قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]؛ فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له؛ أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) خرجاه في الصحيحين.
قوله: وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله ].
هذا الحديث إشارة إلى الحجة القائمة على الخلق في مسألة القدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة المقادير السابقة، وأن مصير كل عبد قد كتب من الشقاوة والسعادة أشكل عليهم ذلك من حيث فائدة العمل، فقالوا: إذاً: فلم العمل؟! فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقاعدتين عظيمتين:
القاعدة الأولى: وجوب العمل؛ لأن الله أمر بالعمل، فقال: اعْمَلُوا [التوبة:105]، وهذا مقتضى الشرع الذي أنزله الله على رسله.
بمعنى أن مصير العبد -حتى وإن كان كتب عليه تقديره السابق- مرتبط بعمله، وما دام ما كتب عليه غيباً فعليه أن يشتغل بعالم الشهادة، وليدع الغيب، فلا يعلق ذهنه ولا اعتقاده ولا مصيره بالغيب؛ لأن مصيره مرتبط بالعمل، فقوله: (اعملوا) أمر منه صلى الله عليه وسلم، وهو أمر الله الذي أرسل به رسله، فهذا توجيه يخرج معضلة اللغز الذي يحار فيه بعض الناس، فالصحابة حينما عرفوا أن التقدير السابق كتب وجاء عليهم الإشكال؛ أمروا بهذا الأمر، وكذلك جميع الأمة.
إذاً: المصير المقدر السابق المجهول مرتبط بالعمل.
القاعدة الثانية -وهي أيضاً حلقة من الأولى- قوله: (فكل ميسر لما خلق له).
إذاً: فبعد العمل وبعد السعي والتحصيل وبعد بذل السبب الشرعي الذي قامت به الحجة سييسر كل لما كتب له، إلامَ وعلامَ سييسر؟ الله أعلم،، إنما الذي نعلمه أن الله عز وجل كلف العباد وأمرهم بالعمل وأقدرهم عليه وخيرهم فيه، وليس هناك إنسان يقول: أنا مقهور على أن أعمل الشر، أو أنه يعمل بدون إرادته، بل كل إنسان حر عاقل مميز يستطيع أن يعمل كما يشاء، يستطيع أن يعمل الخير بإرادته، وتقوم عليه الحجة بذلك، وأن يعمل الشر بإرادته وتقوم عليه الحجة بذلك.
ثم إن الله عز وجل أعطى العباد عقولاً وفطراً، ثم أنزل لهم شرعاً يتضمن الأمر والنهي، ووعد على امتثال الأمر بالوعد الصادق، وتوعد على فعل الأمر وفعل المنهيات بالوعيد الصادق، وأقدر الإنسان على فعل هذا وهذا، ولم يقصره عليه، لذلك فالإنسان الذي يفقد عقله أو يكره على أمر لا يكلف، فمن هنا يأتي معنى: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، اعملوا بمقتضى ما أمرتم به، وثقوا بأنه لن يضيع عمل العامل، وكل سيسره الله لما قدره عليه في السابق، وليثق المرء بأن الإنسان الذي يعمل خيراً سيجد خيراً، والذي يعمل شراً تقوم عليه الحجة، فهذا أمر ينبغي أن لا يتعداه الإنسان في مسائل القدر، فينبغي لكل مسلم أن يلتزم هذا القدر، وما عدا ذلك من مسائل القدر لا يخوض فيه إلا على سبيل العلم، فنتكلم عن مواطن القدر لنعلمها فقط لا لنعلق عليها أموراً غيبية، بمعنى: لا نتكل على أمر كتب، فإذا عرف الإنسان أن كل شيء مكتوب -ومن جملة ذلك الشقاء والسعادة- فلا يعني ذلك أنه يتكل على المكتوب، بل عليه أن يعمل بالمعلوم، والغيب غيب عند الله، بدليل أنه لا أحد يدري ما مصيره، وإذا كان كذلك فليعلم أن مصيره مرتبط بالعمل أو ترك العمل.
تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين، وزاد البخاري : (وإنما الأعمال بالخواتيم).
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق-: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق ].
ابن عبد البر رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة، وكتبه عمدة عند أهل السنة، لكن لم تشتهر عندنا؛ لأنه من علماء المغرب، ومع ذلك ينبغي على طلاب العلم أن يعنوا بكتب الإمام ابن عبد البر ؛ فإنه -رحمه الله- خدم السنة خدمة جليلة، خاصة في مسألة التأصيل والتقعيد، ووضع واستقراء مناهج السلف، وكتابه (التمهيد) من أعظم الكتب، ولا أظن طالب علم يستغني عنه أبداً، فلا بد لكل طالب علم من أن يقتني هذا الكتاب وأن يعنى به ويدرسه، فقد اشتمل على كثير من أصول السلف، ورد فيه ابن عبد البر على كثير من أصول أهل الأهواء والبدع، ويحتاج هذا الكتاب إلى خدمة علمية لإخراج ما فيه من كنوز.
قوله: [ وأكثر المتكلمون من الكلام فيه] يقصد المعتزلة والقدرية والجبرية والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، كلهم تكلموا في مسائل الغيب ومسائل القدر بكلام يخرج عن أصول السلف وعن أصول الحق، وجعلوا كلامهم كأنه أصول السنة أو كأنه هو الاعتقاد، مع أن كلامهم لا يعدو أن يكون تخرصات ورجماً بالغيب.
أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه) ].
مثل هذه العبارة قد توهم أحياناً، أو يفهم منها شيء من بعض اللوازم التي لا تصح.
فقوله: [وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] بمعنى أن الله أراده كوناً، فالكفر فعل من الأفعال، وهو داخل في تقدير الله عز وجل وعلمه ومشيئته، بمعنى أن الكافر حينما كفر ما خرج عن إرادة الله، أو فعل شيئاً لا يريده الله؛ لأن الإرادة نوعان: إرادة بمعنى المشيئة العامة المطلقة الكونية، فكل شيء حدث في هذا الكون يحدث وهو في مشيئة الله، ومن ذلك الكفر والعصيان، بمعنى أن الله علمه وشاءه وقدره.
والنوع الآخر من الإرادة هي الإرادة الشرعية، وهي الرضا والمحبة، فلا شك أن الله عز وجل ما أراد شرعاً الكفر من الكافر ولا العصيان من العاصي، بل الله عز وجل في شرعه نهى عن الكفر والمعاصي، وعلى هذا فإن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي، ولا يرضى الكفر ولا المعاصي، فالإرادة بهذا المعنى هي المنفية، بمعنى أن الله لم يرد الكفر، أي: لا يحبه ولم يشرعه، ولكنه أراده كوناً وقدره؛ لأنه لا يحدث شيء في الكون بغير إرادة الله وتقديره.
فإذا فهمنا نوع الإرادتين عرفنا كيف نصرف اللفظ إلى المعنى الذي يناسبه، فإذا قلنا: إن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، فالمعنى: أراده وشاءه كوناً وقدراً، وإذا قلنا: إن الله لا يريد الكفر ولا يشاؤه؛ فهذا يعني أن الله لا يحبه ولا يرضاه؛ لأن هذا هو معنى ابتلاء العباد، وإلا فلا يكون للابتلاء معنى.
روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي : حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات. وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده! لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر).
قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس ، وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده).
وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. قال المجوسي: حتى يريد الله. فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما!
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت، فادعوا الله أن يردها عليّ. فقال عمرو بن عبيد : اللهم! إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟! قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد!].
هذا الأعرابي كان أفقه من عمرو بن عبيد في الدين، وهذه القصة لو قدر أنها لم تصح، فلسنا في حاجة إلى أن نتأكد من سندها، فهي تحكي واقعاً صحيحاً في مسألة استقامة أكثر العوام على الفطرة في المسائل الغيبية؛ لأنهم لم يرد عليهم ما يفسد الفطرة، فهذا الأعرابي على الفطرة، كالعجوز التي ردت على الرازي ، وككثير من العوام الذين يلهمون الحق في فطرتهم.
فيبدو لي أن القصة -حتى لو لم تصح- مستقيمة في رد قواعد القدرية بأصول الفطرة، فإن عمرو بن عبيد حينما دعا بهذا الدعاء الذي هو فرع عن عقيدته الباطلة -وهو قوله: إنك لم ترد أن تسرق ناقته- كأنه بذلك أخرج هذا الفعل الذي حصل من إرادة الله وعلمه ومشيئته، وكأن السرق لم يكن في سابق علم الله، ولا بإرادته ولا مشيئته، فهذا يعني أنه جعل هناك مشيئة دون مشيئة الله، فجعل مع الله مدبراً وجعل مع الله رباً آخر وهو يشعر أو لا يشعر.
فالأعرابي بفطرته خشي من هذه العقيدة الباطلة أن تكون سبباً في عدم رد ناقته أيضاً، فرد عليه بهذا الرد الفطري السليم الموجز الخالي من التعقيد ومن الفسلفة، لكن من يرد الله له الضلال لا يمكن أن يهتدي حتى بأوضح الأدلة، والمشركون قامت عليهم الأدلة بأوضح من هذا الدليل في القرآن، وفي آيات الله المنظورة والبينة، ومع ذلك لم يهتدوا، فقد رأوا انشقاق القمر حينما طلبوا، ومع ذلك قالوا: هذا سحر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال رجل لـأبي عصام القسطلاني : أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء ].
هذا أيضاً رد فطري شرعي، فالله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء، ويفعل في عباده وخلقه ما يشاء، فلا يجوز مثل ذلك الافتراض الذي افترض.
ولذلك أقول: إن السلف فعلاً شددوا في مسألة عدم السماع من أهل الأهواء، وعدم قراءة كتب أهل الأهواء وإن اشتملت على الحق، فقد يوجد فيها شيء من الحق، لكن الحق الذي في الكتاب والسنة وكتب السلف النقية يغني عن الحق الذي يلتبس بالباطل، فلذلك ينبغي أن تبقى هذه القاعدة إلى يومنا هذا، بل نحن أحوج إليها، وهو أن لا نسمع الشبهات ولا نقرأها، ولا نقرأ كتب أهل الأهواء والبدع مهما زخرفت، وأن لا نعرض أجيال المسلمين لها، سواء كانت أهواء قديمة أم جديدة، والغالب أن شبهات الأهواء تفتن وتستهوي الناس؛ لأنها إن كانت فلسفية ففيها من التشدق ما يستهوي الفكر ويستهوي عقل الإنسان، وإن كانت مادية فهي تدغدغ عواطف الناس واهتماماتهم، فمن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة، وإلا فلو لم يكن التلبيس لما كان لأهل الأهواء صولة، ولما كانوا في جملتهم أكثر من أهل السنة والجماعة، فالباطل المحض قليل من يرتكبه، فمن هنا تجد إشكالات التلبيس، بمعنى أنها موهمة، وإذا جردت عن الرد عليها فربما تؤثر فيمن ليس لديه فقه في الدين أو معرفة بأمثال هؤلاء، فلذلك يجب أن يحذر طلاب العلم من التعرض للشبهات، لا بقراءة ولا بسماع ولا باختلاط بأهلها.
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه ].
فكل من الطائفتين نحت منحى في هذا الفهم الخاطئ، فمنهم من تصور المشيئة والإرادة تعني المحبة، فأعفى العباد من كل تكليف، وقال: إن الله قسرهم على ذلك، إذاً: لا يعذبهم، فمن آمن بالله يكفيه ذلك، ولا داعي لأن نحاسبه على أعماله وعلى ما يرتكبه من آثام، لأن كل ذلك بمشيئة الله، بمعنى أن الله راض عنه، وهذا غلط، نعم ذلك بمشيئة الله، لكن لم يرضه تعالى، وفرق بين المشيئة العامة وبين الرضا والمحبة.
والفريق الآخر لما انخدع بمثل هذه الشبهة ما استوعبوا في أذهانهم أن الله عز وجل شاء الضلال ثم عذب عليه؛ وهم بعض الجهمية والمعتزلة وبعض الجبرية، والقدرية الأولى هم الذين أولوا الصفات وأنكروا الصفات الفعلية، بل أنكروا بعض الصفات الفعلية، فأنكروا المحبة، وأنكروا الرضا لله عز وجل، فلما أنكروا ذلك زعموا أن الله لا يرضى بالمعنى الذي ورد في الشرع الذي آمن به السلف، ولا يحب بالمعنى الذي هو حقيقة المحبة، فمن هنا ألغوا من أذهانهم مفهوم المحبة والرضا، فلما نظروا في واقع البشر وجدوا أن البشر يعملون شروراً ويعملون آثاماً، والله شاء كل شيء، فما استطاعوا أن يوفقوا بين المشيئة العامة وبين أن يشاء الله الشر أو يقدره، فزعموا أنه لا يليق بالله أن يشاء ويقدر الشر، ثم بعد ذلك يحاسب عليه، وما تصوروا المحبة والرضا والإرادة الشرعية، بل وقفوا عند المشيئة العامة والإرادة العامة، فلما وقفوا وأشكل عليهم زعموا أن المخرج من ذلك أن تنسب أفعال الشرور والمعاصي إلى العباد أنفسهم، وأن الله لم يقدرها أصلاً، فلما فعلوا ذلك جعلوا خالقاً مع الله، وطعنوا في علم الله عز وجل، وطعنوا في مشيئة الله، وجعلوا لله نداً ومدبراً في الكون غير الله، فوقعوا في شيء مما فروا منه كما ذكر الشارح.
المهم أن منشأ الخطأ هو عدم التفريق بين الأمرين في القدر: بين المشيئة والإرادة العامة من ناحية، وبين الرضا من ناحية أخرى، فيجب أن يفهم المسلم أنه ليس كل ما يشاء الله ويقدره يرضاه، إنما قد يكون شاءه وقدره ابتلاءً كما هو معروف في أساس التكليف للعباد.
الجواب: معنى ذلك أن القدر لا يمكن أن تكتشف الألغاز فيه والتساؤلات التي تحدث عند البشر إلا بموجب النصوص الشرعية، أما بمحض عقل الإنسان فلا تمكن الإجابة عنه إلا على ضوء أصل شرعي، بمعنى أن هناك تساؤلات ترد من باب الشكوك أو الشبهات لا جواب عليها إلا بالنص الشرعي، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن القدر غيب، والغيب سر، فمن معاني أنه سر الله في خلقه أو في عباده أنه يتعلق به مصائر العباد، ومصائر العباد غيبية، فأصل القدر سر، يعني أنه مجهول.
الجواب: هذا هو معنى التيسير، فقوله: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة) هو تفسير لمعنى قوله: (ميسر لما خلق له)، بمعنى أن من أراد الله له السعادة -ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً كذلك- فسييسر له العمل بعمل أهل الجنة، وكونه ينسب إليه أنه هو الذي يعمل راجع إلى ما أعطاه الله للعقلاء من القدرة على الفعل والترك، فقوله: (منكم من يعمل) بمعنى أن الله عز وجل حينما أقدره على العمل فإنه بإرادته التي أعطاه الله إياها يستطيع أن يعمل، فإذا عمل بعمل أهل الخير فذلك من تيسير الله له، وإذا عمل بعمل أهل الشر فذلك أيضاً من تقدير الله له، وهذا كله راجع إلى أصل القدر، أي أن الله علم ذلك وشاءه وقدره، لكن الله أراد من العباد الخير ويسر طائفة منهم لذلك، وأحب منهم ذلك ورضيه، وكره منهم فعل الشر ونهاهم عنه، لكنه أقدرهم عليه، بمعنى أنه إذا عمل عبد من العباد بعمل الشر فإنما عمل بحريته وإرادته، وعمله داخل في مشيئة الله العامة، لكن هذا العمل لا يحبه الله شرعاً ولا يرضاه.
الجواب: أما أن يكون الخوف من ركوب الطائرة ونحوها عدم إيمان فليس بصحيح، وأصل الخوف غريزة عند الإنسان، تزيد عند البعض وتقل عند الآخرين، لكن قوة الإيمان تقلل من الخوف وتكثر من الاعتماد على الله عز وجل وتوكيل الأمر إليه، فالإنسان الذي يجد في نفسه شيئاً من الخوف الشديد إذا أكثر من الأدعية والأذكار والأسباب المعينة التي شرعت ثم قوي اعتماده على الله وتوكله؛ فإن هذا الخوف يقل في نفسه، وليس من لوازم الخوف قلة الإيمان، بل الخوف غريزة، لكن إذا زاد عن الحد الطبيعي فربما يكون دليلاً على ضعف الإيمان، فالإنسان عليه دائماً أن يستعين بالله عز وجل ويتوكل عليه، ويتعود استحضار الأذكار دائماً، ولعله بذلك يخف ما عنده من خوف، أما إذا بقي الخوف مع بذل هذه الأسباب؛ فلا يدل ذلك -إن شاء الله- على عدم الإيمان بالقدر.
الجواب: القول الثاني يقصد به أن الميثاق هو الفطرة، وأنه ليس هناك شيء يسمى إشهاداً فعلياً، وأن الله عز وجل لم يأخذ ذرية آدم من ظهره أو من ظهورهم بشكل حقيقي، وأن ما ورد في الحديث إنما هو تعبير عن الفطرة، وتمثيل تخييلي، وهذا القول هو قول المتكلمين، وعلى هذا فلا يمكن أن يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم ، فالذي يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -فيما أذكر- هو أن الميثاق باق بالفطرة، وهذا حق، فالميثاق بقيت آثاره بالفطرة، وأن الناس في الحياة الدنيا لا يذكرون قصة الميثاق إلا من خلال ما ذكره الله عز وجل في كتابه، وخبره صدق، لكنهم لا يتذكرون أنهم حدث لهم ذلك المشهد الذي ورد في الحديث، وهذا لا يعني أنه لم يحدث، وتفسير هذا بالفطرة لا يعني إنكار حدوث مشهد الإشهاد والميثاق، وليس بينهما اختلاف كما ذكرت.
فعلى هذا فإن القول الثاني الذي أشرت إليه وأشار إليه الشارح لا يقول به إلا عدد قليل من السلف، والقائلون بحصول الإشهاد الفعلي والميثاق منهم من يثبتون الميثاق كما ورد في الحديث، ويفسرون الآية بمعنى من المعاني، وهو الفطرة والدلائل الكونية، وليس بين القولين تناقض.
إنما القول الذي يعد قليلاً هو القول بأنه لم يحدث الميثاق على النحو الذي ورد في الحديث؛ نظراً لضعف الحديث، وأن المقصود بالميثاق هو الفطرة ودلائل وجود الله عز وجل، وإقامة البراهين الكونية والشرعية على الخلق.
وعلى هذا فيمكن أن تكون الأقوال على النحو الآتي:
الأول: قول أغلب السلف، وهو أن الإشهاد حصل فعلاً، وأنه بقيت دلائله بالفطرة والدلائل الكونية والشرعية، وأنه لا تناقض بين هذا وذاك، لكنهم اختلفوا في الدليل، فبعضهم قال: إن مسألة الإشهاد الواردة في الحديث غير مسألة الإشهاد الواردة في الآية.
وبعضهم قال: إن الإشهاد المقصود بالآية والحديث هو القصة الحادثة فعلاً، وأنه ذلك المشهد الذي قد حصل، فهذان قولان.
والقول الثالث: إنكار أن يكون هناك شيء من الإشهاد الذي وردت قصته في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته، ومن بني آدم ذريتهم، وأشهدهم فعلاً واستنطقهم، وقصر الإشهاد على مسألة الدلائل التي ذكرتها، وهذا قول قليل، وما قال به إلا بعض المتكلمين وبعض العلماء الذين ما ثبت عندهم الحديث.
الجواب: إطلاق كلمة (شيء) على الله عز وجل ورد في القرآن على سبيل الإخبار والوصف لا على سبيل الاسم، فليس من أسماء الله عز وجل هذا اللفظ، لكن يعبر عن الله عز وجل بـ(شيء) بمعنى أنه موجود، وهذا ورد في القرآن وورد في السنة وورد على ألسنة السلف، وليس في ذلك تحديد الاسم واستقلاله، لكن على سبيل الإخبار والوصف نعم، ومن هذا كثير، فهناك كثير من الألفاظ لا تصح أن تطلق أسماء لله عز وجل مفردة، لكنها تكون على سبيل الخبر لا على سبيل الوصف.
ومنها ما يصح أن يطلق على سبيل الوصف، لكن لا يكون اسماً.
فالله عز وجل يخبر عنه بـ(شيء) على سبيل الإخبار، لا على سبيل الاسم ولا الصفة.
الجواب: على الإطلاق يجوز، يعني: من مات على غير الإسلام مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإخبار والحكم العام، لكن لا يجوز القطع بذلك على سبيل الاعتقاد اليقيني الذي تقسم عليه؛ لأن مصائر العباد بيد الله عز وجل، أما على سبيل الحكم فنعم، فنحكم من خلال ما حكم الله به، لا من عندنا، فالله عز وجل ذكر أن اليهود والنصارى من أهل النار، وأن المشركين من أهل النار، وأن المنافقين الخلص في الدرك الأسفل من النار، ولا نشك في ذلك، وذلك يعم أفرادهم وجماعتهم، وعلى هذا فمن مات كافراً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإطلاق والحكم العام، لكن الجزم اليقيني الذي نقسم عليه أو نتألى به على الله لا يجوز، ويتوقف عنه المسلم، والأولى عدم الخوض في هذه الأمور؛ لأن الإنسان في مثل هذه الأمور قد يلجأ إلى أمر يخالف الاعتقاد أو يستفز إلى قول لا يتنبه له، فالأولى أن نقف عند الأحكام العامة ولا ندخل في التفاصيل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر