أما بعد:
فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، واليوم نستفتح بقول ربنا جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].
يخبر ربنا جل وعلا أنه أحيا بالقرآن قلوب البشر، وجعله أعظم معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يعاود الحديث عنه حيناً بعد حين في هذه الآيات العظيمة من سورة الإسراء -السورة المكية- ليبين لهؤلاء القرشيين أن دعواكم في نقض هذا القرآن، أو طلبكم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتري غيره طلب لا سبيل إليه، فيكرر عليهم ما يغيظ قلوبهم، ويثبت قلب نبيه.
يقول تعالى: وَنُنَزِّلُ [الإسراء:82]، وهذا إشعار إلى أن الأمر متتابع.
مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82]، (من) هنا هل هي بيانية أم تبعيضية؟ بكل قال العلماء، ورجح ابن القيم رحمة الله تعالى عليه على أنها هنا بيانية، فيصبح كل القرآن بهذا المعنى شفاءً ورحمة.
وإذا قلنا: بأنها تبعيضية؛ فإن المعنى يكون أن القرآن كله رحمة بالاتفاق،س وكله شفاء لأمراض القلوب، من الشك والجهل والريب بالاتفاق، لكن الخلاف يكمن في كون القرآن شفاء كله لما يصيب الأبدان من جراحات وأسقام وأضرابها، وهذا محل النزاع.
فذهب بعض العلماء إلى أنه شفاء كله، وجعلوا (من) هنا بيانية، وأخذوا بعموم الآية وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82]، لكن هل يلزم من قول البعض أن (من) بعضية أن بعض القرآن ليس بشفاء؟ هذا لا يلزم، وقد قال ابن عطية به رحمة الله تعالى عليه في (المحرر الوجيز)، وهو أن ذلك لا يكون ذلك قدحاً في القرآن. والذي تطمئن إليه النفس: أن يعلم أن القرآن رحمة وشفاء بلا شك لكل أمراض القلوب المعنوية، وأنه لا توجد رحمة أعظم منه؛ لأن فيه الهدى والنور، ثم تأتي أمراض الأبدان بعد ذلك تبعاً لا قصداً، إذ لو كانت مقصودة لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة أن يتطببوا عند بعض من عرف بالطب عند العرب؛ لأنه لا يعقل أنه يجوز العدول عن الأمثل إلى ما هو دونه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يبحث عن دواء لقلبه وريبه وجهله وشكه أعظم من القرآن، فلو كان القرآن كذلك في نفس المنزلة لمرض الأبدان لما جاز لأحد أن يذهب إلى الأطباء، لكن القرآن أنزل لأمراض الشك والريب والجهل، وليكون رحمة تنفع المؤمن في دنياه وآخرته، فالذي نرجحه: أن (من) هنا تبعيضية، والعلم عند الله.
قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، والخسارة التي ينالها الكافر بسبب القرآن ليست ناجمة عن القرآن نفسه، وإنما ناجمة عن كفر الكافر، أي: أن عدم أهليته لتقبل رحمة الله هي التي جعلته يزداد خسارة، ويزداد خسراناً بأن يصبح القرآن أعظم حجة عليه فيزداد خسرانه؛ لأنه يلقى الله جل وعلا بلا حجة، وقد قامت عليه الحجج والشواهد والبراهين كما أثبت الله، وهذه الآية ظاهرة.
قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ [الإسراء:83]، أما جملة (ونأى بجانبه) فهي توكيد لجملة (أعرض)، فالإعراض -أيها الأخ المبارك- يكون أولاً بصفحة الوجه، وإذا ازداد الإنسان تكبراً، وعظم الطغيان في نفسه أعطاك ظهره،س فانتقل من الإعراض بصفحة الوجه إلى الإعراض بالكلية، وهذا معنى قول الله: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ [الإسراء:83].
ومثل هذه الآيات -وإن كانت تعرف ببعض البشر- إلا أنها تدلك من باب أولى على أنه قد يوجد في الناس من تحسن إليه، ويقابل إحسانك بالإساءة أو بالجحود.
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
فإذا كان الناس في تعاملهم مع ربهم تبارك وتعالى يعرضون بعد الإنعام، فمن باب أولى أن يوجد منهم من يعرض عنك بعد أن تتفضل عليه بشيء من الإحسان.
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83]، ولماذا دب اليأس في قلبه؟ لجهله بالله، وإلا فمن عرف الله حقاً فإنه لا يمكن أن ييأس من رحمته، أو أن يقنط من روح الله، لكن ذلك القنوط واليأس دب إلى قلبه لجهله بالله؛ ولهذا قال الله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83].
ثم قال الله بعدها حتى يبين أن الناس ليسوا جميعاً على هذا المنوال والمنحى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ [الإسراء:84].
التحليل اللغوي للمسألة:
الشكل -أيها المبارك- بالفتح معناه: المثيل والنظير والضرب، ومنه قول الله جل وعلا: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58] في سورة ص. أما الشكل بكسر الشين: فهي الهيئة.
قال سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ [الإسراء:84]، والألفاظ التي قالها السلف في معنى الآية تتباعد وإن كان المعنى قريباً في الحقيقة.
والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن الله يقول لهم: ينبغي لكل إنسان أن يناسب عمله سريرته، وينبغي أن يوافق عمله ما هو عليه من الأخلاق والطباع، وفي هذا حث لأهل الفساد، فإن كنتم تدعون استقامة أنفسكم فلتثبتوا ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأن من صلحت سريرته وجب أن يكون شكله -أي: نظيره وضريبه ومثيله- من العمل موافقاً لتلك الشخصية.
قال تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء:84]، وبعض العلماء إذا ذكر هذه الآية يتكلم عن قضية عفو الله جل وعلا ورحمته وفضله.
وفي نفس الرواية قال عمر رضي الله تعالى عنه: قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أعظم وأرجى من قول الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:1-3]، قال: فقدم غفران الذنب على قبول التوبة.
فقال عثمان : وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49].
وقال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، فهذه أربع روايات عن أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
قال القرطبي رحمه الله: وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ولكل دليله، وهذه عظمة القرآن أنه كتاب مفتوح تجري في مضماره أفكار العلماء.
وفي الصحيح وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه عبد الله بن مسعود ، فمر على ملأ من يهود -هذا على القول: أن هذه الآية مدنية، وقول آخر: أنها نزلت مرتين- فمر على يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه؟ فسألوه يا: أبا القاسم! ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل، قال ابن مسعود : فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا عليهم الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
وسنتكلم عن هذه الآية من وجوه:
الأول: ما المقصود بالروح؟ قال بعض العلماء: المقصود بالروح هنا: القرآن، وحجتهم: أن الله سمى القرآن روحاً، كما قال جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52].
وقال بعضهم: إن الروح هنا بمعنى: عيسى بن مريم، فيصبح السؤال عن عيسى، ومن أدلة ذلك: أن الله جل وعلا سمى عيسى بن مريم روحاً، قال تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، في تسميته لعيسى عليه السلام.
وآخرون قالوا: إن الروح هنا ملك عظيم الخلقة، وعنوا به قول الله جل وعلا: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ:38].
وقال آخرون: بل هو جبريل عليه السلام، واستدلوا بقوله سبحانه: سفَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17].
والذي يترجح -والعلم عند الله- أن الروح هنا بمعنى: القرين بالبدن، وهي النفس.
قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، وهذا اختصاص علمي، وليس اختصاصاً خلقياً.
فإن قيل: فما معنى: الاختصاص العلمي، والاختصاص الخلقي؟
فالجواب: الآن كون آدم عليه السلام خلقه الله بيده هذا اختصاص خلقي، فخص الله جل وعلا آدم بخصيصة لم يعطها سائر الخلق؛ لأنه خلقه بيده، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يخلقه الله بيده، فهذا اختصاص خلقي، وأما الروح فليس لها مزية في خلقها عن سائر المخلوقات، لكن لها اختصاص علمي؛ في أن الله جل وعلا أخفى كنهها، فلا يعرف سرها أحد.
فهذا معنى سقول الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]
ثم قال الله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وما هنا: نافية قطعاً، وفيها دلالة على فضل العلم، وعلى أن علم بني آدم مهما امتد ففيه ضآلة جداً أمام علم الله، وأعظم شاهد على ذلك قصة موسى والخضر، وذلك الطير الذي نقر في البحر فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.
ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء:86]، وهذا من مشيئة الله التي لم تقع، ولم يأذن الله بها، لكن القضية بيان أن الله جل وعلا هو صاحب الفضل المحض على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن سيرفع في آخر الزمان.
قال تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الإسراء:86-87]، ويجب أن نقول: إن الاستثناء هنا منقطع، فيصبح المعنى: لكن رحمة الله جل وعلا عليك واسعة، فلا يمكن أن يقع مثل هذا الأمر.
ثم قال: إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الإسراء:87] وهذا تعميم، وفضل الله جل وعلا على نبيه واسع جداً دلت عليه آيات عدة أعظمها وأقربها: قول الله قبلها بآيات: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وكذلك إنزال الكتاب عليه، وكونه خاتم الأنبياء والمرسلين، وكذلك صاحب رحلة الإسراء والمعراج التي تكلم الله عنها في أول السورة، فكل ذلك مندرج تحت قول الله جل وعلا: إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الإسراء:87].
يقولون: إن أبا العلاء المعري المسمي نفسه: رهين المحبسين، وهما: العمى، والمكث في البيت، وهو رجل كف بصره وهو صبي، فأقبل على العلم ينهل منه، وساعده على الحفظ كونه كفيفاً؛ لأن الكفيف لا يتشعب ذهنه، وهو لا يرى شيئاً يزاحم حفظه، فيكون أقدر من غيره على الحفظ، فأقبل على العربية وشعر العرب وتاريخهم وأيامهم حتى بلغ فيها شأواً بعيداً، وكان أحياناً يشوبه شيء من الإلحاد.
فيقولون: إنه ذات يوم أراد أن ينظم أبياتاً يعارض فيها القرآن، فذكر أبياتاً يقوم محورها على ذكر الفتاة، وأن الوالدين يحفظان الفتاة ويحرزانها، ثم لا تلبث أن تموت وهي صغيرة رغم حرص الوالدين على بقائها، فتنتقل من حرز الوالدين إلى القبر، وسمى القبر حرزاً حريزاً، ثم قال في آخر بيت:
يجوز أن تبطئ المنايا والخلد في الدنيا لا يجوز
ثم إنه تذكر قول الله في سورة هود: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:104-105] فجثا على ركبتيه وبكى بكاءً طويلاً ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه! وهذه شهادة معتبرة، لا لفضل الرجل نفسه فهو أقرب إلى الإلحاد، لكن لكونه رجلاً عالماً بالعربية، وإماماً في سبك الكلام، فالاعتراف من مثله له وضعه واعتباره في أن كلام الله جل وعلا لا يعدله كلام أبداً، فقد تلا قول الله: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:104-105]، فبكى بكاء شديداً، وجثا على ركبتيه ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه!
والذي يعنينا -أيها المباركون- أن كلام الله جل وعلا لا يمكن أن ينازع ولا أن يعارض، ولا أن يلحق شأوه أحد كائناً من كان، وقد قال ربنا وهو أصدق القائلين: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ [الإسراء:88-89] وعد، ووعيد، وأخبار، وأوامر، وشرائع، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الإسراء:89]، لكن من غلب عليه الكبر والعناد فمن البديهي أن يعرض وأن يتكبر، قال: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:89]، أي: رداً لقول خالقهم، وصداً عن هداية بارئهم، وهذا واقع أصلاً بقدر الله، مما يدل على أن الله جل وعلا خالق كل شيء ومالكه، وله تبارك وتعالى عليه السلطان الأعظم.
فنقول: العلماء في هذا على ثلاثة أقسام:
قسم ينفيه، ويستحي سأن يسمي كلام الله لنبيه عتاباً.
وقسم في بعض الأحيان يثبته إثباتاً غير مقبول، كقول الزمخشري في تفسيره عن قول الله جل وعلا: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، قال: هذه كناية عن الجناية؛ لأن العفو ملازم لها.
قال أبو حيان في تعقبه على الزمخشري : وقول الزمخشري هذا مما يجب اطراحه فضلاً على أن يرد عليه؛ لأن هذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وآخرون يأخذون طريقاً وسطاً فيقولون: وقع في القرآن عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود به -أي: هذا العتاب- بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يأخذ الأولى والأفضل، وليس هناك خطأ يلام أو يعاتب عليه صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله جل وعلا: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، هذا في أمثال عبد الله بن أبي ، وقد كان الإجماع قد استقر في المدينة على جعله أميراً عليهم، وذلك قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة انصرف الناس عنه فبقي في صدره شيء كتبه الله، فأخذ يظهر حب اليهود، ويظهر النفاق، وهو الذي ولغ في عرض عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما عاد اشتد مرض الوفاة على عبد الله بن أبي ، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي في مرضه الذي مات فيه، وأراد النبي أن ينجو به فقال: قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال هذا الوقح!: قد كان أسعد بن زرارة يبغضهم فمه.
فالنبي يريد أن يبين له أن ما أصابك من سوء الخاتمة إنما هو لحبك الشديد لليهود وبغضك لأهل الإيمان، فولم يقصد أن حب اليهود سبب في الوفاة؛ لأن الكل سيموت، فرد عدو الله بهذه المقالة؛ لأنه أراد أن يخرج بالخطاب عن مساره، فتركه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فلما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه في ملأ من الصحابة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبيه، وطلب الابن من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه قميصه، فكفن عبد الله بن أبي في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات على الكفر، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبره وصلى عليه ....
أما الصلاة فلم يكن قد ورد النهي في قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84]، فإنها نزلت بعد هذه الحادثة. فإن قيل: فلماذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـعبد الله بن أبي ؟
والجواب ذو شقين:
الأول: إجابة لابنه، فإن المروءات يجب أن ينافس فيها أهل الفضل، فإن ذوي الفضل يستحيون أن يردوا السائلين، فأجاب رجلاً مؤمناً إلى سؤاله، هذا الشق الأول.
والأمر الثاني وهو الأهم والأبرز: أنه في يوم بدر كان من الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان طويل القامة، عظيم الجثة، فلما أسر لم يكن عليه إلا ما يستر عورته، فأرادوا له قميصاً وثوباً فلم يجدوا قميصاً أو ثوباً يلائم جسده إلا قميص عبد الله بن أبي ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ثوب عبد الله بن أبي وأعطاه عمه، فأصبحت لـعبد الله بن أبي يد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطى النبي قميصه لـعبد الله يوم وفاته ليكافئه على تلك اليد.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كانت له يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب رسول الله أن يكافئه عليها.
فالله يقول لنبيه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة:80]، هذه الآية تتضمن الخبر والإنشاء؛ لأن كلام العرب خبر وإنشاء، فالخبر: ما يحتمل التصديق والتكذيب، والإنشاء: ما يكون بمعنى الطلب، والآية معناها: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن ينفعهم استغفارك شيئاً، وهذا خبر، وقوله سبحانه: (استغفر) هذا أمر، والنبي صلى الله عليه وسلم خير، فاختار ما يناسب سجيته وشفقته ورحمته.
هذه من جملة الآيات التي ظاهرها العتاب، لسيد ذوي الألباب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما ذيلنا به هذا الدرس المبارك، وقد تكلمنا فيه عما أرجئنا الحديث عنه في لقاء ماضٍ عن العتاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهو طويل جداً عرجنا على بعضه ونكمل بعضه حيناً آخر، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر