بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا قبل ذلك عن صلح الحديبية، وذكرنا أن صلح الحديبية يعتبر نقطة تحول حقيقي ويعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأمة الإسلامية بكل المقاييس، ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح الهام يرتب أوراقه من جديد، فقد قام بخطوتين كان من الصعب جداً أن يقوم بهما قبل هذا الصلح:
الخطوة الأولى: خطوة مراسلة زعماء وملوك العالم، وهي خطوة ما كان يستطيع أن يقوم بها أبداً قبل صلح الحديبية؛ لأن دولة الإسلام في ذلك الوقت كانت دولة غير مستقرة، غير معترف بها حتى في محيط الجزيرة العربية، فكيف يعترف بها على مستوى العالم، أما بعد صلح الحديبية فقد استقرت الأوضاع إلى حد كبير جداً في المدينة المنورة، وأمن الناس من احتمال الحرب، واعترفت قريش بالدولة الإسلامية، وكذلك اعترفت القبائل العربية الكبرى بهذه الدولة الجديدة، بدليل دخول بعض القبائل -كخزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في نشر الإسلام عالمياً عن طريق مراسلات عديدة إلى زعماء وملوك العالم كما فصلنا.
إذاً: هذه كانت هي الخطوة الأولى بعد صلح الحديبية، وتقريباً بدأت في أول محرم سنة سبع أو في أواخر سنة ست في آخر ذي الحجة.
الخطوة الثانية: فتح خيبر، وقد قام به صلى الله عليه وسلم بمجرد أن انتهى من صلح الحديبية.
وخيبر كما نعلم جميعاً من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود بصفة عامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسود شديد السواد، وهذا السواد شمل كل فترات المعاملات، سواء في السلم أو في الحرب، أو في وقت المعاهدة التي عقدها مع يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كان الأصل عند اليهود في التعامل هو الخيانة المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام، ثم تطور الأمر إلى معارك حقيقية بين المسلمين وبين يهود القبائل الثلاث، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبق من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر وما حولها من تجمعات أصغر مثل تجمع تيماء، وتجمع فدك، وتجمع وادي القرى، لكن التجمع الرئيس كان تجمع خيبر، وهذا التجمع الكبير من أقوى التجمعات اليهودية مطلقاً، وقد ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر، وإذا كنا رأينا قبل ذلك أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن علاقة يهود خيبر بالرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث التي ذكرناها قبل ذلك، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم للكيد للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأخطر محاولات ومؤامرات خيبر كانت مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، فيهود خيبر بعثوا وفداً كبيراً جداً مكوناً من عشرين زعيماً من زعماء خيبر، بالاشتراك مع بعض زعماء قبيلة بني النضير، وبدءوا يجوبون القبائل العربية الكبرى مثل: قريش، وغطفان وغيرهما؛ لتحفيز هذه القبائل على الاجتماع لحرب المسلمين، ولم يكتف يهود خيبر بالدور التنسيقي للأحزاب، بل بذلوا المال وثمار خيبر لقبائل غطفان؛ لكي يدفعوها دفعاً لاستئصال المسلمين، وقبائل غطفان مرتزقة يحاربون بالأجر، فخيبر ضحت بنصف ثمارها؛ لكي تدفع غطفان لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل كان لهم دور كبير جداً في إقناع بني قريظة بخيانة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل كان سيؤدي إلى كارثة حقيقية بالمدينة المنورة، لولا أن الله عز وجل لطف بعباده المؤمنين، كما فصلنا وشرحنا في غزوة الأحزاب.
رغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا أبداً عن محاولتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتجسس مع المنافقين في المدينة المنورة؛ لكي يدبروا مؤامرات كيدية للمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا التاريخ الطويل من الكيد والدس والمؤامرات يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل والمناسب أن تكون هذه الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، لكن لم يكن ذلك ممكناً ومتيسراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، وما غزوة الأحزاب عنه ببعيد، لأنه قد يجتمع الناس من جديد لمحاصرة المدينة واقتحامها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يترك المدينة المنورة بدون جند، وخاصة أن حصون خيبر كانت شديدة التحصين والقوة، وأعداد اليهود كبيرة جداً، وتوقع الرسول عليه الصلاة والسلام أن حرب خيبر تحتاج إلى وقت طويل، فلذلك لم يستطع أن يترك المدينة، فانتظر حتى تأتي الفرصة المناسبة، وهو لم ينس أهل خيبر ولم يقلل من شأنهم، وإنما أجل أهل خيبر إلى الوقت المناسب، وهذا الوقت الذي انتظره الرسول عليه الصلاة والسلام لم يضيعه، بل قام بحملات تأديبية لقبائل غطفان وغيرها من القبائل التي تحزبت ضد المسلمين، وكان ما يميز كل هذه الحملات أنها كانت سريعة وخاطفة، وليست بالقوة العسكرية الإسلامية الكاملة، كل هذا خوفاً من هجوم قرشي مباغت على المدينة المنورة، وكانت هذه الاستراتيجية سارية وبنجاح حتى صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغيرت الأوضاع، فقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم من حرب قريش، ووضعت الحرب بين الدولتين لمدة عشر سنوات كاملة؛ لذلك أول ما أتم الرسول عليه الصلاة والسلام صلح الحديبية استغل الهدنة التي عقدها مع قريش في تأديب هؤلاء اليهود الغادرين.
ومنها: أنه لا يأمن غدر قريش وحلفائها؛ من أجل ذلك بادر إلى هذه الخطوة قبل أن تفكر قريش في الغدر أو تستعد له.
ومنها: أن خبر صلح الحديبية وصل حتماً إلى يهود خيبر، وقد يتوقعون هجوماً من المسلمين، لذلك كلما كان أسرع كان أفضل قبل أن يستعد اليهود.
ومنها: أنه أراد أن يرفع معنويات المسلمين المنكسرة بعد صلح الحديبية، فهم لم يكونوا قد رأوا الخير الذي ترتب على صلح الحديبية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعوضهم بهذا الفتح القريب.
وفوق كل هذه الأهداف أن رب العالمين سبحانه وتعالى كان قد بشر المؤمنين أن هناك مغانم كثيرة سيحققونها بعد صلح الحديبية، كما جاء في سورة الفتح التي نزلت مباشرة بعد الصلح، ولعل هذه الغنائم تكون غنائم خيبر، وقد كان كما قال الله عز وجل في سورة الفتح: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20].
فقوله تعالى: (مَغَانِمَ كَثِيرَةً) هي مغانم خيبر وغير خيبر من الفتوحات الإسلامية التي جاءت بعد هذا الصلح العظيم.
وقوله: (هَذِهِ) يعني: صلح الحديبية.
هو لا يستطيع أن يقف ويقول: المنافق لا يخرج؛ لأن النفاق أمر قلبي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن أنه لا يخرج إلى قتال أهل خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك يضمن أن كل من شارك في هذا الفتح سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعاً مؤمنون كما قال الله عز وجل عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بألف وأربعمائة مقاتل، وهم الذين كانوا معه في صلح الحديبية.
وكما هو معلوم إذا رأينا الصف المؤمن خالصاً نقياً مؤمناً؛ فإن الله عز وجل يمنحه النصر والتمكين.
فخرج هذا الجيش العظيم بهذه الروح الطيبة المتفائلة، ولنتذكر أن ألف وأربعمائة مقاتل سيحاربون أعداداً ضخمة هائلة؛ لأن أعداد اليهود كانت أضعاف أضعاف الجيش الإسلامي، ومع ذلك كانوا خارجين بتصميم ويقين على أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بل وشجعوهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: لا تخافوا منهم؛ فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا القليل.
أولاً: أخرج صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبان بن سعيد رضي الله عنه باتجاه أعراب نجد حول المدينة؛ لكي يثير الرعب في هذه المنطقة فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأنها خالية تقريباً من الرجال في ذلك الوقت.
إذاً: أول شيء: أنه قام بتأمين المدينة المنورة.
ثانياً: أرسل سرية إلى ديار غطفان، فالمسلمون متجهون إلى الشمال باتجاه خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية إلى الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ لكي يوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديارهم لا ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تظهر أمرها ولا تتخفى، وتحدث لغطاً وصوتاً عالياً، لكي يلفت أنظار جيش غطفان فيعود مرة ثانية إلى دياره، ولا يشترك مع أهل خيبر في الدفاع عن حصون خيبر، وفعلاً هذا الذي حصل، فجيش غطفان لما سمع الصوت رجع سريعاً عائداً إلى قبائله وإلى دياره، وترك يهود خيبر يواجهون الرسول عليه الصلاة والسلام منفردين.
ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير اتجاهه، حيث أخذ بعض الأدلة لتدله على طريق آخر ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها، والمدينة المنورة في جنوب خيبر، وبدلاً من أن يدخل من الجنوب دخل من الشمال، ويكون بذلك حقق شيئين، وضرب عصفورين بحجر:
أولاً: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه، فجيشه سيفصل بين قبائل غطفان وبين مدينة خيبر.
ثانياً: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر، وسيكون الطريق إلى الشمال مغلقاً بالجيش الإسلامي.
وهذا تخطيط عسكري على أحسن مستوى.
أولاً: الجيش بكامله من المؤمنين وهذا أهم عامل، فالرسول عليه الصلاة والسلام حدد الخروج في أولئك الذين شهدوا صلح الحديبية، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم سينتصرون بإذن الله عز وجل.
فكل الجيش كان مؤمناً، وكان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويجمعهم رباط العقيدة، وقد تخلت غطفان عن اليهود؛ لأنه لا يربطهم ببعضهم إلا المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي بشتى فروعه: قبائل الأنصار، وقبائل المهاجرين، وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، كل هذا الجيش كان وحدة واحدة، وهذا من أهم عوامل النصر.
وكذلك الأخذ بالأسباب: إعداد العدة، والخطة، والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه، والعيون، فكل شيء يستطيع أن يفعله عليه الصلاة والسلام من أسباب النصر فعله صلى الله عليه وسلم، فهو سيدخل منطقة خيبر وعنده مقومات النصر للمسلمين.
واقترب الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر جداً، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل بالليل، كان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر صلى الله عليه وسلم، فاختار صلى الله عليه وسلم مكاناً وعسكر فيه قريباً من مجموعة حصون اسمها حصون النطاة، على وزن حصاة، وكانت مجموعة حصون كبيرة في منطقة خيبر، وعندما اختار الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك المكان جاء إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! إن هذا المنزل قريب من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وهذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة) يعني: هذا مكان بين النخلات قد يتسلل اليهود من خلال النخيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يدركون هذا التسلسل. (فلو أمرت بمكان آخر نتخذه معسكراً، فقال صلى الله عليه وسلم: الرأي ما أشرت به) وغير عليه الصلاة والسلام المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه، والحباب قبل ذلك أشار بمثل هذه المشورة في موقعة بدر، ورأينا سعة صدر الرسول عليه الصلاة والسلام لقضية الشورى وسماع آراء الآخرين، وكيف كان ذلك سبباً للنصر في بدر، وسيكون سبباً من أسباب النصر في خيبر، وهي سنن ثابتة كما نرى.
واضح جداً من هذا الوصف أن من يفتح الله عز وجل على يديه البلاد، ويمكن له في الأرض وينصره على أعدائه لا بد لهذه الشخصية أن تكون محبة لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن تكون محل حب الله عز وجل وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، هذه الصفة لا تأتي إلا بموافقة تامة للشرع وبصدق كامل في النية، والله عز وجل مطلع على القلوب، ولا يعطي نصره إلا لمن أحب سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر ينطبق على كل مراحل التمكين في حياة الأمة الإسلامية، وعلى كل انتصارات الأمة الإسلامية، فأنت إذا رأيت الله عز وجل نصر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، أو نصر عمرو بن العاص ، أو نصر صلاح الدين الأيوبي ، أو سيف الدين قطز ، أو يوسف بن تاشفين أو أي إنسان مكن له في الأرض ونصر، فاعلم أن هذه علامة من علامات حب الله عز وجل للعبد.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال هذه الكلمات وأصبح في اليوم الثاني جاء الناس جميعاً متشوفين لحمل هذه الراية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين
فأخذ سيدنا علي الراية وقال: (يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟) فقال صلى الله عليه وسلم موضحاً الغاية من الحرب في الإسلام: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيهم، فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
يبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن إسلام هؤلاء أحب إليه من أموالهم ومن ديارهم ومن سلطانهم ومن كل شيء، فمع كل التاريخ الأسود لليهود، ومع كل المحاولات المضنية التي بذلوها لاستئصال المسلمين في المدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال إلى هذه اللحظة حريصاً تمام الحرص على إسلامهم وهدايتهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
فهذه الكلمات كانت آثارها هامة على الجيشين: الجيش الإسلامي، والجيش اليهودي، فهو يذكر المسلمين بأن النصر من عند الله عز وجل، وأن الله عز وجل أكبر من أي عدو، فإن كنتم ترون حصون خيبر وسلاح خيبر وأعداد خيبر أكثر بكثير منكم فاعلموا أن الله عز وجل معنا وهو ناصرنا عليهم، ففيها رفع الروح المعنوية عند المسلمين، وذكر المسلمين بأيام الله عز وجل، ذكرهم ببدر وذكرهم بالأحزاب، وذكرهم بما حدث قبل ذلك من قتال مع اليهود في المواقع الثلاثة التي ذكرناها قبل ذلك.
وهذه الكلمات أيضاً وصلت إلى أسماع اليهود وأوقعت الهزيمة النفسية في قلوبهم. (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
و(المنذرون) هم اليهود؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغهم الرسالة مرات عديدة فأبوا أن يستمعوا إلى كلامه، ثم أعاد عليهم الرسالة على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كما فصلنا.
ومع أن الحصار شديد، ومع أن فتنة الحرب كبيرة، إلا أن الله عز وجل أراد أن يبتلي المؤمنين أكثر وأكثر، فأوقعهم في أمر صعب إلى جوار صعوبة الحرب، وهو أمر الجوع، لقد جاع المسلمون جوعاً شديداً، حتى قالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء. ولما ازداد الجوع بالمسلمين قام بعض رجال الجيش الإسلامي بذبح بعض الحمير للأكل، والعرب كانت تأكل الحمير في ظروف معينة، ولم يكن هذا الأمر محرماً على المسلمين في ذلك الوقت، ونصبوا القدور ولم يكن هذا بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام النيران مشتعلة، قال: (على أي شيء توقدون؟) وهو يعلم أنه ليس مع الجيش لحم يوقد عليه النار، فقالوا: (يا رسول الله! على لحم) يعني: نوقد هذه النيران على لحم. (قال: أي لحم؟ قالوا: لحوم الحمر الإنسية) يعني: لحوم الحمر التي نعرفها وتستخدم في النقل، وهذه الحمير لم تكن محرمة على المسلمين حتى تلك اللحظة، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الصعب قام ونهى عن أكل لحوم الحمر الإنسية، حيث قال: (إنها لا تحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر).
هذا موقف صعب، الناس في ضائقة وفي مخمصة شديدة، كما وصف أحد الصحابة أنه جوع شديد جداً، وبدأت اللحوم تنضج، ورائحة اللحوم بدأت تظهر عند الناس ونفوسهم متشوقة إلى الأكل، ثم أتى النهي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا ابتلاء كبير لا ينصاع له إلا مؤمن كامل الإيمان، وبفضل الله نجح الجيش بلا استثناء في هذا الاختبار، والكل لم يأكل من هذه اللحوم؛ بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتحريم الأكل من لحوم الحمر الإنسية، وإنما قال (أريقوها واكسروها) يعني: أريقوا ما في القدور من اللحوم والمرق واكسروا القدور؛ ليختفي كل أثر لهذه اللحوم، فسأل بعض الصحابة: (أنريقها ونغسلها؟) يعني: بدل الكسر نغسل القدور، (فقال: أو ذاك) يعني: قبل صلى الله عليه وسلم بغسل القدور.
وهذا التحريم جاء في وقت يحتاج فيه الجيش لهذا الأكل، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرى أن موقف الصحابة لم يصل بعد إلى موقف الاضطرار، وما زال بهم قوة أن يبقوا بدون طعام فترة من الزمان، وإلا لو كانوا مضطرين لجاز لهم أكل أي شيء حتى الميتة كما يعلم الجميع.
هذه تربية إيمانية عالية جداً، ونجاح عظيم للجيش المؤمن، وهذه من أعظم أسباب النصر.
وهذا يلفت أنظارنا لمسألة مهمة نحب أن نقف عليها، وهي أن هذا التحريم الذي جاء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأت في القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى ذكر في الكتاب أنواعاً كثيرة من المحرمات على المسلمين، منها: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ [المائدة:3]، وغيرها من المحرمات التي ذكرت للمسلمين.
وتحريم الحمر الإنسية لم يأت في كتاب الله عز وجل، وإنما جاء فقط في السنة النبوية، ومع ذلك على المسلمين ألا يأكلوا من الحمر الإنسية، والرسول عليه الصلاة والسلام بعد رجوعه إلى المدينة المنورة قال في خطبة ذات يوم للصحابة بعد أن ادعى بعض المنافقين أنه يكتفي فقط بالقرآن الكريم، أو أن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ أنه سيأتي زمان على المسلمين فيدعي بعضهم أن القرآن الكريم يكفيهم دون السنة، فروى أبو داود رحمه الله عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).
و(الكتاب) يعني: القرآن الكريم.
(ومثله معه) يعني: السنة المطهرة، والسنة وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. (ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) يعني: يقصد هذا الشخص الجالس على أريكته الاكتفاء بالقرآن والابتعاد عن السنة.
ثم قال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع)، وذكر صلى الله عليه وسلم أنواعاً أخرى من المحرمات، وهذه المحرمات لم تأت في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهي محرمة على المسلمين بتحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فثبت الحكم عند المسلمين، وهذا من أبلغ الأدلة لكون السنة النبوية مصدراً هاماً من مصادر التشريع.
بعد هذه الأزمة التي حصلت للمسلمين بخيبر لجأ المسلمون لجوءاً كاملاً إلى الله عز وجل، وهذه من أبلغ الفوائد في الأزمات، عند الأزمات يلجأ المسلمون الصادقون إلى الله عز وجل ليفتح لهم أبواب الرحمة، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو والصحابة يؤمنون، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاماً وودكاً).
والودك: هو اللحم الدسم السمين.
وفي اليوم الذي تلاه فتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وهو من أغنى حصون خيبر بالطعام والشراب، وفيه ما لذ وطاب من ألوان الطعام المختلفة، ووجدوا فيه الطعام والودك كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، واستجيب الدعاء بحذافيره.
وأكل الناس وشبعوا واستكملوا الحرب بفضل الله، وانتقلوا من هذه القلعة إلى غيرها.
وهذه من أشد المعارك ضراوة في تاريخ المسلمين، فهم عند كل حصن يقاتلون أياماً، ثم يهربون من الحصن إلى الحصن الذي يليه، وهكذا..
وهذه الحصون مبنية بمهارة عجيبة جداً، فكل حصن متصل بالآخر.
وهكذا انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من فتح الحصون الثلاثة الأولى، التي هي: حصن ناعم، وحصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة الزبير، وكانت في منطقة تسمى النطاة.
وقبل أن ننتقل ونعرف ماذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح حصون منطقة النطاة، لا بد أن نقف وقفة ونقول: إن نصر الله سبحانه وتعالى يأتي بعد أن يستنفد المسلمون كل أسباب النصر، وقد لا تؤدي هذه الأسباب إلى النصر بذاتها، بل كثيراً ما يحدث أن يعجز المسلمون بعد بذل الأسباب، ثم يأتي النصر من حيث لا يتوقعون، كما فعل الله عز وجل قبل ذلك في بدر وفي الأحزاب وفي مواطن كثيرة، وجنود الرحمن كثيرون، كما قال سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
وأحد جنود الرحمن سبحانه وتعالى في موقعة خيبر كان ذلك اليهودي، وهو ما زال على يهوديته، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف له الطريق الذي به استطاع المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين معه أن يفتحوا هذا الحصن الصعب: قلعة الزبير، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].
وهذا الحصن الخامس وقف الرسول عليه الصلاة والسلام محاصراً له عدة أيام؛ لأنه كان أمنع الحصون الخمسة، لذلك وضع اليهود في ذلك الحصن الذراري والنساء، وظنوا أنه من المستحيل أن يفتح، ولذلك استمر الحصار فترة طويلة من الزمان بالقياس إلى ما قبله، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفتح الحصن، فلجأ عليه الصلاة والسلام إلى طريقة جديدة في الحرب، أتى بالمنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا عليه من بعض الحصون اليهودية السابقة، يقال: كان في حصن الصعب بن معاذ، فنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق وبدأ يقصف الحصن بقذائف من بعد، حتى أحدث خللاً في بعض الجدران لهذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن ودار قتال من أعنف أنواع القتال في داخل الحصن، وكتب الله عز وجل النصر للمسلمين، وفتح الحصن العظيم حصن النزار، وهرب منه بقية اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى التي اسمها الكتيبة، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء.
ففتح خيبر ليس مجرد لقاء عابر، وليس مجرد موقعة واحدة، بل هو عبارة عن عدة مواقع متتالية في مكان واحد، حصن وراء حصن، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة؛ لذلك كانت خيبر محفورة في أذهان اليهود، ومحفورة في أذهان المسلمين، فهي من أعظم انتصارات المسلمين مطلقاً، وسماها ربنا في كتابه الكريم فتحاً: وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] أي: فتح خيبر.
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منطقة الكتيبة وحاصر أول حصن الذي هو حصن القموص، واستمر الحصار أربعة عشر يوماً متصلة، واختلف الرواة فيما حدث في هذا الحصن، هل دار قتال بعد هذا الحصار، أم أنهم سلموا بدون قتال؟
الثابت أن الحصنين الآخرين اللذين هما حصن الوطيح وحصن السلالم سُلِّما دون قتال، لكن المختلف فيه هو حصن القموص، لكن سواء دار قتال أو لم يدر قتال، فقد طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا على الصلح، وقاموا بعمل المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل صلى الله عليه وسلم أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للمفاوضة هو كنانة بن أبي الحقيق ، فدار بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حوار طويل خلاصته أن المفاوضات في صالح المسلمين (100%)، فقد صالح اليهود على حقن دماء كل من في الحصون من المقاتلة والذرية والنساء، على أن يتركوا الديار والثياب والأموال والذهب والفضة وكل شيء، فسيخرجون في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقاً، والحقيقة أنه كان انتصاراً مهولاً بالنسبة للمسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعاهدة شرط عليهم شرطاً هاماً جداً، قال: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم إن كتمتموني شيئاً) يعني: لو أخفى اليهود شيئاً من الأموال أو من الذهب والفضة، فإنه يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاقبهم؛ بسبب إخفائهم للمال أو للذهب أو الفضة.
وقبل اليهود بذلك الشرط، وبدءوا في الخروج من خيبر.
وكل الغربيين الذين حللوا موقعة خيبر يقولون: إن هذا من الظلم لليهود، وهذا من الشر في الحروب، وهذا من التجاوز في المعاملة!
نقول: هذه طبيعة الحروب، وكان اليهود حريصين تمام الحرص على قتل المسلمين، والناظر إلى تاريخ الحروب في الأرض يجد أن حروب الرسول عليه الصلاة والسلام هي من أرحم الحروب مطلقاً في تاريخ الإنسانية، ولو نظرتم إلى حال الإنجليز والفرنسيين في الحروب، وإلى حال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فخسائر ألمانيا في الحرب العالمية الثانية (20) مليون قتيل، منهم (850) ألفاً من الجنود، يعني: أقل من مليون من الجنود، و(19) مليوناً من المدنيين قتلوا في الحروب، بينما في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتل مدني أبداً، بل كان يأمر الناس أن (اغزوا في سبيل لله، على بركة الله، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا منعزلاً في صومعة) ولا أي إنسان لم يقاتل المسلمين، وكان يفرق صلى الله عليه وسلم بين الكافر الذي يقاتل المسلمين، والكافر الذي لا يقاتل المسلمين، بل أمر الله عز وجل أن يبلغ الكافر الذي لا يقاتل المسلمين مأمنه، ويعلم الدين، فالأمر ليس على إطلاقه أننا نحارب كل الكفار ونقتل كل الكفار، بل نقاتل من قتل المسلمين أو وقف أمام نشر الدين، فهذا أمر لا بد أن نضعه في حساباتنا عند تحليل غزوة خيبر وفتح خيبر، فقد كان فيها رحمة كبيرة، وبرغم الهزيمة القاسية التي وقعت على اليهود؛ إلا أنه لم يقتل من اليهود غير ثلاثة وتسعين مقاتلاً، واستشهد من المسلمين ستة عشر إلى ثمانية مجاهداً حسب اختلاف الروايات.
ثم إن اليهود بعد قرار المعاهدة وقرار الخروج من خيبر قدموا عرضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: (يا محمد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم).
وقد كانت أراضيها كبيرة جداً، والصحابة لم يكن لهم علم كبير بالزراعة، وهي بعيدة عن المدينة المنورة، واليهود يستطيعون أن يصلحوا هذه الأراضي ويخرجوا منها الثمار، فقالوا: دعنا نقوم على إصلاح هذه الأراضي، ثم نقيم معاهدة بيننا وبينك على اقتسام هذا الثمار، فوجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا العرض عرض مناسب للمسلمين، فأقر اليهود على أن يعطيهم الشطر من كل زرع ومن كل ثمرة، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم في خيبر، فإذا أمر صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام دون تحديد في هذه المعاهدة بخروج اليهود من خيبر فعليهم أن يخرجوا، وهو ما تم بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب كما يعلم الجميع.
انتهت المعركة بهذا الأمر، وبدأ عليه الصلاة والسلام يقسم غنائم خيبر الكثيرة جداً على المسلمين غير الزراعة، كان هناك سلاح، وكان هناك أموال، فهذه الغنائم كانت كثيرة، حتى إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول -كما روى البخاري-: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها -كما جاء في البخاري-: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
وكان من بنود المعاهدة أن من كتم مالاً من اليهود عن المسلمين برئت منه ذمة الله عز وجل وذمة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يقتل لإخفائه ذلك المال.
فاكتشف الرسول عليه الصلاة والسلام أن كنانة بن أبي الحقيق أخفى مالاً، ذكر له ذلك أحد اليهود، فأتى بـكنانة بن أبي الحقيق ، وبدأ باستجوابه فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل أخفيت مالاً؟! فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم)، فأمر صلى الله عليه وسلم بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عين مكاناً معيناً، قال: إن كنانة قد أخفى في هذا المكان شيئاً، فبحثوا في ذلك المكان فوجدوا كنزاً كبيراً من المال، وقتل كنانة بن أبي الحقيق نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسبيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق ، وكانت امرأة كنانة هي صفية بنت حيي بن أخطب ، وكما نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد ذلك وأصبحت من أمهات المؤمنين.
بداية الأمر أن السيدة صفية أخذت في السبي وكانت مع أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فأتى أحد الصحابة إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذه بنت ملك، ولاينبغي أن تكون إلا لك، فأخذها صلى الله عليه وسلم.
وفي زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية حكم، من هذه الحكم أنه رفع درجة السيدة صفية ، فهي بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعماء اليهود، فلا يليق أن تعطى لأي إنسان من المسلمين، فرفع من قدرها وعظم من شأنها، وتزوجها صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلنت إسلامها.
ثم إن هذا الزواج فيه استمالة لقلوب اليهود، فعندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية نبي هذه الأمة علاقة مصاهرة؛ فإن هذه العلاقة قد ترقق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام.
ثم إن هذا سيمنع الخلاف بين الصحابة؛ لأن أحد الصحابة -كما ذكرنا- جاء إليه وقال: أعطيت دحية الكلبي هذه، فقد ينظر بعض الصحابة إلى أنه أعطى أحد الصحابة شيئاً قد يناسب غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكانت هذه بداية خير كبير للسيدة صفية ، فقد أصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وروت الكثير والكثير عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه كانت غزوة خيبر.
لم يكتف اليهود بذلك، بل استمروا في المؤامرات وفي الكيد وفي الدس، حتى إنهم فكروا في قتل الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يغادر خيبر.
وكلنا نعرف قصة الشاة المسمومة، ونحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذه الشاة، لنرى رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذا الأمر، حيث اجتمع اليهود على محاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام بعد انتصار المسلمين في خيبر، وقصة الشاة المسمومة ليست تفكيراً من امرأة واحدة كما تروي بعض الروايات، بل كان بتدبير من كل اليهود، والروايات كلها صحيحة، ولا بد من الجمع بينها كما سنذكر.
هذه رواية في صحيح البخاري تقول: (إن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها صلى الله عليه وسلم، فجيء بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسألها عن ذلك؟ قالت: أردت قتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك).
وفي بعض الروايات أن هذه المرأة هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم الذي قتله المسلمون قبل ذلك، فأرادت أن تنتقم لزوجها القتيل، ولقومها بصفة عامة.
وهناك رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً وفي صحيح مسلم كذلك، يروي هذه الرواية أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من هاهنا من اليهود، فجمعوا له اليهود، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم، يا أبا القاسم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان) ذكروا رجلاً معيناً، فذكر لهم خلافه. (فقالوا: صدقت وبررت).
بهذا السؤال أثبت الرسول عليه الصلاة والسلام لهم أنه يستطيع أن يكتشف الكذب الذي يكذبونه بواسطة الوحي، فسألهم سؤالاً آخر، وقال: (هل أنتم صادقوني عن شيء إن أنا سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها) يعني: يمكث اليهود فيها قليلاً ثم يدخل المسلمون فيها إلى الأبد، هذا كلام اليهود.
فقال صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً، فقال لهم بعد ذلك: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم.) يعني: أن اليهود اجتمعوا على جعل السم في الشاة ليقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتهديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذاباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لن يضرك).
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد اعتراف اليهود اعترافاً صريحاً جازماً بأنهم دبروا محاولة لقتله عفا عنهم جميعاً.
فهذه من أبلغ مواطن الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم، وعفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسئل مباشرة صلى الله عليه وسلم: (ألا تقتلها؟ قال: لا) ولم يقتل المرأة.
ثم إن أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -وهو بشر بن البراء بن معرور- أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أكله من الشاة المسمومة، وكما هو مشهور أن الشاة المسمومة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل مني فإني مسمومة)، فالرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الشاة وأمر الصحابة ألا يأكلوا، لكن هذا الصحابي بشر بن البراء كان قد ابتلع قطعة من اللحم من هذه الشاة المسمومة فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على المرأة التي قدمت الشاة فقتلها به.
يعني: من كل أرض خيبر لم تقتل إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلاً من المسلمين بالشاة المسمومة، وإذا قارنا هذه المعركة العظيمة بكل معارك الأرض، كما ذكرنا أن ألمانيا قتل منها (20) مليوناً منهم، (19) مليون مدني، وهذا تكرر في معظم المعارك الأخرى، ففي (ناجازاكي) و(هيروشيما) قتل ربع مليون وكلهم من المدنيين، رجال ونساء وأطفال، فشتان بين حروب المسلمين وبين حروب غير المسلمين.
من الأشياء الهامة جداً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر غنم مجموعة من صحائف التوراة، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنها محرفة تمام التحريف، وأنه قد أزيلت منها البشارات التي تبشر به صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اعتدي فيها كثيراً على حرمات الله عز وجل، إلا أنه سلم هذه الصحائف كاملة لليهود عندما طلبوها منه، ولم يحرقها، وسمح لهم بالمعتقد الذي يعتقدونه، وهو يعلم أنه معتقد فاسد، وهذا من سعة الصدر عند المؤمنين، قال الله عز وجل في كتابه: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، وهذه القصة واردة وثابتة وشهد بها حتى المستشرقون الذين حللوا سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وذكروا أن المسلمين يسمحون للآخرين بالاعتقاد الذي يعتقدونه.
كذلك يهود وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا أيضاً بنفس الصلح.
وكذلك يهود تيماء، وبذلك حيد جانب اليهود تماماً في الجزيرة العربية.
فعاد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر، أو أوائل ربيع الأول سنة سبع، يعني: بقي أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع صلى الله عليه وسلم أنه سيبقى وقتاً طويلاً هناك.
فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد تخلص نهائياً من خطر اليهود، فإذا أضفنا إلى هذا التخلص ما حدث في صلح الحديبية مع قريش فسنجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق من قوى الجزيرة إلا قوة غطفان، وإن وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا، لكنها تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادة وتصرف حكيم سريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترى ماذا فعل صلى الله عليه وسلم مع غطفان؟ وماذا كان موقف الجزيرة العربية بعد هذا الفتح العظيم، فتح خيبر؟ وما هي الآثار الضخمة لصلح الحديبية التي بدأ المسلمون في جنيها في العام السابع من الهجرة؟ وما هي عمرة القضاء التي اتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش على أن تكون بعد عام من صلح الحديبية؟
هذه الأحداث وغيرها سنتحدث عنها في درسنا القادم.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر