أيها الناس! تعنت العقل البشري أمام الوحي، وخاصم الإنسان الفاجر ربه، واعترض العقل على خالقه، واليوم معنا صورة من اعتراض البشر الضعفاء على الله، ومعنا سورة البقرة، وإن شئت سمها عقدة البقرة, التي تعقد فيها بنو إسرائيل، واضطربوا وسألوا، وناقشوا وشددوا؛ فشدد الله عليهم.
كان يقرأ عليه الصلاة والسلام هذه السور؛ سورة النحل والنحلة حشرة، وسورة النمل والنملة حشرة، وسورة البقرة والبقرة حيوان، وسورة العنكبوت وهي حشرة، فقال كفار قريش: محمد يستهزئ بكم، يأتينا بقرآن ويقول: هو وحي. وهو يتكلم عن عالم الحيوانات والعجماوات، وعن عالم الطيور والحشرات، فما دخل الطير والبقر والنحل، والكلاب والحمير بهذا الوحي، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] فالذي خلق البعوضة هو الله، والذي خلق الفيل هو الله، والذي صور البقرة هو الله، والذي ركب الحمار هو الله، قال ابن القيم: " وفي الناس على ضروب أشباههم شبه من الحيوانات " ففي الناس من طبيعته كطبيعة الخنزير تماماً لا يقع إلا على القاذورات, يسمع المحاسن ويسمع الجميل فكأنه ما سمع، فلا يلقط إلا الخطأ والعثرة، قال ابن تيمية: " في الناس كأمثال الذباب كثير, لا يقع إلا على الجرح أما على الجسم السليم فلا يقع " فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي [البقرة:26] ومن يمنعه أن يضرب الأمثال؟ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:26] أي: أما حملة (إياك نعبد وإياك نستعين), أما المتوضئون ورواد لا إله إلا الله فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] ثم يضرب الله قصة البقرة, ويسمي أكبر سورة في القرآن باسم البقرة, فتعرف بين الناس من أجل خمس آيات فيها بهذا الإسم، فلا يعرف المسلمون هذه السورة إلا بسورة البقرة، وثلث السورة نسف وإبادة لبني إسرائيل، وثلثها أحكام شرعية وقواعد منطقية وعقلية يفهمها اللبيب.
اغتيال رهيب في ليلة ظلماء!
وأتى هذا القاتل المجرم إلى موسى ليخفي جريمته، ويبعد التهمة عن نفسه, فبكى بين يدي موسى عليه السلام، قال له: مالك؟ قال: عمي قتل البارحة وأنت المسئول عنه، فأنت النبي وبيدك الحكم؛ سل الله من قتل عمي، فجمع موسى بني إسرائيل وقال: من قتل عم هذا الرجل؟ قالوا: لا ندري، إن كنت يا موسى نبياً فسل ربك، فهم يقولون: ادع لنا ربك، قال أحد المفسرين: قبحهم الله وفضحهم، أليس بربهم؟! لماذا لم يقولوا: ادع ربنا، وإنما قالوا: ربك؟ فابتهل واستقبل القبلة وبكى وقال: اللهم أخبرنا من هو القاتل. فقال الله: يا موسى! مر بني إسرائيل أن يأخذوا بقرة فيذبحونها, ثم يأخذوا عضواً منها فيضربوا الميت؛ فإني سوف أحييه بإذني؛ فيتكلم فيخبر بمن قتله، قال الله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:72-73] فقال موسى: اذبحوا بقرة، قال ابن عباس: [[لو أخذوا بقرة من عرض البقر لأجزأتهم]] لكن تعنت البقر, أمام قصة البقر، لأن العقول التي لا تهضم معلومات الوحي تعترض، والعقل الجامد أمام النور الخالد يعترض، الله يقول: اذبحوا بقرة فاعترضوا، ففي كل شئونهم اعتراض، أنزلهم في واد فيه منٌّ وسلوى, حمام مشوي وعسل فقال: كلوا، قالوا: لا فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61] أخرجهم من البحر وأقدامهم مبتلة بالماء, فلما خرجوا وذهب يكلم ربه عبدوا العجل، وقالوا: ظمئنا أين الماء؟ فضرب الصخرة بالعصى فانفجرت اثنتي عشرة عيناً، قالوا: أين ربك؟ قال: أكلمه، قالوا: اذهب فكلمه. فذهب فلما أتى وجدهم قد أخذوا هذا العجل وسجدوا له، فتاب إلى الله وبكى موسى منهم، قال: يا رب! ما توبة بني إسرائيل؟ قال: خذ من خيارهم سبعين رجلاً والقني بـطور سيناء , فإذا لقيتموني فاسجدوا لي؛ لأتوب عليكم، وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:155] فاختار من خيارهم سبعين، فمضى بهم إلى طور سيناء وقال: لا تتكلموا فإن ربي سوف يكلمني، فإذا كلمني فاسجدوا وابكوا، قالوا: نعم، فلما كلمه الله لم يسجدوا، فالتفت إليهم وقال: ما لكم؟ قالوا: أرنا الله جهرة. قال: اسجدوا لله قالوا: أرنا الله جهرة. فأنزل الله عليهم صاعقة فقتلت السبعين جميعاً, فوقف موسى باكياً وقال: يا رب! أعود لبني إسرائيل فيقولون لي قتل السبعين من خيارنا, فماذا أقول لهم؟ قال الله: سأحييهم لك. فأحياهم الله، وقالوا: يا موسى أحيانا الله فأرنا آية؟ فنتق الله الجبل فوق رءوسهم وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ [الأعراف:171] قال: أصدقتم؟ قالوا: لا.
تقول له زيداً فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهراً |
قال: بل اذبحوا بقرة، قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] قال أهل العلم: من سخر بالوحي فقد جهل, ومن عبث في التعليم فقد جهل، ومن أتى بالهزل في موطن الجد فقد جهل. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] شددوا فشدد الله عليهم، وهذا مثل ما يفعل الذين يأتون إلى الدين فيتصورون أنه جامد وأن فيه التزمت وأنه متطرف, فتثقل عليهم التكاليف كالصلاة والسجود وأبسط الأشياء, وتسهل عليهم أمور الدنيا والمعصية، حتى أن أحدهم يستطيع أن يراهن بأمواله ويسافر إلى بلاد المعصية وتثقل عليه حجة أو عمرة.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] ليست بالكبيرة المسنة ولا بالصغيرة البكر، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] فضيقوا الدائرة عليهم, قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] وإلا فالله لم يسألهم عن اللون، ولم يشترط عليهم لوناً خاصاً قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] وهذا أجمل لون؛ كشعاع الشمس الذهبي عند الغروب، قال الحسن البصري: " يعني سوداء " قال أهل العلم: ليست بسوداء وإنما هي صفراء فاقع لونها، فإنه يقال: للأسود قاتم، وللأصفر فاقع، وللأحمر قاني، وللأخضر باقع، وللأبيض يقق, قال: فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] فاجتمعوا في مجلس مغلق ثم عادوا إليه: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] فيتدخل رسولنا عليه الصلاة والسلام عند هذه الكلمة فيقول: {وأيم الله! لو لم يقولوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] ما وجدوها أبداً} ولكن استدركوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70]. قال موسى: ما دام أنكم سألتم، وعرضتم الإشكال، وتشددتم، فلا بد لكم من تشديد، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] قال المفسرون: ليست مهيأة للحرث ولا للزرع، ويسمونها معززة أي لم تحرث ولم تزرع، لا تثير الأرض زراعة ولا تسقي الحرث, مسلمة قالوا: أي سليمة من العيوب، لا فيها مرض، ولا هي عوراء ولا هتماء ولا عضباء، إلى غير تلكم العيوب.
لا شية فيها, قال: بشرط ألا يكون فيها بقعة تخالف لون الأصفر الفاقع، وهذا التشديد؛ كما يشدد الكهنة والسحرة في أوصافهم عندما يريدون الضحك على عقول الناس وتعجيزهم, فيشترطون ألواناً للتيوس التي تذبح, أسود قاتم، أو أحمر قانئ، أو أصفر فاقع، فإذا علموا أنها انتهت التيوس السود من الأسواق انتقلوا إلى الصفر فالحمر فالبيض.
قال: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] قال أهل العلم: كأنهم يقولون أما قبل الآن فما جئت بالحق. فقد كان يضحك عليهم إذن، ويسخر ويستهزئ بهم في ظنهم. فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] [البقرة:71] متى ذبحوها؟ طافوا مدن بني إسرائيل وقراهم قرية قرية؛ فوجدوا هذه البقرة عند عجوز تحلبها وتعلفها، والعجوز علمت أنهم بأشد الشوق إلى هذه البقرة فبالغت في الثمن، قالوا: كم ثمنها؟ قالت: لا أبيعها. قالوا: اطلبي ما شئت من المال. قالت: إذا ذبحتموها وسلختموها فاملئوا جلدها ذهباً فهذا ثمنها. قالوا: سمعاً وطاعة.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلع |
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي |
يقول بعض العلماء: مثل بني إسرائيل الذين ردوا أوصاف البقرة حتى وقعوا في الثمن, أمثالهم في الأمة كمن رفض التكاليف, بل ليست تكاليف, إنما هي عبادات سهلة ميسرة؛ حتى تخللت أقدامه النار يوم العرض الأكبر، وكان صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا فيقول: {أسبغوا الوضوء، ويلٌ للأعقاب من النار} قال أهل العلم: فمن لم يتحمل مشقة الماء البارد ليسبغ الوضوء؛ حمله الله نار جهنم في عقبيه، وقس على ذلك.
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فلما ذبحوها ملئوا جلدها ذهباً فأخذته العجوز, وأخذوا الغضروف فضربوا به الميت؛ فانتفض من قبره حياً بإذن الله فإذا به واقف, قال موسى: من قتلك؟ قال: ابن أخي هذا. هذا هو المجرم الذي أتى يسأل عمن قتل عمه، فقتله موسى. هذه هي القصة.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى |
أمَّن رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا |
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبراً |
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] أبو بكر الصديق , يقول عليه الصلاة والسلام لقريش: (أسري بي البارحة إلى بيت المقدس فقالوا: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت، فقال: وعرج بي فقالوا: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت، قال: وفرض علي خمسون صلاة قالوا: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت، فأنزل الله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]) فـأبو بكر هو الذي جاء بالصدق وأمثاله إلى قيام الساعة، وهناك طراز ومدرسة اسمها مدرسة أبي بكر الصديق، هذه المدرسة تحترم الوحي، ومدرسة أبي جهل وأصحاب البقرة مدرسة تهاجم الوحي، فلا تريد للوحي أن يستقيم في حياة الناس أن يتبع، أو أن يُسمع صوته، أو ينشر، أو يفهم أو يدرس، أو يربى الناس عليه، أو يدخل إلى البيوت، بل تقف هذه الفئة -فئة أبي جهل والوليد بن المغيرة وأصحاب البقرة- حجر عثرة في وجه أتباع موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولابد من هذا قال الله:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
الأول: لا يحق للعقل أن يعترض على الوحي، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك، تبدأ اللعنة تنصب عليه من السماء.
الثاني: على المسلم أن يتلقى هذه الرسالة باستسلام, وأن يسلم وجهه، وأن يطوع قياده، وأن يسجد برأسه، وأن يعلن انكساره وفقره أمام الله.
الثالث: فضل الأمة المحمدية التي سارت على منهج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام, بالمقارنة مع بني إسرائيل، مع اليهود.
ونستنبط -أيضاً- أن الاعتراضات، والتهجمات، والسخريات، والأطروحات الكالحة، والهجوم المكشوف؛ الذي يعانيه أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، سوف يستمر ويستمر، ولكن:
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا |
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا |
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا |
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
يقول بعض المفكرين المعاصرين: من الاستحالات المنطقية اجتماع إسرائيل مع المسلمين، فلا تجتمع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله مع النجمة السداسية أبداً، قال: ووقع ما فعل أجدادهم مع موسى في شأن البقرة, وقع في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، القرار الذي يدعو إلى انسحاب أبناء القردة والخنازير من أرض المعراج, ومن أرض المؤمنين, ومن أرض عمر بن الخطاب وصلاح الدين؛ ينص على الانسحاب من الأراضي المحتلة، ومعنى ذلك: أن تطهر البلاد منهم، فأتوا وقالوا: لا, ليست الأراضي, وإنما هي من أراضٍ محتلة. فحذفوا (ال) التعريف كقولهم في البقرة, وقالوا: لا يمكن, ومعنى أرضٍ: أي أرض، ولو بقعة محدودة، يكفي أن نخرج من سيناء وطابة أو شيء من الجولان، ووقف العرب أمامهم بين (أل) التعريف , ولم يقفوا كما وقف صلاح الدين بالسيف.
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن |
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن |
في العالم اليوم أطروحة تسمى أطروحة التعايش السلمي، نبذ الأديان التي تفرق بين الشعوب، والتعايش السلمي بين الدول والشعوب، قالوا: وسبب الانزعاج والإزعاج هو الدين، فما فرق الأمم إلا مسلم، ويهودي، ونصراني، إذن نلغي هذه الأعلام والألقاب والأوسمة، ونبقى في تعايش سلمي تحت مظلة الإنسانية، وهذه هي مبادئ الماسونية , والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد قصة البقرة بآيات يحذرنا ويقطع علينا خط الرجعة؛ ألا نطمع في بني إسرائيل في اليهود، فلا تلد الحية إلا حية، ولو نسيت الكلاب نباحها، والخيل صهيلها، والغنم غثاؤها، والحمام هديره؛ لما نسي اليهودي عداءه للرسول عليه الصلاة والسلام، فقد نكت في دمائهم الخيانة، وقلة الأمانة، وعداء لا إله إلا الله، ويتبعهم أهل مدارسهم الذين تشبعوا بأفكارهم، وحملوا مدرستهم, شعروا أم لم يشعروا، قال الله بعد هذه القصة: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أتظنون أنهم سوف يسالمونكم ويؤمنون لمبادئكم ويكونون إخواناً لكم؟ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] لا، وقبل هذه الآية يقول: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] أطعمهم الله المن والسلوى، ونجاهم من البحر، وظلل عليهم الغمام، وأنقذهم من فرعون، وسقاهم وأراهم الآيات، وأنزل عليهم الصحف، ثم قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].
قيل لإمام أهل السنة والجماعة: (أبي عبد الله أحمد بن حنبل): أتذبح البقرة أم تنحر؟ لأن البخاري في الصحيح في كتاب الحج قال: باب هل تذبح البقر؟ قال الإمام أحمد: بل تذبح. قالوا: وما الدليل؟ قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] والشاهد في هذا فقه الأئمة, هذه العقول المدركة التي رفعت مستوى الثقافة عند المسلمين، فشرفنا أحمد بن حنبل، وتاريخنا ابن تيمية، ومجدنا مالك، وسؤددنا الشافعي، هذا ميراثنا فليرينا العملاء الخونة ميراثهم، إما وَتَر أو بلوت، أو ضياع أو موسيقى حالمة، لكن هذه استنباطات الأئمة, وضعوا عقولهم في مدرسة الوحي فأنتجت طلاباً كالنجوم, وغرسوا أفكار أشجارهم في حديقة لا إله إلا الله فآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
ومنها: جواز بيع السلم. انظر إلى عقل الإمام مالك كيف طارت به أشواقه حتى وقع على قصة البقرة، قال: فمن باع غرضاًً بصفة كصفة بقرة بني إسرائيل جاز بيعه بصفة معلومة؛ لأن هذه البقرة وصفت لهم من الله عز وجل فبحثوا عنها فوجدوها.
ومن ذلك أن المسلم لا يتعنت أمام المسائل الشرعية، ولا يفحم العلماء, وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات، ونهى عن إفحام أهل العلم، بل عليك أن تطلب العلم لوجه الله، ويكون غرضك من المسألة أن تعمل بها لا أن تعنت وتعجز هذا العالم، وهذه تربية للتلاميذ في المدارس والجامعات؛ أن يتقوا الله في الأساتذة؛ فلا يفحموهم بالمسائل العويصة والأغلوطات, فإن من فعل ذلك فقد تكلف، ومن تكلف فليس منا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين [المائدة:101-102].
قال أهل العلم: ويؤخذ من هذه القصة أيضاً أن الدين يسر، وأن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره، فلا يدور المسلم حول أمر الله بل ينفذه سمعاً وطاعة.
قالوا: ويؤخذ منها أن من امتثل الأمر في أول شيء وقام به في أول وقته فهو المأجور، فمن صلى الصلاة في أول وقتها أجر لا كمن صلاها في آخر الوقت، وعند البخاري، وعند الترمذي وابن خزيمة:أن ابن مسعود قال للرسول: أي الاعمال أفضل؟ قال: {الصلاة في أول وقتها} ويروى: {الصلاة في أول وقتها رضوان الله} وكذلك من حج في أول عمره، ومن تاب في أول عمره أفضل ممن ترك المتاب والعودة إلى الله حتى بلغ الستين والخمسين.
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررت |
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمت |
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعت |
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى |
قال ابن تيمية في هذه القصة: ويؤخذ منها -أيضاً- أن من أخر التوبة وفعل الأفعال الشنيعة على كبر عمر فإنه قد أساء إساءتين: إساءة المعصية، وإساءة عدم الإعذار من الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وذكر منهم أشيمط زاني} شيخ يأتي يوم القيامة ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، لا حجة له، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {أعذر الله إلى امرئ بلغه ستين سنة} معنى الحديث عند أهل السنة: أي قطع الله عليه الحجة يوم القيامة فلا حجة له، إذا أتى وعمره ستون فيقول الله له: لِمَ لم تتب؟ قال: يا رب لو أمهلتني لتبت. أبعد الستين مهلة؟! أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] قال ابن عباس: [[النذير الشيب, ومن عمّره الله ثماني عشرة سنة فقد أعذر إليه]] هذا عند كثير من المفسرين ولكن الحديث أصح.
فالبدار البدار، لا نصبح كبني إسرائيل نسمع الموعظة فنقول: غداً أو بعد سنة، أو ماذا يراد من هذا الكلام؟ أو ما هو المطلوب منا؟ بل علينا أن نمتثل. والعقول الملتوية المنحرفة هي مدرسة شامير، وموشي ديان، على مر تاريخ الإنسان, وهم أناس ربما يوجدون في قلب الأمة الإسلامية, وهم كالجراثيم تجتث، ولكنها لا تضر هذا الجسم الطاهر, ولذلك نقول في كل صلاة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال سفيان بن عيينة رحمه الله: [[من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى]] والأمة اليوم وقع فيها مدرسة تشابه مدرسة النصارى ومدرسة اليهود, في أفكارها وفي التوائها وفي محاربتها، وفي أطروحاتها وأقلامها، وأدبها وغزلها وغنائها، فنسأل الله أن يهدينا الصراط ا لمستقيم، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر