اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين:
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج، على نزاع فيما يصل من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن رحمه الله: أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح ].
هذا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي رفعت الصبي وقالت: (ألهذا حج؟ قال: ولكِ أجر)، هذا والحديث مطلق، وقد ورد في أكثر من حادثة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حج عن أبيه أو عن أمه، أو فيمن يحج بالصبي، والصبي غير مكلف، وورد ثبوت الأجر لمن حج عن غيره مطلقاً في النصوص، فتحديد الأجر بأجر النفقة هذا لا دليل عليه.
قال رحمه الله تعالى: [ واختلف في العبادات البدنية، كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها.
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء ألبتة لا الدعاء ولا غيره، وقولهم: مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39].
وقوله: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، وقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه.
واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج بأن النوع الذي لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ].
الصلاة بالاتفاق لا تدخلها النيابة، فلا أحد ينوب عن أحد في الصلاة.
أما الحج فقد ورد أنه يجوز الحج عمن لم يستطع الحج، سواء كان حياً غير متمكن بإطلاق، أو من به مرض لا يرجى برؤه، أو كان ميتاً، فإنه يجوز الحج عنه والنيابة عنه.
وكذلك تجوز الصدقة عن حي أو ميت.
وكذلك بعض الأعمال الأخرى كإهداء قراءة القرآن.
أما الصيام ففيه نظر أو فيه خلاف هل هو مما تدخله النيابة أو لا تدخله، والراجح أنه لا يصوم أحد عن أحد إلا بإسقاط الفرض؛ لحديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، وهذا لا يعني: النيابة، إنما يعني: الصيام عمن مات وعليه فرض الصيام.
إذاً: الراجح أن الحديث لا يتعدى إلى التطوع، إلا إذا كان واجباً، كصيام فرض، أو وجب على الإنسان صيام كفارة أو نذر.
قال رحمه الله تعالى: [ كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره، وقد روى النسائي بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة) ].
أما الكتاب، فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل).
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية).
وفي صحيحه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وأما وصول ثواب الصدقة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم).
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن
وأما وصول ثواب الصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه؛ لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع ].
الحديث صريح ولا اجتهاد مع النص، في أنه يجوز الصيام بل يشرع الصيام عمن مات وعليه صوم.
وكنت أريد أن أشير إلى أن حديث ابن عباس السابق الصحيح فيه أنه موقوف على ابن عباس وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة) حسب ما قال المحقق: إنه موقوف على ابن عباس .
قال رحمه الله تعالى: [ وأما وصول ثواب الحج، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)، ونظائره أيضاً كثيرة.
واجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي ومن غير تركته، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته)، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله له في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته.
وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟ ].
قوله: (وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة) هذا من باب القياس، والقياس في الأمور التوقيفية لا يصح؛ لأن أمور العقيدة توقيفية، هذا ليس من باب الأحكام المجردة، هذا من باب الأمور الغيبية والأمور التوقيفية، فإذا نبه الشارع بوصول ثواب الصوم، فلا يدل ذلك على وصول ثواب غيره من الأعمال إلا بدليل آخر، وإلا لو أخذنا بهذه القاعدة لفتحنا باب العمل للميت من كل وجه، بما في ذلك قراءة القرآن عند القبور، وبما في ذلك الصلاة، والكثير من الأعمال التي يعملها أهل البدع، وهذا فيه نظر.
إذاً: لا يصح القياس في أمور العقيدة والأمور الغيبية أبداً، وإنما يصح القياس في أمور الأحكام، وهذا ليس حكماً فقط، هذا حكم وعبادة في وقت واحد، فأمور العبادة وأمور العقيدة والأمور الغيبية التوقيفية كل هذه الأمور ليس فيها قياس، القياس في أدلة الأحكام وفي قواعد الأحكام، وهذا له جانبان: جانب كونه حكماً، وجانب كونه عبادة وعقيدة، فربما أشار الشارح إلى أخذ جانب كونه حكماً فقط، ولم يأخذ بالجانب الآخر، وهو كونه من أمور العقيدة التوقيفية، وأمور العبادة التي يتعبد بها الناس، فلا يصح قياس شيء على شيء، فما ثبت في الشرع أنه تجوز فيه النيابة، أو يصل ثوابه إلى الميت، نقف عليه ولا نزيد الحج والصدقة، وكذلك قراءة القرآن على قول: إنها لا أصل لها، مع أن بعض السلف فعلها، لكن يمكن أن يقال: لاشك أن الدعاء يصل ثوابه بالإجماع، فالدعاء من الأمور التي أجمع السلف على أن ثوابه يصل إلى الميت، سواء كان دعاء الاستغفار أو غيره من الأدعية المشروعة.
كذلك اتفق جمهور السلف أن الصدقة تصل إلى الميت، والحديث في هذا صحيح.
كذلك صح الحديث على أنه يصل ثواب الحج كله وليس بعضه، والقول بأنه تقع فيه النيابة عن الميت هذا باتفاق جمهور السلف، فكذلك اتفق جمهور السلف على أنه يصل ثواب الحج إلى الميت.
أما الصوم فلا يقاس عليه غيره؛ لأن القول بوصول ثواب الصوم فيه نظر؛ لأن ما ورد في الحديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، غاية ما يفهم منه أنه سقط الوجوب عن الميت، لكن أن يكون وصل إليه ثوابه، الله أعلم.
كذلك إهداء ثواب التسبيح للميت هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، مثل: الشهادة تقول: لا إله إلا الله ثوابها لفلان، أو سبحان الله وبحمده ثوابها لفلان، هذه من المسائل الخلافية.
أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام، من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم.
يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.
الثاني -وهو أقوى منه-: أن القرآن لم ينفِ انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه.
وقوله سبحانه: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:38-39]، آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى:
فالأولى: تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا.
والثانية: تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكذلك قوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286]، وقوله: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره، فإنه تعالى قال: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54].
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فاستدلال ساقط؛ فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين، وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت كما تقدم، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما: (اللهم هذا عن أمتي جميعاً)، وفي الآخر: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) رواه أحمد والقربة في الأضحية وإراقة الدم، وقد جعلها لغيره.
وكذلك عبادة الحج بدنية، وليس المال ركناً فيه، وإنما هو وسيلة، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال، وهذا هو الأظهر، أعني: أن الحج غير مركب من مال وبدن، بل بدني محض، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين.
وانظر إلى فروض الكفايات: كيف قام فيها البعض عن الباقين، ولأن هذا إهداء ثواب، وليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء.
وفي الاختيار: لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة؛ لأنه في معنى الأجرة. انتهى.
وذكر الزاهدي في القنية: أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره فالتعيين باطل.
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج، فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام؟ ].
رأي جمهور السلف على خلاف هذا القول، لكن بعض أهل العلم المعتبرين من السلف وغيرهم قالوا بمثل قول ابن أبي العز هنا، وقال به أيضاً بعض المتقدمين والمتأخرين، لكن الراجح هو قول جمهور السلف من أنه لا يجوز القياس في هذا الأمر، ولا يجوز إهداء قراءة القرآن للميت، وكونه لم يرد عن السلف يعتبر حجة؛ لأنه إذا لم يرد فيه نص صحيح صريح بإطلاق ولم يفعله السلف هذا كاف في أن نرده؛ لأنه يدخل في باب الابتداع، وقياس إهداء القرآن على وصول ثواب الحج والصيام والدعاء لا يصح، للاعتبارات التي ذكرتها من قبل، وهي أن هذا الأمر من الأمور التي لا يجب فيها القياس؛ لأن فيه جانب عبادة، وأيضاً هو أمر توقيفي، ومثل هذه الأمور لا بد أن يكون الأصل فيها الدين، ومع ذلك فإن الشارح سينتصر لهذا الرأي ويذكر الأدلة، وكما قلت: المسألة فيه نزاع.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة؟ قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته، فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه، فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟
فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم إليه.
ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير.
فمن قال بكراهتها، كـأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، قالوا: لأنه محدث لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة.
ومن قال: لا بأس بها، كـمحمد بن الحسن وأحمد في رواية، استدلوا بما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها، ونُقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.
ومن قال: لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نُقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين، وأما بعد ذلك كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم يُنقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره لما فيه من التوفيق بين الدليلين ].
يعني: يرى الشارح أن القراءة عند القبر بعد الدفن مباشرة فقط لا بأس بها؛ لأن هذا هو المأثور عن كثير ممن أجازه من السلف، وأنهم يرون هذا جائزاً وقت الدفن، أما أن يكون بصورة مستمرة في كل وقت يقرءون عنده القرآن، فهذا ليس بمشروع.
الجواب: مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء لها جانبان: جانب حكمه من حيث الشرع الجواز، وجانب حكمه عدم الجواز؛ لأنه من الجوانب العبادية، والخلاف ورد بسبب الذين توسعوا في هذا الجانب، فالعبادات في أسلوبها داخلة في باب العقيدة، ثم هناك جانب غيبي، والجانب الغيبي داخل في العقيدة، ومن الجانب الغيبي نشأة الأموات، وما يسمعونه وما لا يسمعون، وما ينتفعون به وما لا ينتفعون، وهل يجيبون أو لا يجيبون؟ وهل يصلهم الثواب أو لا يصلهم؟ فهذه أمور داخلة في مسألة الحياة البرزخية وأمور الآخرة، فمن هذا الجانب كانت عقدية.
الجواب: أولاً: الدعاء لا يرد ما كتب في اللوح المحفوظ، الدعاء يرد الأقدار الجزئية الأخرى، ما كتب في صحيفة الإنسان عند نفخ الروح فيه بعد (120) يوماً من خلقه، إذا نفخت فيه روحه وكتبت عليه القضايا الأربع: رزقه، وأجله، وموته، وشقاوته أو سعادته، هذه الأمور لا ينفع فيها الدعاء، إنما ينفع الدعاء في رد بعض الأقدار الجزئية أو جلبها، هذا هو الظاهر من النصوص.
ثانياً: أن ما يقدره الله عز وجل مع كونه عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت هذا لا يتعارض مع الكتابة الأولى، فالمحو والإثبات إنما فيه دليل على عموم مشيئة الله عز وجل، وأن الله فعّال لما يريد.
واختلف أهل العلم هل المحو والإثبات في الكتابة الأصلية الأولى؟ الراجح أن المحو والإثبات في الكتابات الجزئية؛ لأن الكتابات مراحل:
منها: الكتابة القدرية العامة الكبرى التي قدر الله بها جميع أحكام الخلائق، فهذه كتابة عامة.
ومنها: ما هو دون ذلك ككتابة الصحيفة، الكتابة السنوية التي يقدرها الله عز وجل في ليلة القدر.. وغير ذلك، فهذه كتابات جزئية.
فالمحو والإثبات إذا كان في الكتابة الأصلية فهو راجع إلى قدرة الله عز وجل وتقديره، وأن الله يعلم أن هذا سيكون، فلا يتعارض مع كتابته وتقديره وخلقه، وإذا كان المحو والإثبات في الصحائف التي دون الصحيفة الكبرى أو الكتابة الأولى، فهذا يعني: أن الله عز وجل يقدر في النهاية ما كتبه في الأول، وهو الراجح.
المهم أن مراتب القدر باقية على ما هي عليه: العلم، والكتابة، علم الله عز وجل من عباده ما سيكون منهم فكتب الكتابة المستقرة على ما علمه منهم، وما دون ذلك من كتابات قد يكون فيه المحو والإثبات، والله أعلم.
الجواب: الصحيح أن الأموات يسمعون الأحياء، لكن ليس دائماً إلا ما ورد بالنص من أن الميت عند دفنه يسمع قرع نعال من ينصرفون عنه، ويسمع قولهم، وكذلك عند السلام، إذا جاء الحي وسلم على الميت، فإن الميت يرد عليه السلام ويسمعه، أو يسمعه سواء رد أو لم يرد، هذا هو الذي ورد هنا.
إذاً: ما ثبت به النص يثبت وما لم يرد لم يثبت، وليس هناك دليل على أن الأموات يسمعون في كل الأحوال، فيكون الأصل أنهم لا يسمعون إلا ما ورد به النص.
الجواب: القراءة على الميت بعد وفاته مباشرة نقلت عن بعض الصحابة وعن بعض السلف، نقلت عن محمد بن الحسن وعن ابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين، وبقية الصحابة لم ينكروا ذلك، والقاعدة الشرعية: أن الصحابة إذا عملوا شيئاً من أمور العبادة الأصل فيها التوقيف، فإن عملهم حجة، خاصة إذا أقروه ولم يعارضوه، أو أقره بعضهم ولم يُعارض، وهذا موقوف أو محصور فيما بعد الدفن، أما استمرار قراءة القرآن على القبر فهذه المسألة فيها خلاف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر