إسلام ويب

شرح العقيدة التدمرية [9]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وضع العلماء في الكلام على أسماء الله تعالى وصفاته قواعد إذا فهمها المرء وتعامل بها سلم مما وقعت فيه الفرق الضالة من وصف الله بأوصاف العدم والنقص، أو القول عليه بغير علم.

    1.   

    مجمل القواعد والأصول في الأسماء والصفات

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقبل أن نشرع في الدرس أحب أن أستعرض بإيجاز المعاني والأصول التي قد درسناها، وذلك من أجل أن يرتبط في الذهن الدرس الحاضر بالدروس الماضية، فأولاً: أشار الشيخ في المقدمات الأولى قبل هذا الفصل إلى قواعد مهمة أجملها وبدأ يفصل فيها الآن، وهي أن الأصل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قاعدة لا تتخلف، وهي مقتضى قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    ثم أشار إلى مقدمة للرد على أهل الأهواء الذين أولوا الصفات أو عطلوها، هذه المقدمة قد لخصها الشيخ في أمور عدة:

    منها: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، أي: إذا أثبتنا بعض الصفات فيلزمنا إثبات الجميع، والذين أولوا بعض الصفات رد عليهم الشيخ قائلاً: لماذا فرقتم بين الصفات عند تأويل بعضها؟ والصفات كلها غيب، وكلها كمال لله عز وجل، وكلها على حقائقها، وكلها جاءت في الكتاب والسنة، فإذا أولتم بعضها فلماذا لم تأولوا البعض الآخر؟ والتفريد لا مبرر له.

    ومنها: القول في الصفات كالقول في الذات.

    ثم ضرب مثالين عظيمين في أن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز الكلام فيها بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وأنها أمور غيبية لا يمكن فيها قياس المخلوق على الخالق، أو قياس الخالق على المخلوق، وأن من قاس الخالق على المخلوق وقع في التأويل والتعطيل وفيما نهى الله عنه، ووقع في الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أي: الإلحاد الجزئي والكلي، وقد ضرب لهذا مثلاً في الخلق -ولله المثل الأعلى- فقال: هناك من المخلوقات ما لم تحيطوا به علماً، وهي مخلوقات لها أوصاف وأسماء وأحوال، وضرب لذلك مثلاً بالروح، فقال: أنتم الآن تتكلمون في الله عز وجل بغير ما ورد في الكتاب والسنة، وتتعرضون لأسماء الله وصفاته بعقولكم وأرواحكم بدعوى القياس، مع أن فيكم جميعاً مخلوقاً لم تصلوا فيه إلى نتيجة، وهذا المخلوق له صفات وأحوال وسمات، ومع ذلك لا تحكموا فيه برأي ولا بعقولكم، وهذا المخلوق هو الروح، فكل إنسان معه روح، وهذه الروح تقعد وتنزل، ولها صفات وأحوال، وموصوفة بحقائق، ومع ذلك لا أحد يدري ما الروح؟ مع أنها مخلوق من مخلوقات الله.

    إذاً: فلماذا تتحكمون بأسماء الله وصفاته بعقولكم؟ ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً بنعيم الجنة فقال: الجنة فيها نعيم، لكن ليس كنعيم الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي مخلوقة وموصوفة لنا، ومع ذلك فنعيمها من حيث الألفاظ تشبه ألفاظ نعيم الدنيا، ففيها عنب وخمر ولبن وماء وأشياء كثيرة مما يوجد في الدنيا، ومع ذلك فليس هذا كذاك.

    ثم ذكر القواعد التفصيلية وخاتمة ستأتي، وهذه القواعد التفصيلية مهمة في الحقيقة، وينبني عليها تصور ما سنقرؤه الآن، وما سنقرؤه مستقبلاً، وما قرأناه في الماضي، والشيخ قد أشار إلى سبع قواعد ذهبية عظيمة جداً استنبطها من النصوص، وستجدون أن لكل قاعدة أدلة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.

    القاعدة الأولى: أنه يجب وصف الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثبات والنفي.

    القاعدة الثانية: ما جاء في كتاب الله، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجب قبوله والإيمان به بدون مناقشة.

    القاعدة الثالثة: التفصيل في ظواهر النصوص، هل هي مرادة أو غير مرادة؟ لابد من التفصيل، فإن قصد بالظاهر: أنها حقائق فحق، وإن قصد بالظاهر: تشبيه الله بالمشاهدات فلا؛ لأن الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    فيقول: لا تلبسوا على الناس بمثل هذه الأمور، فتقول: إذا كان ظاهرها مراداً فمعناه أننا قد وقعنا في التشبيه، إذاً لابد أن نؤول، فأقول: لا، فإن ظاهرها مراد، لكن ليس ظاهرها ما تتوهمونه، وإنما ظاهرها الحقائق، فالله عز وجل موصوف بالحقائق على ما يليق بجلاله.

    القاعدة الرابعة: نفي ما يتوهم من مماثلة المخلوقين.

    القاعدة الخامسة: أن نعلم أن ما أخبر الله به معلوم من وجه، وغير معلوم من وجه آخر، معلوم من حيث أنه حقيقة، وغير معلوم من حيث الكيفية.

    القاعدة السادسة: أنه لابد من ضابط للنفي والإثبات في أسماء الله وصفاته.

    القاعدة السابعة: أن كثيراً مما جاء به الشرع يدل عليه العقل دلالة إجمالية، لكن العقل لا يستطيع أن يعرف التفاصيل، بل لم يعرف تفاصيل نفسه، ولذا فالتفاصيل يعفى منها العقل، والله عز وجل ما كلفه بذلك، لكن من حيث الإجمال فنعم؛ لأنه ما من عقل سليم إلا ويدرك الكمال لله عز وجل، كما يدرك على جهة الإجمال أن الشرع جاء بمصالح العباد، ويدرك ضرورة البعث، وضرورة النبوات، إلى آخر ذلك على جهة الإجمال، وأما التفصيل فلا، وهذا ما سيفصله الشيخ في القواعد العامة.

    وأخيراً: أشير إلى مسألة مهمة نحتاج إلى التذكير بها ما بين وقت وآخر، وهو أنه عندما ندرس العقيدة عموماً، أو عندما ندرس ما يتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته فإنا لا ندرس لمجرد المعلومة -فهذه مسألة خطيرة ومهمة جداً يجب التنبيه عليها وخاصة طلاب العلم المبتدئين- بل ندرس ذلك لنعظم الله عز وجل في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وجميع أحوالنا، وأن تقع معانيها في قلوبنا على الوجه الذي يتقوى به إيماننا، وتزداد به أعمالنا، وأن نتقي الله في ذلك، وليس مجرد أن يكون عندنا حشد من المعلومات، حشد لمعرفة ألفاظ وأسماء الله وصفاته وأفعاله، حشد من المخالفين، فليس هذا هو المطلوب، إنما هذا ثمرة للمطلوب، لكن المطلوب أن نعظم الله سبحانه، وأن يقع ذلك في قلوبنا، فتمتلئ قلوبنا بمحبة الله وخشيته ورجائه، وأن يثمر ذلك أعمالاً في سلوكنا وتعاملاتنا، فنتقي الله في أنفسنا وديننا وأمتنا، فهذا هو الغرض من دراسة أسماء الله وصفاته، ودراسة العقيدة، والمسلم أو وطالب العلم إذا لم يجد في نفسه أثر العقيدة فليعد النظر في منهجه؛ لأنه لا يدرس العقيدة من أجل أن يستعرض عضلاته ضد المخالفين، فهذا غرض آخر ثانوي، وإنما الغرض من ذلك: أن يقوى الإيمان، وأن يغرس المسلم في نفسه أصول الاعتقاد، وأن يظهر أثر ذلك في عبادته لله عز وجل، وعلاقته مع ربه والخلق، وأن يكون قدوة للناس من خلال العقيدة السليمة، فيغرس الثوابت في نفسه وفي نفوس الآخرين.

    1.   

    خاتمة جامعة في صفات الله سبحانه

    القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي

    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل

    وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة:

    القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ].

    قوله: (أن الله سبحانه موصوف بالإثبات) أي: إثبات الذات والأسماء والصفات لله عز وجل، بمعنى: أنه لا يكون الإيمان بالله مجرد إيمان ذهني كما يقول الفلاسفة وغلاة الجهمية وغيرهم، بل الأمر أعظم من ذلك، فلابد للإيمان بالله من أن تعرف أن الله موصوف بالأسماء والصفات والأفعال، وأنه لابد أن ننفي عنه جميع النقائص، وكل ما يضاد الكمال فهو منفي عنه عز وجل.

    قال رحمه الله تعالى: [ فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255].

    صفات النفي تتضمن إثبات الكمال والمدح لله عز وجل

    وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال; لأن النفي المحض عدم محض ].

    يعني: أن النفي الخالص عدم خالص، مثل وصف المتكلمين والفلاسفة ومن أعجب بطريقتهم ومنهجهم -ليس فقط في الدين، بل في الدنيا أيضاً، وهذا ثابت عنهم، ولا نقول ذلك لمجرد ظن أو توهم-: بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا يوصف، وغير قابل للوصف! إذاً: هذا معدوم وخيال في أذهانهم، بل ولا حتى خيال، فالخيال ممكن أن يتوهم له صفات، ولذلك لا نستغرب هذا من الفلاسفة؛ لأنهم ملاحدة، وأعداء الأنبياء، لكن الغريب ممن ينتسبون للإسلام من المتكلمين الذين أعجبوا بطرائق الفلاسفة، حيث أتونا بهذه البدع، بدع النفي لأسماء الله وصفاته أو بعضها تحت دعوى أن النفي يقتضي تنزيه الله عن التشبيه، والشيخ رحمه الله أراد هنا أن يوقظ فيهم الفطرة إن كان عندهم عقول، فيقول: يا قوم! النفي المحض يدل على العدم المحض، والنفي الخالص يدل على العدمية الخالصة، وهذه أمور تعرف بالبداهة، فإذا كان كل شيء ما عندك له إلا النفي فمعناه أن هذا عدم.

    أمثلة على النفي المتضمن إثبات الكمال في حق الله تعالى

    قال رحمه الله: [ والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.

    فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] إلى قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255].

    فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم.

    وكذلك قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.

    وكذلك قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.

    وكذلك قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.

    وكذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية; لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية ].

    لذلك جاءت الآية في منتهى البلاغة، ولا شك أنه لم ينف الرؤية فقال: لا تراه الأبصار، بل قال: لا تُدْرِكُهُ [الأنعام:103]، وهذا اللفظ يتضمن ضرورة أن هناك من الأبصار من ستراه، وهي أبصار المؤمنين في الجنة يوم القيامة، فالله عز وجل ينعم عليهم بأن يمكنهم من التنعم برؤيته، لكن لا يحيطون به سبحانه.

    ولذلك لما تكلم بعض المعتزلة الذين عندهم فقه للغة في هذه الآية حاروا وما استطاعوا أن يتخلصوا من دلالتها، مثل: الزمخشري رحمه الله تعالى، فقد أتى بالآيات التي تثبت الرؤية، ومنها قوله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فأخذ يلف ويدور بطريقة عجيبة؛ لأنه لم يستطع أن يتخلص من فقهه للغة؛ لأنه يعلم أن معنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أي: أنه لا يمكن نفي الإدراك إلا بعد ثبوت الرؤية، وإلا فلماذا ينفي الإدراك، والإدراك هو الإحاطة؟ والله عز وجل أعظم من أن تحيط به الأبصار، بمعنى: تدركه، لكنها تراه، وهذا التضمن ضروري في معنى اللغة ومقتضى العقل السليم والفطرة.

    لا يصف الله نفسه بنفي لا يستلزم ثبوت كمال ضده

    قال رحمه الله تعالى: [ فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

    وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً.

    وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش ].

    من أنكر رؤية الله عز وجل يوم القيامة فالأصل فيه أنه يكفر، لكن يجب التنبه إلى أنه ليس كل من اعتقد كفراً أو عمل كفراً أو قال كفراً أن يكفر بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً، وأنا أضرب لكم مثالاً على ذلك: فلو أن واحداً منكم الآن خرج إلى الخارج فقابل مجموعة من العوام السذج الذين لا يفهمون شيئاً، وقال لهم: هل تؤمنون برؤية الله؟ فيمكن أن بعضهم ينكر؛ لأنه يظن أن هذا عظيم وشنيع في الدين، فهو لم يسمع بشيء اسمه: رؤية الله عز وجل، لكن هل أنكرها عالماً بمعناها وبأصلها، وعالماً بقدرها في الدين، وعالماً بنصوصها؟ لا، بالرغم أن الرؤية من المتواتر في الدين -رؤية المؤمنين لربهم في الجنة- وأصل من أصول الدين، ثبتت بنصوص قطعية من الكتاب، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمع عليها أهل الحق، إذاً إنكار المعلوم من الدين بالضرورة كفر، لكن ليس كل معين يكفر.

    وصف المتكلمين لله تعالى بالنفي وما فيه من التشبيه بالمعدوم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايد له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت.

    ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم.

    وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد والناقص ].

    هذا تقرير حقيقة بدهية سهلة بينة، وقد ساقها الشيخ بسياق يناسب ألفاظ المتكلمين لإقناعهم؛ لأنه الآن يعالج مرضاً، والكلام هذا لا يصح للأصحاء، ولذلك أنا لا أنصح طلاب العلم أمثالكم الذين سلمت -بحمد الله- عقائدهم وأفكارهم من هذه المعضلات الكلامية والمحارات الخوض فيها، فلذلك سنقتصد فيها، نقرأ قليلاً ثم نتجاوزها بعد قليل إلى القاعدة الثانية.

    لكن قبل أن نخرج من هذه القاعدة أحب أن أنبه إلى أن الشيخ يقول: إن هؤلاء الفلاسفة وأهل الكلام ومن قلدهم من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية لما أحرجوا بنصوص الصفات وقال لهم السلف: هذه نصوص صريحة صحيحة جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أخذوا يتحايلون في نفي الصفات بأوهام عقلية، من أجل أن يردوا بها الصفات ويتأولونها، فكان منهم من يرد، ومنهم من يتأول هذه الأوهام العقلية على أنها من مقتضى تعظيم الله وتقديسه، ومن مقتضى نفي التشبيه عن الله عز وجل، فقالوا: لا يجوز أن نتصور أن الله داخل العالم، أي: داخل المخلوقات، فنقول: نعم، فلا يليق أن يكون الله داخل مخلوقاته، بل ولم يقل بهذا من يحترم نفسه من عقلاء الناس، وأما أصحاب الهذيان والموسوسين من الفلاسفة فلا اعتبار لهم، لكن لم يقل أحد من عقلاء الناس: إن الله داخل العالم؛ لأنه مقرر في العقول السليمة والفطر المستقيمة وفي الشرع أن الله عز وجل فوق السموات، فوق عرشه لا داخل المخلوقات.

    ما وقع فيه من وصف الله بأنه لا داخل العالم ولا خارجه

    وأما قولهم: ولا خارج العالم، فإنهم إنما قالوا ذلك خوفاً من إثبات الفوقية والاستواء، وإثبات الذات لله عز وجل، لأنهم إذا أقروا بأنه ليس داخل العالم فقد يكون خارج العالم، يعني: خارج المخلوقات، وهذا كلام في الحقيقة لا يليق أن نقوله في الله؛ لأن الله يجب أن نصفه بما وصف به نفسه لا نقول: خارج ولا داخل أصلاً، لكن ابتلينا بهؤلاء فنضطر من أجل أن نبسط هذه الأمور أن نتكلم بلغتهم على سبيل نفي الباطل.

    قولهم: لا خارج العالم، يقصدون به نفي الاستواء والفوقية والعلو، وأن يكون لله وجود حقيقي بذاته، فلذلك قالوا: ولا خارج العالم.

    ونحن نقول: ماذا تقصدون بقولكم: (ولا خارج العالم)؟ إن قصدتم بنفي الخارج أن يكون الله عز وجل ليس بمستو على عرشه، وليس بعلي، فهذا خلاف النصوص وخلاف مقتضى العقول، وكذبتم، وإن قصدتم أننا لا نتصور له وجوداً كوجود العالم خارج العالم فنعم، ليس له وجود كوجود العالم، خارج العالم له وجود يليق بجلاله كما يليق بعظمته سبحانه.

    إذاً: فهم من أجل أن يفروا من إثبات الصفات قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا يعقل أصلاً، بل ولا يقول به عاقل يحترم نفسه، كذلك: لا مباين ولا محايد ... إلى آخره، ولذلك قال أحد العقلاء لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تعتقده وبين المعدوم؛ لأنه الذي لا داخل ولا خارج ولا.. ولا.. هذا هو الذي لا وجود له.

    كما أن الله عز وجل مستو على عرشه فوق السموات، كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وله وجود حقيقي يليق بجلاله، ولابد من هذه الحقيقة، وإلا فإن من تصور غير ذلك فلابد أن يبقى قلبه خاوياً لم يمتلئ بالإيمان الحقيقي، ولذلك كل أهل الكلام الذين تأملوا في حالهم بعد كبر السن أو بعد مدة طويلة وجدوا أنفسهم لا يعتقدون شيئاً، بل وصرحوا بذلك؛ لأنه إذا كنت تعتقد أن رباً ليس داخل العالم ولا خارج العالم، إذاً فأين يكون؟! لا وجود له، وكل الباطل يدور على هذه الفلسفة، لكن لا مانع أن نقرأ مقطعاً يكون فيه مثال وتوضيح، ثم نترك الباقي من الوساوس والأوهام؛ لأن عافية الله أوسع لنا.

    القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأن الله لا قديم ولا محدث

    قال رحمه الله تعالى: [ فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له.

    ومن قال: إنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم؛ لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم.

    فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، ومن لم يقبل البصر كالحائط لا يقال: له أعمى ولا بصير.

    قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة.

    وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي.

    وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس ].

    نكتفي بهذا، ولا مانع من أن أقول وأؤكد مرة أخرى: لماذا نترك بقية هذا الكلام؟ لأني أشعر أنه يوقعنا في سوء الأدب مع الله عز وجل، ويوقعنا في قسوة القلوب، ويوقعنا في حرج نحن في عافية منه، ثم لماذا نناقش أناساً لا عقول لهم؟ يعني: أناساً يقولون في الرب عز وجل هذا القول، فيكفينا أن نرد عليهم بإجمال، ونحمد الله على العافية.

    ولذلك فإن كثيراً من هذه المقاطع التي تشبه هذا المقطع في التدمرية وفي غيرها نتجاوزها، وإذا كان في المنهج الذي كنا عليه في الدروس السابقة إذا بدأ الكلام في محارات، ورد على الرد، وقيل وقالوا، فإنما قصد به شيخ الإسلام أولئك القوم المرضى الموسوسين نسأل الله العافية، أما الأصحاء فلا ينبغي أن يوقعوا أنفسهم في هذه الشبهات.

    1.   

    القاعدة الثانية: وجوب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول عن ربه، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف

    قال رحمه الله تعالى: [ القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه.

    وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة.

    وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً ].

    هذه القاعدة من القواعد العظيمة، وهي من مقتضى ما يسلم به قلب المؤمن والمسلم؛ لأنها قاعدة ينبني عليها تأسيس الدين كله، ليس فقط في الصفات -الصفات أعظم ما يجب من المسلم تجاه ربه عز وجل، وهي أعظم مقامات التوحيد- وإنما بكل ما يتعلق بأسماء الله وصفاته والإخبار عنه.

    الأربعة المباني التي تجب على المسلم تجاه النصوص الشرعية

    هذه القاعدة تتلخص في أن ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الدين وجب التسليم له دون مناقشة؛ لأن الكلام فيها كلام عن أمور قطعية توقيفية غيبية، ولأنه لا يمكن أن يسلم للمسلم إيمانه حتى يخضع ابتداء، ويسلم بأن الخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حق وصدق، ولابد من أن يبني في قلبه تجاه هذه النصوص أربعة مبانٍ:

    الأول: التصديق.

    الثاني: التسليم بكل معانيه بمعنى: الإيمان والإذعان وقبول الخبر، والاستعداد الكامل للتصديق والعمل، وينبني هذا على التسليم.

    الثالث: ثم بعد ذلك القبول، إذا سلمت فاقبل، لأن هناك من يدعي أنه يسلم لكنه لا يقبل.

    الرابع: أنه لا يلزم من القبول الفهم، فما كل الناس يفهمون الدين، بل لا يوجد عالم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يفهم الدين كله، لكن مجموع العلماء يفهمون الدين.

    ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، لكن قد ينفرد بعض أفراد أهل الحق في ضلالاتهم وأخطائهم، وعلى هذا فلا يمكن أن يحيط أحد بالدين، ولا يلزم من قبول الدين أن تفهمه، بل يجب أن تقبله، فهمت أو لم تفهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا بياناً واضحاً في أكثر من حديث، ومن ذلك: حديث القدر، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابة يتجادلون في القدر قال: فما علمتم منه -يعني: من القرآن والسنة- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه)، يعني: قولوا: الله أعلم، ولا تجادلوا فيه.

    إذاً: لا يلزم من القبول الفهم، وهذه نقطة مهمة جداً، فبعض الناس إلى اليوم وخاصة أصحاب النزعة العقلانية إذا ما يفهم لم يؤمن ولم يسلم، وإنما يجادل ويشكك في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن الدين كله لم يستوعبه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما بقية البشر فلا، بل أعلم العلماء في الأمة لا يستوعب الدين كله، فتجد عنده نقصاً في أمور.

    وعليه فلابد أن يكون الأمر مبنياً على التسليم، والمسلم إذا غرس في نفسه هذه القاعدة، فإن أي خبر يأتيه عن الله عز وجل في أسمائه وصفاته، في القرآن أو ثبت في الصحيح، فإنه يسلم ويذعن، ويوقن أن خبر الله حق، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق.

    ثم إن القصد من دراسة أسماء الله وصفاته العمل؛ لأن كثيراً من طلاب العلم قد تجاوز هذا الأمر الخطير، لذا فعندما نتعلم أسماء الله وصفاته وأفعاله إنما المقصود تعظيم الله سبحانه، وغرس معاني الإيمان في قلوبنا؛ لأنه ما من صفة واسم لله عز وجل إلا وفيه معان، إذا امتلأ بها القلب تحقق معنى الإيمان في المسلم، وكذلك نقصد تزكية أعمالنا، وكذلك المسلم إذا سلم بهذه القاعدة فلا يمكن أن يؤول، ولا يمكن أن يثير شكاً في أسماء الله وصفاته، ولا يمكن أن تشكل عليه ألفاظ الأسماء والصفات، وما ذكره الشيخ هو ما ينطبق على الحديث السابق، فهو أحسن مثال له وأقرب مثال، فإذا جاء هذا الحديث نسلم بأنه حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالصدق ونقبله، ولا يلزم من إيماننا أن نفهم.

    إلى الآن العلماء يتكلمون في الحديث فهموا منه الحقيقة؛ لكن الكيفية أنى لأحد أن يفهمها؛ لأنها أمر غيب، كيف يكون ذلك؟ لا ندري، ولا يلزم أن ندري، ولا نستطيع أيضاً أن نتوصل إلى ذلك.

    الأقوال المجملة لأهل الأهواء والبدع تشتمل على حق وباطل

    قال رحمه الله: [ وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً ].

    يقصد بهذه العبارة: ما أحدثه أهل البدع والأهواء من الألفاظ والمعاني عن الله عز وجل التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل: نفي التشبيه، أو نفي العرض، أو نفي الجوهر، أو نفي الحدوث، إلى آخر الألفاظ التي ما عرفناها في الكتاب والسنة، وكانت النتيجة أن تنازع فيها المتأخرون الذين خالفوا منهج السلف، لكن ما أحدثها الأوائل، ولا تنازع فيها السلف.

    1.   

    التفصيل في الكلام على الجهة والحيز ونحوهما

    قال رحمه الله: [ وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه ].

    قوله: (وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه) أي: إذا أطلق الجسم.. الجوهر.. العرض.. الجهة.. المباينة.. المفاصلة.. خارج العالم.. داخل العالم، وغيرها من هذه الوساوس والأوهام هذه إذا اشتملت على حق وباطل فإننا لا نقبله كله ولا نرده كله، فإذا جاءنا مبطل ونفى الجهة، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل، فنقول له: ماذا تقصد بالجهة إن قصدت بالجهة: أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، فوق سماواته، فهذا حق، لكن لا نسميه جهة، فأنت الذي سميته جهة! وإن قصدت بالجهة: أن الله سبحانه نحيط به جهة، فهذا غير معقول أصلاً، ولم يقل به أحد من أهل الحق ممن ينتسبون للإسلام والسنة والجماعة حتى تأتي لتتشدق به عندنا.

    وعلى أي حال فالمقصود هنا: أن أي لفظ لم يرد في الكتاب والسنة فلا نرده مطلقاً ولا نقبله مطلقاً، بل نفصل.

    قال رحمه الله تعالى: [ بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.

    فلفظ: (الجهة) قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم ].

    هذا التفصيل فيه نعم ولا؛ إن أريد به شيء موجود غير الله من المخلوقات فهذا ينفى عن الله؛ لأن الله عز وجل غير حال في المخلوقات، وإن أريد بالجهة أيضاً العرش أو السموات وقيل: إن الله ليس بجهة، أي: ليس فوق عرشه، وليس فوق سمواته، فهذا يرد، وإن أريد بالجهة نفس العرش على أنه جهة أيضاً، فهذا لا يقبل، على أنه يسمى العرش جهة، لكنه مخلوق.

    ولا شك أننا حينما نقول إنه فوق عرشه، يعني: أنه فوق المخلوقات؛ لأن العرش فوق جميع المخلوقات، والكرسي محيط بجميع المخلوقات.

    فإذاً: كلمة: (جهة) إن أريد بها إثبات العلو والفوقية فنثبت العلو والفوقية، لكن نلغي كلمة جهة؛ لأنها محدثة، فنسمي الوصف العلو والفوقية، وإن أريد بالجهة مكاناً يحوي الله عز وجل، فهذا باطل ومنفي في حق الله عز وجل.

    قال رحمه الله: [ ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ: (الجهة) ولا نفيه، كما فيه إثبات (العلو) و(الاستواء) و(الفوقية) و(العروج إليه) ونحو ذلك.

    وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.

    فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات.

    وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فان أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل ].

    أي: أننا لا نثبت لله شيئاً اسمه: الجهة، ولا ننفي عن الله شيئاً اسمه: الجهة؛ لأن هذا كله لم يرد في الكتاب والسنة، مع أن كلمة: (جهة) لها معان عدة، والمعنى الحق نثبته ونرده إلى اللفظ الشرعي، والمعنى الباطل نرده مطلقاً، ومثل ذلك: كلمة (متحيز) و(مباين) وغير ذلك من الألفاظ المحدثة التي لا تثبت لله عز وجل.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك لفظ: (التحيز)، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟).

    وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)، وفي حديث ابن عباس : (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).

    وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ].

    تلاحظون بحمد الله وضوح السنة، والشيخ رحمه الله يقرر ثم يستدل بأدلة صحيحة، لذا يجب علينا تجاه هذه النصوص أن نستصحب الأصل دائماً، ولا ننسى أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بمعنى: إذا جاءت مثل هذه النصوص فإننا نثبتها على ما يليق بجلال الله عز وجل، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه)، هذا حق، لكن يجب أن ننفي المشابهة التي ترد في أذهاننا، وأقول هذا لأني أدرك أن بعض الناس إذا وردت عليه آيات الصفات تخيل في ذهنه صوراً وأحوالاً، لذا فليعلم المسلم أن الذي يتخيله ليس هو الحق فيما يليق بجلال الله، وإنما ذلك أمثال تضرب أو تقريب المعاني للعباد، فهي، أي: هذه الأمور التي يتخيلها المسلم، أبعد في حق الله حتى من الأحلام، وهذا الالتباس في التوهم هو الذي جعل كثيراً من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية يتجاوزون السنة، فينفون الصفات ويؤولونها، أعني: أنهم حينما سمعوا بمثل هذه الأحاديث التي فيها صفات الله عز وجل، توهموا الصور التي في أذهانهم مما يعرفونه في المخلوقات، فاستبشعوا أن تثبت لله، وظنوا أنها هي الحقائق الغيبية، مع أن ظنهم باطل؛ لأنه وهم وليس حقيقة، لذا فإن الله عز وجل موصوف بهذه الصفات، وأخباره عنه ثابتة، وأنه ليس كمثله شيء، ولا نقول: كيف يفعل لكي يطوي السموات؟! وما معنى: يمينه؟ وما معنى: شماله؟ لا يجوز ذلك في حق الله، بل لا يجوز حتى مجرد السؤال، ولذلك أول ما ظهرت هذه الأسئلة في عهد السلف قبل أن يأتي التأويل كانوا يستعظمونها، حتى لما عرض أول سؤال من هذه الأسئلة، أو هذه الشبهات والأوهام التي تدور في أذهان الناس، استعظموا ذلك، ففي القرن الثاني الهجري سأل رجل الإمام مالكاً رحمه الله عن كيفية استواء الله على عرشه، فاستعظم الأمر حتى كاد أن يغمى عليه، أو أغمي عليه وتصبب عرقاً، فلما أفاق قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.

    ومن هنا كان السلف يستعظمون المناقشة في هذه الأمور التي لا تليق بالله عز وجل، ولذلك أرى أن نمشي على هذه القاعدة، فإذا أكثروا الكلام وتفلسفوا في هذه الأمور فنتجاوز، لكن ما لابد منه نقوله؛ لأن هذا مما عمت به البلوى, فالآن مناهج أهل الكلام قد ابتلي بها طوائف كبيرة من المسلمين، بل وصاروا يستنكرون سياق صفات الله، ولا يطلقون الأحاديث إذا رويت في المحاضرات أو الخطب أو الدروس، حتى إن بعضهم يخرج من المسجد إذا رويت أحاديث الصفات؛ لأنه قد تعود على هذه الأوهام وعاش عليها، فلذلك أقول: نقرر بقدر، لكن ينبغي أن نفهم أن من أسباب وقوع أولئك القوم في هذه الخيالات والترهات هو: أنهم حينما تخيلوا الصفات في أذهانهم ظنوا أن هذا الخيال هو الحقيقة، وليس الأمر كذلك، فالله عز وجل ليس كمثله شيء.

    1.   

    الأسئلة

    بيان الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين في العقائد وأصول الفقه

    السؤال: ما الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين في العقائد وفي أصول الفقه؟ وهل يشبهون المعتزلة أم لا؟

    الجواب: الفلاسفة هم الذين يتخرصون في أمور الغيب، وهم الذين لا ينهجون نهج الأنبياء، بل غالبهم من خصوم الأنبياء، فهم من الخراصين الذين جعلوا أوهامهم فيما يتعلق بعالم الغيب حقائق، وزعموا أنها عقليات، كما قد يتوسع بعض الناس في مفهوم الفلاسفة فيدخل فيهم طوائف ممن يتكلمون في بعض العلوم، كالفلك والطب؛ لأن الفلاسفة إضافة إلى كلامهم في الغيبيات يعنون بهذه العلوم، لذا فقد اختلطت المفاهيم عند الناس، وأعني بذلك: الفلاسفة الخلص لا من عنده نزعة فلسفية؛ لأن النزعة الفلسفية قد توجد في كثير من أصحاب العلوم الأخرى، وعلى هذا فإن الفلاسفة لا يلتزمون الشرع، وهذا هو الأصل فيهم، فلا عقيدة ولا شريعة إلا النادر، والنادر لا حكم له.

    أما أهل الكلام فيقصد بهم طوائف من المسلمين الذين تأثروا بالنزعات الفلسفية، وأرادوا أن يوفقوا بزعمهم بين الشرع والعقل، أو بين الشرع والفلسفة، فوقعوا في منهج تلفيقي جعلهم يخرجون عن مقتضى السنة، وهم ليسوا فلاسفة خلص، وليسوا على نهج السنة، وإنما هم قوم خلطوا بين مناهج الفلاسفة من وجه وبين الشرع من وجه آخر، والخلط لا يستقيم.

    فلذلك ما استقام لهم الأمر، وصارت مناهجهم مخالفة لمناهج السلف في العقائد.

    وأما في أصول الفقه فلا أثر واضح للفلاسفة إلا من حيث أن أصول الفقه دخلت فيه كثير من المسائل الكلامية التي تأثر أصحابها بالأصول الفلسفية، بينما المتكلمون هم الذين لهم أثر في أصول الفقه.

    وأما هل يشبهون المعتزلة ؟ فالمعتزلة طائفة متكلمة، بل هم أهل الكلام الخلص، بينما متكلمة الأشاعرة والماتريدية والكلابية ونحوهم إنما هم عالة على المعتزلة؛ لأنهم -والله أعلم- يعتمدون على العلوم الرياضية والمنطقية، وعلم الفلك قديماً فيه نوع من القرب من الجانب المنطقي، هذا أمر.

    الأمر الآخر: أن علم الفلك علم علوي، وهم يزعمون أن لهم قدرة على اكتشاف الأمور العلوية، لذلك تعلقوا بالفلك، أما تعلقهم بالطب فلا أدري ما سببه؟ لكن ربما هذا راجع إلى أن الفلاسفة الأوائل لهم عناية بالطب، فاستمر الفلاسفة الذين بعدهم على هذا النهج، والله أعلم، إنما العلوم الطبيعية التطبيقية لهم عناية بها في الجملة أو في العموم، حتى غير الطب كالكيمياء والفيزياء.. إلى آخره.

    علاقة القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه بوحدة الوجود

    السؤال: هل قول المتفلسفة والمتكلمين بأن الله عز وجل ليس بداخل العالم ولا خارجه هو مرادف لما يسمى بوحدة الوجود؟

    الجواب: بينهما تداخل وتشابه وتلازم، فإن كثيراً من أصحاب وحدة الوجود قد يقولون بهذا القول؛ لأن أصحاب وحدة الوجود أيضاً ليسوا على تصور واحد في قولهم في الله عز وجل، فبعضهم يزعم أن هذا الوجود هو الله، وأنه متحد فيه أو حال فيه، وعلى هذا فإنه قد يعبر بهذا التعبير لهذا المقصد، ومنهم من يرى أن وجود الله عز وجل إنما هو وجود ذهني، فأيضاً ممكن أن ينطلق منهم هذا الوصف: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، والمهم أن هذا ليس من لوازم قول وحدة الوجود، وإنما قد يلزم من بعض الوجوه.

    بيان الفرق بين المفوضة وبين من يقول: يجب التسليم بصفات الله عز وجل مع شرط فهمها

    السؤال: بالنسبة لصفات الله عز وجل يجب التسليم بها بشرط فهمها، لكن بعض السلف يذم من يسمى بالمفوضة، فما الفرق بين هؤلاء؟

    الجواب: التسليم بما جاء في حق الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال أمر ضروري لكل مسلم، والفهم المشترط قد يقصد به: الإيمان بأن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقائق، لا فهم التفصيلات والكيفيات؛ لأن ذلك مستحيل، ولا ينبغي للمسلم أن يطمح إليه، بل حتى الخوض فيه بدعة.

    وأما المفوضة فإنهم لا يثبتون إثباتاً حقيقياً، وليس عندهم يقين في الإثبات، فهم متذبذبون، بل إن غالبهم لا يثبت أصلاً؛ لذا سموا مفوضة؛ لأنهم يقولون: نفوض المعنى، أو نفوض الحقيقة، وهذا غير صحيح؛ لأننا إذا فوضناها فقد أثبتناها، فنحن نثبت المعنى ونثبت الحقيقة، لكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، ونفوض الكيفيات والمعاني الغائبة عن أذهاننا، ولا نتكلم فيها تفصيلاً، لكن نقر بأنها حق على ما يليق بجلال الله عز وجل.

    إذاً: التفويض لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى عدم اليقين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766830475