وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كـالدارقطني والبزار وغيرهما ].
إذاً: العمدة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مبنية على أصلين: الأصل الأول: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه كسائر القبور في مشروعية الزيارة للرجال لهما بالطريقة المشروعة وعلى السنة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم له مزيد حق ولاشك، وصاحباه كذلك؛ لكن أصل مشروعية الزيارة شرعاً مبنية على أنها كسائر القبور في مشروعية الزيارة.
والأمر الثاني: هذا الحديث اعتمد عليه كثير من الأئمة وإن كان فيه ضعف، أو هذه الأحاديث التي تتشابه صياغاتها فهي وإن كان فيها ضعف لكن عمل بها الأئمة على مقتضى الأصل الأول، وهو جواز ومشروعية زيارة القبور.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أخرجاه في الصحيحين.
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه بل هو منهي عنه ].
السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مستحب من عدة وجوه:
أولاً: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، هذا فيه إشارة إلى أن المسجد استحق أن تشد إليه الرحل وهذا يفهم الندب والاستحباب.
ثانياً: أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تعدل ألف صلاة فيما سواه، فهذا فضل يشرع القصد إليه إذا جمعناه مع حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، فإذا أخذنا بهذا النص وأخذنا بالأصل بأن المسلم بإرشاده إلى الخيرات يسابق العمل الصالحات وإلى مضاعفة الأجر والحسنات وهذا الفضل مذكور ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: يشرع شد الرحال والسفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ولا يمنع هذا من أن يكون في نية المسلم أنه إذا وصل إلى المسجد سيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه كما تزار المقابر ويسلم عليه سلام الشرع، وإنما الممنوع أن يكون إنشاء السفر أصلاً من أجل زيارة القبر، فالظاهر أنه من البدع، أما أن ينشئ السفر من أجل الصلاة في المسجد، ثم يكون في نيته ويحتسب ذلك عند الله عز وجل أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فهذا أمر فضل من الله عز وجل.
ولذلك كثير من الناس يقع في حرج؛ لأنه يعجز عن فك الهدفين في قلبه يقول: إني أعجز عن أن أدفع حب النبي صلى الله عليه وسلم بأن إذا وصلت إلى المسجد أذهب إلى قبره وأزوره، نقول: نعم لا حرج في أن يكون من مقاصدك بعدما تصل أن تسلم، وهذا أمر مشروع، بل من الجفاء أن يأتي المدينة وهو من غير أهلها فلا يسلم ولا يزور قبور الصحابة، فإن هناك -فيما يبدو لي- بعض الناس الذين كثر عندهم طرق موضوع ما يفعله أهل البدع حول البقيع وحول قبور الشهداء وحول قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، يستشعر أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن يأتي من خارج المدينة وزيارة المقابر غير مشروعة، فأقول: بالعكس فهذا مشروع، والذي لا يشرع هو أن يكون قصد السفر زيارة القبور.
وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك، ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد .
والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة ؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجباً بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجباً بالشرع فلا يجب بالنذر عنده.
وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمه، وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور. وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك ].
بعض أهل العلم يرى أنه لا تجوز أو لا تشرع زيارة القبور إلا إذا جاءت من غير قصد، كما إذا ذهب الإنسان لدفن ميت مثلاً أو مر عابراً فإنه يسلم على أهل المقابر، والمسألة فيها نزاع بين أهل العلم وإن كان الصحيح أنه يشرع زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهنا قول مالك يتوافق مع قول طائفة من أهل العلم الذين يرون كراهة القصد لزيارة القبور، أي أن هذا الرأي وإن كان مرجوحاً إلا أنه يحمل عليه قول مالك ، وسيأتي عن الشيخ ما هو الصحيح عن مالك .
قال رحمه الله تعالى: [ والصحيح أن ذلك؛ لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره ].
إذاً: الإمام مالك كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة تشتبه بالزيارة البدعية؛ لأن الزيارات البدعية يبدو أنها ظهرت في عهد مالك ، ولذلك كثر إنكاره على هذه الأمور.
فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم، والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية.
والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها.
فإذا كان لفظ الزيارة مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه، كلفظ السلام عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روي في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة. والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، هذا هو الثابت في الصحيح.
ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال: (قبري). وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة لما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً في محل النزاع، ولكن دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها في الموضع الذي مات فيه بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه ].
(مسنماً محرفاً)، يعني: كما وصف شيخ الإسلام هذا في كتبه الأخرى ووصفه كثير من المؤرخين أنه حينما بنى الجدار على المسجد بناه على شكل مثلث رءوسه ليست إلى الاتجاهات التي يمكن أن تشتبه بالقبلة، وهذا احتياط من عمر بن عبد العزيز لئلا يتوجه الناس إلى القبر، ولئلا يتعلقوا به أو يعرفوا موضعه، لاسيما أن سبب هذه الإجراءات كما تعلمون أن بعض الرافضة حاولوا أن ينتهكوا ذات النبي صلى الله عليه وسلم بقبره وينتهكوا قبور صاحبيه، فحفر سراديب تحت الأرض ليصلوا إلى القبر فحصن القبر بهذه الطريقة، ووضعت الجدران عليه بطريقة لا تجعل من يرد إلى الحجرة المبنية يعرف أين موقع القبر بالتمام، وهذا في السابق.
أما الآن فإن الأتراك بنوا اللبنات الأخيرة فجعلوه مربعاً، وإلا فبناية عمر بن عبد العزيز كانت مسنمة مثلثة عبارة عن رءوس مختلفة بحيث لا يتحقق القادم من الخارج عن موقع القبر لئلا يصله أذى أو يعمل معه أعمالاً غير مشروعة؛ لأن البدع كثرت في ذلك الوقت.
وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)، رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه. وروى نحوه عن أبي هريرة ، فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة.
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي يومئذ، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة).
وفي مسند الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، ورواه أبو داود .
قال القاضي عياض : وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى نائياً أبلغته). وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش .
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً، صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني).
وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا هذا! إن رسول الله قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم .
وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال: إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) ].
الجواب: نعم، مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرخص في زيارة القبور، أما الزهور التي تلقى في المقبرة فلا تجوز، وهي من البدع.
الجواب: لا ما ينبغي ما ينبغي هذه الحقيقة بدايات البدع؛ لأنه الناس قد يتوهمون أن هذا شيء له أثر على الميت فما ينبغي حقيقة لكنه أحياناً توضع هذه كعلامات؛ لأنه الآن في المقابر الحديثة توجد القبور على شكل صفوف، أشوف بعض الناس يضع في نهاية الجدار أو في الشبك خيط أو شيء أو علامة أو خدش في الجدار يدل على الصف الذي فيه الميت الذي يريد أن يزوره، أقول: هذه الأمور إن كثرت ينبغي أن تزال وبإمكان الإنسان أن يضع علامة عادية لا تلفت النظر تدل على قبر قريبه أو والده أو والدته أو نحو ذلك بدون أن يلجأ إلى الأساليب الملفتة كالألوان والأواني أو الأدوات الظاهرة التي فيها شهرة يعني: الأصل أن توضع أحجار أو لبن بإمكان أي واحد أن يختار حجر على مواصفات معينة يعرفه ويعرفه غيره أو يمكن وصفه للآخرين ولا يلفت نظر من لم يعرف هذا الوصف، أما اللجوء إلى هذه الأساليب فأنا أرى أنها قد كثرت وأخذت أشكالاً متعددة، حتى صار بعضهم يتفنن في اتخاذ الوسائل للدلالات على القبور، فأخشى أن تزداد إلى أن تصل إلى التجصيص أو ما يشبه التجصيص من الوسائل الأخرى، فمثلاً: القطع الرخامية بدءوا يستخدمونها، وبعض الناس قد لا يفهم أن المقصود بالرخام علامة على القبر، فيظنون أن الرخام من الأمور التي تتعلق فيها النفوس، أو أنها إكرام للميت، فيصل الأمر إلى وضع الجدار ثم بناية إلى آخره.
والشيطان حريص على الإغواء، مع أننا قد نستغرب أن تكون هذه الأمور ذريعة إلى ما بعد ذلك؛ لكن الناس يستغلهم الشيطان ويستدرجهم إلى أن توصلهم هذه الوسائل إلى ما هو أكبر منها، فيقعون فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور والتجصيص، ونحو ذلك من الوسائل البدعية التي يقع فيها كثير من أهل البدع، نسأل الله السلامة.
فينبغي أن نتنبه لهذه الأمور ونرشد الناس إلى الوسائل التي تحقق أغراضهم المشروعة بدون اللجوء إلى هذه الوسائل، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر