تحدثنا في الدرس الماضي عن أصل مقالة التعطيل، وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه هذا وفي غيره من كتبه عندما يناقش آراء الفرق الضالة يبين جذور هذه الفرق؛ لأن الفكرة قد تكون مأخوذة من اليهود أو النصارى أو من بعض المشركين، مثل أصحاب الفلسفة اليونانية أو الهندية أو غيرها، فهو يحرص رحمه الله تعالى كثيراً على بيان جذور هذه الأفكار والمناهج.
وهذه الطريقة طريقة علمية وممتازة، وهي تدل على عمق كبير في دراسة الأفكار والمناهج والآراء والفلسفات؛ لأن الأفكار تنتقل مع الناس ويتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، وتنمو وتتطور كما تنمو الكائنات الحية، وقد تكون الفكرة بصورة ما في جيل من الأجيال ثم تنتقل إلى جيل آخر بصورة أخرى، وأصلها واحد.
ولهذا نلاحظ أن شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه منهاج السنة ربط ربطاً كبيراً بين مذاهب الشيعة ومذاهب اليهود، وهذه الطريقة أصلاً كانت معروفة عند السلف رضوان الله عليهم، فقد نقل ابن شاهين في كتابه اللطيف في السنة -وهو كتاب مطبوع- عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه عن الشعبي رضي الله عنه أثراً طويلاً في المقارنة بين الشيعة وبين اليهود في الآراء والأفكار والمقالات ونحو ذلك.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تلمس أصل هذه المقالة الطارئة على المجتمع الإسلامي، فإن المجتمع الإسلامي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي زمن التابعين من بعدهم على طريقة واحدة، ومنهج واحد، وأسلوب واحد في التعامل مع الكتاب والسنة، وفي الآراء العقدية، خاصة ما يتعلق بالله عز وجل وربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب، وما يتعلق بقضايا العقائد فقد كانوا على طريقة واضحة وبينة، ولم تكن هناك مجادلات ومناظرات وخلافات بين الجيل الأول في مسائل العقائد.
فأراد شيخ الإسلام رحمه الله أن يتلمس منشأ هذه المقالة وجذورها الفكرية، فذكر أن أول من قال بهذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم ، ثم نقل ما ذكره ابن عساكر الدمشقي في تاريخ بغداد من أن الجعد بن درهم أخذ مقالته هذه عن بيان بن سمعان الشيعي المعروف الذي ادعى النبوة، وأخذها بيان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم (في مشط ومشاطة)، كما ثبت ذلك في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
وهذا الإسناد ليس هو الوحيد الذي يبين أن مقالة التعطيل مأخوذة عن اليهود، بل إن الإنسان عندما يقرأ في أفكار اليهود ومناهجهم يجد أن اليهود كانوا على طريقتين فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وما يتعلق بالتعامل مع نصوص الكتاب المنزل عليهم.
المنهج الأول: وهو منهج أكثر اليهود، وهو أنهم كانوا يشبهون الله بخلقه، ويرون أنه على صورة إنسان، كما قال ذلك هشام بن الحكم الرافضي المشهور، الذي كان أول من أتى بالتشبيه في الأمة، وكان أول المشبهة من فرق الأمة هم الشيعة الذين أخذوا مقالتهم عن عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف.
المنهج الثاني: منهج التعطيل، وهذا الاتجاه كان اتجاهاً معروفاً وكبيراً، ولهذا نجد أن المتأخرين من اليهود الذين كانوا في الأندلس وفي المشرق الإسلامي يميل إلى مذهب الجهمية ومذهب المعتزلة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح، وفي غيره من كتبه.
مما يؤكد أيضاً صحة هذا الإسناد أن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ألف كتاباً في القول بخلق التوراة، فنقلت عنه إلى المسلمين عن طريق بيان بن سمعان ، ونقلها عنه الجعد بن درهم ، ونقلها عن الجعد بن درهم جهم بن صفوان ، فقالوا بخلق القرآن، والتوراة هناك يقابلها القرآن عند المسلمين، وهذا يؤكد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
وقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن الجعد بن درهم كان من أهل حران -وحران هذه مدينة من مدن العراق الآن- وهي منطقة مشهورة بالصابئة، والصابئة هم القوم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن عن طائفة من الصابئة أنهم من المؤمنين، وأنهم ليسوا كلهم كفاراً، ولكن المقصود بالصابئة هنا هم الكفار الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهؤلاء الصابئة كان علماؤهم فلاسفة، وكان هؤلاء الفلاسفة يعتقدون أن الأجرام التي في السماء ليست مواد محسوسة وإنما هي روحانيات، وأنها عبارة عن عقل ونفس، وكانوا يرون أن هذه الكواكب الموجودة في السماء صدرت عن الإله المبدع الأول، الذي أبدع بقية الكائنات بعد ذلك، وأن هذه الكواكب صدرت عنه كصدور الشعاع من الشمس، فهو يحمل جميع مقومات المبدع الأول من القدرة والتأثير والخلق والعلم والحياة، وما إلى ذلك من صفات المبدع الأول.
ثم انقسموا بعد ذلك إلى قسمين في كيفية التعبد لهذه الكواكب: فقسم منهم عباد الكواكب الذين قالوا: بأنه يجب علينا أن نعبد هذه الكواكب مباشرة، وأنه بإمكان الإنسان أن يعبدها مباشرة بدون وسائط بينه وبينها، وهؤلاء هم عباد الكواكب الذين ناظرهم إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام، عندما: رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78]، وما بعدها من الآيات المتعلقة بمناظرة إبراهيم لقومه، فهذه المناظرة كانت لهذا الصنف من الصابئة.
والقسم الثاني: كانوا يرون أن الإنسان لا يمكن له أن يتعبد لهذه الكواكب مباشرة، وإنما ينبغي له أن يتخذ أصناماً وهياكل يتعبد لها، وهذه الهياكل والأصنام تنقل هذا التعبد لهذه الكواكب، وهذه الكواكب تنقل هذا التعبد بطبيعة الحال إلى المبدع الأول الذي هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا ظهر صنف من الصابئة يعبدون الأصنام، وكان منهم أبو إبراهيم عليه السلام الذي كان ينحت الأصنام، ومناظرة إبراهيم لهذا الصنف معروفة، فإنه دخل عليها وهي في بهو عظيم وحطمها وكسرها، ثم وضع الفأس على الكبير الذي هو زعيمهم؛ ليكون هو مدار المناظرة والمناقشة التي صارت بينه وبينهم، فلما أقبلوا ووجدوا هذه الأصنام مكسرة: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا [الأنبياء:59]؟
فذكر رجل أنه سمع فتى يذكرهم -يعني: يذكر هذه الأصنام- يقال له: إبراهيم، فناقشوه فقال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، فطلب منهم أن يسألوا هذه الآلهة إن كانوا ينطقون، فقالوا له لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65] فاحتج عليهم بكيف تعبدون هذه الأصنام وهذه الآلهة التي لا تنطق ولا تتكلم؟ فرجعوا ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ [الأنبياء:65]، وقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، ثم هددوه بأن يضعوه في النار الكبرى التي أوقدوها، في قصة مشهورة لإبراهيم عليه السلام.
وهؤلاء الصابئة كانوا يرون أن الإله ليس له وصف ثبوتي، وإنما ينبغي أن يجرد من جميع الأوصاف كما هي طريقة الفلاسفة، فأخذ الجعد بن درهم فكرة نفي الصفات عن المعبود من الصابئة، وقال: هذه الصفات التي ذكرها الله عز وجل في القرآن أنها له ليست صفات ثبوتية يستحقها سبحانه وتعالى، وينبغي علينا أن نؤولها وننفيها جميعاً.
والذي يدل على صحة هذا التحليل الذي أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله هو: أن طريقة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان
وغيرهما من الفلاسفة في التلقي والمناقشة وفي استمداد الأفكار ليست كطريقة عامة المسلمين في زمانهم، فإن عامة المسلمين في زمانهم كانوا يتفقهون على النصوص الشرعية ويدرسونها، وقد يختلفون في فهمهم لنص من النصوص، ولكن الطريقة التي ابتدعها هؤلاء هي أنهم كانوا يدرسون على اليهود وعلى النصارى، -كما كان يدرس الفارابي - ومع وجود أئمة السنة وعلمائها في ذلك الزمان فقد كانوا يرون أن هؤلاء ليسوا من أهل العلم، وأنهم سطحيون وسذج لا يفهمون شيئاً، وأن العلم الحقيقي هو دراسة العلوم الإنسانية الموجودة عند اليهود والنصارى والوثنيين والفلاسفة والمشركين، فكونوا من خلال هذه الدراسات عقيدة جديدة، ثم أتوا إلى النصوص الشرعية فتلاعبوا بها بالتأويل، حتى توافق المعتقد الجديد الذي كونوه بتلك الطريقة الجديدة من الدراسة.فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا كلام دقيق، وهو رحمه الله قد سبر حال هؤلاء وعرف طريقتهم في الدراسة والتلقي، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية أن الجهم بن صفوان
أصلاً لم يكن معروفاً بطلب العلم النبوي الصحيح وعلم الإسلام، ولم يحفظ القرآن والسنة ثم طلب العلم وحصل له الانحراف بعد ذلك، فلم يعرف بهذا، وإنما عرف بذهابه إلى السمنية، وهم طائفة من فلاسفة الهنود، وكانوا لا يؤمنون إلا بالحسيات التي يمكن للإنسان أن يشعر بها، مثل الرؤية والسماع والتذوق والشم واللمس، وأما الغيبيات فكانوا لا يؤمنون بذلك، وكانوا يرون أنها خرافات وأوهام يتصورها الناس وهي لا حقيقة لها -وما زال جزء من الفلاسفة الآن في الغرب يدينون بهذه الفكرة التي كانت عليها هذه الطائفة- فلما جلس معهم الجهم بن صفوان شككوه وقالوا: إلهك هذا الذي تعبده هل ذقته؟ هل لمسته؟ هل رأيته؟ هل شممته؟ هل سمعته؟ فأجاب بالنفي في كل سؤال من هذه الأسئلة، قالوا: إذاً ليس لك إله، فاعتكف في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ولا يشهد الصلاة مع المسلمين، ثم خرج على الناس يفكر بما هو مخزون ذاكرته، ولم تكن مادة تفكيره القرآن والسنة وغير ذلك، وإنما كانت مجرد الفهم الذي يتصوره، فخرج إلى الناس وقال: إلهي هو هذا الهواء ليس له اسم ولا صفة، وكون هذه الطائفة الجهمية.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود ، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم].
وهؤلاء الصابئة كانوا من أهل السحر، والذي يعرف كتب السحر يجد أنهم دائماً يرددون نفس الكلمات التي يرددها أولئك الصابئة، مثل كلمة الروحانيات مثلاً، وتجد أن كثيراً من كتب السحر دائماً ترتبط بالكواكب السبعة مثلاً، أو بالأجرام السماوية، أو بتصور تأثير هذه الأجرام على الحوادث الأرضية، فكان الصابئة من أهل السحر كما كان اليهود من أهل السحر أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [و النمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهو اسم جنس لا اسم علم].
والفرق بين اسم الجنس واسم العلم: أن اسم الجنس يدل على معنى غير معين، فهو معنى كلي عام يشمل كل ما يصدق عليه هذا الوصف، مثل: إنسان، فكلمة الإنسان اسم جنس، وليس اسم علم لشخص معين، فهو يشمل أعداداً كبيرة جداً مقول فيهم هذا الاسم وهو الإنسان، وأما اسم العلم فمثل محمد وخالد وسعيد وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً].
فقد يكون موحداً، آمن بدين إبراهيم عليه السلام الذي بعث إليهم، كما وصفهم الله عز وجل في سور البقرة والمائدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69].
ولكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا، وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون -الذين كانوا إذ ذاك- كانوا كفاراً مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل].
وما زال مجموعة كبيرة من الصابئة موجودة إلى الآن في بلاد الشام وفي العراق، وهم مجموعة قليلة جداً بالنسبة للأديان الأخرى، وهم باقون على الشرك، والعلمانيون الذين يمسكون بكثير من مقاليد الإعلام في بلاد المسلمين عندما يتحدثون عن الحرية الفكرية ينقلون أخبار هؤلاء وعقائدهم سواء من خلال القنوات الفضائية أو من خلال الصحافة أو التحقيقات والتقارير التي تكتب باسم حرية الأديان وتنقل عبادات هؤلاء وأفكارهم، ويعقدون معهم المقابلات، ويرون أن هذا تراث إنساني قابل للتفكير، وأن الإنسان حر فيما يختار من الأفكار والآراء والمناهج ونحو ذلك، وهذه الطريقة والفكرة التي يعيش عليها -مع الأسف- كثير من الكتاب والصحفيين، أو أصحاب القنوات وغيرهم فكرة علمانية، فكون الإنسان يتجرد من الأديان وينقلها جميعها على أنها تراث إنساني، وكأن الصابئة واليهود والنصارى على حق، كما أن المسلمين على حق، ويصحح أديان الناس جميعاً، والعياذ بالله، فلا شك أن هذا فكر فاسد من حيث حكم الشريعة فيه، وفاسد من حيث واقع هذا الأمر؛ فإنه لا يمكن أن تكون الأفكار المتناقضة والمتعادية والمتحاربة كلها على الحق، ولا يمكن أن تجتمع هذه الأفكار على الحق أبداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم].
والصفات السلبية هي الصفات المنفية، أي: أنه ليس بجسم ولا عرض ولا طويل ولا قصير ولا متين، فهذه الصفات المنفية ليس فيها إثبات لأمر وجودي يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وإنما هي معانٍ منفية، والمعنى المنفي ليس له تعلق وجودي بذات الإله، ولهذا تجد أن هؤلاء يصفون الرب بالصفات السلبية، والمعتزلة يثبتون عشرات بل مئات الصفات السلبية وينقلونها على التفصيل، وأنه ليس بذي رطوبة ولا بذي كذا ولا بذي كذا، وهكذا.
وأما الصفات الإضافية فهي في الاصطلاح الصفات الخبرية التي تخبر بها، مثل قولك: هذا عنده حكمة، أو: هذا عنده فهم، أو: إنه يرحم الخلق، ونحو ذلك، بدون أن تؤخذ منها صفة مصدرية، ويوصف بها الموصوف على الحقيقة، وهي مثل إضافة الأبوة أو البنوة أو نحوها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السمنية -بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات- فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالين إما من الصابئين وإما من المشركين، ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.
ولما كان في حدود المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم، في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم].
وتعريب الكتب الرومانية كان في زمن المأمون ، عندما بنى دار الحكمة وعرب الكتب اليونانية، وكان أخذها من حاكم الرومان في ذلك الزمان، وكان حاكم الرومان وملكهم -كما ذكر ذلك السيوطي في صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام- في تلك الفترة قد جمع هذه الكتب واستشار قومه فيها، فقال له قومه: هذه الكتب ما قرأها أحد إلا ضل في دينه؛ لأن الرومان كانوا على عقيدة النصارى، وكان اليونان على عقيدة وثنية قبل ذلك، فجمع هذه الكتب جميعاً ثم بنى عليها داراً وأغلقها ومنع الناس من النظر فيها، فلما جاءته رسالة المأمون نظر إليها وقرأها وجمع أهل مملكته وسألهم عن ذلك فقالوا له: إن هذه الكتب ما انتشرت في أمة من الأمم إلا أفسدت عليهم دينهم، فأرسل إليهم هذه الكتب.
فلما جاءت الكتب إلى المأمون اشتغل بتعريبها، وكان كل الذين اشتغلوا بتعريبها هم من الطبقة الجديدة التي ظهرت في المجتمع الإسلامي، ولم يكونوا من أهل الحديث وليس لهم عناية بالسنة، ولا درسوا في هذا المجال، فقد كانوا ما بين نصراني مثل حنيين بن إسحاق وغيره، أو رجل ينتسب إلى الإسلام، ولم يشتغل من أهل العلم بتعريبها، وإنما أكثر من اشتغل بتعريبها هذه الطبقة، وهذا التعريب كان في نهاية المائة الثانية في نهاية سنة مائة وتسعين وما بعدها، أي: في نهاية القرن الثاني تقريباً، فعربت هذه الكتب مع وجود علماء كبار من أهل السنة الذين كتبوا الكتب الكبار الموجودة مثل صحيح البخاري ومسلم ، وقد كان الترمذي في تلك الفترة موجوداً.
وكان أبو داود والنسائي وابن ماجة موجودين في أزمان متقاربة، وكان الإمام أحمد والشافعي موجودين، وكذلك الأئمة الكبار كانوا موجودين في تلك الفترة ولم يشتغل منهم أحد في هذا الموضوع أبداً، ولم يعرف أن أحداً منهم اشتغل في هذا الأمر أبداً ولو على سبيل التأييد.
وعند النظر إلى تاريخ هذه القضية بشكل مبسط نجد أن الأمة المسلمة كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على العقيدة الصحيحة، ولم يكن هناك إشكال عندهم في هذا، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة ينشرون العلم والجهاد في سبيل الله في كل مكان، ففتحوا كثيراً من البلدان، فلما فُتحت الكثير من البلدان وحطمت دولة كسرى أغاظ ذلك كثيراً من أهل هذه الأديان التي سحقها الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولم يكن كل الذين دخلوا في دين الله أفواجاً في زمن الصحابة دخلوه عن قناعة، بل بعضهم كان عن قناعة، وهم الأكثر، والبعض الآخر لم يدخلوا فيه عن قناعة، وإنما تستروا باسم الإسلام خوفاً على أنفسهم وبقوا على عقائدهم السابقة، وكان أول مؤامرة كشفت وجود هؤلاء الأفاعي الذين تستروا بالإسلام مع اعتقادهم عقائدهم السابقة هي مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مؤشراً واضحاً على وجود أناس مندسين في صفوف المسلمين يتظاهرون بالإسلام وهم في الحقيقة ليسوا عليه، فإن الذي قتل عمر بن الخطاب أبو لؤلؤة المجوسي ، وساعده الهرمزان وكان مجوسياً أيضاً، وجفينة النصراني .
فقد كان هناك تآمر مجموع من اليهود والنصارى والمجوس، فقتل عمر على يد أبي لؤلؤة المجوسي ، ثم قتل أبو لؤلؤة نفسه في ذلك المكان.
والمؤامرة الثانية التي تظهر حجم هذه المؤامرة الخفية المندسة في صفوف المسلمين كانت عندما ظهر عبد الله بن سبأ اليهودي، وتحرك تحركاً واسعاً في الجزيرة وبلاد الشام والعراق ومصر، وكون الطائفة السبئية، ثم حصلت الفتنة التي قدر الله عز وجل لها أن تحصل اختباراً للناس، ثم ظهرت العقائد الجديدة التي سمع بها المسلمون لأول مرة، فظهر الخوارج فكفروا المسلمين، وظهرت الشيعة وقالوا لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنت أنت، يعني: أنت الله، وقد كان هذا الشيء لا يعرفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي تربى مع الصحابة الأولين على الخضوع لله عز وجل، فلما ظهرت هذه الأشياء شعر المجتمع الإسلامي أن هناك جهات مندسة تريد إفساد المسلمين.
ولضخامة المجتمع الإسلامي، وقرب عهده بالنبوة، وتماسكه، وقوة العقيدة الصحيحة، ولأن حكامه ووزراءه كانوا من المجاهدين كانت هذه الفتن مثل الأشياء البسيطة القذرة على نهر كبير حلو ومفيد، له ثمرته وسقياه للناس.
وقد استمر وجود هذه المجموعة من اليهود والنصارى والمجوس حتى كثروا في زمن الدولة العباسية، حتى إن المهدي اتخذ ديواناً سماه: ديوان الزنادقة، وتتبع فيه مجموعة من الأدباء والفلاسفة وبعض المشتغلين بالمهن الحرفية الذين كانوا زنادقة، وقد كان بعضهم له مناصب عسكرية، مثل أبي مسلم الخرساني وغيره، فتتبعهم وقتل عدداً كبيراً جداً منهم.
وهذا يدل على أن هناك مجموعات كانت تخطط تخطيطاً ماكراً لهذه الأمة، ومن هذه المجموعات: الجهم بن صفوان
والجعد بن درهم وبشر المريسي وأبو شجاع الثلجي وأحمد بن أبي دؤاد ، الذين أقنعوا المأمون بفكرة الترجمة، وترجمت هذه الكتب، وعقدت مجالس المناظرة. وكان عددهم يتوسع في كل جيل أكثر وأكثر، حتى وصلوا إلى درجة إقناع خليفة المسلمين بهذه الأفكار، وكان المأمون رجلاً مثقفاً يحب المعرفة، فاقتنع بعقائد المعتزلة، وامتحن الأمة عليها في فتنة مشهورة وهي فتنة القول بخلق القرآن.والحقيقة أن فتنة القول بخلق القرآن ليست مقالة عقدية فحسب امتحن الناس عليها، وقد كان السلف الصالح يدركون حجم المؤامرة، ويعرفون أن هذه الفتنة موجودة في المجتمع الإسلامي، وأن المجتمع كبير، فمع وجود هؤلاء الأعداد الكبيرة من المفسدين إلا أن سرايا الجهاد مستمرة في كل مكان، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وطلاب الحديث في كل مكان، حتى أن قرطبة في ذلك الزمان كان فيها أربعة آلاف عالم، وهي مدينة واحدة، فكيف ببغداد؟! فقد كان فيها ألوف مؤلفة من العلماء، فضلاً عن طلاب العلم، فضلاً عن الصالحين والزهاد، فضلاً عن المجاهدين، فضلاً عن الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، فقد كان شيئاً يفوق الخيال.
فقد كانت الأمة كلها متحركة في الخير، ومع هذا كانت توجد فيها هذه الطائفة، وقد كان السلف رضوان الله عليهم وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله يدرك حجم هذه المؤامرة، وأن المسألة ليست مسألة مقالة اسمها مقالة القول بخلق القرآن يمتحن الناس عليها، وإنما هي صراع بين منهجين عقديين، منهج السلف المتمثل في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن سار على نهجه في فهم النصوص، وفي معرفتهم لله ولربوبيته وصفاته وأسمائه وألوهيته، وفي منهج جديد منحرف يراد منه أن يكتسح الأمة الإسلامية -وهو يشبه منهج العلمانية في هذا العصر- وقد أرادوا أن يعمموه من خلال أمير المؤمنين الذي هو الخليفة، ولكن أمير المؤمنين الذي هو الخليفة المأمون لم يكن يستطيع أن يغير كل المسلمين؛ لأن كل المسلمين كانوا على طريقة السلف، ولهذا بمجرد أن مات المأمون والمعتصم انتهت الفتنة، وعادت الدنيا كلها إلى طريقة السلف؛ لأن أصحاب المنهج الجديد أفراد قلة، حتى لو كانوا يمثلون قواداً أو حكومات، إلا أن الأمة بأكملها كانت على طريقة سلفية واضحة وصحيحة، فمات هذا الحاكم والذي بعده والذي بعده حتى جاء المتوكل ، فلما جاء المتوكل منع الفتنة، فعاد الناس في كل مكان يدرسون الحديث، ويشرحون العقيدة، ويبينون الحق للناس، وعاد الجهاد في كل مكان، وانطفأت شعلة هؤلاء فترة من الزمن.
فالإمام أحمد رحمه الله كان يعرف أن وراء هذه المقالة والفكرة الجديدة طريقة ومنهجاً فكرياً متكاملاً لتفسير النصوص القرآنية وتفسير الأحاديث النبوية، ولهذا كان الإمام أحمد في أوج الفتنة والسياط موجودة والجلادون موجودون وخليفة المسلمين موجود وعلماء المعتزلة موجودون، عندما يناقشونه كان يقول: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به، فكان يربط هؤلاء دائماً بالمنهج الشرعي، وهو أن الحجة في النصوص الشرعية، فإذا قالوا له: إن إثباتك للكلام يستلزم منه الحدوث، قال: لا أعرف ماذا تقولون، يعني: لا أعرف ماذا يعني الحدوث؟ وما هو الشيء الجديد الذي جئتم به؟ فهذا ليس في كتاب الله، وما دام أنه ليس في كتاب الله فيجب أن يبعد، وقد أحرجهم إحراجاً كبيراً، واستطاع أن ينتصر عليهم انتصاراً كبيراً.
وعندما نقرأ أحداث الفتنة نجد أن عامة العلماء -حتى الذين أجابوا في قضية خلق القرآن، وكانوا قد أجابوا خوفاً وتقية- كلهم كانوا يشجعون الإمام أحمد بن حنبل ، ويطلبون منه الثبات، ويقولون: أنت اليوم رأس فلابد أن تثبت، وأن تثبت المسلمين معك، وحتى الأعراب كانوا يدركون حجم المؤامرة، فقد جاء رجل أعرابي إلى الإمام أحمد وقال له: يا هذا! إنه إن لم يقتلك -يعني: هذا الحاكم- ستموت، أي: أن أكبر شيء يستطيع أن يعمله هو القتل، وأنت ستموت أصلاً، ولهذا لن يأتي بشيء جديد يخيفك، فثبت الإمام أحمد في القصة المشهورة التي حصلت له، رحمه الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم].
يعني: في حدود المائة الثانية انتشرت هذه المقالة، التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، فنسبت إلى الجهم بن صفوان ، وكان قد أخذها عن الجعد ، وأخذها عن الجهم بشر بن غياث المريسي ، وكان بشر بن غياث المريسي حنفي المذهب، وكان يقول: بخلق القرآن، وقد كفره مجموعة من السلف، وقد توفي في السنة التي توفي فيها المأمون ، عندما بدأت فتنة القول بخلق القرآن، عن عمر يتجاوز الثمانين تقريباً في سنة مائتين وثماني عشرة.
ولم يكن بشر المريسي ممن اشتغل بالرواية أو بالعلم الشرعي، وإنما كان يبحث في هذه القضايا، وهي قضية القول بخلق القرآن، وقد حاول بعض الخلفاء أن يسجنه ويقتله، وطلب من بعض أهل العلم فتوى فيه، وقد كفره الأوزاعي وسفيان الثوري أو سفيان بن عيينة وغيرهما من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويمكن مراجعة ترجمة بشر بن غياث المريسي في كتاب: لسان الميزان، للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، وكلام هؤلاء الأئمة الذين ساقهم في ذم هذا مشهور، حتى أن بعض أهل العلم يسمون هؤلاء أهل الكلام، ويمكن مراجعة أقوال أهل العلم في هذا في كتاب: صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام للسيوطي رحمه الله تعالى، وكتاب ذم الكلام وأهله لـأبي إسماعيل الهروي ، ومراجعة كلام ابن تيمية رحمه الله في أماكن متعددة من كتبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء مثل: أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبى حامد الغزالي وغيرهم، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً، ولهم كلام حسن في أشياء].
فبعد هلاك المعتزلة مثل: بشر المريسي وابن أبي دؤاد وأبي شجاع الثلجي لم تنقطع هذه العقائد والأفكار التي كانت أخطر شيء يهدد الإنسان، ففي بعض الأحيان يموت الرجل وتبقى فكرته بين الناس، فالأفكار أمرها خطير جداً، ولما ماتت هذه الطبقة من المعتزلة التي هزمت على يد أهل السنة، ورفعت الفتنة والمحنة وجدت هذه الفكرة عند مجموعة مثل: أبي علي الجبائي وهو من المعتزلة، ومثل أبي هاشم الجبائي أيضاً وهو ابنه، ومثل أبي الحسين البصري وهو من المعتزلة أيضاً، ومثل عبد الجبار بن أحمد الهمداني وهو أيضاً من المعتزلة، وغيرهم كثير ممن كانوا من المعتزلة، وليسوا من المشاهير، وبقيت هذه الطائفة الكبيرة من المعتزلة تكتب وتصنف وتؤلف كتباً يكفرون بها المشبهة، ويقصدون بالمشبهة أهل السنة، ويؤلفون في الإيمان وفي التوحيد وفي غير ذلك، ويؤولون فيها صفات الله سبحانه وتعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر