الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فموضوعنا في هذا اللقاء هو: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا شك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما نتحدث عنه، وحين نتحدث عن الأسماء الحسنى فإننا نتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
وهو حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر ليتعرف على أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويتعرف في المقابل على فقره وذله وخضوعه لله سبحانه وتعالى.
الأسماء والصفات تأخذ جانباً كبيراً وباباً واسعاً من أبواب العقيدة، بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فمن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة.
وباب الأسماء والصفات كما تعلمون من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار جدل طويل وصراع طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة؛ صراع علمي وعقدي وفكري حول هذه القضية.
ولا شك أن علماء أهل السنة والذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعنيهم أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنها، فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل كانوا يعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات، وقضية الجدل مع المخالفين، ودفع شبه أولئك الذين يثيرون هذه الشبه حول أسماء الله عز وجل وصفاته، وحينها يتوقفون عند هذا القدر؛ وذلك أن الأمة كانت تقرأ القرآن، وكان الناس يتدبرون القرآن، وكانوا يعون هذه المعاني، وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب لله سبحانه وتعالى، وما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه، وهي قضايا بدهية.
القضايا الأساسية دائماً في العقيدة قضايا واضحة يدركها كل مسلم متعلم أو طالب علم؛ فكل مسلم يشعر بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويشعر أنه لا يمكن أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، ويشعر أنه ليس له الحق أن يعتدي على أسماء الله عز وجل وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر وقياسه العقلي، فهو يدرك أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأعلى وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة، ومن أن يتصوره هو في ذهنه ويتخيله.
ولعلك ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل من العامة عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل، أو يسمع متحدثاً يتحدث عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وعن صفاته لا يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى، ولو قدر أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمام ذات الله عز وجل.
إن هذه القضايا قضايا متقررة وبدهية، لكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال الذي حاول أن يحرف هذا المعتقد فيؤول أسماء الله عز وجل وصفاته، ويشبه الله عز وجل بخلقه، ويسلط عقله البشري على ذات الله سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته، فيجعل من عقله القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، حكماً على ما يجب لله سبحانه وتعالى وما لا يجب، لا شك أن هذا التيار الجارف كان يفترض من أهل الإسلام مواجهته ويفترض منهم رد الشبه، والحديث عن هذا، وهو واجب لا شك متحتم، وعامة المسلمين من حقهم أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.
لكن تلك الفترة التي بدأ الحديث فيها عن الأسماء والصفات كانت القضية واضحة عند الناس، وكان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمان وطال العهد بالناس، وبعدوا عن مشكاة النبوة، وبعدوا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا انحرفت نظرتهم لهذا المعنى أو صار الناس حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم مباشرة الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية التي انحرف فهمها لهذه العقيدة، وانحرفوا في فهمهم لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
ثم يغيب عن بالهم معنى آخر له أهميته حول هذا الجانب، ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين قضية التوحيد وقضية السلوك، وقضية الواقع الذي يعيشه المسلمون.
لقد صار البعض من المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة لا تعدو أن تكون مجرد قضايا معرفية بحتة يعتقدها ويصارع حولها، ثم تقف وتنتهي عند هذا الحد.
وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا، ثم أعود إلى موضوعنا الأساسي:
من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله، وهذا يعني: أنه لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى.
إن قضية لا إله إلا الله، وقضية ألوهية الله عز وجل وعبودية المخلوق حينما تضعها على بساط معرفي جدلي بحت تراها قضية واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى البعض قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى.
إن الذي يخاف من المخلوق ويحسب له ألف حساب هو نفسه الذي يقر بعقيدة التوحيد، ويقر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يخاف وينبغي أن يخشى وينبغي أن يرجى عز وجل.
خذ على سبيل المثال عقيدة الولاء والبراء وهي من أسس اعتقاد المسلم، بل الخلل بها باب من أبواب الكفر، فمن نواقض الإسلام موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين.
كم يقع الموحدون والمسلمون في هذا، بل يرون الفصل التام بين هذه القضية وقضية التوحيد، فيرون أن قضية العقيدة التوحيد إنما هي قضايا معرفية بحتة بعيدة عن السلوك والواقع الذي يعيشونه، ولعل ما يأتي من الحديث بمشيئة الله حول الأسماء والصفات سيجيب على جزء من هذا التساؤل الذي طرحناه: ما مدى العلاقة بين واقع المسلمين سلوكاً وحياة، وبين التوحيد والمعتقد؟
وقضية التوحيد ليست قضية جدلية فلسفية، وليست قضايا معرفية بحتة، إنما هي قضايا ما لم ينطبع أثرها على السلوك فإنها لا فائدة منها ولا أثر، وما قيمة أن يقتصر المرء على قضايا معرفية مجردة، بل هو منشأ الضلال الذي نشأ عند أهل الفلسفة والجدل؛ أن حولوا القضية إلى قضية جدل وفلسفة ومعرفة فقط بعيدة عن واقع العمل والسلوك.
شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم.
و ابن القيم رحمه الله يقول: وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به أو لعدم حكمته، أما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض.
أنتم جميعاً أحسبكم من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن لم يكمل منكم حفظ كتاب الله فهو في الطريق، وتقرءون كتاب الله عز وجل كثيراً، فما هو حجم الحديث عن الأسماء والصفات في القرآن الكريم؟
إنك حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تخطئك هذه الأسماء والصفات.. فتجد أحياناً حديثاً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تجدها تعقيباً على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله.
وحينها نطرح سؤالاً مهم: لماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟
لو أننا وقفنا عند النقطة المعرفية البحتة وقلنا: إن واجبنا تجاه أسماء الله عز وجل وصفاته أن نثبتها حقاً كما هي لله سبحانه وتعالى فقط فهل يجوز ذلك؟
إن المعرفة قضية لا يجوز أن نهمشها، بل الخلل فيها انحراف ومدعاة لأن يكون المسلم خارج دائرة الفرقة الناجية، وضمن الفرق الهالكة المتوعدة بالنار عافانا الله وإياكم، لكن هذا الحديث المستفيض عن علو الله على خلقه، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو العليم الحكيم السميع البصير، فهل يمكن أن نقف فقط هنا ونقول: هذا إثبات اسم والاسم يتضمن صفة وننتهي فقط عند هذا القضية، أم أن هناك معنى آخر.
لماذا يحدثنا الله في القرآن عن الأسماء والصفات؟ بل لماذا يكون أكثر الحديث في كتاب الله عز وجل. أليس هذا موحياً بأهمية الأمر، ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجباً آخر وأن هناك أثراً آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعيه؟
فمثلاً حتى نقرب لكم الصورة:
خذ مسلماً عامياً لا يعرف القراءة وقل له مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى غفور حليم تواب رحيم، تجد أنه يعرف من هذه الكلمة معنى، وقل له: إن الله عز وجل شديد العقاب، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج:12-13]، هنا الآن ذكرت له صفات من صفات الله، وهنا ذكرت له صفات من صفات الله، ألا يفهم من هذا فهماً؟ ألا يترك هذا أثراً على نفسه؟ بغض النظر عن قدرته على التعبير الدقيق عما فهمه، لكن هذه تترك معنى في نفسه.
حينما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) ألا يفهم المسلم من هذا معنى، يترك أثراً في نفسه؟ جرب واذهب إلى جدك أو إلى أحد أعمامك أو أقاربك كبار السن أو جدتك الكبيرة في السن واقرأ عليها هذا الحديث وانظر ماذا تقول، وانظر أثر هذا النص عليها.
إذاً: فالمسلمون يفهمون معنى الأسماء والصفات في الجملة، وإن كانت الكيفية وما وراء ذلك قضية لا يدركونها.
إذاً: حينما تكون قضية الإيمان بالمعنى وإثبات معاني هذه الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم ضمن قضية اعتقاد أهل السنة، حينها يكون المعنى له أثر، وإلا فما الفائدة من ذلك؟
من الأمثلة على ذلك: يحكون أن أعرابياً جاء فسمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ [المائدة:38] غفور رحيم، فقال هذا الأعرابي: لست قارئاً للقرآن؛ لأنه لو غفر ورحم لما قطع، ولكنه عز فحكم فقطع.
وفعلاً: تنبه الرجل وعرف أن الآية كما قال، ولهذا تجد ختم الآية مناسباً، خذ مثلاً قول الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1].. بقية الآية ما هي؟ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].
وفي آية الزكاة مثلاً يقول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة:60] بقية الآية: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
وفي آية الفرائض لما ذكر الله عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] ختمها بقوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:11].
فختمت بنفس المعنى، إذاً: وصف الله عز وجل بالعلم والحكمة بعد آية الصدقة أو آية الفرائض فيها معنى، وفيها إشارة للذي يقرأ الحكم بأن هذا التوزيع للزكاة أو التركة صادر من عليم حكيم.
فإذا سأل: لماذا تأخذ البنت النصف؟ يسمع: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] فيشعر أن الله عز وجل اتصف بصفة العلم والحكمة فهو يضع الأشياء في مواضعها.
يقول الله عز وجل مثلاً لنبيه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] وذلك حينما دعا على أولئك الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:128-129]، بينما تقرأ في سورة المائدة نفس الآية: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:40]، هنا السياق يختلف عن ذاك السياق؛ ولهذا ختمت الآية بهذا الاسم، وهناك ختمت بذاك.
إذاً: ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة أن هناك ارتباطاً بين الاسم والصفة وبين ما سبق من الآية، وهذا يعني أن قضية الأسماء والصفات ليست قضية جافة، وأن هناك علاقة بين هذه الأحكام وبين أن الله عز وجل عليم حكيم، وعلاقة بين تلك القضية وبين كون الله عز وجل سميعاً بصيراً، وقل مثل ذلك في سائر الأحكام.
ثم تجد عجباً حينما تتأمل، فهناك معان قد يبدو لنا أنها مترادفة، لكنها ليست مترادفة، فمثلاً قد يأتي أحياناً غفور رحيم، وقد يأتي: غفور حليم، هناك فرق هنا الرحمة والحلم، قد يأتي مثلاً عليم حكيم، وقد يأتي عليم حليم، قد يأتي خبير بما تصنعون، وقد يأتي لطيف خبير، كل هذه المعاني لها أثر، ولها دلالة، ولا يوجد في لغة العرب كلمتان مترادفتان ترادفاً تاماً، بل كل كلمة لها دلالة، حتى مثلاً أسماء الأسد كما يقولون: الأسد والهزبر والليث، كل كلمة لها دلالة معينة، ولو ساغ هذا في كلام العرب لما ساغ في كلام الله عز وجل، فمجيء الآية هنا له معنى وله أثر غير مجيئها هناك، فغفور رحيم غير غفور حليم، ولو قرأت في كتب التفسير وتأملت لوجدت عجباً في ذلك.
إذاً: ختم الآيات بهذه الأسماء والصفات دليل على أن هناك ارتباطاً بين هذا المعنى الذي دلت عليه الآية وبين الاسم والصفة، ودلت على أن قضية الاسم والصفة ليست قضية معرفية جافة.
ثم في كتب العقيدة.. لو تصفحت فهارس كتب العقيدة لوجدت أن الأسماء والصفات تأخذ حديثاً واسعاً عند أهل السنة، بل إنك تجد طوائف المشكلة بينها وبين أهل السنة هي في قضية الصفات وسبب الخلاف معهم هو قضية الصفات.
إذاً: فهي تمثل قضية أساسية في العقيدة، وقضية لها أهمية، ونوعاً مستقلاً من أنواع التوحيد، فلماذا نهمش القضية ونجعلها قضية معرفية، لا أظن أن هذا هو التعامل الصحيح اللائق بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته.
أيضاً: من الأمور التي ينبغي أن نطرحها بين يدي الحديث عن الأسماء والصفات والتي تقودنا إلى مثل هذا الفهم الأوسع الأمر بالدعاء بها، فإن الله عز وجل قال: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، وأنتم تقرءون في القرآن الكريم عن جمع من أنبياء الله أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه وصفاته.
وفي السنة النبوية فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية سواء مما دعا به صلى الله عليه وسلم أو أمرنا صلى الله عليه وسلم بالدعاء به نجد كثيراً من هذه النصوص فيها الدعاء بالأسماء والصفات، فمن ذلك قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] وقوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وقوله: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] وقوله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، وقوله: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:38]، وقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] هذه فيها دعاء بالأسماء والصفات؛ فالرب من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
وأما الأدعية في السنة النبوية فهي كثيرة، منها مثلاً قوله: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك).
وقوله: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
نكتفي بهذه الأمثلة والأمثلة كثيرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، لكنه دعاء ثناء وليس دعاء مسألة، فدعاء الثناء ثناء على الله سبحانه وتعالى، ودعاء المسألة نعرفه جميعاً وهو الذي ينصرف إليه الذهن حينما نقول: الدعاء.
الدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم، فكما قال ابن العربي : يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني، يا هاد اهدني.
وقال ابن القيم : يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا.
هناك عدة معان حول قضية دعاء الله بأسمائه وصفاته تترك آثاراً على النفس، منها أن يتقدم المسلم بين يدي الدعاء بالثناء على الله عز وجل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، ولا أحد أغير من الله سبحانه وتعالى)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله عز وجل في كل خطبة، ويثني عليه في كل مناسبة حينما يبدأ حديثه، فهو حينما يدعو الله بأسمائه وصفاته يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه لله عز وجل، هذا جانب.
جانب ثان له أهميته وقد نغفل عنه، وهو الأثر النفسي على الإنسان عندما يدعو بهذا الاسم، وذلك أنه يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقين بالإجابة سبب من أسباب إجابة الدعاء، تأمل معي مثلاً حديث دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي..).
حينما يتأمل الإنسان هذا المعنى سينخلع من كل حول وقوة، ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل، وحينها سيشعر أنه محتاج إلى الله ليختار، محتاج إلى الله عز وجل أن يوفقه؛ لأن الله يقدر وهو لا يقدر ويعلم وهو لا يعلم، وهو صاحب الفضل العظيم سبحانه وتعالى، وعندما يعيش هذا المعنى يكون على يقين.. ويكون عنده شعور بالحاجة ويقين بالإجابة، وحينها يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء غافل لاه).
إذاً: فالدعاء بالأسماء والصفات مع ما فيه من الثناء على الله عز وجل والتوسل بين يدي هذا الدعاء؛ فيه معنى آخر مهم، وهو أنه يترك عند الداعي شعوراً يجعله يعظم الله سبحانه وتعالى، ويسلم لله عز وجل، ويجعله يوقن بإجابة الدعاء؛ لأنه حين يقول مثلاً: رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ويتأمل هذه المعاني تترك أثراً وتعطيه أملاً ورجاء يجعله يوقن بالإجابة، فيساهم هذا بأن يتحقق لديه أدب من آداب الدعاء، وهو اليقين بالإجابة، علاوة على الأثر والشعور بالعبودية والخضوع لله والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى، وذلك حين يعيش آثار هذه الأسماء والصفات ومعانيها؛ ولهذا كان الدعاء عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لأن فيه الفقر والذل والخضوع بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث ثابت لكن الحديث الذي ورد فيه تعداد الأسماء والصفات لا يصح باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
بقيت قضية أخرى: هل هذه الأسماء محصورة في تسعة وتسعين؟
الصحيح والمقطوع به أنها لا تنحصر في تسعة وتسعين، وفي هذا الحديث قال: (إن لله)، ولم يقل: إن أسماء الله تسعة وتسعون.
وفي الحديث الآخر قال: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن..) إلى آخر الحديث..
وهو دليل على أن لله عز وجل أسماء غير معلومة، مما استأثر سبحانه وتعالى بعلمها أو مما علمها أحداً من خلقه ممن اختصهم بذلك.
لكن هذه التسعة والتسعين لابد أن تكون مما علمنا الله في كتابه، لأن الله رتب عليها ثواب دخول الجنة، فلا يمكن أن يكون من هذه التسعة وتسعين اسم مما استأثر الله بعلمه؛ لأنه لا فائدة إذاً في أن يدعى إلى إحصائها وحفظها وأن يرتب على ذلك ثواب، والثواب إنما يترتب على عمل يمكن أن يقوم به الناس، لكن حينما تكون هذه التسعة والتسعون من ضمن ما استأثر الله بعلمه لا يمكن الناس أن يعملوا بهذا الحديث، ولا يمكن أن يحصوها، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يكون عبثاً وأن يعلق الأمة بثواب لا يمكن أن تصل إليه أصلاً ولا تطيقه.
المقصود: أن العلماء اختلفوا في معنى: (من أحصاها)، فمنهم من ربطها مع قوله عز وجل: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] أي: لن تطيقوه، فقال: أن إحصاءها هنا إطاقتها.
ومنهم من قال: من قام بحقها، وتأمل معانيها، وقام بآثارها.
ومنهم من قال: المقصود عدها.
ومنهم من قال: أن يدعو الله بها كلها.
ومنهم من قال: قراءة القرآن؛ لأنها في القرآن، فإذا قرأ القرآن يكون قد أحصاها.
ومنهم من قال: إحصاؤها حفظها، وهي رواية في الحديث: ( من حفظها)، وهذا لكن هناك رأي آخر ومنحى آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله: هو أن الإحصاء مراتب: مرتبة الإطاقة، ومرتبة الحفظ، ومرتبة الدعاء.. كل هذه مراتب.
ويوضح هذا أنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها لترتب عليه شيء آخر، فإن ثواب حفظ القرآن الكريم معروف كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فلو فرضنا أن شخصاً منافقاً حفظ القرآن، أو شخصاً يختم القرآن كل يوم، لكنه لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، فهل ينفعه حفظه للقرآن؟ وهل تنفعه تلاوته القرآن؟ (القرآن حجة لك أو عليك)، ربما كان خصماً له هذا القرآن، فكذلك هذه الأسماء حين يكون إحصاؤها مجرد حفظ فقط لا ينفعه ذلك، لكن يحفظها ويتأمل معانيها ويلزم نفسه بمقتضياتها.
المسلم الذي يعلم أن الله عز وجل حليم وأن الله عز وجل غفور رحيم كريم، وفي المقابل شديد العقاب وأنه يبطش ويمكر بمن يمكر، وأنه يكيد الكافرين، ولا يعجزه شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وحين يعرف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ولا يغيب عن سمعه شيء، ويبصر سبحانه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ حين يعلم هذه الأسماء والصفات فإنه يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، ويزداد خضوعاً له عز وجل.
ولله المثل الأعلى والله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه: فلو رأيت إنساناً حليماً لا يغضب، فإنك تزداد إعجاباً به، وسرداً لتلك القصص التي تحكي حلمه وتحكي صبره على من يجفونه وعلى من يغلظون عليه ويسيئون إليه.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأجل وأعظم من أن يقاس بخلقه، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى حليم، لكن حلم المخلوقين مهما كان لا يمكن أن يكون كحلم الله عز وجل، وهو عز وجل كريم، لكن لا يمكن أن يقاس كرم المخلوقين به، وأيضاً حلمه سبحانه وتعالى وكرمه وعفوه ومغفرته وتوبته لا يمكن أن يطمع بها كافر ومعرض، بل هو سبحانه وتعالى كما قال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50].
وأخبر سبحانه وتعالى أنه قال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:12-16]، فحينما يتأمل المسلم هذه المعاني يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد المرء تعظيماً لله عز وجل ازداد عبودية وخضوعاً له سبحانه وتعالى.
فعندما يعرف المسلم أسماء الله وصفاته يحتقر المخلوق، ويشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً.
العز بن عبد السلام لما جاء السلطان في يوم العيد وخرج بأبهته وجنوده وكبريائه قام إليه وقال له: الحانة الفلانية يباع فيها الخمر، المكان الفلاني فيه كذا وكذا، قال: هذا من عهد أبي، قال: إذاً أنت ممن قال الله فيهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، فأمر بإزالة هذه المنكرات.
الشاهد معنا: أنه بعد هذا سأله أحد تلامذته، قال: أما خفت السلطان لما رأيته؟ قال: تذكرت عظمة الله عز وجل، فصار السلطان أمامي كالنملة.
ولاحظ أثر هذا الأمر عند هود عليه السلام، حينما عاداه قومه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:53-54] أحس هود أن هؤلاء القوم لا يعرفون إلا منطق التحدي، ولا يعرفون منطق الحوار ولا ينفع فيهم هذا الأسلوب: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]، يقول لقومه وهم عاد: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]، يقول لهم: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، كيدوني كلكم ولا تمهلون، وافعلوا ما بدا لكم: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
والذي جعل هوداً يسلك سبيل التحدي والمواجهة حتى يقولها أمام قومه صريحة: كيدوني وتآمروا علي واصنعوا ما بدا لكم لأنه يعلم أن ما من دابة إلا ربه آخذ بناصيتها.
المسلم عندما يتصور أن نواصي العباد بيد الله عز وجل، وأن قلبه بيد الله عز وجل الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، حينها يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً، فيحتقر المخلوق، ولا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق، ولا أن يرجو منه نفعاً ولا نوالاً ولا عطاء ولا حفظاً، ولا يمكن أن يرهبه أو يخافه.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، حينما يتأمل المسلم هذه المعاني فإنه سرعان ما يتوب إلى الله ويقبل ويشعر أن الله رحيم رءوف، وأن الله سبحانه وتعالى تواب سيقبل توبته.
أيضاً: من آثارها مراقبة الله سبحانه وتعالى، تقول عائشة : (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كانت المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وهي في طائفة الحجرة وأنا لا أسمع منها شيئاً)، أي أن هذه المرأة كانت تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتجادل وعائشة لا تسمع ما يقولون، ثم ينزل قول الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، ثم تجد في نفس السورة: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7].
حينما يعرف المسلم أن الله سميع يعرف أن أي كلمة يتفوه بها أو يقولها فإن الله عز وجل سيسمعه، حينما يعرف أن الله لا تخفى عليه خافية: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10] لا يتجرأ على المعصية؛ لأنه قد يخلو، ويغلق الباب على نفسه ولا يراه أحد، لكنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيراه.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فحين يستحضر المسلم هذه المعاني سيراقب الله عز وجل، وسيعلم أن الله يسمعه، وأنه سبحانه وتعالى يراه وأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.
الذي تلم به حاجة وتدلهم الخطوب أمامه فيستعين بالله في حاجته لو لم يكن عالماً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب لما توجه إلى الله عز وجل بالدعاء، لو لم يكن عالماً أن الله قادر، وأن نواصي العباد بيده سبحانه وتعالى لما دعا الله عز وجل، وقل مثل ذلك في الاستغاثة والرجاء والتوكل، والقدر، والحاكمية، حيث يخضع المسلم لحكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الحكم سبحانه وتعالى يحكم ما يريد، وأن له الخلق والأمر، وحينئذ لا يمكن أن يخضع لغير الله عز وجل، وهكذا لو تأملت في اعتقاد المسلم وفي سلوكه وفي حياته لرأيت أن أموراً كثيرة إنما تصدر عن قضية معرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته.
يقول بعد أن تحدث عن أولية الله عز وجل وما في ذلك الشهود من الغنى التام:
وليس هذا مختصاً بأوليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها، فمن شهد مشهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت، بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5].
فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية، لا يخفى عليه منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته تيقن أنه بمرأى منه سبحانه، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء.
وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يضل ولا ينسى.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
والمقصود: أن هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى لله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترك أثراً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا، وأن نشعر أن من كمال التعبد لله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء والصفات أن نصف الله سبحانه وتعالى بها كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وأن ننزهه عن مشابهة خلقه ومساواة خلقه، ومع ذلك أيضاً أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه الأسماء والصفات.
فالذي يعرف أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين لا يمكن أن يتطلع إلى ما حرم الله، أو إلى أن يخشى من غير الله أن يقطع رزقه، أو يمنع عنه رزقه فيشعر أن الأمور بيده سبحانه وتعالى، ومن يعرف أن الله سميع بصير عليم لا تخفى عليه خافية لا يمكن إلا أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشى الله عز وجل وأن يعبد الله كأنه يراه.
هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا الأمر، والأمر أوسع وأعظم وأجل من أن تحيط به لغة العبد الفقير المذنب المسيء، لكن هذه محاولة لأن نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر