من مراتب القدر الإيمان بعلم الله تعالى الأزلي السابق لجميع المخلوقات، فهو سبحانه قد علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة علماً دقيقاً تفصيلياً، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ثم شاء وقدر مقادير الخلائق، ثم خلقهم على ما علم وقدر سبحانه، فتقديره سبحانه مطابق لعلمه الأزلي بكل شيء، ولم ينكر العلم الأزلي إلا غلاة المعتزلة والقدرية، وقالوا بأن الله لم يخلق أفعال العباد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه) ].
في هذه الفقرة أراد الشارح والمؤلف رحمهما الله تعالى أن يقررا أن علم الله سابق لكل شيء، وأن علم الله سابق يشمل جميع أفعال العباد، وكذلك التقدير، فالعلم والتقدير في كل ما يحدث في هذا الكون سابقان من الله عز وجل، فلا يحدث إلا ما علمه الله عز وجل، ولا يحدث إلا ما قدره الله عز وجل.
وأراد بهذه الفقرة أن يرد على شبهة القائلين بأن أفعال البشر كلها أو بعضها ليست مقدورة لله عز وجل ولا معلومة له إلا بعد حدوثها.
وقال: [ وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل ] فالإشارة إلى غلاة المعتزلة، يعني: أنه ليس كل المعتزلة يقولون ذلك، وهذا صحيح، فغلاتهم ينكرون علم الله في الأزل، يعني: علم الله السابق مطلقاً، ويقولون: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوها، وبعضهم يقول بأن الله لا يعلم أفعال الشر من العباد حتى يفعلوها، إنما يعلم أفعال الخير ويقدرها، وبعضهم يثبت العلم، لكنه ينكر التقدير، يقول بأن الله علم ما سيفعله العباد، لكنه لم يقدره، وكذلك اختلافهم في التقدير كاختلافهم في العلم؛ فمنهم من ينفي تقدير أفعال العباد مطلقاً من قبل الله عز وجل، ومنهم من ينفي تقدير أفعال الشر فقط.
وهؤلاء كلهم الرد عليهم واحد، ويتلخص في قول الشافعي : ناظروا القدرية بالعلم، يعني: خذوهم في مسألة الإقرار بالعلم، يعني: سلوهم عن العلم، أي: علم الله عز وجل، فإن أقروا به، أي: أقروا بأن الله عالم بكل شيء خصموا، بمعنى: انقطعت حجتهم، فلا يعقل أن الله عز وجل يعلم شيئاً ولا يقدره، وإن أنكروا العلم كفروا؛ لأن من أنكر العلم ادعى أنه يقع في ملك الله ما لا يعلمه الله، وهذا لا يعقل ولا يليق ولا يمكن، بل يستحيل أن يقع في ملك الله عز وجل -وهو المدبر الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية- ما لا يعلمه.
إذاً: فهم بهذا يخصمون على الوجهين.
ثم عرض الشارح لشبهة قالها بعض المتحذلقة، وهو قولهم: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان يمكن أن يفعل ما لا يريده الله شرعاً فهذا يعني أن العبد قادر على تغيير علم الله، فكأنهم يزعمون أن الله لا يدري هل يفعل هذا أو ذاك، فإذا فعل ما لا يريده الله -أي: لم يشرعه الله- تجدد لله علم بأن هذا العبد فعل الشر الذي لا يريده الله منه! وذلك كله ناتج عن قصور فهمهم للقدر.
فيقال لهم: هذه مغالطة؛ لأن مجرد قدرة العبد على الفعل لا تستلزم تغير العلم وتغييره بالنسبة لله عز وجل، فكون الله عز وجل أقدر العباد على الفعل والترك لا يعني أنه بفعلهم أو تركهم يتجدد له شيء، فالله سبحانه كما أنه أقدر العبد على أن يفعل وأقدره على أن يترك هو عز وجل عالم بأنه سيفعل أو سيترك، فإن فعل العبد ما يأمر الله به فإن الله عالم سلفاً بأن العبد سيفعله، وإذا لم يفعل العبد ما يأمره الله به؛ فإن الله عالم سلفاً بأن العبد لن يفعل ذلك، ومن هنا كان التقدير السابق في الشقاوة والسعادة مبنياً على علم الله السابق وحكمته ومشيئته.
إذاً: مجرد قدرة العباد على الفعل أو على الترك لا يلزم منها أن يتغير لله علم.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة؛ حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.
والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر لما قيل له: يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء ].
يعني: أنهم جعلوا من أفعال العباد ما لا يقدره عليه الله عز وجل وتعالى عما يقولون، أو أنهم أيضاً عمموا ذلك حتى في العلم، فقالوا بأنه لم يعلمه ولم يقدره.
فالمهم أن جملة القدرية يكذبون بتقدير الله تعالى لكل شيء، ويزعمون أن الله لا يقدر بعض أفعال العباد على درجات بينهم.
قال رحمه الله تعالى: [ والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة:
أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، قال تعالى:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
[الفرقان:2]، فالخلق يتضمن التقدير؛ تقدير الشيء في نفسه بأن يُجعَل له قدرٌ، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات ].
الإشارة إلى العلم هنا ينبغي التنبيه على أنها ليس لها مفهوم، وأعني بذلك أن السلف حينما عبروا بوصف القديم في علم الله وفي سائر صفاته لا يقصدون بذلك أن هناك قديماً وجديداً في علم الله، فعلم الله عز وجل كله أزلي ولا يتجدد لله علم، إنما قصدهم بالقديم: أن علم الله أزلي لا بداية له، أي: لم يحدث لله علم، ولم يتجدد لله علم، فعلم الله كامل قبل وجود المعلومات.
قال رحمه الله تعالى: [ الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلِم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً؛ فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلِم عباده بذلك فكيف لا يعلمُه هو؟!
الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.
الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه ].
هنا تنبيه مهم أشار إليه الشارح، وهو مسألة الدليل على أن الله عز وجل عليم بكل شيء، ومن جملة ذلك أفعال الشر من العباد، لا كما تزعم القدرية والمعتزلة وغيرهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء من أفعال الشر من العباد تقع في المستقبل أعلمه الله بها، وهم يقرون بهذه الأخبار، فإقرارهم بها حجة عليهم، فالله عز وجل أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من الأخبار المغيبة التي هي من أفعال الشر من العباد، كإخباره صلى الله عليه وسلم في قصة ذي الخويصرة : أنه سيخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يفعلون كذا وكذا من أمور الشر والبدع، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الدجال وما يحدث منه وما يحدث له، والشرور التي تحدث على يديه والمصائب، وأخباره صلى الله عليه وسلم بالفتن والشرور التي تحدث من أفراد العباد أو من مجموعاتهم، فهذه شرور يفعلها العباد، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئاً من الغيب إلا ما أعلمه الله به.
فالله عز وجل أعلم وأخبر بعض عباده بأشياء من أفعال الشر التي يفعلها العباد، والمعتزلة وغيرهم ممن ينكرون علم الله بأفعال الشر وتقديره لها يقرون بصحة هذه الأخبار، ففي ذلك رد عليهم.