أما بعد:
فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن بشأن الحديث عنها اليوم إن شاء الله تعالى هي: قول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
نقول: أيها المباركون! هذه الآية جاءت ضمن سياق آيات في قضية إخبار إبراهيم عن ربه تبارك وتعالى مع قومه، قال الله جل وعلا عنه أنه قال: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77].
ثم أخذ إبراهيم يعدد صفات ربه تبارك وتعالى، ويثني عليه بما هو أهله، ويبين مقام الربوبية العظيم الذي لا يشارك الله جل وعلا فيه أحد ولا ينازعه، قال: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:77-82].
نلحظ هنا: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في كل تلك الأمور نسبها إلى الرب جل وعلا، أما المرض فنسبه إبراهيم إلى نفسه مع يقيننا أن إبراهيم يعلم أن المرض من الله تبارك وتعالى، فربنا جل وعلا الخير كله بيديه والشر ليس إليه، لكن إبراهيم عليه السلام أراد بهذا التأدب مع رب العزة والجلال، وهذا هي الغاية العظمى من إسناده المرض إلى ذاته ونفسه، قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، وهذا الأمر -أي: الأدب مع الله جل وعلا- حلية وأي حلية تحلى بها الأنبياء والصالحون من بعدهم، وسيبقى هذا الأمر إلى يوم الدين، فالأدب مع الرب تبارك وتعالى منزلة عالية يوفق لها أهل الطاعات، ويرشد إليها أهل الفضائل، وقد كان الأنبياء عليهم السلام يتنافسون في هذه المنزلة، وهذا جلي في خطابهم مع ربهم جل وعلا.
الشاهد من هذا الخبر النبوي الصحيح: هو قضية تأدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه في خطابه، فقوله عليه السلام: (اللهم حوالينا ولا علينا)، لا يمكن أو يقارن بقوله: اللهم أمسكها عنا؛ لأن الغيث رحمة، والنبي عليه الصلاة والسلام أكمل أدباً من أن يطلب من ربه جل وعلا أن يمسك عنه رحمته.
فسبحان من لا يقال لغيره سبحانك وكلمة (تبارك) كذلك، هذا الفعل جامد لا يتصرف -أي: لا يأتي منه مضارع أو أمر- فهذه الكلمة لا تطلق على غير الرب تبارك وتعالى.
قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان:61] إلى غير ذلك من الآيات، فلا يقال لغير الله: (تبارك) أبداً، فهذا المقام ينصرف إلى الله جل وعلا وحده. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم له المنزلة العالية، والخطوة الرفيعة عند ربه، وثمة خطاب لا يليق إلا به صلوات الله وسلامه عليه لرفيع مقامه، وجلال مكانته، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثمة خطاب يليق بهم، فنترضى عليهم، ونذكر محاسنهم، ولا تخوض فيما جرى بينهم كل ذلك تأدباً معهم، وعلماء الأمة الذين قدموا للأمة البيان الحقيقي لشرع الله، وأفنوا أيامهم وأعمارهم في سبيل إيضاح المنهج الحق، فهؤلاء لهم خطاب يليق بهم، وكذلك ولي الأمر له خطاب يليق به لمكانته، قال صلى الله عليه وسلم: (من أهان السلطان أهانه الله).
كذلك الوالدان في المقام الأول: وهم مقدمون على كل أحد بعد حق الله ورسوله، فثمة خطاب لا يليق إلا بهما، فحقهما معروف، والوصية بهما ثابتة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمن الحق يعرف بأي خطاب يخاطب والديه، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
كل هذا -أيها الأخ المبارك- يبين لنا أن الخطاب المتأدب مهم جداً في تعاملنا مع الغير، دون أن يكون في ذلك انتقاص لأنفسنا أو لغيرنا.
وفقنا الله جل وعلا وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، ورزقنا الله وإياكم الأدب معه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع المؤمنين جميعاً.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر