أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين.
حديثنا اليوم عن حدث من أعظم الأحداث في تاريخ الأرض مطلقاً، وهذا الحدث يعتبر لحظة فارقة فرق بين مرحلة ومرحلة أخرى مختلفة تماماً عن المرحلة التي سبقت، وله تداعيات كبيرة جداً، ليس فقط في الجزيرة العربية ولكن في العالم، وليس فقط في زمانه ولكن إلى زماننا الآن.
هذا الحدث العظيم الكبير: هو فتح مكة.
ولا شك أن هناك أحداثاً كثيرة جداً قادت إلى هذا الفتح العظيم، ومقدمات طويلة، وستكون -إن شاء الله- هذه المقدمات هي موضوع درس اليوم.
لكن قبل أن نبدأ في هذه التفصيلات نريد أن نكمل نقطة هامة تحدثنا عنها في الدرس السابق ولم نتناولها بالشرح والتفصيل.
هذه النقطة: هي أنه في بداية العام الثامن من الهجرة حدثت مشكلتان كبيرتان للأمة الإسلامية:
المشكلة الأولى: هي قتل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه وأرضاه سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظيم بصرى، والذي قتله شرحبيل بن عمرو الغساني .
وهذه المشكلة كان من جرائها أن أخرج صلى الله عليه وسلم جيشاً كبيراً، وهو الجيش الذي دخل في معركة مؤتة بقيادة الأمراء الثلاثة: زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة كما فصّلنا في الدرس السابق، وكان من ورائه النصر العظيم الذي تم في موقعة مؤتة، وبذلك تقريباً انتهت مشكلة قتل الحارث بن عمير ، واستعادت الأمة الإسلامية هيبتها إلى حد كبير، ذاع صيتها ليس فقط في أرض مؤتة ولكن في الجزيرة بكاملها.
المشكلة الثانية: حدثت هذه المشكلة في وقت متزامن مع مقتل الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وهي مشكلة اعتداء قبائل قضاعة على مجموعة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا (15) رجلاً من الصحابة، وقتلوا منهم (14) رجلاً، وعاد رجل واحد منهم إلى المدينة المنورة وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاصيل الخيانة التي قامت بها قضاعة مع صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف وقفة جادة مع قبيلة قضاعة؛ لكي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية.
وبالفعل قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث جيشاً كبيراً إلى مناطق قضاعة، وكان هذا بمجرد عودة الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة، ومؤتة وقعت في جمادى الأولى سنة (8) هـ والرسول عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة سنة (8) هـ بعث الجيش الثاني إلى قبائل قضاعة.
والمنطقة التي تعيش فيها قضاعة كان اسمها السلاسل، وهي عبارة عن ماء أو عين أو بئر اسمه السلاسل، وسميت المنطقة بكاملها بذات السلاسل، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة ذات السلاسل.
من سيختار النبي صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش الهام الذي سيخرج لحرب قبيلة كبيرة قوية وهي قبيلة قضاعة، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة شمال الجزيرة العربية، وليس لها مدد، ولها ظروف صعبة كظروف موقعة مؤتة؟
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش شخصية قد يعجز الكثيرون عن اختيارها، وعندما تأتي لتحلل هذا الاختيار ستجد أنه اختيار في منتهى الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وعمرو بن العاص لم يكن قد مر على إسلامه إلا شهور قليلة جداً، فقد أسلم في صفر سنة (8) هـ، لم يمر على إسلامه سوى ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم اختير ليكون قائداً للجيش الهام في حرب عظيمة للمسلمين.
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لتأليف قلبه؛ لأن عمرو بن العاص شخصية محورية جداً في مكة المكرمة، وانضمامه إلى المعسكر المسلم وإلى جيش المدينة المنورة يعتبر إضافة كبيرة جداً لا بد أن يحافظ عليها المسلمون قدر المستطاع, وعمرو بن العاص له تاريخ طويل جداً في العداء مع المسلمين، من أوائل أيام مكة، ومروراً بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين من هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك في مراحل متعددة من القتال التي دارت مع المسلمين، وعمرو بن العاص في ذلك الوقت شخصية ليست فقط كبيرة في المقام، ولكن أيضاً كبيرة في السن، فقد كان عمره وقت إسلامه (57) سنة، أي: أنها شخصية من كبار قادة قريش ومن دهاة العرب، فلا بد أن يُحفظ له مكانه في داخل الدولة الإسلامية؛ لكي يستمر في المسيرة معها.
ورأينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظّم من قدر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما استلم القيادة في غزوة مؤتة، وسماه سيف الله المسلول، ورُفع قدره جداً في الدولة الإسلامية، ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل موقعة مؤتة، وله دور وضع في الدولة الإسلامية، والناس بصفة عامة تنظر إليه على أنه قد حقق نصراً مهيباً، وأصبحت له مكانة جميلة تثبت أقدامه إن شاء الله.
كذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، يعطيه قيادة جيش فيحقق انتصاراً فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثم تثبت أقدامه، ليس هذا فقط، فإن هناك شيئاً مهماً جداً يعبر عن مدى عمق النظرة للرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن أم عمرو بن العاص من قبيلة قضاعة، وذهاب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وأمه من نفس القبيلة يُعطي بعداً هاماً جداً في القتال، فقد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وهم عندما يجدون على رأس الجيش الذي أتى أن أمه منهم قد يحدث بينهم حوار ومفاوضات للقبول بفكرة الإسلام، ولا يأخذهم الكبر والعناد والفجور في الخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كان دائماً يقرب قلوب الناس للإسلام، وكان إسلام الناس أحب إليه من أموالهم.
وأيضاً كون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من قضاعة فمن المؤكد أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو أعرف بديار قضاعة ومساكن قضاعة، والطرق والدروب التي تؤدي إلى هناك أكثر من بقية الصحابة.
فاختياره عسكرياً؛ لأنه عبقرية عسكرية، وقيادة فذة، واختياره دعوياً مهم جداً؛ لأنه سوف يؤلّف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي نفس الوقت هو أعلم بالطريق من غيره.
إذاً: كل هذه الأمور تجعل اختيار عمرو بن العاص لهذه المهمة خاصة في منتهى الحكمة.
روى ابن حبان والحاكم وأحمد بسند صحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة فأرسل إليه ثم قال له: (خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، قال
فليست هذه فقط هي المنقبة، ولكن ما سيقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو منقبة عظيمة جداً لـعمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
وبالفعل أُمر على الجيش، وخرج الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه يترأس (300) من الصحابة من الأنصار والمهاجرين.
ولابد أن نقف وقفة مع عظمة الصحابة رضي الله عنهم في قبولهم لقيادة هذا البطل الإسلامي الجديد، ليس له إلا أربعة أشهر فقط في الإسلام، ومع ذلك يقود جيشاً من المهاجرين والأنصار لهم تاريخ طويل في الإسلام، بعضهم وصل تاريخه في الإسلام إلى (20) سنة متصلة، مع ذلك يقبل أن يترأس عليه في هذا الجيش من كان عمره في الإسلام أربعة شهور فقط.
وخرج الجيش الإسلامي وسنجد صورة مصغرة من موقعة مؤتة، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يحقق لـعمرو بن العاص ما حقق لـخالد بن الوليد قبل ذلك لتثبت أقدامهما في الإسلام.
خرج عمرو بن العاص بالجيش ومن أول لحظات الخروج ظهرت عبقريته رضي الله عنه في الحروب، من أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهاراً، حتى لا ترصده عيون العدو إن كانت على الطريق.
وبالفعل وصل جيشه دون أن تدري عيون قضاعة أنه قد جاء إليهم، وبدأ أيضاً بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر يبث العيون هنا وهناك، حتى يستطلع أعداد العدو، فوجد أن أعداد العدو كبيرة، وعلم رضي الله عنه وأرضاه أن طاقته هذه الصغيرة ستكون غير قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة، وفي الحقيقة كان عمرو بن العاص في منتهى الواقعية، وما كان يندفع أبداً بجيشه إلا بعد دراسة متأنية، ولم يكن متهوراً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، وسنجد هذا الكلام كثيراً جداً في فتوح عمرو بن العاص في فلسطين وفي مصر، ما كان يندفع إلا بدراسة حقيقية للواقع الذي هو مقبل عليه.
وجد رضي الله عنه أن أعداد قضاعة كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أنني أحتاج إلى مدد، وأمر الجيش الإسلامي ألا يقاتل حتى يأتيه المدد، وبالفعل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه (200) من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، على رأس هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وله تاريخ طويل جداً مع المسلمين، وتحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح عدد كبير جداً من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكفى بهما، ومعظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى الراقي جداً، قدم في الخبرة والتاريخ والإسلام وسبق في أشياء كثيرة جداً، فهؤلاء كانوا مدداً لـعمرو بن العاص رضي الله عنه.
فعندما وصلوا إلى هناك انضم المائتان إلى الثلاثمائة وأصبح الجيش كله (500)، لكن من هو أمير هذا الجيش؟
عندما أرادوا أن يصلوا الفريضة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤم الناس، وكان من المعروف أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه اعتبر أنه هو الأمير؛ لأنه جاء على رأس (200) من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم، وفيهم أبو بكر وعمر ، فتقدم أبو عبيدة ليؤم الصفوف، ولكن عمرو بن العاص تقدم وقال: إنما قدمت عليّ مدداً لي، وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليّ مدداً، وعمرو بن العاص لا يزال حديث عهد بالإسلام، لكنه كما ذكرنا كان كبيراً في السن عمره (57) سنة، أي: أنه أكبر من أبي عبيدة بن الجراح بعشر سنوات كاملة تقريباً، وله تاريخ عسكري معروف، ومن فرسان قريش ومن دهاة العرب، وأيضاً أبو عبيدة بن الجراح له مكانة كبيرة جداً عند الصحابة، وتاريخ طويل جداً كما ذكرنا، لكن عمرو بن العاص رأى أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه فقط عسكرياً وعبقرياً في إدارة الجيوش وما إلى ذلك؛ ولكن لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وضعه على إمارة الجيش الأصلي، فله حجة، وعادة الصحابة أنهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، ومن الواضح أنه لا يزال جديداً في الإسلام، فعرض هذا الكلام فقال: المهاجرون، والمهاجرون كانوا يميلون إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وأبو عبيدة رجل حيي جداً فاستحى أن يتكلم عن نفسه، فتكلم المهاجرون فقالوا: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه.
يعني: إذا كنا سنختلف في الأمير، فيكون عمرو بن العاص أمير الثلاثمائة الأوائل، وأبو عبيدة بن الجراح أمير المائتين الذين أتوا مدداً، لكن لا ينبغي أن يكون للجيش الواحد قائدان.
فقال عمرو : لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان أبو عبيدة لين الطبع جداً، فخاطب عمرو بن العاص وقال له كلمات جميلة جداً تعبّر عن عمق فهم أبي عبيدة بن الجراح لقضية الإمارة في الإسلام، قال له: (لتطمئن يا
هذه صورة حضارية رائعة في تاريخ المسلمين، ومظهر من مظاهر الوحدة، ومن أبلغ أسباب النصر، فالجميع يعمل في سبيل الله لا يتهافت أحدهم على الإمارة.
ولا بد أن نقف وقفة مع موقف عمرو بن العاص رضي الله عنه، وفي الحقيقة أنا أرى أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لم يخطئ في هذا الحدث، وعنده حجة شرعية قوية جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه وأمّره على هذا الجيش، وأخبره أنه يريد أن يسلمه الله عز وجل وأن يغنمه، أي: أن هناك أمراً واضحاً يفسر لـعمرو بن العاص ولغيره من الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختاره لإمارة هذا الجيش، وأبو عبيدة جاء بمائتين من الصحابة، ولم يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة أنه الأمير على الجيوش، فمفهوم ذلك أنه جاء مدداً لـعمرو بن العاص ، وعمرو بن العاص ليس بالعقلية العسكرية البسيطة السهلة التي يؤمها غيرها، فهو قائد ورجل عسكري وعبقري، ويشهد له الجميع من المسلمين وغير المسلمين أن له كفاءة عسكرية لافتة للنظر في الجزيرة العربية، فموقف عمرو بن العاص موقف سليم.
وتولى عمرو بن العاص قيادة (500) من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وظهرت عبقريته في أكثر من خطوة، منها: أنهم أرادوا رضي الله عنهم أن يوقدوا النار لغرض التدفئة وكانت ليلة شديدة البرد، وطلبوا من عمرو بن العاص هذا الأمر فرفض رضي الله عنه، قال لهم: لا توقدوا النار، فذهب الصحابة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليتوسط عند عمرو بن العاص لإيقاد النار، فذهب أبو بكر الصديق وكلم عمرو بن العاص في إيقاد النار، فقال عمرو بن العاص بمنتهى الحزم: لا يوقد أحد منكم ناراً إلا قذفته فيها، منع كل الناس أن يقوموا بإيقاد النار، حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد تحادث في ذلك الأمر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال أبو بكر الصديق في منتهى اليقين: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمّره على الجيش وهو أعلم.. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بحكمته وبقدرته على إدارة الجيش، وما علينا إلا أن نسمع ونطيع ولو لم ندر ما هي الحكمة من وراء الأمر.
وحكمة عمرو بن العاص رضي الله عنه في ذلك الأمر كانت واضحة، والصحابة عندما عادوا إلى المدينة المنورة اشتكوا عمراً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك وقال: (لماذا فعلت ذلك؟ قال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم)، أي: أن الصحابة جميعهم (500)، وقبائل قضاعة أعداد ضخمة جداً، فلو أشعلوا النار وهناك أحد العيون يرقب جيش المؤمنين سوف يعلمون أن عددهم (500) فيسهل عليهم قتالهم، فلذلك منع رضي الله عنه الصحابة من إيقاد النار، وهذا فعل في منتهى الحكمة.
وبعد أن التقى الصحابة رضي الله عنهم في معركة هائلة مع قضاعة، واستطاع عمرو بن العاص بخطة عسكرية بارعة أن يحقق نصراً هائلاً على قبائل قضاعة، وتتكرر من جديد صورة مصغّرة لغزوة مؤتة، فقد حقق انتصاراً كبيراً جداً بعدد قليل جداً من الرجال على مجموعة ضخمة من رجال قضاعة.
وبعد هذا الانتصار فرت قبائل قضاعة هنا وهناك، فتحمس الصحابة رضي الله عنهم جداً لهذا الأمر وأرادوا أن يتابعوا جيش قضاعة هنا وهناك، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه أمرهم ألا يتّبعوا جيش قضاعة الفار، فلم يستطع الصحابة أيضاً أن يخرجوا عن أمر عمرو بن العاص ، لكنهم ترددوا في ذلك الأمر واحتاروا، لماذا يمنعهم عمرو بن العاص رضي الله عنه؟ ولم يقتنعوا برأيه، فلما عادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتكوا له، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص عن ذلك الأمر؟ فقال: (يا رسول الله كرهت أن يتّبعوهم فيكون لهم مدد)، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع منه هذه الكلمات استحسن ذلك منه وأقره.
أيضاً هناك مشكلة أخرى وقعت وهي أن عمرو بن العاص رضي الله عنه احتلم في ليلة من ليالي غزوة ذات السلاسل، وكانت ليلة باردة، فأشفق رضي الله عنه أن يغتسل بالماء البارد في تلك الليلة فتيمم رضي الله عنه وصلى بالناس الصبح، فاستغرب الناس من صلاته بهم في وجود الماء متيمماً! الماء موجود لكن الجو شديد البرودة، فلما ذهب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اشتكوا له ذلك الأمر أيضاً، فقال: (يا
ففي أكثر من مشكلة وخلاف حدث بين عمرو بن العاص وبين الصحابة، مع أن الصحابة رضي الله عنهم فيهم القدامى والسابقين، وفي كل هذه الاختلافات أقر الرسول صلى الله عليه وسلم رأي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهذه من أعظم مناقب عمرو بن العاص رضي الله عنه ورضي عن الصحابة أجمعين.
إذاً: كانت غزوة ذات السلاسل موقعة عظيمة انتصر فيها المسلمون، وازدادت سمعة الدولة الإسلامية هيبة ورهبة في قلوب الناس، وذاع صيتها في كل مكان، ومما لا شك فيه أن كل هذا سيؤدي إلى الأحداث القادمة.
بعد غزوة ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً بصدق وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم إلى مهمة أخرى عظيمة جداً، وهي مهمة السفارة إلى دولة عمان، وكانت عمان دولة مشركة في ذلك الوقت، وكان يحكمها رجل اسمه جيفر وأخوه عباد ، والاثنان كانت لهما سيطرة على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إليهما يدعوهما إلى الإسلام وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية.
وبعد حوار طويل مع جيفر وعباد وبحكمة شديدة وذكاء شديد من عمرو بن العاص رضي الله عنه استطاع أن يقنع عباداً وجيفراً بالإسلام وبالفعل أسلما، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عمان بكاملها في دولة المسلمين، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بجعل عمرو بن العاص سفيراً منه إلى جيفر وعباد ، بل عينه جامعاً للزكاة هناك، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في بلاد عمان، مع تثبيت جيفر وعباد على زعامة البلاد، يعني: وثق الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرو رضي الله عنه، وجعله جامعاً للزكاة من تلك البلاد، ولم يكن من السهل أبداً أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بولاية إنسان إلا إذا اطمأن تماماً إلى دينه وإلى كفاءته رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
فهذه هي قصة عمرو بن العاص في بداية إسلامه.
إذاً: كان الوضع الإسلامي في أوائل رجب سنة (8) هـ في غاية الاستقرار، وفي رهبة وهيبة، وفي انتصارات متكررة، وفي صورة جديدة جداً لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.
هذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة، وستبدأ الآن فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي كما ذكرت في أول هذه المحاضرة مقدمات فتح مكة.
عندما نأتي لنتكلم عن فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة يعتبر لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحاً، فانتصار المسلمين على أهل خيبر كان فتحاً، وعلى الرومان في مؤتة كان فتحاً، وعلى المشركين في بدر كان فتحاً، فكل هذه كانت فتوحات من رب العالمين، لكن إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، وهو أمر ليس بعده شيء آخر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) يعني: قبل الفتح يمكن للناس أن تهاجر إلى المدينة المنورة، وبعد الفتح انتهت الهجرة، ولكن جهاد ونية، يقول الله سبحانه وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] أي: أن ما كان قبل الفتح شيء وما كان بعد الفتح شيء، فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر.
ما معنى الفتح؟
معناه: التمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى، ومعناه: النصر والسيادة والعلو في الأرض.
أنا أريد أن أستغل هذا الحدث لأتكلم معكم عن بعض سنن التغيير وسنن النصر والتمكين في الأرض، وجميعها سنستخلصها من فتح مكة.
السنَّةُ الأولى: هو أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده، وانظروا مرت (21) سنة من أصل (23) سنة من عمر البعثة بكاملها واللات والعزى ومناة وهبل تعبد من دون الله عز وجل في داخل مكة المكرمة.
البعض كان يتمنى ويقول: يا ليت مكة فُتحت مبكراً، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم الدولة الإسلامية الواسعة فترة طويلة من الزمان؛ لنرى فعله وحكمه وأثره صلى الله عليه وسلم على العالمين وهو ممكن في الأرض، لكن لو حدث هذا فقد تكون مخالفة للسنة الإلهية، فهذا لا يكون أبداً: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].
فرب العالمين سبحانه كان قادراً أن يفتح مكة من أول لحظات الدعوة، وأن يجعل أهل مكة جميعاً مؤمنين من أول لحظات الدعوة، وعلى الأقل بعد سنة أو سنتين من بناء الدولة في المدينة المنورة، لكن هذا الانتظار الطويل؛ لكي نعلم جميعاً أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده.
وهذا الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى محاضرة خاصة، إن شاء الله سنفرد له محاضرة بعنوان: استعجال النصر، وسنتكلم فيها عن مشكلة العجلة التي عند المسلمين في رؤية التمكين والسيادة لدين الله عز وجل في الأرض.
وتغيير المنكر يحتاج إلى وقت وإلى حكمة ويحتاج إلى تدرج، وهكذا رأينا في السيرة النبوية، وهذه أول سنة من السنن الثوابت.
السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، أي: أنه لو راود المسلمين حلم أن يفتحوا مكة كيف سيفكّرون في هذا الأمر؟
من المؤكد أنهم سيضعون سيناريو لهذا الأمر، ولو وضع المسلمون ألف سيناريو للتغيير ولفتح مكة سيأتي التغيير بالسيناريو رقم (1001).
أي: أن هناك سيناريوهات متوقعة لكي نفتح مكة، مثلاً: أن تخالف قريش عن طريق غزوها المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو تحاول قريش قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تتعدى قريش على قافلة إسلامية، أو تنتهي السنوات العشر سنوات الهدنة فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة..!
فهناك افتراضات كثيرة جداً، لكن لم يحدث الفتح بأي أمر من هذه الأمور، ولا بأي شيء خطر على ذهن أي مسلم، لكن حصل شيء غريب جداً وهو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى فتم الفتح للمؤمنين، سبحان الله ما علاقة هذا بهذا؟!
إذاً: هذا الذي حصل فعلاً في فتح مكة، ولنأتي لنراجع الأحداث:
في صلح الحديبية كان من بنود الصلح البند الثالث في الصلح هو: أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين انضمت، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش انضمت، فبعد انتهاء المعاهدة دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهذا الدخول لهاتين القبيلتين في قضية المعاهدة هو الذي كان سبباً في فتح مكة المكرمة، أي: أن القضية كانت بين المسلمين وبين قريش، فخزاعة وبنو بكر ليس لهما أي دخل في القضية، ومع ذلك دخولهما في الحلف المعاهدة هو الذي سيؤدي للفتح كما سنرى.
ودخول خزاعة في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام أمر يحتاج إلى وقفة؛ لأن الله سبحانه وتعالى دفع خزاعة دفعاً للدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وخزاعة قبيلة مشركة، نعم هناك علاقات قديمة حميمة بين خزاعة وبين بني هاشم، لكن كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف المشركين من بني هاشم، وليس في حلف المسلمين من بني هاشم؛ لأن خزاعة مشركة دينها كدين قريش، فلماذا تترك بني هاشم المشركة وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هذا أمر عجيب فعلاً! وهذا الدخول العجيب لخزاعة مع حلف المسلمين هو الذي سيؤدي بعد ذلك إلى نتائج كبيرة جداً منها فتح مكة.
وعندما نراجع قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة نجد أن قبيلة بني بكر وقبيلة خزاعة كان بينهما ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر إلى الدخول في حلف قريش، فعندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين دخلت بنو بكر في الحلف المعاكس؛ لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل ما يكون، بدليل أن قريشاً عندما خرجت من مكة المكرمة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة المكرمة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك يقول لهم: إني جار لكم من كنانة، وكنانة تشمل بني بكر، فالقصة معقدة جداً، وأحداث القصة فعلاً لا يمكن أن تفسر إلا أن الله عز وجل أراد لها أن تتم على هذه الصورة.
ومع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وهذا سيؤدي إلى شيء معين كما سنرى.
وبنو بكر التي نتحدث عنها ليست قبيلة بني بكر بن وائل المشهورة؛ لأن بني بكر بن وائل هذه هي قبيلة من قبائل ربيعة، بينما بنو بكر التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهي من مضر.
وكان بين بني بكر وبين خزاعة خلاف قديم جداً وثأر طويل، وهناك ضحايا قتلتهم خزاعة من بني بكر، وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة، فأرادت أن تنتقم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة وقتلت منهم رجالاً بعد صلح الحديبية، ومعلوم بعد المعاهدة أن من أغار على خزاعة فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة هذا نقض صريح لمعاهدة صلح الحديبية التي بينها وبين المسلمين.
ولو أن بني بكر أغارت على خزاعة قبل الحديبية لما أحدث ذلك أي نفع للمسلمين؛ لأن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى ولا دخل للمسلمين، ولو أن هذا الأمر حدث بعد الحديبية مباشرة لعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو فتحها، ولو ضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف لما مُهّد الطريق للفتح، ولو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر واعتذرت للمسلمين لكان الموقف قابلاً للحل السلمي، ولكنَّ قريشاً أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهور عجيب.
ولعل الموقف هذا لو تكرر ألف مرة مع قريش لن تأخذ هذا الرأي، ولن تعمل هذا العمل، لكنها مدفوعة لذلك من رب العالمين سبحانه وتعالى، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16].
فهجمت بنو بكر على خزاعة، وخزاعة غير مستعدة للقتال؛ لأن صلح الحديبية فيه هدنة والحرب موضوعة، لكن الخيانة متوقعة من المشركين.
فعندما هجمت بنو بكر على خزاعة وقتلت من خزاعة رجالاً كثيرين، وخزاعة غير مستعدة للقتال، فما كان من خزاعة إلا أن تهرب إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي، ومساكن خزاعة في شمال مكة المكرمة قريبة جداً من الحرم، فبدأت قبيلة خزاعة تهرب رجالاً ونساءً وصبياناً إلى مكة المكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم وبنو بكر تطاردها بالسلاح، وكان هذا الموقف كي يزيد تعقيد القضية؛ لأنه لو تمت المعركة في خارج الحرم لأمكن قريش أن تقول: لم نر شيئاً، وقد تزعم أن ذلك حدث رغماً عن أنفها، لكن كون بني بكر وخزاعة تدخلان الحرم ليتم القتال في داخله، ومع أن قريشاً دائماً تحمي الحجاج وتحمي المعتمرين، وتفتخر على العرب أنها حامية الحرم وموفرة للأمان فيه، إلا أن قريشاً في تهور عجيب لم تكتف بالمراقبة، بل أعانت بني بكر بالسلاح لقتل خزاعة، والكلام هذا غير مبرر؛ لأن خزاعة ليس بينها وبين قريش مشاكل، ولا توجد أي علاقة للمسلمين بالقضية، فتصرف قريش يعتبر تصرفاً غير سليم، لكن هذا يدل على أن الخيانة متوقعة من المشركين، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، وهذا الذي رأيناه بالفعل، وهذه الخيانة تحدث منهم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وفياً تمام الوفاء معهم، حتى إن من جاء المدينة المنورة مؤمناً من مكة المكرمة رده الرسول عليه الصلاة والسلام مرة ثانية إلى قريش؛ ليطبق بنود المعاهدة، ورأينا ذلك عندما أعاد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بصير إلى مكة المكرمة مع خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير ، لكن الوفاء بالمعاهدة، ولم تفعل ذلك بنو بكر ولم تفعل ذلك قريش وخانت.
والمشكلة الكبيرة أيضاً هي أن بني بكر تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر والجميع يقبل، وتم القتال داخل مكة البلد الحرام، وهذا أمر خطير جداً، وكان على قريش أن تؤمن كل زائري هذه المنطقة، وهذا كان عُرف قريش وعُرف الجزيرة العربية، وعُرف كل القبائل، وقانون عام على الجميع على المسلمين وعلى المشركين.
لكن دخلت بنو بكر إلى داخل مكة المكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، حتى جيش بني بكر نفسه كان مستغرباً من استمرار عملية القتل في داخل الحرم، فنادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر وقالوا: يا نوفل إلهك.. إلهك، يعني: قوانين إلهك، قوانين اللات والعزى وهبل.. وما إلى ذلك لم تشرع القتال في داخل البيت الحرام.
فقال كلمة فاجرة: لا إله اليوم، ثم قال: يا بني بكر أصيبوا ثأركم.
وهذه الكلمات التي تكلم بها في منتهى الخطورة.
ثم قال لهم: فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟
فشجّعهم على استمرار عملية القتل لتحدث الجريمة، وقريش لا تشاهد فقط، بل تساعد على هذا الأمر! وهذا انتهاك صريح للبند الثالث من بنود الحديبية، وكان في الأصل أن هذا البند لا يُكتب أصلاً، لكن كل شيء يجري بقدر.
بعد هذا الأمر قدمت خزاعة المدينة المنورة مسرعة تستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من جاء من خزاعة رجل اسمه عمرو بن سالم ، وأول ما دخل أنشد بعض أبيات الشعر يشرح فيها المأساة التي تعرضت لها خزاعة، وكان مما قال:
يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم وُلداً وكنا والداً ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفاً وجهه تربدا
إلى آخر الأبيات، وفي هذه الأبيات نلاحظ أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، لكن معظم خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعد، والقتلى كان فيهم من المسلمين وكان فيهم من المشركين.
والرسول عليه الصلاة والسلام عندما استمع لهذه الأبيات لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في منتهى الثبات: (نُصرت يا
والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا القرار في منتهى الجدية، ولا شك أن هذا يُعطي ثقة للمتحالفين، ويعرّف الحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، بأني إذا اتفقت معك أن أدافع عنك إذا أصابك مكروه فسوف أدافع عنك، حتى وإن كان هذا الدفاع سيصيبني بأذى كبير.
إذاً: كان هذا موقف عمرو بن سالم ورد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم يأتي بديل بن ورقاء الخزاعي ، والاسم هذا ليس غريباً، فقد مر علينا أيام صلح الحديبية.
أرسلت قريش بديلاً ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين، كان وسيطاً بين قبيلة قريش وبين جيش المسلمين، أي: أن بديل بن ورقاء رجل صديق لقريش، مع أن بديل بن ورقاء من خزاعة إلا أنه كان يعيش في داخل مكة، لكن في هذا الوقت الإصابة إصابة شخصية له؛ لأن قبيلة بديل هي التي أُصيبت في داخل الحرم، فالآن بديل يتجه ليشكو للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر غريب جداً؛ لأن بديلاً في ذلك الوقت كان مشركاً باتفاق، فهو لم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت لا يزال يعيش في داخل مكة المكرمة، ومصالح بديل بكاملها من تجارة وغيرها في داخل مكة المكرمة، بل إن بديلاً كان صديقاً شخصياً لـأبي سفيان الذي هو زعيم مكة المكرمة، ومع ذلك عندما أُصيب في قبيلته ذهب ليشكو عند من لا تضيع عنده الحقوق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يذهب إلى أبي سفيان ويقول له: إن قبيلتك فعلت كذا وكذا، فرد لنا الاعتبار وادفعوا ديات قتلانا، لكنه ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يعلم أنه لن يضيع عنده حق، بل تضيع كل الحقوق عند قريش وعند المشركين.
وعندما ذهب بديل للرسول عليه الصلاة والسلام، كان أقصى أحلام بديل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الدية من قريش، أو أن يقتل من بني بكر ما يوازي من قُتل من خزاعة، لكن لم يكن يخطر على باله أبداً أن الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في فتح مكة، لكنه دُفع إلى هناك ليكون سبباً من الأسباب التي تؤدي إلى فتح مكة.
أمر غريب جداً وعجيب! لكنه يحدث ونراه، ليأتي النصر من حيث لا نحتسب، مع أن بديلاً مشرك ولم يؤمن بالإسلام حتى هذه اللحظة، وهو غير مقتنع بهذا الدين، ولعله يكره تماماً أن تُفتح مكة بالإسلام، لكن قاده رب العالمين سبحانه وتعالى إلى المدينة المنورة ليستغيث بالرسول عليه الصلاة والسلام ليكون سبباً في فتح مكة بالإسلام، موافقة عجيبة جداً، يحدث النصر في النهاية بطريقة لا يحسب حسابها أحد من المسلمين ولا من المشركين.
السنة الثالثة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، بل يأتي من حيث يكرهون.
وهذا غريب جداً، لكنه متكرر حتى صار سنة، فـطالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] فكان يوم الفرقان.
وكره المسلمون تحزب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).
وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية.
وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة.
كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟
رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها.
ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!!
لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟
لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت.
وهذا ليس معناه أننا لا نخطط أبداً، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقاً، لا بد أن تضع ألف خطة جادة لتحقيق النصر؛ لأن النصر سيأتي بالخطة رقم (1001) كما تقدم، أي: يأتي النصر بالخطة التي لم تخططها.
فالألف خطة هذه مطلوبة لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب، ولتكون مستحقاً لرضا رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ثم تستحق نصر الله عز وجل، لكن النصر يأتي بالخطة التي لم تحسب لها حساباً؛ لكي تعود بالفضل في النهاية لله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] النصر نصر الله عز وجل، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2].
كيف سيكون رد المسلمين في حالة رؤيتهم للفتح والنصر؟
وضح لنا سبحانه وتعالى في هذه السورة القصيرة المعجزة سورة النصر أن على المسلمين عند رؤية النصر عمل شيئين:
أولاً: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3] يعني: سبح بحمد ربك الذي نصرك والذي أيدك بقوته، والذي مكّن لك في الأرض.
ثانياً: وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3] يعني: تأتي بالاستغفار بعد النصر والتمكين، لاحتمال أن يكون قد دخل في روعك أنك قد انتصرت بقدرتك وبقوتك وبتخطيطك وبتدبيرك، تقول: أنا فعلت كذا، أنا خططت، وأنا دبّرت!!
فاستغفر من هذا الأمر؛ لأن الله عز وجل هو الذي فعل، وسوف نفهم بعد هذا كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو في حالة شديدة من التواضع؛ لئلا يُفهم أنه قد فعل ذلك بقدرته البشرية، لكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين والنصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له سبحانه وتعالى.
إذاً: يأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدّعي مدع أنه انتصر بقوته، ولكن يُنسب الفضل والنصر لله عز وجل فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
السنة الرابعة: وهذه السنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، لكن التدبر في هذه السنة سيثبت إن شاء الله عكس ذلك.
فالسنة الرابعة أن فترة الإعداد طويلة جداً للدولة الإسلامية؛ لأجل أن نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، لكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة جداً.
فقد كان الإعداد لفتح مكة والتمكين كما في السيرة مدة (21) سنة كاملة، فأول البعثة كان في رمضان قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، والفتح كان في رمضان بعد الهجرة بثمان سنين.
وفترة التمكين سنتان ونصف، من فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حدثت الردة، وانتهى التمكين.
فترة الإعداد (21) سنة من أصل (23) سنة، سنتان ونصف، يعني (89%) من فترة السيرة، ولتكن (90%)، وفترة التمكين (10%) فقط.
ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً.
هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً.
وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة.
هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر.
وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان.
هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟
هذا من أجل سببين رئيسيين:
السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة.
إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان.
السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه.
في زمن التمكين يرى الناس الدولة قوية وممكنة في الأرض، فينضم الجميع إلى هذه الدولة، المقتنع وغير المقتنع بالمبادئ الإسلامية، هذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت، وتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة جداً، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع للتربية كما خضع لها الأولون، وإنما أخذت قسطاً يسيراً جداً من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعاً فيختفي التمكين، وانظر إلى أعداد المسلمين بعد إعداد (19) سنة، فقد كان العدد (1400) مؤمن في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر زاد العدد، وفي فتح مكة بعد أقل من سنتين من الصلح وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف رجل، وبعد فتح مكة بسنة واحدة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، العشرة آلاف الذين أتوا عام الفتح أصبحوا (30000) مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف منهم تقريباً (5000) أو (6000) أسلموا قبل الفتح بشهور وأيام قليلة، وبعد الفتح اجتمع (20000) بعد سنة واحدة، وبعد سنة أخرى من سنة (9) هـ إلى سنة (10) هـ سنرى أن الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وصل عددهم تقريباً مائة وثلاثين ألفاً في بعض التقديرات، يعني: زدنا مائة ألف مسلم في السنة العاشرة من الهجرة النبوية.
هذه أعداد ضخمة جداً التحقت بالدولة الإسلامية وهم في محاضن بعيدة جداً عن المدينة المنورة، وليست هناك الطاقة الكاملة الكافية لتربية هؤلاء، فعندما حصلت أزمة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حصلت ردة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، والردة وقعت عند الذين لم يتربوا، ولا يوجد أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ارتد، بل كلهم ثبت على الإسلام، لكن عموم الناس الذين دخلوا في وقت الفتح ووقت التمكين هؤلاء لم يُعطوا القسط الكافي من التربية، لذلك وقت التمكين عادة ما يكون قصيراً، ووقت الإعداد يكون طويلاً.
هل هذا الكلام محبط؟ هل يمكن أن يقول أحد المسلمين بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نمكن إلا فترة قصيرة فقط؟
الإجابة على هذا السؤال تكون بسؤال آخر:
أقول لك: لماذا تقوم بالإعداد؟ ولماذا تريد التمكين؟ هل التمكين وسيلة أم غاية؟ ألست تريد التمكين لترضي الله عز وجل وتفوز بجنته سبحانه وتعالى؟
إذا علمت أن الله عز وجل يُعطي جنته لمن عمل بغض النظر عن تحقيق النتيجة، وبغض النظر عن أنه حدث تمكين أو لم يحدث تمكين في زمانه، فالله سبحانه وتعالى يعطيه الأجر على قدر العمل بغض النظر عن الزمن الذي وجد فيه، أليس ذلك مريحاً للإنسان ومطمئناً له؟
فأنت مأجور على عملك في فترة الإعداد وعلى عملك في فترة التمكين أيضاً، إذاً: المطلوب منك العمل وليس التمكين، فكم من الأمم ممكنة في الأرض وهي من أهل النار؟
وهذا كثير جداً، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
وفي الجهة الأخرى، كم من غير الممكنين في الأرض وهم من أهل الجنة؟
فهذا مصعب بن عمير مات في غزوة أحد، ومع ذلك هو من أهل الجنة، وكذلك حمزة بن عبد المطلب ، بل إن هناك من مات في الفترة المكية، منهم: سمية أم عمار بن ياسر وياسر رضي الله عنه.. وغيرهم ماتوا في الفترة المكية، كذلك البراء بن معرور وأسعد بن زرارة ماتا قبل بدر ولم يشاهدا أي نصر للدولة الإسلامية، ومع ذلك إن شاء الله هما في أعلى عليين.
فالمهم أنك تشتغل وتعمل لله عز وجل، وليس بالضرورة أن تعمل في زمن التمكين أو قرب زمن التمكين، لكي تسعد بنتائج العمل؛ لأن السعادة الحقيقية بعملك هناك في الجنة، والله عز وجل يختار بحكمته وقدرته اللحظة التي يُمَكَّنُ فيها المسلمون.
فهل العمل في زمن التمكين أكثر فائدة وأعظم نفعاً أم في زمن الإعداد؟
قرأنا قبل قليل قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] يعني: أن العمل في الفترة التي تسبق التمكين أعظم أجراً من العمل في فترة التمكين.
إذاً: من مصلحة المسلمين أن تطول فترة الإعداد، حتى يحصلوا على ثواب أعظم، ومصلحتهم أن يتأخر التمكين، لكن ليس معنى هذا: أننا لا نسعى للتمكين، بل بالعكس نحن مطالبون به، لكن إذا تأخر فلا نحزن ولا نكسل ولا نفتر ولا نقعد، وإنما نوقن أن الله عز وجل أراد بنا الخير، وأراد لنا أن نعمل في زمن ليس فيه فتنة، لعله سبحانه وتعالى يريد أن يثبتنا على الحق، ولعله علم علم إن مُكّن في زماننا أن نُفتن بمال أو بكرسي أو بغيره.
إذاً: السنة الرابعة: أن فترة الإعداد طويلة وفترة التمكين قصيرة، وهذا لا يحبط الناس، بل هو أمر متكرر في كل فترات التاريخ.
وهناك سنن أخرى كثيرة وسنتعرض لها إن شاء الله أثناء الشرح أو في محاضرات أخرى.
ماذا يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام إزاء اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء الخزاعي يستغيثان برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لكي ينجد خزاعة من الأذى والظلم الذي وقع عليها.
هنا حدثت أزمة وهي أزمة نقض العهد، وأزمة احتمال الحرب، وأزمة اهتزاز صورة الدولة الإسلامية إذا لم يكن هناك رد فعل مناسب.
هذه أزمة كبيرة جداً، ولكن كيف نحول الأزمة إلى فرصة.
هذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما تقع عليك مصيبة كبيرة لا يخبرك فقط كيف تخرج من المصيبة، ولكن كيف تحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوّلها إلى مصلحة، وإلى فرصة سانحة تحقق من ورائها فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يكسب من هذا الموقف، كيف يحقق نجاحاً من هذه الأزمة الكبيرة؟ كيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لرفعة الأمة وسيادة الأمة؟
هل يبعث ألف جواب استنكار أو شجب وندب؟ لن يسمع صوته أحد، فما الذي يعمل؟
هل يذهب إلى هيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة؟! لن تنفع بشيء، بل من الممكن أن تحكم لقريش الدولة الأولى في المنطقة فما هو الحل؟
لا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف، نأتي لندرس الواقع الذي يحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما هو حال الجزيرة العربية في ذلك الوقت؟
أولاً: الوضع السياسي والعسكري للمسلمين.
لقد كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين بعد مؤتة وذات السلاسل وضعاً ممتازاً فأعداد المسلمين تتزايد، والجيش الإسلامي مدرب تدريباً جيداً جداً، ليس مدرباً في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل ومع الرومان في مؤتة كما رأينا.
فمعنويات الجيش الإسلامي في السماء، والانتصارات المتتالية في كل مكان رفعت معنويات الجيش الإسلامي.
سمعة المسلمين طيبة على مستوى الجزيرة بكاملها، بل على مستوى العالم.
والدولة الإسلامية لها علاقات قوية جداً مع أكثر من مملكة من ممالك الأرض، فاليمن دولة مسلمة، وعمان دولة مسلمة، والبحرين دولة مسلمة، وهناك علاقات مع الحبشة ومع مصر.
ثانياً: الوضع العسكري لقريش.
كان الوضع العسكري لقريش ضعيفاً، ويزداد ضعفاً مع مرور الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى هذا من سنتين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: (وإن قريشاً قد وهّنتهم الحرب وأضرت بهم)، وبعد الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن نسير إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم يرى أن الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح، والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في صالح قريش، ورأينا تحول الرجال والنساء من الكفر إلى الإيمان، فهذا إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت هو نقص في الدولة الكافرة.
وأحلاف قريش تكاد تكون محصورة فقط في بني بكر، وعلاقة قريش بهذا الحليف ليست قوية؛ لأنه كان بين قريش وبين بني بكر خلافات من أيام بدر، وهذه العلاقة بين أهل الباطل بين قريش وبين بني بكر أو أي حليف قد تتغير من حال إلى حال أخرى في وقت سريع وعاجل إذا تغيرت المصالح.
ولعل قريشاً إذا اتخذت موقفاً عسكرياً معيناً فقد تأتي بنو بكر وتخالف هذا الموقف، وتعتذر لخزاعة وللمسلمين وتفك الحلف بينها وبين قريش، فهذا كله وارد وممكن جداً، ورأته قريش قبل هذا في تاريخها أكثر من مرة، والحلف بينهما حقيقة ليس قوياً، والدليل على أنه عندما فُتحت مكة لم نجد أي مساعدة من أي نوع من بني بكر لقريش ضد المسلمين، مع أن مقتضيات معاهدة الحديبية تلزم بني بكر بالدفاع عن قريش إذا داهمها المسلمون، فما بالك لو كانت بنو بكر هي السبب في المشكلة، فهي التي خانت العهد، وهي التي هجمت على خزاعة، وما بالك لو كانت قريش أعانت بني بكر! فكل هذا كان من المفروض أن يجعل بني بكر تساعد قريشاً في أزمة الفتح، لكن لم نر ذلك.. وهكذا المعاهدات العلمانية القائمة على غير عقيدة صحيحة.
وعلى العكس كان الجيش الإسلامي وحدة مترابطة، يجمعها رباط واحد وهو رباط العقيدة، والرسول عليه الصلاة والسلام يرى هذه العلاقات متينة وقوية.
إذاً: كان الموقف العسكري لقريش في أزمة كبيرة جداً؛ فقريش فقدت مجموعة من أعظم قادتها منذ شهور قليلة فقط، وهذا تمهيد رباني للفتح، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان سبباً في انتصار المشركين في أحد، فقد كان قائد الفرسان الفذ الذي له سمعة في الجزيرة بكاملها، فهذا الرجل انضم إلى المعسكر الإسلامي، وليس فقط خسارة على قريش، بل كسبه المسلمون، وصار إضافة هائلة للدولة الإسلامية.
وهذا عمرو بن العاص أيضاً من أعظم دهاة العرب فقدت قريش قوته وأُضيفت قوته للمسلمين.
وهذا عثمان بن طلحة أيضاً ليس فقط من الفرسان الأشداء، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة فإضافته للدولة الإسلامية إضافة في منتهى القوة، وقد رأينا عائلة عثمان بن طلحة جميعها أُبيدت حول راية المشركين في غزوة أحد تدافع عن راية المشركين، وقبيلة بني عبد الدار لها تاريخ طويل جداً في الدفاع عن حرمات قريش، والآن زعيم هذه العائلة وعميدها عثمان بن طلحة ينضم إلى المسلمين، وليس من البعيد أن جميع بني عبد الدار تنضم إلى المسلمين، فهذا يسبب اهتزازاً واضحاً جداً للصف المشرك.
إذاً: الوضع مستقر جداً للدولة الإسلامية، وفي الناحية الأخرى وجود ضعف عند قريش، ومع مرور الوقت يزداد هذا الضعف، وتقل الأحلاف، والجنود يقلون، والقادة يُفقدون ولصالح المسلمين.
ثالثاً: تناقص أعداء المسلمين جداً في ذلك الوقت وضعف شوكتهم.
رأينا أن اليهود انتهى خطرهم تقريباً بعد فتح خيبر، ورأينا غطفان لم ينته خطرهم فحسب، بل جاءت وفودهم تُعلن الإسلام، وتُعلن انضمامها إلى قوة المسلمين، وغطفان هي التي شاركت منذ سنتين في حصار المدينة المنورة المؤمنة، والآن سوف تشارك في حصار مكة المكرمة المشركة في ذلك الوقت.
رابعاً: الوضع القانوني والشرعي للمسلمين.
إذا أراد المسلمون فتح مكة فالوضع سليم، ولا ينكر عليهم أحد، فهذه فرصة سانحة لفتح مكة، وقد لا تتكرر بسهولة، ولذلك لا يجب أبداً أن تُضيّع هذه الفرصة، وفتح مكة مطلب هام جداً، ومعاهدة الحديبية كانت تعوق فتح مكة، أما الآن فقد نُقضت المعاهدة، وديار المسلمين وأموالهم في داخل مكة ما زالت منهوبة، وهناك فرصة لاستعادة كل هذه الأمور المنهوبة من المسلمين، كما أن هناك فرصة لتعليم عوام الناس في داخل مكة الإسلام إذا أُزيحت الطغمة الحاكمة من كراسيها في مكة؛ ولهذا نجد عدم تفاعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش لتجنب الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر أن ينتهز هذه الفرصة الثمينة ويفتح مكة، فهذه حكمة سياسية في منتهى الروعة.
خامساً: هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين أن يقوموا بفتح مكة؛ وذلك لرفع الظلم عن المظلومين، فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تُترك هكذا دون مساعدة، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقياً فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني، أي: أنه فرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة؛ لأن هذا التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية، فكيف يتخلى عنه المسلمون، المسلمون؟ ليس لهم اختيار في ذلك الأمر، ما داموا قد عاهدوا على شيء عليهم أن يفوا بعهودهم، والمعاهدة مع خزاعة على أن ينصروهم إذا انتُهكت حرماتهم، وقد انتُهكت وفي داخل الحرم، فلم لا يتحرك المسلمون؟ لا بد أن يتحركوا؛ لأن المعاهدة تقول: إن الاعتداء على خزاعة هو اعتداء على المسلمين، حتى وإن كانت خزاعة مشركة.
إذاً: هناك واجب شرعي قانوني على المسلمين أن يجتهدوا في رد الحق إلى أصحابه، في رد الحق إلى خزاعة، وفي رفع الظلم عنهم.
وفي نفس الوقت هذا واجب سياسي هام جداً؛ لأن كرامة الدولة الإسلامية انتهكت أيضاً؛ ولأن هؤلاء الذين قُتلوا حلفاء المسلمين وإن كانوا مشركين، فلا بد لحفظ كرامة الدولة الإسلامية أن تكون الوقفة مناسبة، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الوقفة يجب أن تكون فتح مكة.
وهنا تضافرت أمور كثيرة جداً تفيد أن الوضع مناسب جداً لفتح مكة.
وعندما نعيد هذه الأوراق ونحلل الموقف سنجد الآتي:
أولاً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الإسلامية ممتاز ويتقدم.
ثانياً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الكافرة في مكة ضعيف ويتأخر.
ثالثاً: الأعداء الآخرون للدولة الإسلامية استكانوا اليهود وغطفان وغيرهم.
رابعاً: الوضع القانوني إذا أراد المسلمون فتح مكة سليم تماماً.
خامساً: هناك واجب أخلاقي وشرعي وسياسي على المسلمين لصالح خزاعة لا بد من القيام به.
هذا هو الواقع الذي حلله الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظة واحدة، فقال: (نصرت يا
إذاً أخذ قرار فتح مكة المكرمة في هذه الظروف سيكون قراراً حكيماً يحقق عدة مصالح دعوية وسياسية وعسكرية وأخلاقية، وغير ذلك، لكن هذا ليس قراراً سهلاً، بل هو من أصعب القرارات؛ لأن مكة ليست كأي بلد، مكة هي عقر دار قريش ولها تاريخ طويل، وقريش ليست بالقبيلة السهلة، هي أعز قبيلة في العرب، والعرب جميعاً يوقّرونها، وقد يغير الكثير من الناس مواقفهم إذا هُددت قريش في عُقر دارها، وبالذات أن عقر دار قريش هو البلد الحرام مكة، وله مكانة هائلة في قلوب جميع العرب.
لقد كان القرار جريئاً جداً وقد تكون له تبعات هائلة، وفي نفس الوقت كثرة التفكير والتروي أكثر من اللازم قد تضيع الفرصة، لا بد أن نأخذ قراراً حاسماً، والقرار قد اتخذ فعلاً وبحسم وبقوة، فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة.
لا بد أن نقف وقفة مع هذا القرار: هذا القرار السريع ليس قراراً متهوراً حاشا لله، فالقرار مدروس وبحكمة، وذكرنا الواقع الذي كان فيه المسلمون والمشركون، لكن نريد أن نلفت الأنظار إلى أمر في غاية الأهمية، ساعد الرسول عليه الصلاة والسلام على اتخاذ القرار، وهذا الشيء نسميه: الجاهزية الدائمة، اجعل هذا شعار حياتك: كن مستعداً، هناك فرص كثيرة جداً تأتي للإنسان، ولكن لا يستغل هذه الفرص؛ لأنه غير جاهز وغير مستعد، فالرسول صلى الله عليه وسلم وشعبه المؤمن كان جاهزاً بصفة مستمرة، وكان الجيش مدرباً ومنظماً وعلى أُهبة الاستعداد دائماً، الشعب مهيأ لقضايا القتال والبذل والتضحية، والزوجات يدفعن أزواجهن للتضحية والجهاد، حتى الأولاد الصغار يعيشون هذا الجو باستمرار، ويتشوقون إلى الجهاد كما يتشوق إليه الكبار.
لو فُرض على الناس حرب وهي غير مستعدة نفسياً وقضايا الجهاد غير مطروحة في حياتها لا يمكن أن تجد أحداً سيقف معها، فالشعب المترف المرفه الذي يعيش بالملذات والأغاني والكرة صعب عليه أن يقف موقفاً محترماً في أزمة، فهذه الناس تحتاج إلى تربية، وكان شعب الرسول عليه الصلاة والسلام في جاهزية دائمة؛ ولهذا عندما يأتي ظرف مثل هذا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يستغله، فالوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية كان في تحسن مستمر، والتنمية في كل المجالات على أحسن ما يكون، والبلد تنتج الذي تريده لا تخاف من أحد، والعلاقات الدبلوماسية له كانت مستقرة وكثيرة، والمخابرات الإسلامية كانت هنا وهناك تقوم بدورها على أفضل ما يكون، والحاكم والمحكوم والوزير والغفير والكبير والصغير الرجل والمرأة الكل يشعر بانتماء حقيقي غير مفتعل للبلد وللدين، وليس مجرد أغنية ليس لها أي معنى ولا تطبيق في حياة الناس! وليس مجرد شعار أجوف يقوله هذا أو ذاك! وليس مجرد خطاب سطحي مخادع للمحكومين..! لا، الانتماء ليس أنك تذهب لتمثل بلدك في لعب الكرة وتحزن لو دخل هدف على بلدك، الانتماء أن تكون قابلاً لأن تدفع روحك من أجل بلدك ودينك، الانتماء أنك لا تضيع الدقيقة من شغلك في عمل ليس فيه فائدة للبلد والمسلمين، الانتماء أنك تصنع الذي تحتاجه ولا تستورد كل شيء، الانتماء أنك تحب الجيش وليس أن تهرب منه، الانتماء أنك تحافظ على أموال البلد وليس أن تختلسها وتعتبرها مالاً سائباً.
الانتماء قصة كبيرة جداً، قصة لا تقاس أبداً في الأستاد أو في السينما، لكن تقاس في ميدان الجهاد وفي المصنع والجامعة، وفي الحقول والمعامل.. في هذه الأشياء كلها، هذا هو الانتماء.
فشعب المدينة كان يعيش قصة الانتماء بطريقة صحيحة؛ ولهذا استطاع أن يقف ويجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الانتماء الحقيقي.
وهذه الجاهزية الدائمة من أهم مفاتيح استغلال الفرص السانحة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يأخذ القرار من غير تردد؛ لأنه علم أن شعبه وجيشه معه بجد، وعلاقاته الدبلوماسية على أكمل وجه، وتعتبر السيرة منهجاً عملياً واقعياً للتغيير فعلاً.
إذاً: أُخذ قرار فتح مكة، وهو من أخطر القرارات في تاريخ الجزيرة، بل في تاريخ العالم، وسوف نرى آثار هذا الفتح الذي سيشمل تقريباً جميع مساحة الأرض وإلى الآن وإلى يوم القيامة.
كان هذا هو الوضع في المدينة المنورة، فكيف كان الوضع في مكة المكرمة؟ كيف تفكر قريش بعد المصيبة التي وقعت عليها؟ وما الذي تعمله بنو بكر مع قريش، وما الذي تعمله القبيلتان مع المسلمين بعد هذا؟ وكيف سيتعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش بعد ذلك لتجنب الحرب؟ وكيف يجهز الرسول عليه الصلاة والسلام جيشه ويخرج به إلى هذا المشوار الصعب؟ فمكة المكرمة تبعد عن المدينة بمقدار (500) كيلو في الصحراء.
هذه التفاصيل في غاية الأهمية، وهي عماد بناء الدولة الإسلامية، فينبغي أن تدرس بعناية، وهذا إن شاء الله سيكون موضوع الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر