ينقسم الحديث باعتبار القبول والرد إلى مقبول ومردود.
ومعنى القبول: صلاحية الحديث للاحتجاج به.
والمردود أي: الحديث غير صالح للاحتجاج به، وهو الضعيف.
وهذان القسمان بدورهما ينقسمان إلى قسمين آخرين، فالصحيح ينقسم إلى صحيح لذاته أو لغيره، والحسن ينقسم إلى حسن لذاته أو لغيره.
وإذا أطلقنا الصحيح ولم نضفه إلى شيء آخر دل ذلك على أننا نتكلم عن الحديث الصحيح لذاته لا لغيره، وكذا الحديث حسن، فلو قلنا: حديث حسن دل ذلك على أننا نتكلم عن الحسن لذاته لا الحسن لغيره.
وفي الاصطلاح هو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
وأهل العلم تكلموا في تعريفه كلاماً كثيراً منه ما هو جامع غير مانع، ومنه ما هو مانع غير جامع؛ ولكن هذا ما رجّحه الحافظ ابن الصلاح والحافظ ابن حجر وغيرهما.
الشرط الأول: اتصال السند.
الشرط الثاني: العدالة.
الشرط الثالث: الضبط.
الشرط الرابع: انتفاء الشذوذ.
الشرط الخامس: انتفاء العلة.
فإذا توفرت هذه الشروط الخمسة حكمنا على الحديث بأنه حديث صحيح، وإذا اختلت أو اختل أحدها حكمنا على الحديث بأنه حديث ضعيف.
وهذه الشروط منها ما يتعلق بالسند، ومنها ما يتعلق بالراوي.
فاشتراط صحة السند للاحتراز من أي انقطاع يكون في السند، سواء كان في أول السند أو وسطه أو آخره؛ لأن أي انقطاع يفقد الصحة أحد شروطها.
إن كان الانقطاع في أول الإسناد سمي الحديث معلقاً، وهو ما حُذف من إسناده من جهة المصنف راو فأكثر، كأن يحذف شيخ المصنّف.
وإن سقط اثنان على التوالي في أي موضع من الإسناد سمي الحديث معضلاً، وإن كان السقط في طبقة الصحابي سمي الحديث مرسلاً.
وكل أنواع الانقطاع التي تلحق الإسناد تؤثر في صحة الحديث؛ لأن السند فقد أحد شروط الصحة، وهو الاتصال.
والمقصود باتصال السند هو: أن يكون كل راو أخذ عمن فوقه مشافهة وسماعاً.
واتصال السند يعرف بتصريح الراوي، كأن يقول: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سمعت فلاناً يقول كذا.
ولو عنعن الراوي فإن كان ثقة لم يرم بالتدليس، وحملت عنعنته في أرجح أقوال أهل العلم على الاتصال، وإن كان مرمياً بالتدليس اختلف فيه أهل العلم على ثلاثة مذاهب، والراجح: أنه لا يُقبل إلا إذا صرّح بالسماع.
وبعض العلماء ينازعون في بعض هذه الأوصاف، مثل شرط البلوغ، ويرون أنه يمكن أن يكون المسلم عدلاً دون أن يبلغ.
وبعض العلماء يعرف العدالة بأنها: الالتزام والائتمار بما أمر الله عز وجل ورسوله، والانتهاء عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والعدالة شرط في الأداء لا في التحمل.
والتحمّل: هو سماع الراوي للحديث.
والأداء: هو إسماع الراوي للحديث.
والراوي قد يتحمل الرواية حال كفره، وهذا موجود، فكثير من الصحابة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلوا في الإسلام، فلما دخلوا الإسلام رووا ما سمعوه منه حال كفرهم، ولم تنكر عليهم روايتهم هذه.
ولا بد في الرجل حتى يكون عدلاً أن يكون مسلماً، وهذا احتراز من أن يكون الراوي غير مسلم، والإسلام لا يشترط حال التحمّل وإنما يُشترط حال الأداء؛ لأن غير المسلم ليس بعدل، فالعدالة وصف ظاهر يلحق المسلم فقط دون غيره من الناس.
وقد ذكر الحافظ الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية بعلم الرواية اختلاف العلماء في اشتراط البلوغ، وهل يشترط في التحمّل أو في الأداء؟ وقد اشترطوا لذلك شروطاً وخالفوها من ناحية العمل، وقد ذهبوا مذاهب شتى في تحديد سن معينة للتحمّل، والراجح: أن البلوغ شرط في الأداء وليس في التحمّل.
وكان السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم يُسمعون أولادهم وهم غلمان صغار الحديث والقرآن، وقد يكمل أحدهم حفظ القرآن وهو صغير لم يبلغ العاشرة، فيؤتى به إلى مجالس أهل العلم ليسمع الحديث وغيره من صنوف وأفنان العلم.
فالبلوغ كالإسلام شرط في الأداء وليس في التحمّل.
فلا تُقبل رواية المجنون، سواء كان جنونه مستمراً أم متقطعاً؛ لأنه لا يعلم أكان تحمله وقت الإفاقة أو وقت الجنون؟ ولا بد من كمال العقل وسلامته مما يطرأ عليه من علل وأمراض.
وبعضهم يعبّر عن هذا بالتمييز، والمصطلحان مختلفان من حيث اللغة ومن حيث الاصطلاح.
فإذا كانت الكبيرة شركاً كفر الراوي، وإن كانت غير شرك لم يكفر بها، وقد اختلفت الفرق في مرتكب الكبيرة اختلافاً عظيماً، وهذه المسألة مما تميز بها أهل السنة والجماعة عن بقية الفرق، فقالوا: مرتكب الكبيرة إن أقيم عليه الحد كان كفارة له في الدنيا والآخرة، بمعنى: قبول توبته في الدنيا والمغفرة له في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحدود كفارات لأهلها)، بمعنى: أنها تمحو عنه تلك الخطيئة وهذا الذنب.
وأما إذا لم يُقم عليه الحد في الدنيا فإن تاب منها بينه وبين الله تاب الله عليه، وإن لم يتب منها فهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له. وهذا هو معتقد أهل السنة في مرتكب الكبيرة.
وكل من ارتكب حراماً مستحلاً له وهو عالم بالحرمة فهو كافر.
وإن كان الراوي مرتكباً للصغائر مصراً عليها ومجاهراً بها ردت روايته تأديباً له، ولا شك أن شرب السجائر وحلق اللحية وغير ذلك أمور مفسقة لصاحبها.
ويتفرع عن مسألة السلامة من الفسق الابتداع، والابتداع منه ما هو مكفّر، ومنه ما هو مفسِّق.
فالبدعة إذا كانت مكفّرة لصاحبها كغلاة الروافض والشيعة وغير ذلك ردت رواية مرتكبها، وأما إذا كانت غير مكفّرة فتقبل رواية صاحبها بشروط:
الشرط الأول: ألا يكون غالياً في بدعته، وهذا احتراز من الصنف الأول من البدعة.
الشرط الثاني: ألا يكون داعياً إلى بدعته، أي: ألا تكون الرواية التي رواها تخدم وتؤيد بدعته.
الشرط الثالث: توفر الضبط وموافقة الثقات.
والكذب إما أن يكون على رسول الله، وإما أن يكون على الناس، والكاذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الوضاع، وجمهور أهل العلم يردون رواية التائب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الزجر له، ويقبلون رواية التائب من الكذب في حديث الناس.
وغير الجمهور يقبلون رواية التائب من الكذب على رسول الله وعلى الناس.
وذهب إمام الحرمين الإمام الجويني وتبعه الشيخ أحمد شاكر إلى تكفير من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الطريق الأول: التنصيص من إمام من أئمة النقد والجرح والتعديل على أن هذا الراوي عدل، وقد اختلف العلماء هل يكفي قول الواحد فقط في إثبات العدالة أم لا بد من اثنين؟ والراجح أن العدالة تثبت بنص إمام واحد، رجلاً كان أو امرأة، كأن يقول الدارقطني أو يحيى بن معين أو أحمد بن حنبل أو صالح جزرة : فلان ثقة، أو غيرهم من أئمة النقد، فيكفي أن يحكم واحد منهم فقط على راو ما بأنه عدل أو غير عدل.
الطريق الثاني: الاستفاضة والشهرة، أي: أن يشتهر ذلك الرجل أو ذلك العالم بين الناس جميعاً العامة والخاصة بأنه عدل، كـالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وابن عيينة ، فهؤلاء استفاضت واشتهرت عدالتهم بين الناس جميعاً، فأغنت عن التنصيص.
ومعنى الضبط: إثبات الحفظ في القلب، أو المحافظة على المكتوب في الكتاب.
والضبط نوعان: ضبط صدر، وضبط كتاب.
إن حفظ الراوي جيداً، حتى إذا طُلب منه ذلك أداه كما سمعه، ثم بعد أن تقدم به السن أنكر أن يكون قال هذا القول؛ رد إنكاره بشرط أن يكون المتحمّل عنه ثقة، أي: أن يكون عدلاً ضابطاً، وإن كانت هذه الرواية قد تحمّلها غير واحد إما لفظاً وإما معنى عن ذلك الشيخ؛ ففي هذه الحالة لا يُعد إنكاره ولا يُعتبر به، ويُعتبر في غير هاتين الحالتين، والله تعالى أعلم.
مما يطرأ على ضبط الصدر ويؤثر عليه: فحش الغلط، والغفلة، والوهن، والمخالفة للثقات، وسوء الحفظ.
وفحش الغلط هو كثرة الأخطاء، أي: أن يكثر خطؤه حتى يكون هو الغالب على حديثه، وهذا يُعرف بمخالفته للثقات.
والوهن هو: أن يروي الراوي حديثاً على سبيل الإيهام لا التحقق والتأكد.
وهذه كلها مجرّحات تؤثر في ضبط الراوي.
فضبط الكتاب أن يكتب الراوي ما يسمعه من الشيخ في كتاب أو في صحيفة.
ويُشترط لمن كانت هذه صفته شروط:
الشرط الأول: أن يقابل أو يراجع هذا الكتاب على نسخة الشيخ الذي سمعه منه؛ حتى يقره الشيخ على صحة سماعه وكتابته.
فربما يكون ذلك الرجل الذي كتب خلف الشيخ تصحّف عليه السماع وكتبه في كتابه مصحفاً، أو تحرّف عليه السماع وكتبه محرّفاً. وذلك مثل من كتب في كتابه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا نغير! ما فعل البعير؟) ، فلما انتصب للتدريس ألقى على تلاميذه الحديث بهذا الشكل: (يا أبا نغير! ما فعل البعير؟). وتكلّف في تأويله وشرحه، فقال له أحد التلاميذ: ليس هكذا الحديث أيها الشيخ! وإنما هو (يا
وهذا الحديث يؤخذ منه فوائد جمة، وقد صنّف فيه أحد السلف كتاباً بعنوان: الفوائد المستنبطة من حديث أبي عمير ، وذكر فيه ستين فائدة، والكتاب مطبوع ومعروف.
ولا شك أن هذا الراوي وقع فيما وقع فيه من خطأ؛ لأنه لم يلتزم بشروط ضبط الكتاب.
الشرط الثاني: إذا لم يكن عند الشيخ وقت للمراجعة أو لم يوافق الطالب على مطلبه، أو كان الشيخ سيئ الخلق، أو حاد المزاج ويهاب أن يُطلب منه هذا الطلب -وهذا موجود بكثرة في السلف- فعلى الطالب أن يراجع نسخته على نسخة أقرانه.
وإذا لم يكتب أحد غيره فلا مانع أن يراجع مكتوبه على مسموع غيره، فليس بلازم أن تكون المقابلة على مكتوب، بل يمكن أن تكون على مسموع.
الشرط الثالث: أن يحافظ على هذا الكتاب من كل ما يتلفه من حرق وغرق وإتلاف وإفساد، وغير ذلك من الأمور التي تطرأ وتفسد الأوراق، فإذا تعرّض الكتاب لما يتلفه فلا بد وأن يتوقف الراوي عن الرواية.
الشرط الرابع: أن يحدث الراوي وقت التحديث من الكتاب لا من حفظه.
ولو كان هو المتفرد بالرواية فإن كان غالب اعتماده على الكتاب ردت روايته بعد فقده للكتاب.
فإن لم يعرف متى فقد الكتاب، ولا الأحاديث التي حدّث بها قبل فقد الكتاب وبعد فقده، ردت جميع رواياته إلا ما وافق منها الثقات، فإذا خالف الثقات أو تفرد برواية ليست عند غيره ردت، وأما ما وافق فيه الثقات أو جاءت الرواية عنه من طريق من رووا عنه قبل الاختلاط، أو قبل ضياع الكتاب، أو قبل حرقه، فلما ضاع الكتاب أو احترق أو اختلط الراوي توقفوا عن الرواية عنه، فتقبل روايته من طريقهم.
وذلك مثل عبد الله بن لهيعة، فقد كان يحدث من كتاب ثم احترق كتابه، وكان أشهر من أخذ عنه قديماً عبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ وعبد الله بن وهب المصري، ثم لما حدث لكتاب ابن لهيعة ما حدث توقفوا تماماً عن الرواية عنه، والذين توقفوا عن الرواية عنه بعد احتراق كتبه بلغوا ثماني عشرة نفساً، وهم مذكورون في كتب التراجم والرجال، لكن أشهر الرواة الذين توقفوا عن الرواية عنه هم العبادلة الثلاثة - ابن المبارك وابن يزيد المقرئ وابن وهب - فإذا أتت الرواية عن ابن لهيعة من طريق هؤلاء العبادلة فهي على الاستقامة؛ لأنهم رووا عنه قبل الاختلاط، فلما ضاع كتابه توقفوا عن الرواية عنه. فإذا عُلم من ترجمة الراوي أنه توقف عن الرواية عمن اختلط قُبل حديثه، وما لم يُعلم عنه توقُف فيه، ونرجع إلى الأصل، فما وافق فيه الثقات أخذنا به، وما خالف أو انفرد رددناه.
والشذوذ له معنيان في الاصطلاح:
المعنى الأول هو: ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.
والفارق بين الشذوذ وبين زيادة الثقة دقيق جداً، فالشذوذ فيه مخالفة، وزيادة الثقة ليس فيها مخالفة.
فالمعنى الأول من معاني الشذوذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق أو أحفظ منه، حتى وإن كان واحداً، كأن يخالف راو صدوق راوياً ثقة؛ لأن مسألة الصدق أقل في التعديل من مسألة التوثيق، وكذلك الثقة أقل في الحفظ والضبط من الحافظ، والحافظ أقل في الحفظ والضبط من أمير المؤمنين في هذا العلم.
وكما أن التعديل درجات، فكذلك الجرح درجات، وأعلى مراتب التعديل ما كان بصيغة أفعل التفضيل، كأن نقول: أوثق الناس، أو أحفظ الناس، أو أضبط الناس، أو أتقن الناس، هذه أعلى درجات التعديل.
ومنها: أن يكون اللفظ مكرراً، كأن نقول: ثقة ثقة، أو يكون اللفظ أو اللفظان مقترنين، كأن نقول: ثقة حافظ، أو ثقة متقن، أو ثقة ضابط أو غير ذلك.
ثم بعد ذلك نقول: ثقة، وصدوق، ولا بأس به، وليس به بأس، ويحتمل، ويعتبر به، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على التعديل.
فمنها العالي، ومنها العالي جداً، ومنها الوسط، ومنها الداني.
وكذلك ألفاظ الجرح تختلف تبعاً لاختلاف ألفاظ التعديل، فمنها: أكذب الناس، وكذّاب، ويكذب، ويسرق الحديث، وضعيف، ومن أضعف الناس، ولا يعتبر به، والمستور والمغفّل وسيئ الحفظ، وكثير الخطأ.. وغير ذلك من الألفاظ التي تفيد الجرح.
فإذا خالف الثقة حافظ، أو الصدوق فنقول: الرتبة في التعديل مختلفة مع مخالفة الرواية، وفي هذه الحالة نحكم على هذا الحديث بأنه حديث شاذ؛ لمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه.
والمعنى الثاني من معاني الشذوذ هو: مخالفة الثقة لمجموع الثقات، فلو أن عشرة رواة في درجة واحدة من التوثيق والتعديل، ورواية أحدهم تخالف رواية التسعة، فلا شك أن المعقول والمقبول نسبة الخطأ إلى الواحد لا إلى الجماعة، واحتمال الوهم والخطأ والنسيان عليه أقرب وأولى من إلصاقه بالجماعة، فنقول في هذه الحالة: إن هذا الراوي أخطأ رغم أنه ثقة.
فالحديث الشاذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو لمجموع الثقات.
الشرط الأول: وجود المخالفة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه المخالفة بين راو ثقة مع من هو أوثق منه، أو مع مجموع الثقات.
الشرط الثالث: أن يكون المخالف ثقة، وهذا الشرط للاحتراز من أن يكون المخالف ضعيفاً.
لو كان المخالف ضعيفاً فالحديث منكر، فلو حكم شخص مثلاً على حديث خالف فيه الراوي الضعيف الراوي الثقة بأنه حديث شاذ لقلنا له: إنه لا يفهم المصطلحات؛ لأن الحكم اللائق اصطلاحاً وبهذا الحديث أنه حديث منكر وليس شاذاً.
فالحديث المنكر هو مخالفة الراوي الضعيف للراوي الثقة، فالحديث المنكر لابد فيه من شرطين: أن يكون الراوي ضعيفاً، وأن يكون مخالفاً لبقية الأحاديث.
فإذا كان الراوي ضعيفاً ولم يخالف فيه الثقة عد إسناده ضعيفاً، وأما الحديث فمقبول من الطريق الآخر، ويُنظر في الضعف، فإن كان ضعفاً يسيراً فإنه يتقوى بالطريق الآخر، وإن كان شديداً استغني بالطريق الصحيح عن الطريق الضعيف.
فهذا الإسناد بعينه ضعيف؛ لوجود الراوي فلان، ولكن الحديث ورد من طرق أخرى، وقد تكون الطرق الأخرى بذاتها صحيحة فيصح الحديث دون النظر إلى هذا الإسناد بعينه، وإما أن تكون الأسانيد الأخرى نفسها فيها ضعف، ولكن ضعفها يسير يتقوى بها الحديث لو اجتمعت هذه الطرق كلها بعضها إلى بعض، فنقول في هذه الحالة: إن هذا الإسناد بعينه ضعيف، ولكن الحديث يرتقي من الضعف إلى الحسن أو إلى الصحة؛ لتعدد طرقه.
ولفظ الغرابة يخضع لمصطلح كل عالم رغم أن المقصود بها التفرد، وهي عند الترمذي بمعنى الضعف، وعند الحافظ ابن كثير في تفسيره بمعنى النكارة، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عُرف هذا عن كل مصنّف في كتابه.
والعلة في اللغة: المرض. وهو حقيقة في الأجسام، ثم استعير هذا المعنى لإلحاقه بالحديث غير الصحيح.
وفي الاصطلاح هي: سبب خفي يقدح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الفن من أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله تبارك وتعالى فهماً غائصاً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولذلك لم يتكلم فيه إلا أفراد من أئمة هذا الشأن وحُذّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لما جعل الله لهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك، وقد تقصر عبارة المعلل -يعني: أن الذي يعلل الحديث تقصر عبارته عن ذكر العلة، فقد يقول لك: هذا الحديث معلول، فإذا سألته: ما هي علته؟ لم يستطع التعبير عنها، ولذلك بعض الناس يقول: إن العلة في الحديث كهانة، فهم يعبرون عن غموض العلة وعدم القدرة على التعبير عنها بالكهانة- فلا يفصح بما استقر في نفسه، أي: أنه يشك في أن الحديث معلول، فإذا سألته: ما هي علته؟ قال: في نفسي شيء من الحديث لا أستطيع التعبير عنه.
وذلك مثل الصراف يقول لك: هذا الدولار مضروب، فإذا قلت له: من الذي ضربه؟ قال: لا أعرف، وإذا قلت له: ما هي العلة التي عرفت بها ضربه؟ قال: لا أعرف. فهو لا يستطيع أن يعبر عن العلة التي لحقت هذا الدولار، وهذا كالحاسة السادسة، فهو لا يستطيع أن يعبر ولا أن يقدم دليلاً مادياً محسوساً على أن هذا الدولار مضروب، وإنما وقع في قلبه أن هذا الدولار ليس جيداً، وبناء عليه امتنع عن أن يقبله، وكذلك الناقد الكبير في هذا الفن يقول لك: إن هذا الحديث معلول، فإذا سألته: ما هي علته؟ قال: لا أعرف، فعبارتي تقصر عن إفادة العلة في هذا الحديث، وتجده يقسم أيضاً على أنه معلول.
فهو متأكد، ولكنه لا يستطيع التعبير عن العلة. فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك؛ لأننا نتّبعه في التصحيح، فلِم لا نتبعه في التعليل؟ فكما نتّبعه في تصحيح الأحاديث إذا صححها فلنتبعه أيضاً في تعليل الحديث إذا علله.
وهذا الإمام الشافعي مع إمامته وجلالته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه، فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم الكبار بالعلل، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرّح بإثبات العلة.
ويقول السخاوي : وهذا النوع من علوم الحديث -أي: الحديث المعلل- من أغمض أنواع الحديث وأدقها، ولذا لم يتكلم فيه إلا الجهابذة أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، مثل ابن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة ، ولخفاء هذا النوع كان بعض الحفّاظ يقول: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل.
وكان عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد والشافعي يقول: هو إلهام -أي: إن معرفة العلل إلهام- ولو قلت للقيّم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة يعبر بها، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض.
وسئل أبو زرعة الراوي عن الحجة لقوله عندما سئل عن حديث، فقال: معلول؟ فقال: لا أستطيع أن أقول لك ما هي حجتي، ولكن اذهب واسأل ابن وارة -وهو من أئمة الحديث- فإذا قال لك مثل قولي فاذهب إلى أبي حاتم، فإذا قال لك مثل قولنا فاعلم أن الحديث معلول، ففعل الرجل ذلك فاتفقوا جميعاً، فاعلم أن هذا الأمر على الحقيقة، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام، فلو لم تكن له علة لما اتفق أبداً كلام أبي زرعة مع كلام أبي حاتم وكلام ابن وارة، فلما اتفقوا دل على أن الأمر فعلاً فيه علة، ولما قصرت عبارة هؤلاء جميعاً عن ذكر هذه العلة دل على أنها إلهام من الله عز وجل لهؤلاء العلماء.
ولو أن ملكاً أو رئيساً من رؤساء الدنيا عنده خادم خدمه خمسين أو ستين عاماً فإنه لا يتصور أن يبقى شيء من أمر الملك أو الرئيس إلا ويعلمه ذلك الخادم، وخاصة ما يمكن أن يقوله ذلك الرئيس وما لا يمكن أن يقوله، فإذا كان لم يسمع الملك تلفظ بكلمة قبيحة طوال الخمسين سنة ثم أتى من يقول له: إن الملك يتكلم بألفاظ قبيحة، فسيكذبه الخادم من أول وهلة؛ لأنه منذ خمسين سنة يخدم الملك ويعرف ما يمكن أن يصدر عنه من ألفاظ، وأنه لا يمكن أن يصدر منه العيب أبداً.
وكذلك العالم الكبير في هذا الفن الذي مارس حديث النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها، فقد أصبح لديه حاسة إذا سمع لفظاً أو إسناداً عرف أن هذا الإسناد مستقيم أو غير مستقيم، وهذا الكلام يصدر أو لا يصدر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ممارسته للأسانيد وحفظه للرجال ومراتبهم وطبقاتهم، وبناء على خبرته الطويلة يحكم بأن هذا الحديث معلول أو غير معلول.
فعلم العلل عبارة عن إلهام من الله عز وجل يلقيه في قلوب النُقّاد، وليس معنى هذا أن يحدث كل منا ويقول: هذا حديث موضوع، وهذا حديث صحيح، وأن هذا يمكن أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يمكن أن يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، بل هذا الكلام يقوله ابن المديني والبخاري والدارقطني.
وقد بين الخطيب البغدادي السبيل إلى معرفة العلة إذا كان يمكن أن يتوصل إليها، وذلك بما يعرف في هذا العلم بالتتبع، والشواهد، والاعتبار. وهو: جمع طرق الحديث من بطون كتب السنة والمقارنة بينها؛ حتى يعرف ما إذا كان هذا الحديث مرفوعاً أو موقوفاً، أو موصولاً أم مرسلاً، ثم الترجيح بينها، فإذا ترجّح الرفع كان الوقف هو المعلول، وإذا ترجّح الوقف كان الرفع هو المعلول، فإذا كان الحديث قد روي مرفوعاً من طريق الحفاظ الثقات الضابطين، وروي موقوفاً من طريق أهل الصدق والستر والأمانة رجح المرفوع.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي : حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم؛ لهم فَهْمٌ خاصٌّ يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك.
فمثلاً إذا أتى حديث من طريق الزهري، ونفس الحديث جاء من طريق حماد مثلاً قالوا: هذا الحديث أليق بـالزهري ، أي: أنه أشبه بـالزهري ، ويقولون: أخطأ فيه حماد.
وهذا يرجع فيه إلى الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم.
فالقادحة هي التي تطعن في صحة الحديث.
وغير القادحة هي التي لا تطعن في صحة الحديث.
ومثال العلة غير القادحة في السند مثلاً: أن يروى حديث عن راو مدلس من أربعة طرق، ثلاثة منها يقول فيها: عن فلان، وفي الطريق الرابع قال: حدثني فلان؛ فهنا صرّح بالتحديث، وهذا يجبر عنعنته في الطرق الثلاثة الأولى؛ لأنه صرّح بالتحديث، وهذا ينفي عنه شبهة التدليس، فهذه العلة غير قادحة؛ لأنه صرّح بالتحديث في مكان آخر.
وهذا بخلاف البيوع المحرّمة والمنهي عنها، كالملامسة والمنابذة، وقد كانت هذه البيوع موجودة في الجاهلية، فقد كان البائع يقول للمشتري: انبذ إلي وأنبذ إليك، بمعنى: لو دفعت لك السلعة فقد وجب عليك أن تدفع لي الثمن أعجبتك أو لم تعجبك، وفي الملامسة كان يقول له: لا تضع يدك على السلعة، فلو وضعت يدك عليها فقد وجب البيع.
وهذا الحديث رواه يعلى بن عبيد الطنافسي عن الثوري عن عمرو بن دينار ، ويعلى بن عبيد هو الوحيد الذي يرويه عن الثوري عن عمرو بن دينار ، وأصحاب الثوري يروونه عن الثوري عن عبد الله بن دينار وليس عن عمرو ، ففي هذه الحالة نقول: إن يعلى بن عبيد أخطأ في هذا الإسناد، فقال: إن شيخ الثوري عمرو بن دينار وهو في الحقيقة عبد الله بن دينار . وهذه العلة لا تؤثر في المتن؛ لأنه أتى من وجوه أخر صحيحة.
النوع الثاني: أن تقع العلة في الإسناد وتقدح فيه وفي المتن معاً، وذلك مثل إبدال راو ضعيف براو ثقة، كـحماد بن أسامة كان يروي عن شيخه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، وكان يعرف من اسمه عبد الرحمن بن يزيد فقط، فغلب على ظنه أن اسمه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فكان يقول من عند نفسه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو في الحقيقة ابن تميم ، فهنا يضعف الحديث رغم أن العلة لحقت بالإسناد؛ لأن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ضعيف وابن تميم ثقة، فهو أبدل الراوي الثقة براو ضعيف، فهذه العلة تقدح في السند والمتن معاً؛ لأن الراوي ضعيف.
النوع الثالث: أن تقع العلة في المتن ولا تقدح فيه ولا في الإسناد، كمثل ما وقع من اختلاف في ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين، فإن أمكن رد الجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنها، وهذا الذي نسميه وجوه الترجيح.
النوع الرابع من أنواع العلة: أن تقع العلة في المتن دون الإسناد، وذلك مثل حديث أنس رضي الله عنه: (أنهم كانوا لا يقرءون ببسم الله الرحمن الرحيم، وكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين)، فـأنس فهم أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، وهناك فرق بين الصورتين؛ لأن السورة نفسها تسمى سورة الحمد، فحينما كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، فهذا لا ينفي أنهم يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، فهي آية من الفاتحة على الراجح من أقوال أهل العلم، وأما قوله: كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فهذا نفي لقراءة البسملة، والصورة الأولى لا تمنع قراءة البسملة؛ لأن السورة نفسها يُطلق عليها سورة الحمد، فكانوا يبدءون القراءة بسورة الحمد، ولا ينفي ذلك أنهم يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم. وقول أنس استدل به من قال: إن البسملة ليست آية من القرآن حتى الفاتحة.
والراجح: أنهم كانوا يذكرونها سراً.
النوع الخامس من أنواع العلة: أن تقع في المتن وتقدح فيه وفي الإسناد معاً، وذلك كالحديث الذي يرويه راو بالمعنى ويخطئ في معناه، والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي.
وذهب جمهور أهل العلم إلى جواز الرواية بالمعنى، بشرط أن يكون الراوي عالماً بما تحيل إليه الألفاظ من المعاني؛ لأن الراوي الذي يروي الحديث بالمعنى لا شك أنه يأتي بألفاظ من عنده هو، فإن لم يستطع ضبط الألفاظ التي أتى بها مع الألفاظ الموجودة في الحديث فسوف يغير المعنى، وربما يكون في لفظه ما يحتمل أحكاماً جديدة وليست موجودة في أصل الحديث، أو ربما يأتي بلفظ يخل بالمعنى، فيصرف الحديث عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أراده، فالذي يروي الحديث بالمعنى لا بد وأن يكون عالماً بما تحيل إليه الألفاظ من المعاني، وإلا يحرم عليه أن يروي الحديث بالمعنى.
فإذا روى الراوي الحديث بالمعنى فأتى بألفاظ تحتمل أحكاماً ليست موجودة، أو تنفي أحكاماً موجودة، أو غيّر أو بدّل فهذا التغيير والتبديل والزيادة والنقصان علّة تلحق المتن، وبالتالي تقدح في الراوي، وهذه العلة التي لحقت المتن تؤثر في المتن كما تؤثر في الإسناد أيضاً.
ذكر الحاكم أبو عبد الله في كتابه معرفة علوم الحديث العلل وقسّمها إلى عشرة أجناس، ولخّصها السيوطي في تدريب الراوي، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في تدريب الراوي أو في معرفة علوم الحديث للحاكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر