قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: ويصح التعليق مع تقدم الشرط وتأخره، كإن قمت فأنت طالق، أو أنت طالق إن قمت ].
يصح أن يقدم التعليق ويصح أن يؤخر فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، فإذا قدم التعليق أو أخر لم يؤثر ذلك في الحكم.
[ ويشترط لصحة التعليق أن ينويه قبل فراغ التلفظ بالطلاق ]، لأن التعليق كالاستثناء يصرف الكلام السابق عن مقتضاه.
فلو أن رجلاً قال لامرأته: (أنت طالق) ولم ينو التعليق بشرط، ثم قال: (إن قمت) فلا يصح التعليق كما تقدم في الاستثناء أنه لو قال: (أنت طالق ثلاثاً) ولم ينو الاستثناء ثم قال: (إلا واحدة)، ولم يكن نوى قبل تمام المستثنى منه الاستثناء أنه لا يصح، فكذلك التعليق. ولذا لو أن هذا الباب فتح لكان من طلق امرأته فبدا له أن يرجع أتى بشرط فقال لها مثلاً: بعد غضب يا فلانة أنت طالق طالق طالق فندم وقال: إن ذهبت إلى المستشفى هذه الليلة، فماذا نقول؟ نقول: لا يصح هذا؛ لأن هذا الاستثناء أو التعليق قد أتى ولم تكن نويته عند الكلام السابق.
لكن لو قال لها: أنت طالق وقد نوى أثناء قوله: أنت طالق أن يعلق ذلك بشرط كأن يقول: إن قمت، فهذا يصح.
قال: [ وأن يكون متصلاً لفظاً أو حكماً ] كالاستثناء، أي أن الشرط هنا كالاستثناء، مثال ما يكون متصلاً لفظاً قوله: أنت طالق إن قمت، أو حكماً: أنت طالق فيعطس ويقول: إن قمت، فهذا متصل حكماً.
قال: [ فلا يضر لو عطس ونحوه أو قطعه بكلام منتظم ]، لو أتى بكلام ينتظم مع كلامه السابق [ كقوله: أنت طالق يا زانية إن قمت ]، فهذا كلام منتظم.
[ ويضر إن قطعه بسكوت أو كلام غير منتظم كقوله: سبحان الله ]، أي كقوله: أنت طالق سبحان الله إن قمت، أتى الآن بكلام غير منتظم مع كلامه السابق، فهذا التعليق لا يعتبر، فنقول: قد طلقت، لأن الكلام لم يتصل، بل هناك فاصل بين كلامك السابق وبين التعليق.
قال: [ وتطلق في الحال ].
قال: [ فصل في مسائل متفرقة: إذا قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق: فأذن لها ولم تعلم أو علمت وخرجت، ثم خرجت ثانياً بلا إذنه طلقت ].
الإذن كما هو معلوم في اللغة هو الإعلام، وعلى ذلك فلا يعتبر إذناً إلا بعد الإعلام، فلو أن رجلاً منع ابنه من شيء، ثم بدا له أن يأذن له ولم يعلمه، وإنما تشاور مع بعض الناس وقال: أذنت لابني ولكنه لم يعلمه بعد، فلا يعد هذا إذناً حتى يعلمه.
فإذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن خرجت بغير إذني، فأذن ولم يعلمها، فإذا خرجت فهي طالق.
وهذا كله ينبني على ما تقدم من الكلام في الحلف بالطلاق، وتقدم أن الراجح أن عليه كفارة يمين إذا كان لا يريد الطلاق وإنما يريد منعها، أو حثها على الفعل فقط، وتقدم شرح هذا في درس سابق.
إذاً: إذا خرجت قبل أن يعلمها فإنها تطلق على ما ذكر المؤلف، هذا رجل قال لأمه: إني قد أذنت لامرأتي أن تذهب حيث كنت قد منعتها إلا بإذني، ولكنه لم يعلمها بذلك، فخرجت ولم تعلم بإذنه فإنها تطلق كما تقدم.
فقوله: [ أو علمت وخرجت ثم خرجت ثانياً بلا إذنه طلقت ]. كما لو قال: يا فلانة، إن خرجت إلى المكان الفلاني بلا إذني فأنت طالق، فأذن لها فخرجت، ثم خرجت بعد ذلك مرة أخرى بلا إذن، فإنها كذلك تطلق؛ لأنها قد خالفت فكان حانثاً في يمينه، لأن قوله: يا فلانة إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، ليس لمرة واحدة ولا لمرتين ولا لثلاث، فلا تخرج إلا بإذنه.
قال: [ ما لم يأذن لها في الخروج كلما شاءت ].
إذاً: هذا هو المخرج من هذه اليمين، وهو أن يقول لها: يا فلانة كنت قد قلت لك ألا تخرجي إلا بإذني فإن خرجت بلا إذني فأنت طالق، وإني الآن أذنت لك أن تخرجي كلما شئت، وعلى ذلك فلا يحنث في يمينه.
قال: [ وإن خرجت بغير إذن فلان فأنت طالق فمات فلان وخرجت لم تطلق ].
قال: يا فلانة أنا مسافر، فإن خرجت بغير إذن أبي أو بغير إذن أمي أو بغير إذن أبيك أو بغير إذن أمك فأنت طالق، فخرجت بلا إذن فإنها تطلق.
لكن إن مات من اشترط إذنه فخرجت لم تطلق؛ لأن الميت لا إذن له.
[ وإن خرجت إلى غير الحمام فأنت طالق فخرجت له ثم بدا لها غيره طلقت ].
قال: يا فلانة إن خرجت إلى غير المستشفى فأنت طالق، فمرضت فخرجت إلى المستشفى وإلى موضع آخر، فتكون قد خالفت، وعلى ذلك فقد حنث في يمينه.
قال: [ وزوجتي طالق أو عبدي حر إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله ].
هذا رجل قال: زوجتي إلا طالق إلا أن يشاء الله، تطلق لأنه علق رفع طلاقه بأمر نجهله، وقد أثبت الطلاق بقوله: هي طالق، وعلى ذلك فتطلق.
فإن قال: أنت طالق إن شاء الله، فهل تطلق؟ قال المؤلف: تطلق، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه إذا قال: إن شاء الله لا تحقيقاً ولا تبركاً وتأكيداً وإنما قال ذلك تعليقاً فإنها لا تطلق، وعلى ذلك فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله تحقيقاً طلقت، وإذا قال: أنت طالق إن شاء الله تأكيداً طلقت.
وإذا قال: أنت طالق إن شاء الله بنية التعليق بمشيئة الله فإنها لا تطلق، وذلك أن مشيئة الله للطلاق لا تعلم إلا بوقوعه، وقد علقه بمشيئة الله، بخلاف ما إذا قال: إلا أن يشاء الله، فإنه هناك أثبته وعلق رفعه، أما هنا فإنه علق الطلاق نفسه ولم يعلق رفعه على المشيئة.
وعلى ذلك فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله ونوى بقلبه التعليق لم تطلق، وإن نوى بقلبه التحقيق أو التأكيد طلقت. وكذلك إذا قال عبدي حر فهي كالطلاق في التعليق على مشيئة الله.
[ وإن قال: إن شاء فلان فتعليق لم يقع إلا أن يشاء ].
قال: أنت طالق إن شاء زيد فإذا شاء زيد الطلاق وقع، وإذا لم يشأه لم يقع.
[ وإن قال: إلا أن يشاء فموقوف، فإن أبى المشيئة أو جن أو مات وقع الطلاق إذاً ]، لأنه أوقع الطلاق وعلقه بقوله: إلا أن يشاء، فلو مات هذا فإن الطلاق يقع، وهذا تقدم عند قوله: أنت طالق إلا أن يشاء الله؛ لأنه علق رفعه، وهنا علق رفعه بقوله: إلا أن يشاء زيد، فإذا مات زيد أو أبى المشيئة قال: ما أقول شيء في هذا، أو كذلك جن؛ فإن الطلاق يقع.
[ وأنت طالق إن رأيت الهلال عياناً فرأته في أول أو ثاني أو ثالث ليلة وقع ]، لأن الهلال إنما يكون في الليالي الثلاث الأولى، فإذا رأته في رابع ليلة فليس بهلال.
قال: [ وبعدها لم يقع ]، لأنه يكون قمراً بعد الثلاث ولا يكون هلالاً.
قال: [ أو أنت طالق إن فعلت كذا، أو إن فعلت أنا كذا، ففعلته أو فعله مكرهاً ] لم يقع.
قال: يا فلانة، إن خرجت من الدار فأنت طالق، فخرجت مكرهة حيث أتاها من حملها قهراً وأخرجها، فلا يقع الطلاق.
أو قال: إن ذهبت إلى المستشفى فأنت طالق، فأغمي عليها وأخذت إلى المستشفى فلا تطلق لأنها مكرهة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
قال: [ أو مجنوناً أو مغمى عليه أو نائماً لم يقع ]، لأنه مغطى على عقله في هذه الأحوال؛ وعليه فإذا فعل الشيء الذي نهى نفسه عنه وعلق الطلاق عليه فعله وهو نائم أو مجنون أو مغمى عليه فإنه لا يحنث.
قال: [ وإن فعلته أو فعله ناسياً أو جاهلاً وقع ].
هذا رجل قال: إن ذهبت إلى السوق فأنت طالق، فنسيت يمينه فخرجت، أو ذهبت إلى موضع تجهل أنه من السوق لكنه من السوق، فهل يقع؟ قال المؤلف: يقع، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحم الله الجميع أن الطلاق أيضاً لا يقع في هذه الصورة فلا يحنث في يمينه، وذلك لأن الحنث في اليمين إنما يكون بمخالفة اليمين مع التعمد، وهذه لا تعد مخالفة ولا تعد عاصية له لأنها إنما فعلت ذلك إما جهلاً وإما نسياناً، وهذا هو الراجح.
وعلى ذلك فمن فعل ناسياً أو جاهلاً فإنه لا يحنث، كسائر الأيمان.
قال المؤلف رحمه الله: [ فصل ] أي: في الشك في الطلاق.
قال: [ ولا يقع الطلاق بالشك فيه أو فيما علق عليه ].
بعض الناس يقول: أنا لا أدري هل طلقت امرأتي طلقة واحدة أم لا؟ عنده شك، فلا تقع عليه طلقة.
أو قال: أنا لا أدري هل قلت لامرأتي: يا فلانة لا تذهبي إلى السوق أو أني قلت لها: إن ذهبت إلى السوق فأنت طالق.
فهنا نقول: اليقين لا يزول بالشك، والأصل براءة الذمة.
وعلى ذلك فإذا شك هل طلق امرأته أم لا لم يحسب عليه شيء، أو شك هل حلف عليها بالطلاق أم لا؟ فمع الشك تكون ذمته بريئة لأن اليقين لا يزول بالشك.
وهل يقال له: احسب طلقة تورعاً؟ ذهب إليه بعض العلماء، والصواب كما قال ابن القيم رحمه الله أنه لا يقال ذلك، لأن الورع لا يكون فيما هو بغيض إلى الرحمن وهو الطلاق.
قال: [ فمن حلف لا يأكل تمرة مثلاً فاشتبهت بغيرها وأكل الجميع إلا واحدة لم يحنث ]، للشك.
هذا رجل أخذ بيده تمرة، فحصل بينه وبين امرأته كلام وقال: علي الطلاق أني ما آكل هذه التمرة، ثم رماها بين أخواتها من التمر، ثم تراضيا فأكل التمر إلا واحدة، وهو لا يدري هل هذه الواحدة هي التي حلف أن لا يؤكلها أم هي غيرها؟ فنقول: لا يقع الطلاق، لأن اليقين لا يزول بالشك.
قال: [ ومن شك في عدد ما طلق بنى على اليقين وهو الأقل ].
هذا رجل يقول: ما أدري هل طلقت زوجتي اثنتين أو واحدة؟ نقول له: هي واحدة؛ لأن اليقين هو الأقل.
قال: [ ومن أوقع بزوجته كلمة وشك هل هي طلاق أو ظهار لم يلزمه شيء ].
هذا رجل قال: أنا لا أدري هل قلت لامرأتي: إن فعلت كذا فأنت طالق أو قلت لها: إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي؟ إذاً هو قد شك بين الطلاق والظهار، فالأصل عدمهما جميعاً، والأصل براءة ذمته، فلا طلاق ولا ظهار للشك.
قال: [ باب الرجعة ].
الأصل في الرجعة قول الله جل وعلا في كتابه الكريم: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] (وبعولتهن) أي أزواجهن.
قال: [ وهي إعادة زوجته المطلقة ]. أي: طلاقاً غير بائن، [ إلى ما كانت عليه ]، أي قبل الطلاق، [ بغير عقد ].
هذا رجل طلق امرأته طلقة واحدة، وهي لم تنقض عدتها بعد، فأعادها بلا عقد، فهذه هي الرجعة.
فالرجعة إذاً هي إعادة المرأة المطلقة طلاقاً غير بائن بلا عقد. ولا يشترط رضاها ولا كذلك إعلامها ولا قبول وليها باتفاق العلماء، لقوله جل وعلا: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] وعلى ذلك فإذا طلق الرجل امرأته طلقة واحدة فله أن يراجعها أذنت أم لم تأذن وأذن وليها أم يأذن، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى وهو قول الجمهور: أن له أن يردها مطلقاً؛ لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يمكن من مراجعتها إلا أن يكون مريداً للإصلاح، وهو أن يمسكها بمعروف، لأن الله جل وعلا يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، وهذا هو الصواب.
وعلى ذلك فإذا كان لا يريد الإصلاح وإنما يريد إهانتها وإذلالها وأذاها وتعليقها فإنه يأثم، فبعض الناس كلما أرادت أن تنقضي عدتها راجعها ثم طلقها لتطول عليها العدة، فهذا لا يجوز ويأثم، لأنه لا يريد الإصلاح وإنما يريد الأذى والمضارة بها.
ثم قال رحمه الله: [ من شرطها ] أي الرجعة، [ أن يكون الطلاق غير بائن ]، فإذا كان الطلاق بائناً فليس له أن يراجع، ولابد من عقد جديد.
[ وأن تكون في العدة ] كما تقدم شرحه، ولذا قال الله جل وعلا: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] (في ذلك) أي: في العدة، فالمشار إليه هو العدة.
ثم قال: [ وتصح الرجعة بعد انقطاع دم الحيضة الثالثة حيث لم تغتسل ].
إذا طلق امرأته طلقة واحدة فعدتها ثلاث حيض، فإذا طلقها وهي حائض لم تحسب هذه الحيضة، بل تحسب التي بعدها، لأنه لابد من حيضة كاملة، ثم حيضة، ثم حيضة.
فإذا انقطع الدم فهل له أن يراجعها؟ قال: له أن يراجعها حيث لم تغتسل.
هذا رجل طلق امرأته ثلاثاً فطهرت من الحيض الساعة السابعة صباحاً وأخرت الغسل رجاء أن يصل إليه الخبر حتى يراجعها، وأخرت صلاة الظهر إلى الساعة الثانية فاغتسلت في الساعة الثانية، فليس له حق في مراجعتها بعد أن اغتسلت، والمشهور في المذهب أنها لو فرطت فأخرت الغسل مدة طويلة إلى الغد أو بعد الغد أو بعد أسبوع، فإنها تأثم لكن له أن يراجعها.
واختار الموفق ابن قدامة رحمه الله: أن هذا يقيد بحيث لم يلزمها الغسل، فإذا طهرت الساعة السابعة فلها أن تؤخر الغسل ما لم تخش فوات الظهر.
إذاً: الراجح أن له أن يراجعها إذا لم تغتسل وحيث لم يلزمها الغسل، فإذا تأخرت حتى لزمها الغسل فلا عبرة بالوقت الزائد بعد ذلك.
فإن قيل: أليس ظاهر القرآن أنها إذا انقطع عنها الدم فليس له أن يراجعها، لأن الله جل وعلا يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]؟
فالجواب: أن آثار الصحابة رضي الله عنهم كـعمر وعلي وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق ولا يعلم لهم مخالف دلت على جواز مراجعتها إذا انقطع عنها الدم ولم تغتسل، وآثار الصحابة تقيد إطلاقات النصوص وتخصص عمومها.
قال: [ وتصح قبل وضع ولد متأخر ].
إذا كانت حاملاً بتوأم، فإن عدتها تنقضي بوضع الولد الثاني، لأنها لا يصدق عليها أنها وضعت حملها حتى تضع الولد الثاني لأن الثاني بعض حملها، فإذا وضعته فإنها تنقضي عدتها بمجرد الوضع.
قال: [ وألفاظها: راجعتها ورجعتها وارتجعتها وأمسكتها ورددتها ونحوه ].
هذه كلها من ألفاظ الرجعة، وكل لفظ يدل على الرجعة في العرف فإن الرجعة تصح به.
[ ولا تشترط هذه الألفاظ بل تحصل رجعتها بوطئها ]، فإذا وطئ المرأة زوجها، فإنه يعد هذا الوطء مراجعة لها؛ لأن الوطء ظاهر في رغبته بها، أي أن الوطء لا يحل له إلا إذا قصد به المراجعة.
وذلك أن المرأة تجلس في بيته كما في قوله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ [الطلاق:1] وتتزين له وتستشرف له، لكن ليس له أن يطأها، فإذا وطأها فوطؤها مراجعة لها.
وقال بعض العلماء كـشيخ الإسلام : إنما يكون الوطء مراجعة مع النية، فإذا نوى بالوطء الرجعة كان ذلك رجعة وإلا فلا، والراجح الأول، وأن من وطأ فقد راجع نوى أم لم ينو، لأن هذا ظاهر في رغبته بها.
فإن كان دون الوطء كقبلة أو مس فإن هذا لا يعد رجعة، فإن الرجعة إنما تكون بالوطء أو بالقول الدال عليها.
ولا يشترط عند جمهور العلماء أن يشهد وإنما يستحب، لأن إذنها وقبول وليها ليس بشرط فلم يشترط الإشهاد، وقد جاء في سنن أبي داود أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال لرجل طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد؛ قال: (طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد).
وقد قال جل وعلا: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وهذا محمول عند جمهور العلماء على الاستحباب كالإشهاد على البيع.
قال: [ لا بنكحتها أو تزوجتها ]، إذا قال: نكحتها أو تزوجتها، قهذا لا يعد رجعة.
والذي يترجح وهو قول ابن حامد : أنه يعد رجعة، لأنه إذا ثبت به النكاح فأولى من ذلك أن تثبت به الرجعة.
قال: [ ومتى اغتسلت من الحيضة الثالثة ولم يرتجعها بانت ولم تحل له إلا بعقد جديد ]، لأن الله جل وعلا قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228].
[ وتعود على ما بقي من طلاقها ].
هذا رجل طلق امرأته طلقة واحدة ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم عقد عليها عقداً جديداً، فإنها تعود ومعها طلقتها السابقة، ويبقى له طلقتان، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
فإن طلقها طلقة واحدة فانقضت عدتها ثم تزوجت زوجاً آخر، ثم طلقها الزوج الآخر ثم راجعها زوجها الأول، أي: عقد عليها عقداً جديداً؛ رجعت كذلك بطلقتها وبقي له طلقتان عند جمهور العلماء، وعليه أكابر الصحابة، كما قال الإمام أحمد ، وقد ثبت أن عمر في مصنف عبد الرزاق .
وقال الأحناف: بل تعود ولا يحسب عليها طلاق سابق، وعلى ذلك فيبقى له ثلاث طلقات، قالوا: لأن المرأة إذا تزوجها زوج آخر وقد طلقت ثلاثاً فإنها تعود من غير أن يحسب عليها شيء من الطلاق السابق، فهنا كذلك.
وقال الجمهور وهو الراجح: بين المسألتين فرق، فالزوج هناك مؤثر لأنها لم تحل له حتى تنكح، وهنا وجود الزوج كعدمه، لأنها تحل له ولو لم تنكح، أي: أن نكاحها ليس شرطاً في رجوعها إليه.
قالوا: ولأنه لو شرطنا ذلك لعادت بثلاث، والتي تعود بثلاث لا تحل، بخلاف التي قد طلقت طلقة واحدة أو طلقتين فإنها تعود وقد بقي لها طلقة أو قد بقي لها طلقتان.
وعلى ذلك فالصحيح: أن المرأة إذا طلقها زوجها طلقة أو طلقتين ثم نكحت فإنها ترجع ويحسب الطلاق السابق، وهذا هو قول الجمهور، وإذا عادت بعقد فقط من غير أن تنكح فلا خلاف بين أهل العلم في أنها ترجع والطلاق السابق محسوب عليها.
أما إذا نكحت زوجاً آخر حيث تم طلاق السابق ثلاثاً، فإنه لا خلاف بين أهل العلم في أنها تعود من غير أن يحسب عليها شيء من الطلاق.
قال: [ فصل: وإذا طلق الحر ثلاثاً أو طلق العبد اثنتين لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ] أي: لابد من نكاح صحيح لا نكاح فاسد؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] وعلى ذلك فلو أنها نكحت نكاحاً بلا ولي لم تحل للزوج الأول، لأنه نكاح فاسد.
قال: [ ويطأها في قبلها مع الانتشار ]، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تريدين أن ترجعي إلى
وعلى ذلك فإذا تزوجها زوج آخر فلا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني، يعني: حتى يجامعها.
وقوله: [ مع الانتشار ]، أي: مع انتشار الذكر، لأن الذكر إذا لم يكن منتشراً لم يكن قد ذاق عسيلتها.
قال: [ ولو مجنوناً ]، أي: ولو كان الزوج الثاني مجنوناً، [ أو نائماً ] استدخلت ذكره في فرجها وهو نائم لكن ذكره منتشر.
قال: [ أو مغمى عليه وأدخلت ذكره في فرجها ]، وكان منتشراً كما تقدم، [ أو لم يبلغ عشراً ] أي: ولو كان دون عشر سنين، لكنه جامعها، [ أو لم ينزل ] لأن العسيلة تنال ولو لم ينزل، فتحصل لذة النكاح ولو لم ينزل، فلا يشترط الإنزال حتى تحل للزوج الأول.
قال: [ ويكفي تغييب الحشفة ]، وهي أعلى الذكر، [ أو قدرها من مجبوب ]، يعني مجبوب الحشفة فيكفي قدر الحشفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل).
قال: [ ويحصل التحليل بذلك ]، لكن لابد أن لا يكون قد نوى التحليل كما تقدم.
إذاً: إذا وطئها فغيب حشفته وكان ذكره منتشراً ولو كان صغيراً أو مجنوناً فإنها بذلك تحل للأول إن طلقها هذا الثاني.
قال: [ ما لم يكن وطؤها في حال الحيض أو النفاس أو الإحرام أو في صوم الفرض ].
لو كان قد عقد عليها لكنه وطئها في رمضان أو وطئها وهي حائض أو وطئها في حال النفاس، قالوا: هذا وطأ محرم، فلا تحل به للثاني.
والصحيح وهو من مذهب الأحناف والشافعية واختيار الموفق أنه يحصل به التحليل؛ لأنه حصل المقصود فقد ذاق عسيلتها، وأما كونه يأثم فهذا أمر آخر.
وعلى ذلك فلو وطأها في حال حيضها أو طأها في حال صيام فرض فإنها تحلل للأول لكنهما يأثمان، أي: تأثم هي إن كانت قد رضيت ويأثم الزوج الثاني إن كان يعلم وهو مكلف.
قال: [ فلو طلقها الثاني وادعت أنه وطئها وكذبها فالقول قوله في تنصيف المهر ].
لو أن امرأة طلقها زوجها ثم عقد عليها آخر، ثم طلقها الآخر، فادعت هي أنه وطئها، فكذبها وقال: ما وطئت، فإنها تحل للأول لأن القول قولها في ذلك، لكن في باب تنصيف المهر فالقول قول هذا الزوج حتى لا يظلم، فتعطى نصف المهر، وأما ما يتعلق بالوطء فيقبل قولها في الوطء وبذلك تحل للأول.
ولذا قال المؤلف: [ فلو طلقها الثاني وادعت أنه وطئها وكذبها فالقول قوله هو في تنصيف المهر ]؛ لأنه هو الغارم. قال: [ وقولها في إباحتها للأول ]، فتباح للأول.
ونقف عند هذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: ذكر ثم أنه يكفي في المطلقة ثلاثاً أن يجامعها الزوج الثاني ولو مجنوناً حتى تحل للأول، نرجو التوضيح؟
الجواب: المجنون مثل غيره يتمتع والمغمى عليه حصل له ذوق العسيلة، لأن المقصود بالذوق هنا الجماع نفسه، وقد يكون الإنسان مريضاً أو قد يطأ المرأة وقتاً يسيراً ثم ينزع قبل ما يتمتع فيطلق عليه أنه جامع.
فالجماع نفسه مظنة اللذة، فقد لا يتلذذ الإنسان لكونه مريضاً أو لكونه مشغول البال، ومع ذلك يحصل التحليل.
السؤال: إذا طلق زوجته ثم قبلها في العدة أو مسها فذلك دليل على رغبته فيها، فلماذا لا يعد رجعة؟
الجواب: بعض العلماء يقول: إنه لو قبل أو مس بنية الرجوع رجعت، لكن الصحيح أنه لابد من وطأ أو قول.
السؤال: ما حكم الرجعة إذا لم يشهد عليها؟ وكذلك الطلاق؟
الجواب: الرجعة صحيحة ولو لم يشهد لكن الإشهاد فيه حفظ للحقوق، وكذلك الإشهاد على الطلاق فيه حفظ للحقوق.
السؤال: إذا راجع الرجل زوجته في عدتها وهي عند أهلها ولم يعلمها بذلك حتى انتهت عدتها، فهل تصح الرجعة؟
الجواب: لا يشترط الإعلام، يعني: هذا الرجل قال: أنا لا أريد أني أخبر المرأة بالمراجعة، أنا سأكتب هذا وأشهد ثم أتركها عند أهلها لعل الله يصلحها لي، فكتب: أنا فلان ابن فلان قد راجعت زوجتي فلانة في تاريخ كذا وكذا والشاهد فلان وفلان، فحتى لو فوجئ بأن المرأة قد خرجت من عدتها وقالوا: أنت لم ترجع؛ قال: هذا ما يدل على أني أرجعت، فهذا لا بأس فيه ولا حرج.
السؤال: امرأة زوجها شارب للخمر لكنه يصلي ويصوم، وهو ينام في غرفة وهي في غرفة منذ ستة أشهر، فهل تأثم إن مكنته من نفسها؟
الجواب: بل يجب عليها أن تمكنه من نفسها إلا إذا كان هجره يفيده، كأن كان امتناعها يبعده عن الحرام ويجعله يتقي الله فإنها تجتنبه لعل الله أن يهديه، وإلا فإنها تمكنه لأنه زوجها ولم يكفر بشربه الخمر فتمكنه من نفسها.
والخلاصة أنه إن كان اجتنابها له يؤثر فيه ويقربه إلى الخير فإنها تجتنبه، وأما إذا كان يزيد في شره وقد يذهب يبحث عن نساء ويقع في الحرام أيضاً فإنه ليس لها أن تمنع نفسها منه.
السؤال: إذا أراد الزوج وطء زوجته المطلقة في العدة لكنها امتنعت عنه، فما حكم ذلك؛ هل ترجع أو لا، وهل تأثم بذلك؟
الجواب: يكون الأمر سهلاً، يقول: راجعتك ويطأ، فإذا أراد أن يطأ فقالت: لا، حتى تراجعني، فيقول: راجعتك ويطأ، فالأمر سهل.
وهي تأثم إذا أراد أن يطأها فيجب أن تمكنه من نفسها، لأن وطؤها مراجعة لها.
السؤال: إذا وقع على امرأة مطلقة وهو نائم فهل هذه تعتبر رجعة؟
الجواب: ما دام أنه نائم فلا تعتبر هذه رجعة، وهي لا تنام عنده وإنما تكون معه في البيت، أما الرجعة بالوطء فلا تكون إلا من مستيقظ لأن النائم لا عقل معه.
السؤال: ما حكم الزواج بنية الطلاق؟
الجواب: تقدم شرح هذا في الدورة السابقة وتفصيل كلام أهل العلم، والذي يترجح هو جواز هذا، وهذا قول الجمهور، وأن له أن ينكح بنية الطلاق، بحيث إنه إن أعجبته تركها وإن لم تعجبه طلقها؛ لكن في الغالب تكون نيته أن يطلق.
فإن كان ذلك من باب الغش، بمعنى أن أهلها لا يرضيهم هذا، وهي لا يرضيها هذا، وظنت أنه إنما أخذها يريد أن يبقيها فإنه يأثم بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا).
وأما إذا كان لا يكرهون هذا كما يقع هذا من علية القوم، حيث كان سادات المسلمين قديماً من الأمراء والملوك يحصل منهم هذا -أي: يأيأي: ينكحون ويطلقون- والناس لا يكرهون هذا، ويعرفون أن الخليفة أو الأمير أو الملك ينكح، وخير لها أن تبقى ولو ليلة عنده، ولا يكرهون هذا، فمثل هذا ليس بغش كما قال شيخ الإسلام ، وأما إذا كانوا يكرهون فإن هذا من الغش والغش حرام.
ولكن كثيراً من الناس أصبحوا يتساهلون في هذا الباب حتى إنه ربما نكح المرأة وهي في عدتها، ففي بعض البلاد تخرج من زوج إلى زوج قبل أن تنقضي عدتها، وبعضهن اتخذت هذا طريقاً للكسب، فهذا أمر آخر.
السؤال: يقول: لقد قلنا: إن الزوج إن شك هل قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، أم قال: فأنت علي كظهر أمي، فلا يكون طلاقاً ولا ظهاراً للشك، أليس اليقين هو الأقل فلماذا لا نأخذ بالأقل ونقول: إنه قال أنت علي كظهر أمي حيث إنه أقل من الطلاق؟
الجواب: عندما نقول: الأقل، فالأقل هو من الشيء نفسه إما ثلاث أو اثنتان، فنقول: الأقل اثنتان، لكن هذا شيء وهذا شيء آخر، فالطلاق شيء والظهار شيء آخر، والأصل براءة ذمته من الظهار وبراءة ذمته من الطلاق.
السؤال: ما معنى الأقراء في قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]؟
الجواب: الصحيح أن الأقراء هنا هن الحيض، لا الأطهار.
وفيها قولان لأهل العلم، فمنهم من يقول إنها الأطهار، ومنهم من يقول إنها الحيض كما سيأتي إن شاء الله في باب العدد، والراجح أنها ثلاث حيضات.
السؤال: يقول: ذكرتم أن الطلاق يقع بائناً في أربع مسائل ومنها النكاح الفاسد وهو النكاح بلا ولي، فإذا كان قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله مخالفاً للحديث الصحيح فلماذا يعتد به؟
الجواب: هذه من المسائل التي فيها خلاف بين العلماء وهي النكاح بلا ولي، فهو رحمه الله يستدل ببعض الأدلة وإن كان الصواب مع الجمهور، لكن نحن نقول: إن النكاح بلا ولي ليس بنكاح فاسد بالنسبة للأحناف الذين يرون ذلك، وأما لو نكح امرأة بلا ولي وهو يرى أنه لابد من الولي في النكاح فإن نكاحه فاسد، لأن الأمر يرجع إلى اعتقاده، كالذي يأكل لحم الجزور وهو لا يرى أنه ناقض ويصلي إماماً بمأمومين يرون أنه ناقض، فهذا لا يؤثر؛ لأن هذا يرجع إلى اعتقاده، فهم يتعاملون معه بناءً على اعتقاده، ونحن كذلك نتعامل مع الأحناف الذين يرون النكاح بلا ولي بناءً على اعتقادهم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر