الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
[ والعرف معمول به إذا ورد حكم من الشرع الشريف لم يحد ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في هذا البيت أن العرف يعمل به فيما إذا ورد حكم ولم يحد من قبل الشارع، إذا ورد حكم في الشرع لم يحد فإنه يحد بالعرف، والعرف هو ما اعتاده الناس إما جميعهم أو غالبهم، ما اعتاده الناس إما جميعهم أو غالبهم، أو كذلك ما اعتادته طائفة من الناس إما جميع هذه الطائفة أو أكثر هذه الطائفة، فهذا يسمى بالعرف.
إذاً: ما اعتاده الناس أو اعتادته طائفة منهم، فإما أن يعتادوه جميعاً أو غالبهم، فهذا هو العرف، فإذا جاءنا حكم فإنا نرجع في تحديده للعرف إذا لم يحصل له تحديد من قبل الشارع، قال الله جل وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228].
يعني بالعرف.
فللمرأة من النفقة والسكنى ما يحكم فيه العرف، وهذا يختلف باختلاف حال الزوج غنى أو فقراً أو توسطاً، وعلى ذلك فنقول: إنا نرجع في النفقة إلى العرف، فما حكم به العرف في نفقة المرأة رجعنا إليه، لأن الشارع أرجعنا هنا إلى العرف.
وكذلك في سائر الأحكام التي لم تحد من قبل الشارع، كالقبض مثلاً في البيع نرجع فيه إلى العرف، فما عد قبضاً في العرف فهو قبض في حكم الشارع.
كذلك في الحرز في السرقة، فما عُدَّ حرزاً في العرف فهو حرز في حكم الشارع.
كذلك في بعض مسائل العبادة كالموالاة في الوضوء، نرجع في ذلك إلى العرف، فإذا كان الزمن طويلاً في العرف حكمنا بالانقطاع وفوات الموالاة، وإذا كان الزمن قصيراً في العرف حكمنا بالاتصال وحصول الموالاة، فإذا غسل وجهه في الوضوء وأخر غسل يديه وكان بينهما زمن طويل في العرف قلنا له: استأنف الوضوء، وإن كان الزمن قصيراً في العرف قلنا له: أكمل.
وهكذا نرجع إلى العرف في مسائل كثيرة، فيما لم يحدد من قبل الشرع.
هناك مسائل يتفق الناس على أنها هي العرف، وهناك مسائل يكون هذا هو العرف في الغالب، فنأخذ بالغالب، لأن الغالب له حكم الكل، وهذا كما تقدم قد يكون للناس جميعاً وقد يكون لطائفة منهم.
فإذا أتينا مثلاً إلى سائقي الأجرة فهؤلاء طائفة من الناس، فإذا كان عرفهم أن من ركب من المطار إلى أي موضع في البلد يدفع مثلاً مائة ريال فركبت ولم تذكر أجرة، فإنا نرجع عند الاختلاف إلى العرف، فنقول: ما هو العرف عندكم؟ فإذا قالوا: إن العرف عندنا أن يدفع مائة ريال، فنقول لهذا المستأجر: ادفع هذه الأجرة، لأن هذا هو العرف.
كذلك إذا عمل أجير عند شخص لمدة شهر فإن العرف أن الجمعة لا تدخل في العمل، هذا في بعض الأعمال؛ لكن الأعمال المنزلية قد يكون العرف بخلاف ذلك وأنها تدخل، وكذلك رعي الماشية تدخل فيه الجمعة، لكن هناك أعمال لا تدخل فيها الجمعة، فلو أراد أن يخصم من أجره أيام الجمع لأنه لم يحضر فيها نقول له: نرجع إلى العرف، فإن كان العرف يقضي أنه لا يحضر يوم الجمعة حكمنا بذلك، وإن كان العرف يقضي بحضوره يوم الجمعة فإن لك أن تخصم منه هذا اليوم.
قال المصنف رحمه الله:
[ معاجل المحظور قبل آنه قد باء بالخسران مع حرمانه ]
هذه قاعدة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، قال عليه الصلاة والسلام: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، كما جاء هذا في الصحيح.
وجاء في سنن أبي داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يرث القاتل شيئاً)، فالقاتل لا يرث من المقتول؛ لأنه تعجل هذا الشيء قبل أوانه فعوقب بحرمانه، سواء كان متعمداً أو مخطئاً سداً للذريعة.
كذلك لو قتل الموصى إليه الموصي فإنا نحرمه من الوصية لأنه تعجل شيئاً قبل أوانه.
كذلك إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً بائناً في مرضه المخوف، فكذلك نقول: إنها ترث لأنه أراد حرمانها. إذاً من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
قال المصنف رحمه الله:
[ وإن أتى التحريم في نفس العمل أو شرطه فذو فساد وخلل ]
النهي قد يقتضي الفساد وقد لا يقتضيه، فمتى يقتضي النهي الفساد ومتى لا يقتضيه؟
عندنا أربع صور:
الصورة الأولى: أن يعود النهي إلى ذات المنهي عنه:
فهنا يقتضي الفساد، فمثلاً: الشارع نهى عن صوم يوم العيد، فإذا صامه نقول: إن هذا الصيام باطل.
والشارع نهى عن الصلاة في وقت النهي، فإذا تطوع بتطوع مطلق في وقت النهي قلنا له: إن هذه الصلاة باطلة لأن الشارع قد نهى عنها.
وإذا باع في يوم الجمعة بعد النداء الثاني قلنا له: إن هذا البيع باطل؛ لأن الشارع قد نهى عنه، قال تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].
إذا نكح المعتدة قلنا له: إن النكاح باطل؛ لأن الشارع نهى عن نكاح المعتدة.
هذه المسائل كلها يعود فيها النهي إلى ذات المنهي عنه.
الصورة الثانية: أن يعود النهي إلى شرط المنهي عنه على وجه يختص به؛ يعني: أن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه وإنما يعود إلى شرطه، ويكون على وجه يختص.
ومعنى (على وجه يختص) أن هذا الشيء لا ينهى عنه إلا في هذه العبادة أو في هذا العقد، لكن لا ينهى عنه خارج هذه العبادة.
فمثلاً: الجلوس في مرابض الإبل يجوز، لأن الشارع لم ينهنا عن الجلوس في مرابض الإبل، لكنه نهانا عن الصلاة فيها، فهنا النهي يعود إلى شرط العبادة على وجه يختص بالعبادة، لأنه لا نهي عن هذا الشيء خارج العبادة.
فهذا كذلك يقتضي الفساد، فإذا صلى في مرابض الإبل فصلاته باطلة.
مثال آخر: إذا صلت المرأة وهي كاشفة لشعرها، فنقول: إن صلاتها باطلة، لأن النهي هنا عن كشف الشعر على وجه يختص بالصلاة، فلو جلست في بيتها ولا أجنبي وقد كشفت عن شعرها فلا حرج عليها.
إذاً: هذا على وجه يختص، وعلى ذلك فيقتضي الفساد.
الصورة الثالثة: أن يكون النهي عائداً إلى الشرط على وجه لا يختص بالعبادة.
يعني: بأن ينهى عن الشيء في العبادة وخارج العبادة، كالذي يستر عورته بثوب حرير، فهذا محرم في الصلاة وخارج الصلاة.
إذاً: ليس النهي هنا على وجه يختص بالعبادة؛ لكن ثوب الحرير ينهى عن لبسه في الصلاة وخارج الصلاة، ولذا فإنا نقول: إن هذا النهي يعود إلى شرط العبادة على وجه لا يختص بالعبادة.
فهذا فيه قولان لأهل العلم: هل يقتضي الفساد أم لا؟
فالحنابلة قالوا: إنه يقتضي الفساد.
وقال الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه لا يقتضي الفساد. وهذا هو الراجح؛ لأن الجهتين منفكتان، فنقول: هو مأجور على صلاته آثم لستر عورته بثوب حرير.
الصورة الرابعة: أن يعود إلى أمر خارج عن العبادة، ولا يعود إلى ذاتها ولا إلى شرطها:
كأن يصلي وفي يده خاتم ذهب، فهذا لا يعود إلى العبادة ولا إلى شرط العبادة، بل يعود إلى أمر خارج عنها، فهذا لا يقتضي الفساد اتفاقاً، ومن ذلك أن يسوم على سوم أخيه، فإذا سام على سوم أخيه ثم تم البيع فإننا نقول: إن البيع يصح لكنه يأثم حيث سام على سوم أخيه.
مثلاً: هذا الرجل سام سلعة بعشرة آلاف ريال، فركن صاحب السلعة إلى هذا السوم واطمأنت نفسه، فليس لك أن تسوم على سومه، لأن نفسه قد اطمأنت فهو يريد أن يبيع بهذا السوم، فأتيت وقلت: أنا أزيد ألفاً، فتكون قد سمت على سوم أخيك، وذلك لا يجوز.
لكن إن باع لك فالبيع صحيح مع الإثم، لأن السوم خارج عن البيع، لا يعود إلى شرط البيع ولا يعود إلى ذات البيع.
قال المصنف رحمه الله:
[ ومتلف مؤذيه ليس يضمن بعد الدفاع بالتي هي أحسن ]
أي: من أتلف شيئاً آذاه فإنه لا يضمن؛ لأن هذا من باب دفع الصائل.
مثال: إذا صال عليك جمل فقتلته فلا ضمان عليك، لأن هذا من باب دفع الصائل الذي يصول على النفوس والأموال.
فالذي يصول على النفوس والأموال يدفع بالأسهل فالأسهل، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم لرجل قال له: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت في الجنة).
إذاً: الصائل يدفع بالأسهل فالأسهل حتى لو وصل ذلك إلى القتل، أما إذا كان يكفي التهديد فليدفعه بالتهديد، وإذا كان لا يكفي دفعه بما هو فوق كالضرب ثم الجرح إلى القتل، فيدفعه بالأسهل فالأسهل، هكذا يدفع الصائل.
لو أنك كنت في سفينة وكان هناك متاع فوق فوقع عليك فدفعته بيدك فوقع في البحر فلا تضمن؛ لأنه قد صال عليك.
لكن لو أنك قد تأذيت من شيء فأتلفت شيئاً آخر لتدفع أذى غيره، فهنا عليك الضمان، ولذا فإن من حلق شعره ليدفع عنه أذى القمل فعليه فدية لأن الشعر لم يؤذه وإنما آذاه القمل، فدفع القمل بإزالة شعره.
لكن لو أن شعرة نزلت على عينه وأزالها بيده فلم تذهب فآذته فنتفها فلا فدية عليه؛ لأنها مؤذية.
كذلك لو انكسر ظفره بشيء فآذاه فقلمه فلا شيء عليه، لأن الظفر هنا هو المؤذي.
إذاً: إذا دفع شيئاً لشيء آخر قد آذاه فإن عليه الضمان، وأما إذا دفع هذا المؤذي نفسه فإنه لا ضمان عليه.
قال المصنف رحمه الله:
[ وأل تفيد الكل في العموم في الجمع والإفراد كالعليم
والنكرات في سياق النفي تعطي العموم أو سياق النهي
كذاك من وما تفيدان معا كل العموم يا أخي فاسمعا
ومثله المفرد إذ يضاف فافهم هديت الرشد ما يضاف ]
هذه بعض صيغ العموم.
واللفظ العام هو: اللفظ الشامل لجميع أفراده.
فـ (أل) الاستغراقية تفيد العموم، وهي التي يصلح أن يكون موضعها (كل)، مثل قوله: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ... [العصر:2] أي: إن كل إنسان. (إنما الأعمال بالنيات)، أي: إنما كل الأعمال بالنيات.
كذلك (من) و(ما) الموصولتان، وكذلك (من) و(ما) اللتان هما من أسماء الاستفهام وكذلك (من) و(ما) من أسماء الشرط، فهذه كلها تفيد العموم.
مثال الموصول: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33].
ومثال الاستفهام: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].
ومثال الشرط: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46].
هذه كلها صيغ عموم، ومحل الكلام عليها في كتب الأصول، والشيخ رحمه الله قد أدخل مسائل من مسائل الأصول في هذه المنظومة وكذلك أدخل مسائل من قواعد الأصول لهذه المنظومة في القواعد الفقهية، كالمسألة السابقة: (وإن أتى التحريم في نفس العمل ...)، فهذه من قواعد الأصول، وليست من القواعد الفقهية.
فأضاف بعض المسائل التي هي من قواعد الأصول أو من مسائل علم أصول الفقه، ومن ذلك صيغ العموم.
قوله: (كذلك المفرد إذ يضاف):
أي: المفرد إذا أضيف فإنه يفيد العموم، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] هذا مفرد مضاف.
وكذلك الجمع إذا أضيف، كقول الله جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [التوبة:103]، هذا جمع مضاف يفيد العموم، ولذا أخذ منه وجوب الزكاة في عروض التجارة لأنها مال.
إذاً المفرد المضاف والجمع المضاف كلاهما يفيد العموم.
قول المصنف رحمه الله:
(والنكرات في سياق النفي تعطي العموم أو سياق النهي)
أي: كذلك النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وكذلك في سياق النهي.
مثال النكرة إذا كانت في سياق النفي: ليس في البيت أحد، هذه نكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي أنه لا أحد في البيت، وهذا عام يشمل كل أحد.
ومثال النكرة في سياق النهي: لا تشركوا بالله شيئاً، فـ (شيئاً) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم.
وقول المصنف رحمه الله:
(كذاك من وما تفيدان معا كل العموم يا أخي فاسمعا)
قد تقدم شرح هذا البيت.
وتقدم أيضاً شرح قول المصنف رحمه الله:
(ومثله المفرد إذ يضاف فافهم هديت الرشد ما يضاف)
قال المصنف رحمه الله:
[ ولا يتم الحكم حتى تجتمع كل الشروط والموانع ترتفع ]
هذه قاعدة نافعة جداً، وهي أن الحكم لا يتم حتى تتوفر شروطه وتنتفي موانعه.
فمثلاً: الصلاة لها شروط ولها موانع، فالحيض مانع منها، واستقبال القبلة شرط لها، فإذا صلت المرأة مستقبلة القبلة لكنها حائض لم تصح صلاتها، وذلك لأن وجود المانع يمنع من أن يتم العمل، فلا يصح العمل مع وجود المانع.
والزكاة كذلك لها شروط ولها موانع، فالدين من موانع وجوب الزكاة، إذاً العمل لا يتم إلا بعد توفر شروطه وانتفاء موانعه.
كذلك التكفير لا يتم التكفير إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه.
ومن موانعه: الإكراه والجهل في المسائل التي يجهل مثلها، والتأويل نوع من الجهل، فلابد في التفكير من أن تتم الشروط وتنتفي الموانع.
إذاً: لا يتم الحكم حتى تتوفر شروطه وتنتفي موانعه.
قال المصنف رحمه الله:
[ ومن أتى بما عليه من عمل قد استحق ما له على العمل ]
أي: من أتى بما عليه من عمل استحق الأجرة المتفق عليها.
مثاله: رجل اتفق مع أجير على أن يبني له جداراً وأن له كذا وكذا أجرة، فإذا قام بهذا العمل استحق أجرته.
كذلك أيضاً في العبادات: إذا قام المسلم بالعبادة مخلصاً لله متبعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه يجزئ عمله ويستحق أن يثاب عليه.
قال المصنف رحمه الله:
[ وكل حكم دائر مع علته وهي التي قد أوجبت لشرعته ]
هذا البيت فيه أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وأن العلة لها أثر بحيث إن الحكم يدور معها، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم.
عندما نقول: إن هذا الثوب نجس، فما هي علة الحكم بنجاسته؟
الجواب: وجود هذه النجاسة، فإذا زالت النجاسة بأي طريق -بالماء أو بالشمس أو بالريح- فإنا نقول: إن الثوب طاهر لأن العلة قد زالت.
والعلة: هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب لترتيب حكمة التشريع.
فهي وصف: كالسفر. ظاهر: أي: ليس خفياً.
هذا هو تعريف العلة، فالحكم يدور مع هذه العلة؛ فالسفر علة للقصر، فإذا سافر قصر وإذا لم يسافر لم يقصر، ومعنى قولنا: (الحكم يدور مع علته وجوداً)، يعني: إذا وجدت العلة وجد الحكم، (وعدماً)، يعني: إذا نتفت العلة انتفى الحكم.
يوجد في بعض النسخ هذا البيت:
[ ويفعل البعض من المأمور إن شق فعل سائر المأمور ]
يعني ما يعجز عن فعله كله يفعل ما يقدر عليه منه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منهم ما استطعتم).
فإذا كان مثلاً لا يقدر أن يرفع يديه في الصلاة كما جاء في السنة؛ لكنه يقدر على أن يرفعهما دون ذلك فإنه يرفع بقدر ما يستطيع، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
قال المصنف رحمه الله:
[ وكل ما نشأ عن المأذون فذاك أمر ليس بالمضمون ]
أي: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون، أي: أن ما أذن الشارع فيه فترتب عليه شيء فهو ليس بمضمون.
مثلاً: السارق إذا قطعت يده، فسرى ذلك إلى بقية يده من غير أن يحصل أي اعتداء، فنقول: إن هذه السراية لا تضمن؛ لأن هذا الفعل مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
لكن لو أن رجلاً قطع يد آخر، ثم إن الجناية سرت فإن عليه ضمان سراية هذه الجناية، لأن هذا الفعل غير مأذون فيه.
إذاً: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون، يعني: ما أذن لك فيه ففعلته فلا تضمن ما ترتب عليه إذا لم تتعد، لكن إذا حصل فعل ليس بمأذون فيه ثم إنه حصل من ذلك سراية فإنك تضمن؛ لأنك فعلت ما لم يؤذن لك بفعله، فما ترتب عليه فهو مضمون، أي: تضمنه أنت حيث حصل منك هذا الفعل غير المأذون فيه.
قال المصنف رحمه الله:
[ وكل شرط لازم للعاقد في البيع والنكاح والمقاصد
إلا شروطاً حللت محرما أو عكسه فباطلات فاعلما
الشروط في البيع وفي النكاح وفي غيرها من العقود، منها صحيح ومنها باطل، فالصحيح منها ما لم يخالف الشرع، قال عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)، رواه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح.
إذاً: المسلمون على شروطهم، فالأصل في الشروط الصحة.
والمراد بالشرط ما يجعله العاقدان أو أحدهما في العقد لمصلحة لهما أو لأحدهما.
مثاله: رجل اشترى سيارة من الدوحة واشترط البائع أن يركبها إلى بلده خارج الدوحة، فهذا شرط في البيع، والأصل في الشروط الصحة.
اشترى رجل بضاعة واشترط على البائع أن يحملها إلى بيته في المكان الفلاني، فهذا شرط في البيع، والأصل في الشروط الصحة، إلا أن يكون الشرط يخالف الشرع، فإذا كان يحل حراماً أو يحرم حلالاً فهو شرط باطل، كأن يبيع العبد ويشترط أن يكون ولاؤه له، هذا شرط باطل لأن الولاء لمن أعتق، كما جاء هذا في الصحيحين.
كذلك لو اشترى بضاعة واشترط أن لا خسارة عليه. نقول: هذا شرط باطل.
يعني: اشتريت بضاعة من بائع جملة وقلت له: بشرط أن لا خسارة علي، وعلى ذلك فإذا بعت بخسارة فعليه أن يجبر لك النقص الحاصل عليك بسبب هذه الخسارة، نقول: هذا شرط باطل.
إذاً: الشروط سواء كانت في البيع أو في النكاح أو في غيرهما كالإجارة الأصل فيها الصحة إلا أن تخالف الشرع، فإذا كانت تحل حراماً أو تحرم حلالاً فهي شروط باطلة.
قال المصنف رحمه الله:
[ تستعمل القرعة عند المبهم من الحقوق أو لدى التزاحم ]
أي: من كان له حق فإنه يستحقه، فيعطى حقه؛ لكن إذا تزاحمت الحقوق فلا مزية لأحد على الآخر، كما لو تزاحم فلان وفلان على الأذان أو الإمامة، أو على موضع كل منهما قد وضع يده عليه ولم يكن لأحد منهما سبق فلا مزية فنلجأ إلى القرعة، حتى يتبين من القرعة المستحق.
فيدفع الخلاف حيث لا مرجح ولا مزية لأحدهما على الآخر بالقرعة، فمن خرجت القرعة له حكم بالحق له، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إذا أراد سفراً يقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها سافر بها عليه الصلاة والسلام).
إذاً: عند تزاحم الحقوق فلا مزية لواحد على الآخر، نلجأ إلى القرعة.
كذلك يعمل بالقرعة عند الإبهام:
فمثلاً: هذا رجل قال: إن إحدى زوجتي هاتين طالق، ولم ينو هذه ولا هذه، فنقرع بينهما، فمن خرجت القرعة لها كانت في ذمته.
قال المصنف رحمه الله:
[ وإن تساوى العملان اجتمعا وصح فعل واحد فاستمعا ]
قوله: (إن تساوى العملان اجتمعا) أي: إن تساوى الفعلان فإنهما يجتمعان، ويجزئ كل واحد منهما عن الآخر، ما دام أن المقصود من الفعلين يحصل بفعل واحد منهما، فطواف الإفاضة إن أخره الحاج أجزأه عن طواف الوداع؛ لأن الفعلين اتفقا واجتمعا، ويحصل بفعل أحدهما المقصود منه والمقصود من الآخر؛ لأن المقصود من طواف الوداع توديع البيت، فإذا أخر طواف الإفاضة حصل به توديع البيت أيضاً، فأجزأ.
كذلك إذا اغتسلت المرأة عن الجنابة والحيض، كما لو طهرت من الحيض وكانت قبل الحيض جنباً، فاغتسلت غسلاً واحداً؛ فهذا الغسل يحصل به المقصود من غسل الجنابة والمقصود من غسل الحيض.
لكن إذا كان لكل منهما مقصود يختص به، فلا يحصل مقصود أحدهما بفعل الآخر، فنقول: لابد من الفعلين جميعاً:
مثال ذلك: رجل فرغ من طواف الإفاضة أو طواف آخر بعد أذان الفجر، فهل يجزئه أن يصلي ركعتين بنية ركعتي الطواف وسنة الفجر؟ الجواب: لا؛ لأن هذه لها مقصودها وهذه لها مقصودها.
وهذا رجل عليه نذر فوفى بنذره يوم عيد الأضحى، ونوى أن يكون المذبوح أضحية وأن يكون نذراً، فنقول: لا يجزئ؛ لأن هذا له مقصوده وهذا له مقصوده.
لكن لو أن رجلاً دخل إلى المسجد فصلى الفريضة أو سنة الفجر، نقول: تجزئ عن تحية المسجد؛ لأن المقصود من تحية المسجد أن يصلي ركعتين قبل جلوسه في المسجد، فإذا اشتغل بفرض أو نفل آخر أجزأ ذلك عن تحية المسجد.
قال المصنف رحمه الله:
[ وكل مشغول فلا يشغل مثاله المرهون والمسبل ]
أي أن المشغول لا يشغل، فالمشغول بشيء لا يشغل بشيء آخر كالمرهون.
فالمرهون مشغول بحق المرتهن، فمثلاً: هذا رجل اقترض دراهم ورهن بيته، فبيته رهن على هذه الدراهم التي اقترضها، فهل له أن يرهنه بدين آخر أو أن يوقفه؟
نقول: لا، لأن المشغول لا يشغل، فهذا البيت قد شغل بحفظ حق المرتهن، فليس لك أن تشغله بشيء آخر.
كذلك المسبل -يعني الوقف- فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث؛ لأنه مشغول بالوقفية فلا يشغل ببيع ولا إرث ولا هبة، لأن المشغول لا يشغل.
قال المصنف رحمه الله:
[ ومن يؤد عن أخيه واجباً له الرجوع إن نوى يطالبا ]
أي: الذي يؤدي عن أخيه واجباً فله أن يرجع إن نوى الرجوع.
مثال ذلك: إذا غاب جارك أو غاب صاحبك فأنفقت على أهله بنية الرجوع عليه إذا رجع، ولم تنوِ التبرع، فلك الرجوع لأنك محسن، والله جل وعلا يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91].
كذلك إذا قضيت ديناً عن أحد، كما لو حل أجل الدين وأتى الدائن يسأل عن أخيك فقضيته حقه وأنت تنوي أن ترجع على أخيك بحقك؛ فلك أن ترجع لأنك محسن، وما على المحسنين من سبيل.
وأما إذا نويت التبرع فليس لك الرجوع، مثل بعض الناس؛ حيث ينفق على أهل قريبه أو صديقه، يريد أن يتبرع بذلك تقرباً إلى الله جل وعلا أو صدقة أو هدية، ثم إنه يحصل بينه وبين هذا الرجل في المستقبل اختلاف فيطالبه بما أنفق!
نقول: ليس لك الرجوع لأنك نويت التبرع.
إذاً: من أدى عن غيره واجباً فله الرجوع إن نوى الرجوع، وإن لم ينوِ الرجوع فلا رجوع له.
فإن قال: إني قد ذهلت ولا أدري، كأن قال: أنا كان غرضي أن أقضي حاجته، ولم يقع في قلبي، هل هو تبرع أم غير تبرع؟
فأصح القولين في هذه المسألة أن له الرجوع، ما دام أنه قد ذهل؛ لأن الأصل أن له أن يرجع بحقه، وهو محسن كما تقدم، وما على المحسنين من سبيل.
قال المصنف رحمه الله:
[ والوازع الطبعي عن العصيان كالوازع الشرعي بلا نكران ]
ذكر في هذا البيت أن الوازع الطبعي كالوازع الشرعي.
والوازع الشرعي معروف، وهو: أن يكون هناك رادع من الشرع يمنع من المعصية، فحد الزنا وازع شرعي يمنع من المعصية، لكن هناك معاص تنفر منها الطباع، فالنفوس الطيبة أو النفوس في العادة تنفر من هذا الفعل، كأكل النجاسة مثلاً، فهذا النفور وازع طبعي، وحينئذ لا يحتاج إلى وازع شرعي يحرم أكل النجاسات.
فالشرع إنما وضع الحدود فيما يحتاج إلى حد يمنع الناس من فعله.
وأما ما كانت الطباع تنفر منه فإن العادة أنه لا حد فيه؛ لأن نفور الناس يكفي في المنع منه، لكن إن فعل شخص هذا الأمر الذي تنفر منه الطباع فإن فيه التعزير؛ لأن المعصية التي لا حد فيها يكون فيها تعزير.
قال المصنف رحمه الله:
[ والحمد لله على التمام في البدء والختام والدوام
ثم الصلاة مع سلام شائع على النبي وصحبه والتابع ]
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة الطعام أنه كان يأكل بيده ولا يأكل متكئاً ألا يؤخذ منه سنية هذه الأفعال؟
الجواب: نعم، يؤخذ من ذلك السنية؛ لأن الأصل هو الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه من السنة الفعلية.
السؤال: في قول الناظم: (واحكم بهذا الحكم للزوائد)، يظهر من شرحكم أن الزوائد لا تسمى وسائل، فهل هي قاعدة منفصلة أو تدخل في قاعدة: (الوسائل لها أحكام المقاصد)؟
الجواب: هذه تبع لها، فالوسائل شيء لكن هذه متممة لها، فهي تبع لها، فالوسيلة هي الشيء الموصل إلى الشيء، وهذه تتممها.
السؤال: تقول أيضاً: عند المرور على بعض القواعد في الكتب؛ كيف لطالب العلم أن يميز القاعدة إن كانت قاعدة أصولية أو فقهية، مثل قاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وغيرها من القواعد؟
الجواب: هذا كما تقدم أن القاعدة الفقهية هي: حكم كلي تدخل فيه مسائل كثيرة في أبواب شتى.
فعندما نقول: النية شرط في العمل، فكل عمل فالنية شرط فيه، فعندما نقول: إن النية شرط في الوضوء فإن اندراجها تحت هذه القاعدة الفقهية واضح من عبارتها، ولذا فهي حكم كلي وهذا حكم جزئي، فقولنا: (النية شرط للعمل) حكم كلي، و(النية شرط للوضوء، النية شرط للصلاة، النية شرط للزكاة)، هذا حكم جزئي.
لكن عندما نقول: (الأمر للوجوب)، فهذه قاعدة أصولية، نأخذ منها أن الأمر في قوله جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] للوجوب، فتتوصل بها إلى القول بوجوب الصلاة.
وهذا بخلاف القاعدة الفقهية، فالقاعدة الفقهية هي نفسها حكم، هذا الحكم المأخوذ يتميز عن الأحكام الجزئية بأنه حكم كلي، تندرج تحته جزئيات كثيرة.
فعلى ذلك فقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، نقول: هذه قاعدة أصولية، وليست قاعدة فقهية.
(العرف معمول به) هذه قاعدة فقهية؛ لأنك تقول: هذا حرز في العرف، وهذا قبض في العرف، فتحكم به، وهكذا، فهذه جزيئات تدخل في هذا الحكم الكلي.
السؤال: ما ضابط الإكراه الملجئ، هل يرجع فيه إلى العرف؟
الجواب: الإكراه الملجئ أن يكون المكره كالآلة، أي: يكون كالسكين، بمعنى أنه لا فعل له، وهذا واضح لا يحتاج إلى عرف.
السؤال: هل يفهم من قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) أن اليقين أحياناً يزال بالظن، أم أن الظن كذلك في منزلة الشك في عدم إمكانية إزالته لليقين، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: اليقين هنا -كما تقدم إيضاحه- يدخل فيه الظن، فالظن الغالب له حكم اليقين، أما الشك فهو الشيء المتردد فيه بحيث إنك لا تدري هل هو على هذه الصفة أو على هذه الصفة، أما الظن الغالب فإنه يعمل به.
السؤال: نريد شرحاً وافياً نفهم من خلاله الفرق بين أصول الفقه والقواعد الفقهية؟
الجواب: أصول الفقه: علم يشمل -أولاً- دلالات الألفاظ من عموم وخصوص، ويشمل -ثانياً- الأدلة الإجمالية من كتاب وسنة وإجماع وقياس، إلى بقية الأدلة الإجمالية كقول الصاحب والمصالح المرسلة وغير ذلك.
ويشمل -ثالثاً- شروط المجتهد، ما هو المجتهد وما هي شروطه.
فهذا علم يشمل هذه المسائل الثلاث.
أما عندما نقول: (قاعدة فقهية) فنعني أنه بدل أن نقول: النية شرط في الوضوء، النية شرط في الصلاة، النية شرط في الصوم، النية شرط في الزكاة، نقول: النية شرط في كل عمل.
وبدلاً من أن نقول: هذا الوارث قتل مورثه ليستعجل الإرث فحرم الميراث، وهذا الموصى إليه قد قتل الموصي ليستعجل ما أوصى له به فحرم الوصية؛ نقول: من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ولذا فهذه القاعدة تصلح أن تكون علة، فتقول: القاتل لا يرث؛ لأن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، وتقول: النية شرط في الوضوء لأن النية شرط في كل عمل.
ولا يصلح أن تقول: الصلاة فرض لأن الأمر للوجوب، لأن قولك: (الأمر للوجوب) قاعدة أصولية، لكن تقول: الصلاة فرض لأن الله أمر بها، فنقول لك: وما أمر الله به لماذا لا يكون للاستحباب؟ فتقول: الأمر للوجوب قاعدة أصولية دليلها كذا وكذا.
ولعله بهذا قد اتضح الفرق بين قولنا: قاعدة أصولية، وقاعدة فقهية.
السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل)؟
الجواب: قوله: (ليس في كتاب الله) يعني: ليس في حكم الله، فكتاب الله هنا يعني أنه ليس في حكم الله، وذلك بأن يكون مخالفاً لحكم الله جل وعلا.
السؤال: الصلاة في الأرض المغصوبة هل يعود فيه النهي إلى الشرط على الوجه الذي لا يختص، أم إلى أمر خارج من العبادة؟
الجواب: هل لك أن تجلس في الأرض المغصوبة؟ هل لك أن تنام فيها؟ هل لك أن تبيت فيها؟ هل لك أن تصلي فيها؟
الجواب في الجميع: لا.
إذاً: هل يكون على وجه يختص أو على وجه لا يختص؟ الجواب: على وجه لا يختص، ولذا فالصحيح من قولي العلماء أن الصلاة في الأرض المغصوبة تصح.
السؤال: هل مسألة اللباس يدخل تحت حكم العرف؟ وهل يدخل في ذلك لبس البنطال والجاكيت وربطة العنق في بلد لباسه ما ذكرنا، وهو اللباس الرسمي عندهم، ولبس الثوب عندهم غريب، بل يعتبر لباس شهرة عندهم؟
الجواب: لا شك أن الأصل أن للناس أن يلبسوا ما اعتادوا لبسه، وأن ذلك يرجع -كما تقدم في الدرس السابق- إلى القاعدة السابقة وهي: أن الأصل في العادات الحل، ولكن عندما يكون مخالفاً للشرع فإننا نقول: لا يجوز، فهل البنطال مخالف للشرع؟ وهل هذه التي توضع على الصدر ويربط بها العنق مخالفة للشرع؟
عندنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فهل هذا اللباس من التشبه بالكافرين أم لا؟ وهل يختص بالكفار أم لا يختص بهم؟
الذي يظهر لي أنه لا يختص بالكفار، ولذا فإني لا أرى أنه يقال: إن ذلك لا يجوز، لكن يقال: إنه من اللباس المكروه، لأنه يحجم العورة. هذا فيما يتعلق بالبنطال، فلما فيه من تحجيم العورة يكره، ولا نقول: إنه حرام؛ لأنه لا يختص بأمة، لأن الذي يلبس البنطال لا يقال إن هذا هو لباس اليهود أو النصارى، بل هذا لباس عام لا يختص بدين، لكنه يحجم العورة فيكره.
وأيضاً هذه التي توضع على العنق لا يظهر لي أن فيها تشبهاً لأنها لا تختص بدين؛ لكن لو أن المرأة لبست كاللبس الذي تلبسه النصرانيات وهو لباس خاص بهن يوضع على الرأس وله اتصال بالخرقة التي تكون على الظهر، فنقول: هذا يختص بالنصارى، فليس للمرأة أن تلبسه.
السؤال: كيف نفرق بين العلة والحكمة؟
الجواب: العلة -كما تقدم- هي الوصف المناسب المنضبط الظاهر لترتيب حكمة الشارع، فالحكمة لا تنضبط.
مثلاً: لماذا يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة؟ الجواب: دفعاً للمشقة، فالمشقة هي الحكمة، ولو قلنا: إنه يجوز القصر عند المشقة لم يصح؛ لأن هذا ليس بمنضبط، فالمشقة هي الحكمة، أما العلة فهي السفر.
فالسفر هو الوصف المنضبط المناسب لترتيب حكمة الشارع عليه، أما المشقة فليست منضبطة، ولذا فلا نقول: يجوز القصر عند المشقة وإنما نقول: يجوز القصر عند السفر، سواء وجدت المشقة أم لا؛ لأن الغالب أن توجد المشقة مع هذا الوصف، لكن قد لا توجد، ولذا فإنا نقول: إنه يقصر حتى ولو لم توجد مشقة، لأنا جعلنا السفر هو العلة.
السؤال: يتعلق كثير من الناس في إسقاط بعض الأحكام التي دلت عليها النصوص دلالة نص، فيسقطونها أو يؤخرون العمل بها بدعوى مقاصد الشريعة، مثل تحريم سفر المرأة بدون محرم، ويقولون: المقصد من ذلك الخوف، فإذا وجد الخوف لم يجز، وإلا جاز السفر بدون محرم ولا يقيدون ذلك بالحاجة ولا بالضرورة؟
الجواب: لا يجوز لنا أن نقدم ما نراه مصلحة على النص، وليس لنا أن نخالف النصوص الشرعية لظننا أنها لمعان معنية وأن هذه المعاني لا توجد في هذا الوقت.
ونقول: من الذي قال: إنه الخوف فقط على المرأة هو الذي يمنع من سفرها وحدها؟ بل هذا معنى من المعاني، لكن هناك معان أخرى؛ فالمرأة تحتاج إلى من يصونها ويحفظها حتى ولو كانت آمنة على نفسها في طريقها، فإنها تحتاج إلى من يحفظها ويصونها من الاعتداء عليها وعلى عرضها، ولأن نفسها قد تضعف فتحتاج إلى رجل يكون معها؛ ولذا فإنه لا يصلح أن يكون هذا المحرم طفلاً أو أن يكون مجنوناً، وإنما يكون بالغاً عاقلاً لأن البالغ العاقل هو الذي يصونها.
فالمقصود من ذلك أن الواجب على المسلمين أن يعملوا بالنصوص الشرعية كما جاءت، وليس لهم أن يأخذوا بمعان ظنوا أن هذه النصوص قد جاءت لتحقيقها وأن هذه المعاني غير موجودة فيتركون العمل بالنصوص الشرعية، لاشك أن هذا من الظن الذي لا يجوز.
السؤال: هل يجوز التخلي عن بعض السنن إن كان العرف يفسرها تفسيراً معيناً، كترك الاكتحال في بلد تعارف أهله أنه من فعل النساء، وفرق الشعر من وسط الرأس؟
الجواب: الأصل هو العمل بالسنة والعرف لا تعارض به السنن، فما ذكر من الاكتحال الذي هو من فعل النساء إنما هو الاكتحال بالسواد، وأما الإثمد فإنه ليس من فعل النساء، ولذا الذي ينهى عنه إنما هو الاكتحال بالسواد دون الاكتحال بالإثمد.
وكذلك فرق الشعر من وسط الرأس لا نقول: إن العرف أن هذا من فعل النساء.
لكن إذا كان شاباً ويخشى عليه الفتنة فإنه ينهى عن ذلك من هذا الباب، وإلا فإن هذا في الأصل من الأفعال التي إما أن نقول إنها من السنة، وإما أن نقول إنها من العادة التي كان عليها النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن العرب كانوا يفرقون، ففرق النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا من فعل العرب، ولا نقول: إن هذا من السنة التي يؤجر عليها على الصحيح، وإنما هذا من العادة، فالعرب كانوا يوفرون شعورهم وكانوا يفرقون، ففعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
والعرب الآن ليسوا على هذه الحال، فينبغي أن يوافقهم مثل اللباس، لا نقول: إنه يسن أن تلبس العمامة وأن تلبس الإزار والرداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ذلك؛ لأن هذا كان من اللباس المعتاد في زمانه.
وكذلك -على الصحيح- ما يتعلق بفرق الشعر، فإن فرقت قلنا: هذا جائز، وإن وافقت قومك فأخذت من شعرك وخففته ولم تفرقه فإن هذا هو الأولى.
ولذا فإن الصحابة لما سافروا إلى المدائن تركوا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه من اللباس ووافقوا لباس أولئك القوم الذين نزلوا عليهم، كالقلنسوة ونحو ذلك مما كان موجوداً في تلك المدائن التي أتاها الصحابة رضي الله عنهم، فلبسوها ولم تكن عند العرب.
السؤال: بالنسبة إلى السوم في البيع والشراء، هناك من يعرض بضاعته في جمع من الناس وكل يسوم على أخيه، وذلك ما يسمى بالمزاد، فما حكم ذلك؟
الجواب: المزايدة جائزة، وهي أن توضع السلعة فهذا يقول بعشرة، وهذا يقول بعشرين، وهذا يقول بثلاثين، حتى تقف عند حد، فهذا جائز بالاتفاق.
لكن هذا رجل ذهب إلى السوق بسيارته ووقف السوم مثلاً على عشرة آلاف ريال، واطمأن للبيع -يعني ركن البائع وأراد أن يبيع- وما بقي إلا أن يذهب هو والمشتري إلى المكتب لكتابة عقد البيع، فأتى رجل وقال: كم وقف السوم؟ قال: وقف السوم على كذا، وهو يعرف أنه يريد أن يبيع، فقال: أنا أزيد كذا، فأفسد على هذا المشتري سومه.
أما المزايدة فتجوز بالاتفاق ولا حرج، أما السوم على سوم أخيه فهذا إذا ركن كل واحد منهما إلى الآخر وما بقي إلا العقد، يعني وقفت المساومة أو لم تكن هناك مزايدة في الأصل، فقال: كم تريد أن تبيع على فلان، قال: بعشرة، والآن نريد أن نذهب إلى المكتب للكتابة، فقال: أنا أزيدك كذا؛ فهذا لا يجوز.
السؤال: إذا كان في البلد جماعة يعملون عملاً منظماً، فهل هذا العمل صحيح أم لا، وهل يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم)؟
الجواب: السؤال غير واضح، لكن إذا كان المقصود أنهم يعملون عملاً دعوياً منظماً، فما دام أنه تحت نظر الولاية الشرعية فهذا لا بأس به، إنما ينهى عن العمل الخفي الذي يكون فيه كيد للأمة، وأما إذا كان هناك تنظيم كما يوجد في إدارات الدعوة والإرشاد والأوقاف وفي سائر الأعمال وفي الجمعيات وغيرها، حيث يكون عملاً منظماً ويكون هناك رئيس، ولكن يكونون تحت الولاية الشرعية؛ فهذا جائز لا بأس به.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر