إسلام ويب

الدعاة الصامتونللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأمور اللازمة لنجاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الداعية قدوة في نفسه، وأن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يظهر عليه أثر العلم الذي يحمله، فالقدوة العملية تؤثر في الناس أبلغ تأثير، وهي من أقوى الوسائل لإقناع المدعوين بصدق الداعية في دعوته.

    1.   

    من هم الدعاة الصامتون؟

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد:

    فعنوان حديثنا هذه الليلة: الدعاة الصامتون، وحديثنا يتضمن النقاط الآتية:

    أولاً: وقفة حول العنوان.

    ثانياً: وقفة مع نصوص القرآن الكريم.

    ثالثاً: الداعية الأول، والدعوة الصامتة.

    رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده يترسمون معالم المنهج.

    خامساً: مزايا الدعوة الصامتة.

    سادساً وأخيراً: من مجالات الدعوة الصامتة.

    إن البعض قد يظن أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين، أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق، وأولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، هذا الفهم ربما يتبادر إلى ذهن من يسمع العنوان، لكن هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة، لهذا فلا يسوغ أن يوصف هؤلاء بأنهم دعاة صامتون، بل هم شياطين خرس، إن الذين يسكتون عن الحق حيث يجب بيانه، والذين يقعدون عن القيام بنصرة هذا الدين خاصة في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة، وكشروا عن أنيابهم، وأعلنوها حرباً ضروساً شاملة على الإسلام وأهله، وعلى كل من دعا لدين الله عز وجل، إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة، ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون، إنما هم شياطين خرس، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

    إنما نعني بالدعاة الصامتين: أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم ناطقة بما يدعون إليه، بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أي كلمة وأي بيان.

    1.   

    ذكر القدوة والأسوة في كتاب الله

    أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء والاقتداء بهديهم، يقول تبارك وتعالى عن إبراهيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام:84-90].

    إن الله تبارك وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي أولئك الذين قص عليه سيرهم وأنباءهم في هذا الكتاب، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، إنها دعوة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه من الأنبياء، وهي دعوة أيضاً لمن يقرأ القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير على نفس المنهج، ويسلك السبيل نفسها.

    ثانياً: أمر الله نبيه وأمته من بعده بالتأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ [الممتحنة:4]، ثم قال تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة:6].

    ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

    رابعاً: نهى تبارك وتعالى عن التناقض بين القول والعمل، وذم ذلك المسلك وعابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم ينسون أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم، فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] ، وتتوالى الآيات في كتاب الله التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول وما يدعو إليه الإنسان، يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وقد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول ويدعو إليه.

    خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين والسابقين فيما مضى، يقول تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10].. الآيات، وهي آيات يقرؤها المسلم كل أسبوع في يوم الجمعة، يقرأ فيها قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف، ويقرأ في القرآن الكريم أيضاً قصة أصحاب الأخدود، ويقرأ في القرآن الكريم قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى وقالوا لفرعون: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].

    وهي آيات كثيرة يقصها الله عز وجل علينا في كتابه عن السابقين أتباع الأنبياء الذين ساروا على سننهم وطريقتهم.

    أيضاً: يذكر الله تبارك وتعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى على مواقفهم، فبقيت خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان الذي كانت فيه؛ لتبقى منارة للأجيال من بعدهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [التوبة:117]، ثم قال الله تبارك وتعالى بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:119-120].

    ويقول تبارك وتعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:8-9].

    فهذه آيات كثيرة نقرؤها في كتاب الله عز وجل في الثناء على تلك المواقف التي وقفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت صوراً خلدها لنا القرآن الكريم كنماذج لأتباع الأنبياء السابقين عامة، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

    1.   

    السنة النبوية زاخرة بالنماذج والقدوات

    ويقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف أولئك الصادقين الصابرين، الذين دعوا لدين الله عز وجل، وبذلوا أرواحهم وأنفسهم وأموالهم ومهجهم في سبيل الله عز وجل، إننا نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة شاب آمن بالله ودعا قومه وضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية حين رأوا موقف هذا الشاب وقد جاد بنفسه في سبيل الله، فتنادى الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام؛ لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، بعد أن أحرقهم وقطع أحشاءهم ذاك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز وجل، وظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام أنهم سيقتلون هذه الدعوة التي دعا إليها، وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به ودعا إليه، فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى غار، فدعوا الله عز وجل بصالح أعمالهم، أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لنعمة الله عز وجل، ونموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى والأقرع والأبرص وغيرها من القصص التي تملأ دواوين السنة، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما أراد لها أن تكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار، لتكون قدوة لمن جاء بعدهم، ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز وجل.

    سابعاً: أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً وعدواناً، فصار من الدعاة الصامتين للجريمة والقتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها، إذ هو أول من سن القتل، كل ذلك تأصيل للقدوة والأسوة الحسنة، ودعوة للدعاة إلى الله على منهاج النبوة أن يترسموا معالمها، وهو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل، وامتداد لميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب، لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.

    1.   

    النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى والإمام الأوحد

    إن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الأساليب والوسائل فهم رهن بمنهج الداعية الأول والإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، والتحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج، والعدوان على السنة المتبعة، وولوج الطريق المبتدعة، لذا فنحن حين ندعو إلى أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها فتتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها، ندعو في ذات الوقت إلى أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل بسياج الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون تخطي الأساليب التقليدية لتجاوز هديه، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعة من القول.

    ومن صور الاقتداء الواردة في السنة ما كان صلح الحديبية، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا هديهم وأن يحلقوا رءوسهم فلم يستجب له أحد حيث أصاب الناس ما أصابهم من الإحباط؛ ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان، وكانوا قد سمعوا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام، وأن يطوفوا به آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، فحين رأوا ما رأوا من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، وآلمهم الموقف وهم يرون أبا جندل يرسف في قيوده، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعيده إلى المشركين، فلم يطق أولئك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن أتى أم سلمة رضي الله عنها يشكو إليها عدم امتثال أصحابه لأمره، فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه، فخرج صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك، فما كان من الناس حين رأوا ذلك إلا أن اجتمعوا يحلق بعضهم لبعض حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من الغم.

    وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به البعض على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا في الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

    لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يأتي بالوحي من الله تبارك وتعالى، وأنه إنما كان يأتيهم بخبر السماء؛ لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من الناس للإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه.

    ومن الناس من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف.

    واختار الله عز وجل له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، وليقرأ في سيرته وهديه -من سمع بدعوته- الصدق وسمو المنهج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، حيث عاش مع بني قومه أربعين سنة عرفوا منه خلالها الصدق والإحسان للناس، والأمانة وحسن الخلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة، وكانت إشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله ومخرجه، وعرفوا سيرته لم يكن ليتحاشى الكذب على الناس، ثم يتجرأ على الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، بل يحكي الله تبارك وتعالى عن قوم صالح أنهم قالوا: قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:62]، نعم لقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وكسيرة سائر الأنبياء، لقد كانوا يرجون فيه الخير، ويؤملون فيه الخير، فلما دعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى أن يفارقوا ما كانوا عليه خاب ظن أولئك الضالين بنبيهم صالح، وقد كانوا يؤملون فيه الخير، وأي خير أعظم من أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده.

    إذاً: ها هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وها هي حياته تزخر بالعديد من المواقف التي تظهر أنه لم يكن داعية بمقاله فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم داعية إلى الناس بحاله ومواقفه، وها نحن نرى الناس الصادقين، نرى الناس المتعبدين لله تبارك وتعالى، لا يخطئهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، نراهم يسعون إلى أن يعرفوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ينام ويستيقظ، وكيف كان يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف كان في سفره وإقامته، وفي سلمه وحربه، وفي أحواله كلها صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    اقتداء الصحابة بالنبي جعلهم قدوات لمن بعدهم

    رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده هم حملة الدعوة، فكانوا هم أيضاً رضوان الله عليهم دعاة صامتين لمن جاء بعدهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يترسمون معالم منهج اختطه لهم صلى الله عليه وسلم، فتعيش الدعوة حية في قلوبهم وضمائرهم، يقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم، حين دعا صلى الله عليه وسلم الناس للصدقة، وقد جاء قوم مجتابي النمار فرق صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب القلب الرحيم- لحالهم، وتألم صلى الله عليه وسلم لمنظرهم فخطب في الناس ودعاهم لأن يتصدقوا مما يملكون من درهمهم من دنانيرهم من صاع برهم من صاع تمرهم من ثيابهم، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فتتابع الناس بعد ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا الرجل داعية صامتاً، صار هذا الرجل داعية بحاله لأولئك الذين كانوا يشهدون هذا المشهد حتى تتابعوا في بذل صدقاتهم، حتى رئي عند النبي صلى الله عليه وسلم كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

    وحين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ليغزوا الروم ولم يعذر أحداً في ذلك، جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، تولى هؤلاء وهم يبكون أن لم يفتح لهم الميدان ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله، فخلد القرآن ذكرهم وسيرتهم، ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92].

    إن من لم يفتح له الميدان للجهاد في سبيل الله، إن من لم يطق أن يشارك مع المجاهدين الصادقين الصابرين، ولم يجد مالاً ينقله إلى ساحة الجهاد، أو لم يجد سلاحاً يقاتل به، أو لم يجد ميداناً يفتح له ليجاهد في سبيل الله، إن ذلك لا يمكن أن يعذره بحال في ألا يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله، والنصح لله ورسوله، إن الذي لم يجد ميداناً يشارك فيه، ولم يجد ميداناً يعيش فيه مع الصادقين الصابرين المخلصين لا يعذر أبداً في ألا يعيش معهم بقلبه، وأن يعيش معهم بحاله، وأن ينصح لله ورسوله.

    وهاهم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود فيرجع مشدوهاً إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.

    نعم أيها الأخوة، لقد رجع عروة بغير الوجه الذي ذهب به، لقد رجع وقد رأى هذا الموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رأى هذا الموقف الذي يعبر عن الحب الصادق، الذي يعبر عن الود البعيد عن أبهة الملوك التي كان يعيشها قيصر وكسرى والنجاشي، وقد سبق له أن وفد عليهم فعلم هذا الرجل أن للنبي صلى الله عليه وسلم شأناً آخر غير شأن أولئك الملوك، وعلم أن هؤلاء أتباع صادقون جادون غير أتباع أولئك الملوك:

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    أولئك أصحاب النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم

    ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم

    ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن همُ فيها بدور وأنجم

    فيا لائمي في حبهم وولائهم تأمل هداك الله من هو ألوم

    بأي كتاب أم بأية حجة ترى حبهم عار علي وتنقم

    وها هي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة ناطقة للأجيال، ما إن يتحدث متحدث وما إن يتكلم متكلم إلا ويجد نفسه مضطراً لأن يزين مقالته ويدبجها بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي تعلم العلم، وفي الإحسان إلى الناس، وفي عبادة الله عز وجل، وفي كل ميدان من الميادين ما إن يتحدث متحدث أو يخطب خطيب إلا وهو يرى أمام عينيه مواقف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى منارة للأجيال من بعدهم، ذكر ذلك الجيل الذي اختاره الله عز وجل ليكون فرط هذه الأمة، الذي اختاره الله تبارك وتعالى ليتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل هذا الدين، يبقى ذلك الجيل داعية لسائر الأجيال من بعده، يبقى داعية لهم في كل الميادين؛ في ميدان الجهاد، وفي ميدان الدعوة، وفي ميدان العلم، وفي ميدان العبادة لله تبارك وتعالى، وفي ميدان الإحسان إلى الناس.

    1.   

    مزايا الدعوة الصامتة

    إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة صامتين إلى دين الله تبارك وتعالى بأحوالنا ومواقفنا وسيرنا، ونستشهد على ذلك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف أصحابه من بعده، ومواقف سلف الأمة من بعدهم، إننا أيضاً نضيف إلى ذلك مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة، والتي تعنى بالأحوال قبل الأقوال، ومن هذه المزايا:

    أحوال الداعية أبلغ من أقواله

    أن الدعوة بالأحوال قبل الأقوال، وأن الدعوة الصامتة أبلغ من القول، فإن المرء يستطيع أن يدبج المقال، ويستطيع أن يحسن الحديث، ويستطيع أن يتفوه بما لا يعتقد، يستطيع المرء أن يزخرف القول ويزينه، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال هذا الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى.

    لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم كما مر معنا، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا حين سئلت إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم: أكان صائماً يوم عرفة؟ أرسل له صلى الله عليه وسلم بقدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس، فكان ذلك أبلغ دلالة لكل من حضر الموقف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً.

    أحوال الداعية يستوعبها سائر طبقات الناس

    ثانياً: تمتاز الدعوة الصامتة أنها تدرك من جميع الطبقات، إن الكلمة المسموعة أو المكتوبة تعيش أزمة اختلاف مستويات ومدارك الناس، والذي يتحدث أمام من ينصت له أو يكتب لمن يقرأ له يجد نفسه بين طبقتين ممن يستمع ويقرأ، فإن حسن المقال وارتفعت لغته شعر أن هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه حق فهمه، وإن كان مقاله دون ذلك شعر أن هذا نزولاً بالكلمة عما يليق بها، وأن هذا نزولاً بالسامعين والقراء الذين ينبغي له أن يحترم أسماعهم ويحترم أفهامهم، أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع، ويفهمون مغزاها، يدركها من يقرأ ومن لا يقرأ، يدركها الذي قد بلغ الغاية في إدراك فصيح الكلام وبليغه، ومن كان دون ذلك.

    المواقف الحية تبقى في الأذهان أكثر من الكلمات

    الميزة الثالثة للدعوة الصاتمة: إن الكلام ولا شك له أثر عظيم على النفوس، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر، بل كم تصنع الكلمة الصادق من مواقف، لكن الكلمة الصادق مهما كانت تبقى بعد ذلك عرضة للنسيان، فهي تبقى في الذاكرة فترة ثم تزول ويأتيها ما يغمرها ويمحوها.

    أما الموقف والمشهد فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه، فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها وتضمه وترضعه، فاستوقفه الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم، فخاطب أصحابه قائلاً لهم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقول أصحابه: لا، فيقول صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها)، ويمضي هذا الموقف ويزول، لكن أولئك الذين سمعوا هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً كثيراً سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أما إذا رأوا امرأة ترضع طفلها فإنهم سيتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.

    المواقف الحية تثبت للمدعو إمكانية تحقيق ما يدعى إليه

    رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس وتدعوهم إلى العمل والسلوك، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصورة التي يتحدث عنها المتحدث صورة مثالية يصعب تطبيقها، وإذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس صورة تستعصي على التطبيق، أما حين تكون دعوة بالحال وموقفاً يراه الناس فإنها تكون دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث، وأن هذا الموقف يمكن أن يكون، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف، لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية قد لا تطيق هذا البذل وهذه التضحية، لكنه حين يرى هذه النماذج أمام عينيه يدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع، وتتجاوز الحيز النظري، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله، فيرى بعينه من يجود بماله، وحين يسمع عن الاجتهاد في عبادة الله تبارك وتعالى وطاعة الله عز وجل، وحين يسمع عن الصبر عما حرم الله تبارك وتعالى، وعن مجاهدة النفس ومقاومة الفتن ثم يرى النموذج أمام عينيه، سواء كان نموذجاً حياً يراه أمام عينيه، أو كان نموذجاً يقرؤه، فتتخيل تلك الصورة في ذهنه، إنه حين يعيش هذا الموقف لا شك أن ذلك يترك في نفسه أثراً أعظم بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها وبلاغتها.

    إنه يشعر أن هذه القضية التي يدعو إليها أصحابه يمكن أن يطبقها البشر، ويمكن أن يعملها البشر، ولهذا اختار الله تبارك وتعالى أن يكون أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ليكونوا قدوة وأسوة للناس.

    مواقف الدعاة وأفعالهم تدل المدعوين على صدق ما يدعون إليه

    أخيراً: من مزايا الدعوة الصامتة أنها أعظم إجابة على شبه المضلين والمفسدين، إن الصراع لا يمكن أبداً أن يتوقف بين أهل الحق وأهل الباطل، فال يزال أهل الباطل يثيرون الشبه أمام دعاة الحق، فيتهمونهم بأبشع التهم، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال عن موسى: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، وقال عن السحرة الذين آمنوا لموسى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123]، ورثوه من أولئك الذين ما أتاهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، لقد كان أولئك يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، وبأنهم مجانين، وبأن أتباع الأنبياء ضعفاء بادي الرأي، وأن أولئك إنما كان إيمانهم واتباعهم لموسى إنما كان عن مؤامرة خفية كان يستهدف منها عرش فرعون ومجده وملكه، لكن صبر أولئك السحرة على ما واجههم، وسيرة موسى عليه السلام الذي كان قد عاش مع بني إسرائيل، وكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم ويعرفون سيرته؛ كانت تلك المواقف أعظم إجابة على تلك التهمة والفرية التي أطلقها فرعون على أولئك المصلحين.

    وهي أيضاً أعظم إجابة كانت على تلك الفرية التي أطلقها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بأنه صابئ وأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، واتهموه بما اتهموه به صلى الله عليه وسلم، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم، فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس، وحالاً واضحة للناس تكون هذه أعظم إجابة على كذب أولئك وإفكهم.

    1.   

    مجالات الدعوة الصامتة

    أخيراً: ما هي مجالات الدعوة الصامتة؟

    القدوة الحسنة

    أول مجال من مجالات الدعوة الصامتة: القدوة والأسوة الحسنة، وقد مر معنا نماذج كثيرة من ذلك أظن أننا لسنا بحاجة إلى إعادتها.

    التفوق في مناحي الحياة

    المجال الثاني من مجالات الدعوة الصامتة: التفوق في مجالات الحياة المختلفة:

    حين يكون المتدينون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة، هم المتفوقون في دراستهم، وهم المتفوقون في ميادين العمل، وهم العاملون الصادقون المخلصون، ويرى الناس أنهم حين يدخلون ميداناً من الميادين فهم المتفوقون فيه، وهم البارزون فيه، إن هذا يعطي الناس دلالة على صدق هؤلاء، وأن حال هؤلاء وإخلاصهم وصدقهم ليس قاصراً على ميدان من الميادين، بل هاهم يثبتون للناس أنهم ومع انشغالهم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومع انشغالهم بتعلم العلم الشرعي، مع انشغالهم بواجبات شرعية لم يشغل بها غيرهم، فهم مع ذلك كله قد تفوقوا في سائر ميادين الحياة.

    إن الأعداء اليوم يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لمشكلات اقتصادية أو عقد نفسية واجتماعية يعاني منها أولئك المتدينون، أما حين يكون هؤلاء المتدينون هم المتفوقون في ميادين الحياة ومجالاتها، وحين تمتد هذه الصحوة لتشمل طبقات الأثرياء والمثقفين ثقافة حديثة معاصرة كما يقول البعض فإن هذا يمثل أعظم رد للمتدينين يبين كذب ما يدعيه أولئك الأعداء.

    الإحسان إلى الناس وتبني قضاياهم

    المجال الثالث من مجالات الدعوة الصامتة: الإحسان إلى الناس وتقديم الخير لهم وتبني قضاياهم، لقد كان صلى الله عليه وسلم -كما حكت عنه زوجه خديجة رضي الله عنها- يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم، ويشفع للناس ويحسن لهم.

    أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بريرة يسألها أن تعود إلى زوجها، فتسأله صلى الله عليه وسلم: أهو آمر صلى الله عليه وسلم أم شافع ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إنه شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه.

    لقد اتسع هذا القلب الرحيم صلى الله عليه وسلم ليشفع في هذه القضية الزوجية وليشفع لهذا الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الشفاعة فيشفع صلى الله عليه وسلم لدى امرأة كانت أمة من الإماء أن تعود إلى زوجها.

    بل يتجاوز صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان فيدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار فيرى جملاً قد احدودب ظهره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، وكأنه رأى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة والإحسان، فيأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل فيقول: (أين صاحب هذا الجمل؟ فيقول رجل: أنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: اتق الله، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).

    إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة للناس من بعده يرسم لنا هذه القدوة والأسوة أن نحسن إلى الناس وأن نسعى في تبني قضايا الناس أياً كانت هذه القضايا، وهذا الهدي لم يكن خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان هدياً للأنبياء من قبله، فها هو يوسف عليه السلام يقول له صاحباه في السجن: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]، فقد رأيا فيه صلى الله عليه وسلم الإحسان إليهما.

    إن تبني الصالحين والدعاة إلى الله عز وجل الإحسان إلى الناس، وتقديم الخير لهم هو تأسٍ بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو أيضاً باب من أعظم أبواب الخير، وهو أيضاً تعرف إلى الناس، فيعرف الناس أن هؤلاء جادون صادقون مخلصون، وأن هؤلاء خير لهم من أولئك الذين يتاجرون بقضاياهم، وحين نعرف هذا نعرف سر ذلك الحرص الشديد من أعداء هذه الدعوة على إغلاق منافذ الخير لهؤلاء حتى لا يحسنوا إلى الناس، ولو كانت نتيجة ذلك أن تشرد الأسر، وأن يموت الجائعون، وأن يهلك الأيتام، لو كانت نتيجة ذلك ما كانت، المهم ألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم صادقون، وألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم يحسنون للناس.

    العفو والتنازل عن حظ النفس

    رابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة كظم الغيظ، والتنازل عن الحظوظ والحقوق الشخصية، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، ويقول تبارك وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، ويقول تبارك وتعالى:وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:39-40]، ثم يقول تبارك وتعالى بعد ذلك: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، ويقول تبارك وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ثم يقول تبارك وتعالى في أوصافهم: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].

    حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن حقوقنا الشخصية، حين يعرف الناس عنا أنا نعفو عمن ظلمنا، بل ونحسن إليه، فلا شك أن الناس سيعرفون منا حسن الخلق، وسيعرفون منا أخلاق الأنبياء، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أخاً كريماً حين فتح صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وآذوه وأخرجوه، وفي الوقت الذي ظنوا أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم أطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، فكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول أولئك في دين الله أفواجاً؛ لأنهم عرفوا منه صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبأ، وعرفوا منه ذلك بعد أن نبئ وأرسل، وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه وآذوه وفعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وها هو أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.).

    الصدق ورفع راية الخير والصلاح

    خامساً: من مجالات الدعوة الصامتة: الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح.

    في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت).

    نعم حين رأى هؤلاء يلبون ورأى البدن شعر أن هؤلاء إنما جاءوا عماراً لبيت الله تبارك وتعالى، وأنهم لم يأتوا محاربين لقريش فرجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.

    صدق العاطفة من قبل الداعي

    المجال السادس من مجالات الدعوة الصامتة: العاطفة الصادقة المتوقدة في نفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع في سلوكه وفي قسمات وجهه، فيقرؤها كل من يراه لتترك في نفسه أثراً يفوق ألف خطبة وألف محاضرة، ويشعر الناس وهم يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم والنقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص للمرء أن يقال فيه: إنه عاطفي أو متحمس، وربما صار ذم هذا النوع من الناس مهرباً للبعض الذي قد تبلد حسه تجاه المنكرات، وتجاه مصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو يشكى إليه الحال يتنهد قائلاً: إن الأمور لا تعالج بالعواطف، ولا تعالج بالحماس. نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر.

    ولعل سائلاً يتساءل: هل خلق الله تبارك وتعالى هذه العواطف الجياشة عند الناس عبثاً؟ لم يعد يقبل أهل الطب والعلم اليوم أن يكون هناك عضو من أعضاء الإنسان لا يؤدي دوراً، فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى عامة الناس، والتي تمثل وقوداً لأعمال ومواقف شتى يقوم بها المرء، كيف يكون ذلك كله عبثاً لا فائدة منه، ويذم المرء حين يتصف به؟

    إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون فيعملون أعمالاً لم يحسبوا لها حساباً، والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنضبط، فإننا لا نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم، وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تنحر، ويرون الكفر يعلن صراحاً في هذه الأمة، ويرون الأمة يسعى إلى إخراجها من دين الله كما كانت تدخل في دين الله أفواجاً، إن أولئك الذين يرضون بالسكوت والقعود، ولا يزيدون على الحوقلة، أولئك أيضاً قد ارتكبوا منكراً آخر لا يقل عن منكر أولئك: ألا وهو منكر السكوت والقعود عن الحق.

    إن الصادق أيها الإخوة الذي يغضب لله عز وجل، والذي يغار على حرمات الله تبارك وتعالى، والذي تكون حاله كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتناشدون الشعر فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه، فكانت حالهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.

    إن هذه الأحوال أيها الإخوة أعظم قدوة وأسوة لنا لأن نتأسى بها فنملك العاطفة المنضبطة، والحماس لدين الله تبارك وتعالى، وتلك العاطفة أيضاً التي يملكها أولئك الذين ترق أفئدتهم ويحزنون حينما يرون فقيراً معوزاً يتيماً، أو أولئك الذين يرون مسلماً يظلم، أو يموت جوعاً أو يقتله البرد ولم يجد ما يكفيه، إن أولئك الذي يتفاعلون مع هذه العاطفة أو تلك، ويرى الناس هذا الواقع على أحوالهم وعلى قسمات أوجههم، إنهم يتركون أثراً أعظم بكثير من أثر أولئك الخطباء.

    المواقف المتميزة التي يقفها الداعية

    سابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة: المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها ومعايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة وضياء للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات الأمر بالصبر والوصية به، والأمر بالثبات على المبدأ وعلو شأن القضية عند أصحابها، لكن ذلك لن يكون مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم في الصبر على البلاء ومواجهة الأذى والمضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمعين ما يردده الخطباء والمتحدثون من صور صبر بلال وعمار ، وتضحية ياسر وسمية ، وتحمل خباب وصهيب ، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور لأولئك الذين صبروا على الفتنة والمحنة، إنك تجد أقوالاً لأولئك في الأمر بالعبادة والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى، لكن هذه الأقوال لن تترك في نفسك أثراً أعظم من أثر سير القوم حين تقرؤها وتتمعنها، وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرؤها المعاصرون، فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.

    هذه بعض مجالات الدعوة الصامتة، وجوانبها، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه إنه سميع مجيب.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    كيفية التوفيق بين القدوة العملية وكون العمل خالصاً لله سليماً من الرياء

    السؤال: كثيراً ما يتردد الإنسان في إظهار بعض الأعمال؛ لأنه يريد أن يكون داعية صامتاً، ولكنه يخاف أن يكون داعية مرائياً، فما الموقف الصحيح هنا؟ ويقول: إذا كان الشاب يحاول أن يكون قدوة لغيره، خاصة لمن هو دونه في أمور الخير، لكن نفسه ضعيفة لا تلبث أن ترائي بعملها، وتتزين للناس؛ فما رأي فضيلتكم؟

    الجواب: هذه من القضايا الدقيقة التي ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، وهي ما يتعلق بقضايا الإخلاص والرياء التي يعيش فيها الشاب في تردد بين أن يعمل العمل فيخشى أن يكون هذا العمل رياءً، وألا يكون خالصاً لله تبارك وتعالى، وبين أن يعمل هذا العمل، وربما أدى هذا بالشاب إلى أن يترك أعمالاً كثيرة خوفاً على نفسه من الرياء، ولا شك أن الذي خشي من الرياء يملك قدراً من الإخلاص لله تبارك وتعالى، وأن خشيته من الرياء دليل على إخلاصه، فلا ينبغي له أن يترك العمل خشية مراءاة الناس ابتداءً.

    ثانياً: قد تكون بعض الأعمال إعلانها أفضل من إسرارها، وإن كان الأصل في الأعمال أن الإسرار أفضل، أرأيت هذا الذي جاء بصرة فألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم أتظن أن عمل هذا خير، أم لو كان قد أتى بذلك سراً؟

    إذاً: الأصل أن يخفي الإنسان أعماله إذا استطاع ذلك، فإن هذا أعظم لإخلاصه وأصدق لنيته وأبرأ، لكن حينما يكون الإعلان أفضل وأولى ويكون قدوة للناس فلا شك أن ذلك يجعله ضمن من قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، ثم إنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلف فعل الأمر أو تركه على خلاف حاله، فينبغي للإنسان أن يسير على حاله المعتادة، أن إنساناً اعتاد أن يصوم قدراً من النفل، أو يصلي قدراً من الليل، أو يقرأ شيئاً من القرآن، أو اعتاد عمل أي باب من أبواب الخير فلا ينبغي له أن يترك هذا الباب وهذا العمل، ويتكلف تركه إذا كان مع الناس، وكذلك لا ينبغي له أن يتكلف فعله ليقتدي الناس به إذا كانت نفسه أصلاً لا تدفعه إلى هذا العمل، وهي قضايا دقيقة ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، فقضايا الإخلاص من أصعب القضايا على النفس.

    وجود الداعية الصامت مقترن بكون الدعوة محور حياة الإنسان

    السؤال: كيف يمكن تأهيل الدعاة الصامتين باختصار؟

    الجواب: يتم ذلك حينما تكون قضية الدعوة قضية مهمة عندنا، وليست قضية هامشية، يعني: حينما تسيطر قضية الدعوة على حياتنا كلها، فتصبح حياتنا كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى، ونصبح نشعر أننا نرفض أنفسنا دائماً، فيشعر الإنسان أنه في البيت وفي مقر الدراسة وفي مقر العمل وهنا وهناك وفي أي ميدان يشعر أنه داعية إلى الله تبارك وتعالى.

    حكم الساكت عن الحق عند خوف الضرر على نفسه

    السؤال: هل يعد الساكت عن الحق الخائف على نفسه شيطاناً أخرس؟

    الجواب: إذا سكت الإنسان عن إنكار المنكر، أو عن بيان حق يجب أن يقوله؛ فإن كان يخاف على نفسه من أذىً سوف يغلب على ظنه أنه يلحقه، فهو بين خيارين: إن اختار تحمل هذا الأذى كما تحمل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأذى في سبيل الله فله ذلك، وهذه من مقامات أولي العزم، وإن لم يختر ذلك فإنه يجوز له حينئذٍ أن يسكت لأنه أصبح في حكم المكره.

    التعامل السيئ من قبل الداعية مع الآخرين يمثل نقضاً لمفهوم القدوة الحسنة

    السؤال: كثير من الشباب منا صغاراً كانوا أو كباراً يعطون صورة سيئة عن الالتزام، وذلك من خلال معاملتهم لأهلهم ولوالديهم بالأخص، مما يؤدي إلى نتائج سيئة؛ فما نصيحتك لهم؟

    الجواب: لا شك أن هذا نقض للدعوة، يعني: أن هذا الشاب الذي يعطي أهله أو يعطي الناس من حوله صورة سيئة عن واقعه لا شك أن هذا يعطي الناس رسالة بأنه غير صادق في تدينه، غير صادق في دعوته، ولهذا تجد مثلاً الآباء أحياناً أو الأمهات يخاطبون هؤلاء وينتقدونهم بعبارات مفادها: أين أثر أصحابك عليك؟ أين أثر هذا الدين الذي تدين به؟ أين أثر ما تدعو الناس إليه على نفسك؟ فقد يكون الشاب مثلاً ينكر على أهله منكرات، وقد يكون يشارك مثلاً إخوانه الصالحين في مثل هذه اللقاءات ومثل هذه التجمعات فيرى أهله منه صورة مخالفة لما هو عليه، فيقصر في حقوقهم ويسيء معاملتهم، وربما يقصر في الواجبات الشرعية فيرون أن الفعل ينطق بخلاف القول، فيشكون في صدق هذه الحال التي هو عليها، وقل مثل ذلك مثلاً في واقعه مع الناس، مع زملائه في المدرسة، مع أقاربه هنا وهناك، حينما تكون سيرته لا تمثل ما يدعو إليه الناس فإن هذا يكون أعظم تنفير وصد عن طريق الالتزام.

    حسن الخلق من أهم مجالات الدعوة الصامتة

    السؤال: أليس الالتزام بالأخلاق الكريمة هو من الدعوة الصامتة؟

    الجواب: سبق الإشارة إلى هذا، ولا شك أن حسن الخلق من أعظم الدعوة الصامتة، بل إننا نجد مثلاً في السيرة أن هناك من أسلم لأنه رأى من النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً من المواقف، وهناك الكثير ممن دخل الإسلام ممن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان دخوله في الإسلام لما رأى من خلق بعض المسلمين.

    الدعوة الصامتة سلاح بيد الدعاة إلى الضلال

    السؤال: هل تعتقد أن من أسباب المذاهب الهدامة الدعاة الصامتين لهذه المذاهب، أم هناك أسباب أخرى؟

    الجواب: نعم، لا شك أن ما يبذله أولئك عامل من عوامل نجاحهم في دعوتهم، وسبق أن تحدثت عن هذا في محاضرة بعنوان: إنهم يعلمون، وذكرت نماذج مما يبذله هؤلاء، وكيف أنهم يحسنون للناس وينفقون عليهم، ويسهرون في خدمتهم، انظروا مثلاً ما يفعله المنصرون، فهم يدخلون على الناس من باب تقديم العلاج والإغاثة وإنقاذ الناس، وهكذا حتى تكون هذه الوسائل مدخلاً لإضلال الناس، فيشعر الناس أن هؤلاء صادقون وجادون فيما يدعون إليه، ويتساءلون بلسان حالهم، وربما بلسان مقالهم: أين المسلمون عنا؟

    وجود جوانب سيئة في الرجل القدوة لا يلزم منه ترك الاقتداء به في جوانبه الحسنة

    السؤال: يقال: ينظر كثير من الناس في هذا الزمان إلى العيوب والمساوئ عند بعض الأشخاص، ولا ينظر ما عنده من المحاسن فيقتدي بها؛ فهل من توضيح لذلك؟

    الجواب: المسلم دائماً يجب أن يكون ضالته الحق حيثما وجده، فإذا افترضت أن هناك إنساناً سيئاً أو حتى إنساناً غير متدين، ووجدت عنده جانباً إيجابياً فيجب أن تقتدي بهذا الجانب، وليس هذا بالضرورة تزكية لهذا الشخص، فالله تبارك وتعالى خاطب المؤمنين بقوله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، يعني: الله عز وجل يقول للمؤمنين: إذا كنتم تألمون وكان الجهاد يصيبكم فيه ما يصيبكم، فإن أعداءكم يصيبهم ما يصيبهم، فإذا كان أولئك يصبرون على ما أصابهم وهم أهل باطل وفساد، فأنتم أولى أن تصبروا، يقول تبارك وتعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

    إذاً: أنت قد ترى مثلاً من إنسان اجتهاداً في عمله وإخلاصاً وبذلاً، وقد ترى منه محافظة على وقته، وقد ترى منه أي جانب من الجوانب الإيجابية، وهو إنسان سيئ، فقد تجعل من هذا الجانب قدوة لك، لا أن فلاناً قدوة لك، لكن أنت تقتدي به في هذا الجانب، فكيف إذا كان إنساناً صالحاً وعنده بعض الأخطاء وعنده بعض العيوب، فإنك ينبغي أن تقتدي بما تراه فيه من سلوك حسن، وما تراه فيه من خير، وأن تدع ما تراه فيه مما هو خلاف ذلك، وهذه طبيعة البشر، لا أحد يقتدى به في كل ما يفعل ويدعو إليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الناس مهما علت حاله، ومهما سمت نفسه، ومهما كان سيبقى بشراً يؤخذ من قوله ويرد.

    أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سميع مجيب.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766762211