[ فصل:
وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله، وما نهى الله عنه ورسوله، في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وأرفع الشفعاء منزلة وأعظمهم جاهاً عند الله تبارك وتعالى، تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بألا يشرك به، ولا يتخذ قبره وثناً يعبد، ولا يدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته.
ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك.. ونحو ذلك.
بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ].
وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به.
كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم.
وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم؛ ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ، فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين.
وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلامس؛ يرون أيضاً من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم.
وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور، أو يحكي لهم بعض هذه الأمور، فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل.
ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به، فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه، فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين.
وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان ].
يدخل في مثل هذا ما يحصل لكثير من الناس قديماً وحديثاً، واليوم بدأ يشيع، وهو لجوء الناس إلى غير الأسباب الشرعية، كلجوئهم إلى الكهنة والعرافين والدجالين والسحرة، والرقاة الجهلة في دفع الأضرار وكشف الأمور الغائبة، أو في الاستشفاء من الأمراض وغيرها.
أقول: إن هذا الأمر يكثر فيه الدجل، بل غالب أبوابه من الدجل، ما عدا الرقية الشرعية الصحيحة السليمة، ويحدث فيه الابتلاء أيضاً والفتنة، إن الكثيرين ممن يلجئون إلى هذه الأساليب غير الشرعية قد يستفيدون، إما فائدة وهمية، وهو الغالب، وإما فائدة حقيقية؛ كأن يشفى بعض المرضى بسبب هذه الأنواع من الدجل والشعوذة وغيرها، وقد يدل على أمر يكشف به ضره أو تتبين به حاله كبعض السحر، أو بعض من يضرون الشخص أو العائن ونحو ذلك، يكون هذا فعلاً من قبل الشياطين من الجن، ومن قبل بعض البشر الذين يموهون على الناس، وقد ينتفع المحتاج أو الذي يلجأ إلى هؤلاء، إما في جلب نفع أو دفع ضر، ويظن أن هذا دليل المشروعية لما سلك، فيأخذ ينشر مثل هذه الأمور، ويعمل ما يسمى بدعاية لهؤلاء الذين يعملون هذه الأمور الممنوعة، فيتكدس الناس حوله.
أقول: حتى ما دون ذلك من البدع المغلظة والتوسلات البدعية يحصل به من الفتنة كما يحصل بالصور الشركية التي ذكرها الشيخ، وربما كان أكثر هذه الصور التي يعملها المعاصرون مما يوقع في الشرك، فينبغي التنبه لهذا الأمر؛ لأنه قد كثر واستفحل في مجتمعنا، وأخذ صوراً وأسماء ليست كالسابق. الآن الدجال لا يسمى دجالاً، بل يسمى طبيباً شعبياً أو طبيب أعشاب، وكثير من الدجالين دخل على الناس من باب الرقية، يبدأ بالآيات، ثم يتمتم بأمور مجهولة، والتلبيس يحدث حتى من قديم الزمان، فكثير من الكهنة والسحرة الذين عرفوا في التاريخ كانوا يستفتحون أعمالهم بالآيات، وهذا من باب التلبيس والعبث والاستهزاء بكتاب الله، والتلبيس على الناس، فيظن بعض السذج وبعض الجهلة، أن مجرد قراءة القرآن تكفي لتزكية هذا الدجال والمشعوذ؛ وأنه لو كان دجالاً لما قرأ القرآن، ويظنون أن الدجال لا يستطيع أن يقرأ القرآن، وهذا غير صحيح، فإنه قد يقرأ القرآن، ثم بعد ذلك يعمل أعماله الشركية، وهذا من باب لمن يفعل ذلك، ولمن يستعين بهم من دون الله عز وجل.
فينبغي أن يبصر الناس بهذا الأمر؛ لأنه خطير جداً، وأن ما يحصلون عليه من منافع إنما هو من باب الابتلاء الذي يستفيدون فيه نفعاً في دنياهم، ويخسرون دينهم، وهذا هو الخسران المبين، نسأل الله السلامة.
منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة.
فالمعبود لهم في قصدهم، إنما هو للملائكة والأنبياء والصالحين أو الشمس أو القمر، وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدها، وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41].
وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به، وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن، وقد يطلب الشيطان المتمثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة، أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس، وأولئك جن تمثلت بصورة الإنس، أو رئيت في غير صور الإنس، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا ].
إذاً: يعود هذا كله إلى أن الشيطان أوهمهم أشياء فصدقوها وعملوا بها، فعلى هذا نستطيع أن نقول: إن من مناهج أهل الأهواء والبدع العامة التي يقوم عليها تدينهم وعبادتهم الاستمداد من الأوهام، والتعلق بالأوهام، لا بدليل شرعي، ولا بدليل علمي يقيني، ولا المشاهدة بالعين ولا بالسمع ولا..، إنما هي أوهام شرعها لهم الشيطان، فكانت من شرعتهم التي خرجوا بها من السنة، أو خرج منها بعضهم من الإسلام. نسأل الله العافية.
هنا لفتة مهمة جداً، وهي إشارة الشيخ إلى الرقى والعزائم الأعجمية أو غير الأعجمية، هذا يلزم فيه التنبيه إلى ما يفعله بعض الرقاة هداهم الله، خاصة ما يتعلق بالاستعانة بالجن، هذه المسألة سبق الوقوف عليها أكثر من مرة، لكن لأهميتها وخطورتها وكونها استفحلت بين الناس، يجب التنبيه عليها ويجب التناصح في أمرها.
أقول: إن بعض الرقاة هداهم الله، قد يتجاوز في هذه المسألة إلى حد يوصله إلى البدعة الصريحة أو إلى ذريعة البدعة، وأخص مسألة الاستعانة بالجن؛ لأن تجاوزات الرقاة كثرت الآن، ولا يعني ذلك عموماً كل الرقاة، فإنا نعرف فيهم عدداً كبيراً من طلاب العلم والأخيار الذين لا يزال ينفع الله بهم، وهم على أصول شرعية، لكن نظراً لأن الرقية انتشرت وصارت مهنة وحرفة، فإن كثيراً ممن امتهنوها وقعوا في أخطاء عن قصد وعن غير قصد، وهي كثيرة ليس هذا مجالها، يهمنا في هذا الجانب ما أشار إليه شيخ الإسلام هنا من الاستعانة بالجن.
على أي حال ليس هذا مجال الكلام، فمجال الكلام هو ما يفعله بعض الرقاة من تصديق الجن، الجني الذي يتلبس بالإنسي الأصل فيه الفسق، فلو لم يكن فاسقاً لما آذى الإنسي، هذه مسألة معروفة شرعاً؛ لأن الواجب على الجني كالواجب على الإنسي ألا يظلم ولا يؤذي، وتلبس الجني بالإنسي مهما كان سببه فإنه من الأذى، ثم إنه من الاستمتاع الذي حرمه الله عز وجل، ثم إنه إذا تكلم الجني فالغالب أنه في موقع ضعف، لكنه إذا وجد الإنسي يعظمه ويجله ويخاف منه تعاظم واستعلى، ثم بدأ يهذي بالصدق والكذب، والأصل فيه الكذب والفجور، فيتهم الأبرياء من أجل أن يتخلص، ويخلط الحقيقة بالكذب من أجل أن يموه على الناس، يقول: تجد السحر في الصرة الفلانية تحت الشجرة الفلانية، فيذهب الناس فيجدون فعلاً تحت الشجرة صرة، لكن صرة من مخلفات البيت، فيظنون أن هذا هو السحر، مع أنه قد يكون هو السحر وقد لا يكون سحراً؛ لكن لا ننسى أن الأصل في هذا الكذب، والصدق إن وجد فهو قليل، وهكذا قد يقول: الذي عان هذا الرجل أو هذه المرأة وتسبب في مرضه هو فلان أو فلانة، وقد يكون قريباً أو صديقاً أو جاراً، فيقاطع وتحصل أمور عظام وفتن.
فالشاهد أن أخبار الجن للإنس الأصل فيها أن يتثبت منها، كأخبار الإنسي للإنس، ثم إذا صار الخبر عن جني متلبس فالجني فاسق بذلك قطعاً، فيجب أيضاً التثبت وأن الأصل في خبره الكذب، ثم إن هذا نوع من أنواع الدجل ولا شك، لكن نستثني ما إذا وجدت قرائن على صدق الجني هذا أمر.
الأمر الآخر: ألا يكون هذا من باب التعاقد بين الراقي والجني، بعض الرقاة كما سمعت وعلمت، إذا نطق الجني تعاقد معه بأن يأتيه كل وقت يحتاجه، أو أنه إذا أراد الخبر الفلاني يعطيه الخبر ويقول: العهد بيني وبينك أنك إذا احتجناك تأتي وتقول وتفعل، هذا من الاستمتاع المحرم، وهذا من الدجل، أما إذا جاء الخبر من الجني بدون عقد أو عهد بينك وبينه فلا بأس.
فقد يكون فيه أحياناً منفعة قد يصدق، وقد يكرم الله بعض عباده عن طريق الجن، مما يخبرونهم بالعلاج أو يخبرونهم بأسباب المرض أو نحو ذلك، لكن هذا قليل ليس هو الأصل.
أعود وأقول: ينبغي أن ينبه الرقاة، أن التمادي في هذا الموضوع والخروج عن الأصول الشرعية في هذا الجانب من الاستمتاع المحرم بين الإنس والجن، وأنه نوع من أنواع الدجل والكهانة التي حرمها الله عز وجل.
وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات.
وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم.
وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون فيه مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال.
والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبُدَّى.. ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخطى.. وغيرهم، تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان، فمن نزل منهم عنده ضيفه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة؛ وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به.
وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة.
وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيه مما يرضي الشيطان.
ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل، يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت، ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به، فإن مثل هذا الحج ليس مشروعاً ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين، ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل ].
ولعامل آخر أيضاً ليس محموداً وفي كل شر، وهو أن كثيراً من المسلمين في العصور المتأخرة حينما هيمنت عليهم دول الاحتلال النصرانية واليهودية، قل التدين أصلاً، حتى التدين البدعي قل، وكثر إعراض المسلمين عن الدين جملة، فتجد عامة المتعلمين والمثقفين في أكثر البلاد الإسلامية هم إلى التفرنج والإعراض عن الدين أقرب منهم إلى التدين، وإن كان عندهم نزعة تصوف؛ لأن التصوف مأوى لكل مبطل، يستطيع المعرض عن دين الله عز وجل بالكلية مهما عمل من الجرائم والآثام إذا ارتبط بشيخ من شيوخ الصوفية، أن يسمي نفسه متديناً، تجده في المسجد بسبحته، وإذا خرج لبس لباس الفجار، وعمل عمل الفجار، ثم يأتي بعد ذلك للمسجد ويصلي ويقبل رأس الشيخ، ثم يدعي بذلك أنه غفر له ذنبه كما عند النصارى.
فهذا استوجب شيئاً -أي: الإعراض مع بقاء نزعة التدين مجرد صورة- حيث جعل صور هذه البدع تقل، لا في الاعتقاد، لكن من الناحية العملية.
إذاً: قلت هذه الصور وإن كانت موجودة يشهد بها أناس أحياء، كما ذكرت لكم أكثر من مرة عن بعض أنصار السنة، فقد سمعت منهم: أن أفراداً كانوا على منهج أهل التصوف وكانت تحصل لهم مثل هذه الحالات، ومنهم الشيخ محمد الهدية رئيس أنصار السنة الآن بالسودان، سمعته أكثر من مرة يحدث عن نفسه، أنه عندما كان مع الصوفية كان يخيل له أنه يطير في الهواء.
فالشاهد أن هذه الصور قلت، لكن لم تنعدم، وسبب انحلالها وضعفها هو هذه الدعوة المباركة، التي وجد لها نماذج في أكثر بلاد المسلمين، والآن يوجد بحمد الله دعاة إلى التوحيد في كل بلاد الدنيا، فهؤلاء ينير الله بهم البصائر، وتخف بسببهم البدع وتستنكر عند طوائف من الناس، ولو لم يقلع الناس كلهم عن البدع، لكن على الأقل يصبح هذا المنكر محل نقاش ويوجد من ينكره، فتقل هذه الظواهر البدعية المغلظة. والله أعلم.
قد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج، فقال: هل كتبتموني؟ قالوا: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج.
وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء، فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم؛ لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله.
ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاء وإجلالاً وإكراماً، والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يطاع إلا الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه.. وسائر ما بلغه من كلامه.
وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء، فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضر والسقم، من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم.
والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].
فأهل السماوات يسألونه، وأهل الأرض يسألونه، وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا، ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بل يحب الإلحاح في الدعاء.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحكام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217].. إلى غير ذلك من مسائلهم.
فلما سألوه عنه سبحانه وتعالى قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فلم يقل سبحانه: فقل، بل قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ، فهو قريب من عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء، فقال: (أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره وتحت قدمه) وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه.
وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش.
وقد جعل تعالى العالم طبقات، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، فالسماء لا تفتقر إلى الهواء، والهواء لا يفتقر إلى الأرض، فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً.
فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والتوحيد العملي: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر وركعتي الطواف.. وغير ذلك.
وقد كان أيضاً يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136].. الآية، وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام، وفيهما الإيمان القولي والعملي، فقوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136].. إلى آخرها يتضمن الإيمان القولي والإسلام، وقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64].. الآية إلى آخرها؛ يتضمن الإسلام والإيمان العملي، فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده الإسلام والإيمان، وهما في هاتين الآيتين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فهذا آخر السؤال والجواب الذي أحببت إيراده هنا بألفاظه لما اشتمل عليه من المقاصد المهمة والقواعد النافعة في هذا الباب مع الاختصار، فإن التوحيد هو سر القرآن ولب الإيمان، وتنويع العبارة بوجوه الدلالات من أهم الأمور وأنفعها للعباد في مصالح المعاش والمعاد، والله أعلم ].
انتهينا من كتاب القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، الذي أجاب فيه الشيخ على سؤال واحد حول موضوع التوسل، وهذا الكتاب الحقيقة من أعظم الكتب، وهو مرجع أساس لكل من كتبوا في هذا الموضوع قديماً وحديثاً؛ ولذلك أوصي إخواني الحاضرين أن يعنوا بإخراج فوائد هذا الكتاب على شكل قواعد ميسرة للناس، وإذا أمكن استنباط أهم هذه القواعد في التوسل المشروع والتوسل الممنوع الشركي والبدعي، وإخراجها في كتيب مع ربطها بواقع الناس اليوم للإفادة منها لكان هذا من أفضل أبواب الجهاد والعلم النافع إن شاء الله؛ لأن الشيخ كما ترون فصل تفصيلاً لا يستفيد منه إلا طلاب العلم، أما العامة وغير المتمكنين من العربية أيضاً قد يخفى عليهم أكثر الجوانب المشرقة في هذا الكتاب.
الجواب: إذا لم يقصد فيها المعنى البدعي وهو: تخصيص هذا الشهر بعمل معين كالعمرة أو التعبد بذلك فلا حرج، فشهر رجب من عموم الأشهر، بل ورد فيه فضل، لكن لم يرد تفضيل عمل فيه بذاته، وبعض السلف كان يعتمر في رجب، لكن لا يقصد التعبد، لأنه لو كان تعبد لدعا الناس إلى ذلك ولتداعى المسلمون، لكن ربما لأنه شهر متوسط، أو يرجع إلى أمر يتعلق بهذا الشهر، أو اجتهاد خاطئ في المواظبة على عمرة في رجب، فكون الإنسان تتهيأ ظروفه يحرم في هذا الشهر بدون أن يقصد اعتبار التعبد بعمرة في هذا الشهر لذاته أيضاً فيتميز بها هذا الوقت فلا حرج فيه.
الجواب: قد يكون بعضهم لا يستطيع أن يقرأ القرآن نسأل الله السلامة، هذا حسب الشروط التي بينهم وبينه، بعض الكهنة تمنعهم شياطينهم من قراءة القرآن، لكن بعضهم ليس كذلك، فقد يقرأ القرآن وبعده يبدأ يتمتم بأمور غامضة هي شفرة بينه وبين الشياطين، فالمهم ليست قراءة القرآن دليلاً على صلاح الشخص أو صلاح عمله دائماً؛ لأنه قد يلبس بالقرآن على الناس.
الجواب: (تباركت) هذه ما أسمع بها أنا، لكن يقولون: حلت علينا البركة، يعني: من باب التبسط مع الضيف، ومن باب الفأل، ولا حرج في ذلك، أما إذا قصد أنه مبارك يأتي ببركة من عند ذاته فلا.
الجواب: نعم، عند الضرورة إذا كان هناك دليل على وجود الجن، ووجد لذلك موجب بشروطه الشرعية فلا حرج، بمعنى: أن يقع مصادفة، كما إذا حدث للإنسان موقف حرج، وعلم أن الجن في هذا الموقع إما حدثوه وإما رآهم وإما سمعهم، فطلب منهم الإعانة فيما يقدرون عليه فلا حرج في هذا، من باب الكرامة أحياناً للعبد، لكن الممنوع أن يمتهن هذه المهنة، وأن يكون بينهم وبينه عهد أو شرط يستدعيهم إذا شاء، ويأخذ عليهم ويأخذون عليه، هذا من باب الاستمتاع المحرم.
الجواب: ما أدري هل اقتصر هذا الشخص على الأسباب الشرعية، ثم مما يرد في هذه المسألة كونه نوَّم الشخص 48 ساعة، أما كونه قرأ عليه القرآن فهذا طبيعي، لكن كونه ينومه 48 ساعة بأي وسيلة نومه؟ هل عن طريق الجن والشياطين؟ هذا غلط، فقد فوت عليه صلاة الفرائض، وفوت أموراً عظيمة في دينه ودنياه، وأنا أذكر لكم قاعدة: غالباً أن الأمر الغريب غير المعتاد يكون من نصيب الشياطين والجن، فهو نوع من الدجل.
إنسان مثلاً يعمل حركات معينة لا يعمل غيرها، تكون هي وسيلته في التأثير في المريض، هذا دخل عليه الشيطان، ما هو معنى هذه الحركة؟! لماذا هذه الحركة بذاتها؟! وليست حركة مطردة عند الناس جميعاً أو عند جميع الرقاة، كل واحد له نوع: واحد يطبب على الرأس، وواحد يخنق الرقبة حتى يكاد يقتل المريض، وواحد يضرب بسياط، وواحد يلوي اليد، والآخر يفعل ويفعل، هذه تصرفات غير طبيعية، هي حظ الشيطان من الإنسان، أي عمل يعمله الراقي أو المداوي لا تفسير له، ليس له أصل شرعي، وغير مفسر بأمر علمي أو عقلي فهو نوع من الدجل، ومنه ما ذكره السائل هنا.
الجواب: إذا جاءت الخدمة من الجني بدون اتفاق وعهد فلا حرج فيها؛ لأنه قد تكون من الكرامة للإنسان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر