قتال، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من أربعمائة أو سبعمائة، فإذا كان هذا الرعب من فريق قليل كالمسلمين، فإنه يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وإلى تحليل، هكذا فكّر أهل غطفان، فغزوة ذات الرقاع هزت قبيلة غطفان من الأعماق، مع أنها غزوة -كما ذكرنا- لم يحدث فيها قتال، لكن نحن تعودنا على أن يأتي النصر من حيث لا نحتسب، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.
فبدأت قبائل غطفان وزعماؤها يفكرون جميعاً بنظرة إيجابية لهذا الدين، مع أنهم لم يأخذوا قراراً سريعاً بالدخول في الإسلام، لكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل.
فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب وجدوا أنفسهم أمام شيء ما قبلوه قبل ذلك، ولم يسمعوا عنه إلا من غير المسلمين، فهم طالما سمعوا عن المسلمين من قريش ومن اليهود ومن غيرهم، لكنهم أول مرة يقابلون المسلمين حقيقة، ودخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ القلوب وعلى دهاة الإجرام أهل غطفان؛ لأن هذا الدين المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا الدين يتسلل إلى القلوب تسللاً.
فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة.
ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.
والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.
لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة غطفان بهذا الإنذار القوي الموجه لها، لكن أرسل بعد غزوة ذات الرقاع ست سرايا متتالية كلها في العام السابع من الهجرة، أرسل هذه السرايا إلى عدة مناطق مهمة في الجزيرة العربية، وهي: منطقة كديد، ومنطقة تربة، ومنطقة بني مرة، ومنطقة ميفعة، ومنطقة يمن، ومنطقة الغابة، ست مناطق، والقاسم المشترك بين كل هذه المناطق أنها كلها أرض لغطفان.
إذاً: هناك تركيز واضح على قبيلة غطفان في العام السابع الهجري، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يسير بخطة محكمة، ليست هناك عشوائية أبداً في الأداء، فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلح الحديبية وتحييد جانب قريش وجه كامل الطاقة لردع بقية الأحزاب، ولصد بقية أعداء الأمة، ولهذا رأينا الحرب ضد اليهود والحرب ضد غطفان، فالأمور في غاية الترتيب، ونجح الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان تماماً، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في أواخر العام السابع الهجري هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمة البلاغ ونشر الدعوة إلى الله عز وجل في كل مكان في الجزيرة العربية، بل خرج خارج الجزيرة العربية كما ذكرنا، ودعا إلى الإسلام صراحة وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم في ذلك الوقت.
إذاً: كملخص للعام السابع الهجري: نجد أنه كان عاماً جهادياً ودعوياً، بدأ فيه المسلمون في جني ثمرات صلح الحديبية، وصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر المسلمون فيه انتصاراً باهراً على اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء، وانكمشت غطفان وتضاءلت جداً، وعرفت أن قوة المسلمين أعلى بكثير من قوتها، حتى وإن كان عدد المسلمين قليلاً، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة وجاء الأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل وأسلم الكثير والكثير في العام السابع الهجري، وكان عاماً حافلاً بالدعوة والجهاد، وتوج هذا العام في آخره بتحقيق شيء فرح المسلمون به كثيراً، وهو دخول مكة المكرمة لأداء العمرة؛ لأن من بنود صلح الحديبية أن المسلمين يرجعون دون دخول مكة للعمرة في العام السادس الهجري، على أن يأتي المسلمون بعد عام، أي: في نهاية العام السابع الهجري ليدخلوا مكة معتمرين، ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة من مكة تماماً، ويتركون البلد الحرام للمسلمين مدة ثلاثة أيام متواصلة، وبالفعل مرت السنة كما رأينا وجاء شهر ذي القعدة من العام السابع الهجري، وأُعلن في المدينة المنورة عن العمرة العظيمة، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية، وستبدأ تفصيلات هامة لهذه العمرة المباركة، وفي الحقيقة تحتاج منا إلى وقفة مهمة جداً.
فالأيام تمر بحلوها ومرها، تمر بسعادتها وأحزانها، الأيام تمر دوماً: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
شتان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة منذ سبع سنوات مهاجراً يترقب ويستخفي بنفسه ويختبئ هنا تارة وهنا تارة، يخفي آثاره قدر ما يستطيع، واليوم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معلناً للجميع أنه داخل، وليس هذا الإعلان لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعاً، بل لعله للعالم أجمع.
خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة منذ سبع سنوات هو وصاحبه الصديق وعامر بن فهيرة والدليل المشرك عبد الله بن أريقط، أربعة نفر لا يكاد يراهم أحد، والآن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام بألفين من الرجال دون النساء والصبيان، في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، تُعلن لكل الخلق أن: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، حقاً لا شريك لك، حقاً إن الحمد كله لله، وحقاً إن الملك كله لله، والدليل أن هذه العمرة التي نتحدث عنها قبل سبع سنوات منها يخرج أهل مكة جميعاً يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعاً إلى جبال مكة وإلى أودية مكة يفسحون الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل مكة معتمراً ملبياً، رافعاً رأسه، محاطاً بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة بالمراقبة له ولأصحابه وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.
أولاً: جاء عليه الصلاة والسلام بالسلاح الكامل من المدينة المنورة، لكنه أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، وكانوا مائتي رجل، وكان عليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وبعد أن انتهى صلى الله عليه وسلم ومن معه من العمرة تبادل هؤلاء الحراس مع مجموعة أخرى من المسلمين وأدوا العمرة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالمسلمون جاءوا من المدينة إلى مكة بالسلاح؛ لأنهم يعرفون أن هناك عيوناً لقريش ترقب الموقف، فلما رأت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم معه قوة السلاح وقوة جيوش غير معتمرة، أرسلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر، وأخبروه أنه قد وعدهم أن يدخل مكة فقط بسلاح المسافر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه عند وعده، وأنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على جيشه من غدر قريش؛ فلذلك أخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم، فأتى بعدة كاملة؛ ليلقي الرهبة في قلوب المشركين.
ثانياً: دخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة راكباً ناقته القصواء، والمسلمون حوله يشهرون سيوفهم لحمايته، تصور كون الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط المسلمين وهم محيطون به كما يحيط السوار بالمعصم؛ حماية له من المشركين أو من غدر قريش.
إذاً: هذا منظر مهيب جداً.
ثالثاً: دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعاً في صوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وأنا أريد منك أن تتصور أن ألفين من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة، أول مرة ترى مكة منظراً كهذا.
رابعاً: يتقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وهو ينشد الشعر، نحن نستغرب ونقول: لماذا هذا الشعر في مثل هذا الموقف؟! لقد كان الشعر عند العرب وسيلة الإعلام الأولى، إذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وكان عبد الله بن رواحة يعرف جيداً هذا الموقف، واختار من شعره ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره ما جاء في سنن الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، والحديث حسن صحيح قال:
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
إلى آخر الأبيات، والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه يفسح الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سوّلت له نفسه الغدر به صلى الله عليه وسلم.
فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستوعب هذا الذي فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقال له: (وفي حرم الله تقول الشعر؟) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موافقاً لفعل عبد الله بن رواحة ؛ لأنه مدرك لعقلية العرب عامة ولعقلية قريش خاصة، فقال له: (خل عنه يا
خامساً: صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم، وتصور صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان بطريقة واحدة بتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الصورة باهرة لكل الناس، والمشركون لأول مرة يرون مثل هذا التجمع الضخم يصلي في الحرم بهذه الصورة.
سادساً: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن من فوق الكعبة، فكانت هزة نفسية عميقة للمشركين، فهم رأوا بلالاً الحبشي الذي كان يُباع ويشترى، بل ويُعذّب في شوارع وصحراء مكة، وكانوا يربطون الحبل في عنقه ويسيرون به في شوارع مكة يسخرون منه، وكان يُعذّب بالصخرة العظيمة على ظهره، فهذا الرجل الذي لاقى الأمَرَّين من أهل مكة ومن زعماء مكة، هاهو الآن يصعد فوق الكعبة، فوق أعظم مكان في الأرض بعد أن أعزّه الله عز وجل بالإسلام فيرفع أذان المسلمين، فهذا الفعل هز قريشاً من الأعماق، وراجع كلمات الأذان بما فيه من مواطن عزة كثيرة جداً من تكبير لله عز وجل، وشهادة بوحدانية الله عز وجل، وشهادة بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلى آخر كلمات الأذان، فهي كلمات تلقي الرهب والجلال في قلب كل من يشاهد ذلك من غير المسلمين.
سابعاً: تعامل الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام أمام المشركين، حيث رأوا بأعينهم خضوع الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا مدى التوقير والإجلال له، وسمعوا قبل هذا ما قاله لهم عروة بن مسعود الثقفي في يوم صلح الحديبية، فهم في هذا الوقت يرون بأعينهم، فعلموا وتأكدوا أن الصف الإسلامي صف موحد قوي طائع بكامله لزعيم واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثامناً: ختم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصورة البهية القوية بزواجه من السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وفي هذا الزواج الدليل على أنه يعيش حياة طبيعية جداً في مكة، لا يخاف ولا يترقب ولا يعيش في ظروف غير طبيعية، بل يتزوج ويحتفل ويقيم العرس في يسر وسهولة لا تخلو من حكمة سياسية رائعة، فقد دعا المشركين لحضور الحفل وللأكل من الوليمة، لكنَّ المشركين رفضوا ولم يقبلوا ذلك، فقد فهموا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفهموا أنه يتصرف في مكة وكأنها بلده وليست بلدهم، بالإضافة إلى أن السيدة ميمونة بنت الحارث من قبيلة بني عامر العزيزة جداً، فقبيلة بني عامر كانت تفتخر على العرب أنها من القبائل التي لم يسب منها امرأة واحدة ولم يؤخذ منها أسير، فهذا إعلان ارتباط بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين قبيلة قوية عن طريق النسب، وبهذا تتناقص الأرض من حول المشركين، فإذا أضفت إلى ذلك أن السيدة ميمونة بنت الحارث خالة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وفي ذلك الوقت كان لا يزال مشركاً، وهي أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب ، وكانوا يقولون: إنها من أعظم الناس أصهاراً؛ لأن علاقتها الإنسانية في مكة كبيرة ومتشابكة جداً، فهذا زواج سياسي اجتماعي دعوي حكيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي توقيت في غاية الحكمة.
عاشراً: هذا الزواج كان له أبلغ الأثر على مشركي مكة، وقد حاول الرسول عليه الصلاة والسلام أن يظهر به قوة المسلمين وبأس المسلمين أمام مشركي قريش، فتلك عشرة كاملة.
بهذه الأمور ارتفعت مكانة المسلمين إلى السماء، وظهرت عزة المسلمين، وكانت هذه العمرة من أجل وأعظم الأعمال في هذه السنوات السبع الأخيرة، وعُرفت هذه العمرة بأسماء كثيرة جداً، منها: عمرة القضاء، عمرة القضية، عمرة القصاص، عمرة الصلح، وهذه كلها أسماء لنفس العمرة التي كانت في سنة سبع.
وتابع الرسول عليه الصلاة والسلام سراياه إلى مناطق غطفان من جديد بعد عمرة القضية، فقد أرسل إليهم سريتين: إحداها: في ذي الحجة في السنة السابعة للهجرة، والأخرى: في صفر في السنة الثامنة للهجرة، وواصل سياسة الضغط على غطفان حتى تلين قناة غطفان، وحتى يعرفوا جدية وبأس المسلمين.
انظر إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وعلى يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، من الآثار أنها فُتحت العراق، وفُتحت فارس، وفُتحت بلاد ما وراء النهر، وفُتحت أرمينية، وفُتحت بلاد كثيرة جداً في آسيا، وفُتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك فُتحت فلسطين وفُتحت مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فكم من المسلمين الذين في هذه البلاد؟ وكم من الأعمال الصالحة؟ وكم من الجهاد في سبيل الله؟ وكم من الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكم من العلم؟ وكم الإضافات الإنسانية؟ كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة، فإضافة هذين الاثنين في الدولة الإسلامية من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام هذين الرجلين أهمية خاصة جداً في أحاديثه وفي معاملاته صلى الله عليه وسلم، حتى إنه أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه لقباً ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، وسماه سيف الله المسلول، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره رضي الله عنه، قال عنه: (أسلم الناس وآمن
فقوله: (أسلم الناس وآمن
هذا أمر خارج عن التصور، ويعتبر من أعظم أحداث التاريخ الإسلامي، لا بد أن ندرس إسلام هذين البطلين، لا بد أن نفهم لماذا أسلما بعد سنوات طويلة جداً من الصد والبُعد عن دين الله عز وجل؟
فإسلام هذين البطلين وغيرهما يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فالذي دفع هؤلاء إلى الإسلام هو الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد، فهؤلاء جميعاً من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع عظيم من القواد لم يروا مثله قبل ذلك، حتى في موقعة أحد فشل سيدنا خالد في إحباط الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الخطة في تمام الإحكام، وكان سيدنا خالد يدرس هذا الكلام جيداً، ويعرف أنه لا يستطيع الغلبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولولا مخالفة الرماة لما استطاع أن يأتي المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب، فـخالد قد فشل أكثر من مرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعله ينبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك ينبهر بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام كداعية وكإنسان يعيش وسط الناس بمبادئ وقيم معينة لا يخالفها، وعادة العسكريين أنهم يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بغض النظر عن الوسائل، لكن خالد بن الوليد رضي الله عنه شاهد الرسول عليه الصلاة والسلام غير ذلك، فقد شاهد رجلاً عسكرياً حكيماً قائداً قوياً، ومع ذلك يتحلى بكامل الأخلاق الحميدة، فقد بلغ الذروة صلى الله عليه وسلم في الأخلاق، فهو شاهد ذلك مرات عديدة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين، ولم يستطع أبو سفيان على عداوته إياه أن يقول في حقه كلمة سلبية واحدة أمام هرقل زعيم الروم، فهو صلى الله عليه وسلم قائد أخلاقي من الدرجة الأولى.
وكذلك كان عمرو بن العاص منبهراً تمام الانبهار بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي دفعه بعد ذلك إلى الإسلام، لكن القوة الإسلامية التي ظهرت في صلح الحديبية، والتي ظهرت في عمرة القضاء كان لها أبلغ الأثر في إسراع خطوات إسلام القائدين العظيمين: خالد وعمرو رضي الله عنهما.
لننظر كيف أسلم كل منهما وكيف فكر به؟
إذاً: هذا كان موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ولا ننسى أن خالد بن الوليد في يوم الحديبية قال كلمة عظيمة في حق المسلمين، قال: إن القوم ممنوعون، وذلك عندما نزلت صلاة الخوف كما ذكرنا ذلك في درس الحديبية، فـخالد بن الوليد يعلم أن القوم ممنوعون من الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحيطهم برعاية وعناية خاصة جداً، وهذا كله كان له أثر كبير جداً في قلب خالد بن الوليد .
لكن هناك شيء آخر أيضاً أثر في خالد كثيراً، وهو أن خالد بن الوليد عندما رأى جيش المسلمين داخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع من الهجرة، لم يستطع أن يحتمل هذا المنظر في بدايته، وخرج من مكة وتركها، وكان له أخ اسمه الوليد بن الوليد رضي الله عنه وهو من الصحابة الذين دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، فعندما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد ليخبره عن أمر الإسلام فلم يجده، فكتب له كتاباً قال له فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟
ثم كتب كلاماً عجيباً بعد ذلك، قال: وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك..
فهذه الكلمات كانت من أبلغ الكلمات أثراً في إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
قال له أخوه الوليد بن الوليد : (وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك قال: أين
أي: كيف لـخالد الذي له هذا العقل الراجح ألا يفكر في الإسلام، ثم قال كلمة جميلة قال: (ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره)، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر عن خالد أنه لو أضاف قوته إلى قوة المسلمين لقدمه على غيره، فهو قائد، وفارس عظيم، فإضافة هذه القوة إلى قوة الإسلام تجعل له السبق على المسلمين، وإن سبقوه قبل ذلك بدخول الإسلام.
فهذه الكلمات وصلت إلى قلب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وهو تأليف عظيم جداً من الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم لقلب خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذا استغلال لإمكانياته ومواهبه رضي الله عنه وأرضاه.
هذه هي الحكمة الحقيقية.
ثم يقول الوليد بن الوليد رضي الله عنه: (فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة)، وهذا تحميس لـخالد بن الوليد ألا يضيع وقتاً آخر.
فوقعت هذه الكلمات في قلب خالد بن الوليد ، فكان رد خالد بن الوليد عندما قرأ الجواب أن قال: (فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال
المهم أن خالد بن الوليد يريد أن يصاحب رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما سمع هذه الكلمات من صفوان بن أمية قال: هذا رجل موتور قد قُتل أبوه وأخوه ببدر، بعد هذا قابل عكرمة بن أبي جهل وعرض عليه نفس الكلام، فقال له مثل ما قال صفوان ورفض تمام الرفض، وأيضاً قال خالد نفس الكلام: إنه رجل موتور قتل أبوه أبو جهل ، لكن خالد بن الوليد لم ييأس، إنما ذهب إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت مشركاً، فقال له نحواً مما قال لصاحبيه، فكما يقول خالد : فأسرع عثمان بالإجابة. أي: أنه قبِل فكرة الإسلام، واتفق الاثنان على الخروج إلى المدينة المنورة وتواعدا، وخرجا إلى المدينة المنورة لإعلان إسلامهما بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي الطريق قابلا عمرو بن العاص .
إذا: هذه هي كيفية إسلام خالد رضي الله عنه.
كانت عند عمرو بن العاص موانع كثيرة جداً، فقد كان له قيمة كبيرة في قريش كـخالد بن الوليد ، وكان أبوه العاص بن وائل من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، فقد تربى في بيت يكره الإسلام والمسلمين، فهذا الذي جعله يتأخر هذه الفترة الطويلة من الزمن، وانظر إلى بداية التغير في فكر عمرو بن العاص ، يقول: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً عظيماً، فبدأ عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، فكان يرقب بعينه أن الأيام القادمة للمسلمين وعلى قريش، فقال: وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، وقد كان النجاشي صديقاً حميماً لـعمرو بن العاص ، فيقول: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي. فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. انظروا إلى أي مدى بلغت الكراهية في قلبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لأن يحكمهم النجاشي خير من أن يحكمهم محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرشي، ومن نفس القبيلة التي منها عمرو بن العاص ، وقد كان عمرو بن العاص سهمياً قرشياً، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام هاشمياً قرشياً، لكن عمرو بن العاص يقبل بحكم النجاشي ولا يقبل بحكم بمحمد صلى الله عليه وسلم! ثم يقول: وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا كل خير، أي: أنه لو انتصرت قريش على المسلمين فسيعود بعد ذلك عمرو بن العاص وله من المكانة المحفوظة ما له في قريش.
وهذا موقف سلبي؛ لأنه يترك الحرب تثور بين قريش وبين المسلمين، فإن انتصرت قريش عاد إليها وإن لم تنتصر بقي هناك عند النجاشي، هذا موقف سلبي من عمرو بن العاص في ذلك الوقت، وسبحان الذي أعزه بعد ذلك بالإسلام.
المهم أن أصحابه وافقوه على هذا الرأي، وقالوا: إن هذا هو الرأي، قال: ثم قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان من أكثر ما يحبه النجاشي هو الجلود، ولذلك جمعوا له كمية كبيرة من الجلود وأخذوها وسافروا إلى النجاشي، وكما يقول عمرو بن العاص : فوالله إنا لعنده إذا جاءه عمرو بن أمية رضي الله عنه الصحابي الجليل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى النجاشي ليأتي بـجعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد صلح الحديبية، فعندما رأى عمرو بن العاص عمرو بن أمية عند النجاشي فكّر في شيء، وهو أن يطلب قتل عمرو بن أمية ، فإن قتله أصبحت له يد كبيرة عند قريش، فدخل عمرو بن العاص على النجاشي فقال له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، لكن رد فعل النجاشي كان خارج تصورات عمرو بن العاص تماماً، لقد غضب النجاشي غضباً شديداً، حتى قال عمرو بن العاص : لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت له: أيها الملك! والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك، وكان النجاشي قد أسلم وأخفى إسلامه، لكن وجد فرصة لأن يدعو عمرو بن العاص ، فهو يخاف أن يدعو بدعوته في داخل الحبشة حتى لا يخلعه قومه من كرسيه، لكن عمرو بن العاص صاحبه وبينهما علاقة قديمة جداً، فأراد أن يصل إليه بالخير الذي وصل إليه قبل ذلك، النجاشي، فقال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟ ثم قال عمرو بن العاص : قلت: أيها الملك! أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، وفجأة ألقى الله عز وجل في قلب عمرو بن العاص الإسلام.
وهذه تراكمات كثيرة، فهو منبهر كما ذكرنا قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، منبهر بكامل حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن تنازعه نفسه ألا يؤمن؛ بسبب العادات والتقاليد، ومعاداة أبيه للرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه أمور كثيرة جداً كانت مانعة له عن الإسراع إلى الإسلام، لكن فجأة اكتشف الحق أمام عينيه، فقال للنجاشي: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال النجاشي: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، أي: أن إسلام عمرو بن العاص كان على يد النجاشي رحمه الله.
انظروا إليه كيف يهرب من الإسلام إلى المكان الذي يسلم فيه، هرب من الإسلام على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد النجاشي ملك الحبشة، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
أسلم عمرو بن العاص وكتم إسلامه عن أصحابه وتركهم وعاد إلى الجزيرة العربية بعد ذلك، وعاد وهو ينوي الذهاب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لإعلان الإسلام بين يديه، ووصل إلى مكة المكرمة ومكث فيها قليلاً، ثم خرج بعد ذلك في اتجاه المدينة المنورة، وفي حال خروجه إذا به يقابل خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ، فسأل عمرو خالد بن الوليد قال له: أين أبا سليمان ؟ فقال خالد في منتهى الصراحة والوضوح: والله لقد استقام المنسم. أي: وضح الطريق، ثم قال: وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأُسلم، فحتى متى؟ قال عمرو بن العاص : قلت: والله ما جئت إلا لأُسلم، وتحرك الثلاثة من مكة إلى المدينة المنورة، حتى وصلوا إلى منطقة الحرة، وهناك عند منطقة الحرة أناخوا ركابهم وبدءوا يستعدون للقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند ذهابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لقيه أخوه الوليد بن الوليد رضي الله عنه فقال: (أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُخبر بك فسُر بقدومك، وهو ينتظرك، قال: فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يتبسم إليّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليّ السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير، قلت: يا رسول الله! قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله، قلت: يا رسول الله على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لـ
في الدرس القادم -إن شاء الله- سوف نتعرف على بداية إسلام هؤلاء العمالقة الثلاثة، وما هو دورهم الفعّال المباشر في خط سير الدولة الإسلامية؟ وما هي أعظم المهمات التي قام بها كل من هؤلاء الثلاثة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الدولة الإسلامية؟
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر