وهذا الصحابي الجليل من هذيل، وقد مات أبوه في الجاهلية وأصبح ينسب إلى أمه، وهو وأمه دخلا في الإسلام، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهو قادم من اليمن: ما كنا نظن عبد الله بن مسعود وأمه إلا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ما يدخلان عليه رضوان الله تعالى عليهما.
وعبد الله كان دقيق الساقين، وقد ارتقى ذات يوم شجرة فضحك الصحابة متعجبين من دقة ساقيه، قال صلوات الله وسلامه عليه: (أتعجبون من دقة ساقيه! لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، والميزان أيها المبارك ينصب يوم القيامة، وله كفتان، قال الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ما الذي يوزن؟
وقد اختلف العلماء في الذي سيوزن اختلافاً كثيراً، لكن أرجح الأقوال أنه يوزن العمل، وصاحب العمل، والصحف التي يدون فيها العمل، وكل نشهد له أدلة وقرائن من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الصحابي الجليل يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار في منى، ومنى هي الجبال المعروفة التي يتعبد الله فيها في أيام الحج، فكان النبي في غار معه أصحابه، يقول ابن مسعود : فبينما نأخذ القرآن رطباً من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتدرتنا حية، فقطع صلى الله عليه وسلم قراءته وقال: (اقتلوها، ففرت إلى جحرها، فقال عليه السلام: سلمت منكم وسلمتم منها)، ثم أكمل قراءته، وكانت السورة سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1]، إن هذا الموقف أيها المبارك يدلك على شيء عظيم، فتجاوز مسألة الحية ومسألة عبد الله بن مسعود ومسألة جحر الحية، إن النبي عاش ومات ولا يعرف التكلف في حياته، وهذه هي العظمة في حياة العظماء الربانيين حقاً، فلا يتصنعون لأحد، وإنما فطرت قلوبهم للواحد الأحد، فهذا النبي يقرأ القرآن وهو أعظم مخلوق، وحوله أصحابه، فلما رأى عدواً قد خرج وهو الحية قطع تلاوته؛ حتى ينفك وينتهي من عدوه، ولم يغير هذا في هيبته ولا وقاره ولا سكونه ولا خشيته صلوات الله وسلامه عليه، لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لله بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إن أعظم ما نبتلى فيه أننا نتزين للخلق، لكن الرسل العظام والأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم كانت قلوبهم لله، فيخرج العمل منهم من غير كلفة، لأنهم يتعبدون الله وحده دون سواه، وتلك منزلة عظيمة ومرتبة جليلة لا يوفق لها إلا الصالحون، جعلني الله وإياكم منهم.
هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، وفي غزوة بدر ضرب رجلان فتيان من الأنصار أبا جهل فسقط صريعاً دون أن يموت، فجاء عبد الله بن مسعود ليجتز رأس أبي جهل ، فقال هذا الطاغية وعبد الله بن مسعود على رأسه: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم. وهنا تفقه أيها المبارك أن بعض الناس عياذاً بالله يقع في قلبه الكبر والطغيان، فحتى أقرب الأشياء لديه لا يراها؛ من كثرة ما جثم على قلبه من الكفر والطغيان، ففرعون وهو فرعون لما رأى الموت قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، وأما أبو جهل فقد رأى الموت ومع ذلك لم يستعطف عبد الله بن مسعود ، ولم يقل كلمة يستجر بها الرحمة، وإنما قال يعنف عبد الله : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم!
وكل نفس بشرية قد أودعت فجوراً وأودعت تقوىً، يقول الله: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، فكل نفس قابلة لأن تتقي وقابلة لأن تفجر، والفضل من الرب تبارك وتعالى وحده، فإذا أراد الله بعبد خيراً هيأه لباب التقوى كما هيأ المؤمنين، جعلني الله وإياكم منهم.
قيل له: أي آية في كتاب الله أعدل؟ قال: قول الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
قيل له: أي آية في كتاب الله أحكم؟ قال: قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وما زالوا يسألونه وهو يجيب رضي الله عنه وأرضاه. فهذا واحد ممن قال صلى الله عليه وسلم فيهم: (خذ القرآن من أربعة).
ثانيهم: أبي بن كعب سيد القراء، أي مؤمن على الجبلة يفرح بما يشعر أنه رحمة من الله، الله يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] قال صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : (إن الله جل وعلا أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: يا رسول الله! أوقد سماني الله لك؟ قال: نعم)، فانظر يا أخي أي فخر أرفع، وأي مقام أشرف من مثل هذا، أن الله جل وعلا يوصي نبيه ويسمي أبياً باسمه، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل، ما نالها إلا لما كان القرآن محتوي على قلبه، ولهذا يعد عند أهل العلم سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ رضي الله عنه وأرضاه في اليمن، ثم قدم معاذ المدينة بعد وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأتى القبر وسلم وبكى كما أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم خرج مجاهداً إلى الشام، فأصاب الشام طاعون عمواس، أي: نسبة إلى مدينة اسمها عمواس التي أصابها طاعون، فعرف هذا الطاعون باسم تلك المدينة، وأضيف إليها، وقد مات فيه أبو عبيدة بن الجراح ، ثم مات معاذ رضي الله عنه وأرضاه بعد أن ذكر خطبة يبين فيها صبره على البلاء، وثقته برحمة رب الأرض والسماء، وهو قد تجاوز الثلاثين بقليل رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله وسلامه عليه: (
والكيسانية فرقة من فرق الشيعة ظهرت في أيام الأمويين، وكانوا يزعمون أن المهدي هو محمد ابن الحنفية أخو الحسن والحسين غير الشقيق، يقول شاعرهم:
ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
وظاهر النصوص والعلم عند الله يدل على أن الأقصى يحرر قبل خروج المهدي ، ثم بعد ذلك تتكالب الأمم على هذه الأمة وقت خروج المهدي ، فيصلي المهدي بالناس في المسجد الأقصى، وتقام صلاة العصر، وفي الوقت الذي تقام فيه صلاة العصر قبل أن يتقدم المهدي للإمامة ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا طأطأ رأسه يظن من يراه أنه يقطر، وهو لم يخرج من ديماس، والديماس هو المكان الذي يتوضأ فيه، أي: ليس متوضئاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع، يميل إلى الحمرة، يظهر كأن به بلل وإن لم يكن متوضئاً).
وعندما ينزل عيسى يتأخر المهدي ، فيمتنع عيسى عن التقدم، ويتقدم المهدي ليصلي، وقد قيل في تعليلها والعلم عند الله: أن عيسى في قلبه الإنجيل، وأما المهدي ففي قلبه القرآن، والقرآن مقدم على الإنجيل، ومن هنا تعلم يا حافظ القرآن كله أو بعضه أي علم موجود في صدرك.
فيتقدم المهدي فيصلي بالناس، ومع عيسى ابن مريم حربة يقتل بها الدجال، والدجال قد خرج في أيام المهدي ، لكن الله جل وعلا يقتله على يد عيسى ابن مريم.
ثم إنه يقول للرجل من الأعراب: أرأيت لو أحييت لك أباك أو أمك أكنت متبعني؟ فيقول: نعم، فيستعين بالشياطين فتتمثل الشياطين في صورة أبي الرجل وفي صورة أمه، ثم يقول: هذا أبوك وهذه أمك، فربما اتبعه الرجل.
ومعه ماء ونار، يقول صلى الله عليه وسلم: (فما ترونه ماء إنما هو نار تلظى، وما ترونه ناراً إنما هو ماء بارد، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: فمن أدرك شيئاً من هذا فليغمض عينيه ثم ليقتحم ما يراه ناراً؛ فإنه ماء بارد).
فأيها المبارك أنخ مطاياك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اغمض عينيك)، فالإنسان إذا أراد أن يواجه الحقائق بقوه لا يثبت، لكن ثمة أنواع من العواصف يحتاج أن نطأطئ الرأس حتى نعبر ونمر، وهذا أمر يرزقه العقلاء في كيفية التعامل مع الحوادث والفتن، فهذا نبي الأمة يوصي ويقول: فليغمض عينيه؛ لأنه لو فتح عينيه سيرى ناراً، وإذا رأى ناراً لن يستطيع أن يدخلها حتى ولو كان يملك يقيناً، لكن الحل هنا أن يغمض عينيه ولا يرى الناس فيقتحمها، فإذا اقتحمها سقي ماء بارداً.
لكن تنبه أيها المبارك! إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه كفر)، فالله جل وعلا يظهر النقص على كل مخلوق من غير استثناء، فهذا قتادة بن دعامة السدوسي رحمة الله عليه كان يحدث ذات يوم في مجلس، فصار يسرد الأحاديث، ففتن به الطلاب، فقال له أحد الطلاب: يا إمام! أراك حافظاً، قال: والله ما حفظت شيئاً أبداً وضيعته، وهذه كلمة لا تليق لا من قتادة ولا من غيره، لكن الله يظهر النقص على عباده، فقام رحمه الله من مجلسه وإذا به يضيع المكان الذي وضع فيه حذاءه، فأظهر الله جل وعلا عليه النقص في الحين الذي امتدح فيه.
فالدجال يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ومعه ماء ونار، وتتبعه الكنوز كيعاسيب النحل، ومكتوب بين عينه كفر يقرؤها كل مؤمن، وإحدى عينيه كأنها عنبه طافية، فرغم كل تلك القدرات الخارقة لا يستطيع أن يذهب الأذى الذي في عينيه، ولا أن يمسح الكتابة التي في جبهته، وهذا سر يبين الله فيه نقص هذا الرجل حتى يعرف المؤمنين أن ربهم كامل، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)، وقال: (ما من نبي إلا وحذره قومه، وأنتم آخر الأمم وأنا آخر النبيين، وإنه خارج فيكم لا محالة).
ثم يأتي عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، ثم إن عيسى كذلك يعيش ما كتب الله له أن يعيش، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، وهذا كله من أخبار الساعة، ثم بعد ذلك تمر أحداث وأحداث حتى يخرج الخلق، ويكون قيام الخلق لرب العالمين جل جلاله.
أولاً: المنازل عند الله تختلف، يقول الله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
فالميت الأصل أنه يكرم جسداً وروحاً إذا كان مؤمناً، ولا يكرم لا جسداً ولا روحاً إذا كان كافراً، والجسد له رحلة، والروح لها رحلة، فأما رحلة الجسد فإن أول ما يصنع بالميت أن تغمض عيناه؛ حتى لا تتبع بصره، وهذا الجسد أمر الناس كفاية بأن يغسلوه، واستثنى الله الشهيد كما سيأتي.
من يغسل الميت؟
يغسل الميت في المقام الأول وصيه، وهو من وصى الميت أن يغسله، والميت إما أن يكون ذكراً أو يكون أنثى، فإذا كان رجلاً فلا يجوز للنساء أن يغسلوه، وإذا كان أنثى فلا يجوز للرجال أن يغسلوها، إلا حالتين تستثنى من هذا:
الحالة الأولى: إذا كان الميت أحد الزوجين، فإن الرجل يجوز له أن يغسل امرأته، والزوجة يجوز لها أن تغسل زوجها.
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس زوجته، وأسماء بنت عميس امرأة صالحة صوامة قوامة، وقد وصى الصديق رضي الله عنه أن تغسله، وأبو بكر رضي الله عنه في سبب موته روايتان لا تعارض بينهما، فرواية تقول: إنه اغتسل في يوم بارد فأصابته الحمى، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، وكان ذلك يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جماد الأولى.
والرواية الثانية: أنه قبل عام من موته أكل طعام برفقه الحارث بن كلدة ، الحارث بن كلدة هذا هو طبيب العرب، فقال الحارث لـأبي بكر بعد أن أكلا الطعام: لقد أكلنا أنا وأنت سم سنة كاملة، فمات الحارث وأبو بكر في يوم واحد على الحول تماماً من اليوم الذي أكلا فيها الطعام، وغسلته أسماء بنت عميس .
موضع الشاهد: أن أسماء وصى أبو بكر أن تغسله فغسلته.
وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين ، ومحمد بن سيرين معبر رؤى، وهو أحد التابعين الكبار، فقد جاءه رجل قبل أن يغسل أنس بمدة طويلة فقال له: أيها الإمام! إنني رأيت رؤيا، قال: اقصص علي رؤياك، قال: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً -ولم يسمه- رأى أن ساقه مكشوفة، ونبت شعر على تلك الساق، فما تأويلها؟
فقال محمد بن سيرين على البداهة: هذا رجل يركبه دين، ثم يسجن بسبب الدين، ثم يموت وهو مسجون، قال: انتهيت؟ قال: نعم، قال السائل: رأيتها فيك، أي: في محمد بن سيرين ، فركب محمد بن سيرين دين وسجن، وفي الفترة التي كان فيها مسجوناً مات أنس رضي الله عنه وأرضاه وأوصى أن يغسله محمد بن سيرين ، فأخرج من السجن وغسل أنساً ، ثم عاد إلى السجن ومات وهو في السجن كما وقعت الرؤيا، فصدق الله ذلك الرائي ما رأى.
موضع الشاهد من هذا هو إنفاذ الوصية في الغسل، قلنا: رحلة الجسد، ثم بعد ذلك يكفن، ثم يوضع الجسد في قبره، والقبور مساكن الموتى، وهي أول ديار الآخرة، وتراها وهي ظاهرة شيئاً واحداً وبينها في الداخل فرق لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، يقول الله: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
فهذه أيها المبارك رحلة الجسد، فتحل أربطة الكفن، ويقرب الميت وجهه من الجدار الأمامي للحد المتجه للقبلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكبائر ثم قال: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) أي: قبلتكم أحياء في الصلاة والدعاء، وقبلتكم أمواتاً في الاحتضار والدفن، فيقرب الميت من جدار القبر الأمامي، ويوضع تراب خلف ظهره؛ حتى لا يسقط.
وبعد أن تحل عنه أربطة الكفن توضع لبن؛ حتى لا يأتي التراب عليه مباشرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وضع على لحده تسع لبنات، ثم بعد ذلك يحثى التراب. فهذه رحلة الجسد علمياً.
وأما الروح عندما تخرج فتصعد إلى السماء، وهذه السماء لها أبواب، فتفتح لأقوام وتصد عن أقوام، فكل سماء تتحرج أن تمر عليها روح الكافر، وكل سماء يتمنى أهلها أن تمر عليهم روح المؤمن، ويشيع روح المؤمن من كل سماء مقربوها، وتنادى بأحسن الأسماء حتى تصل إلى العرش، فيقول أحكم الحاكمين: أرجعوها إلى الأرض فإني قد وعدتهم: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، فتعود الروح إلى البدن، فروح المؤمن تعود إليه بلطف، وروح الكافر تطرح إليه طرحاً، قال الله جل وعلا: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31]، ثم تلتصق الروح بالبدن لتكون مستعدة لسؤال الملكين وما يعقب ذلك من أمور.
ونعود لقضية الشهداء، فالشهداء في هذا الخضم أرفع الناس مقاماً، إن إنساناً يرى الموت عياناً ثم لا يتأخر من أجل إعلاء كلمة الله فإنه لا يحتاج إلى أن يشفع له أحد، فالشهيد شافع وليس مشفوعاً فيه، وقد وقاه الله جل وعلا فتنة القبر، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فإذا أدخل القبر فإنه لا يسأل ولا يختبر ولا يفتتن، ولا حاجة أن يصلى عليه فيدع الناس له؛ لأنه شافع غير مشفوع فيه، ولا يمنع ذلك من الدعاء له، لكن أن يكون هذا لزاماً كما يكون في حق غيره فلا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف على سبعين قد ضرجوا بمائهم منهم عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فلما رأى حمزة مضرجاً بدمائه قد مثل به بكى صلوات الله وسلامه عليه، وكان عليه الصلاة والسلام يحب عمه حمزة حباً جماً، وكنية حمزة أبو عمارة رضي الله عنه وأرضاه.
هؤلاء الأخيار وقف عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا شهيد على هؤلاء)، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إليهم مرة أخرى يوم أن شعر بدنو أجله وقرب وفاته، فدعا لهم واستغفر صلوات الله وسلامه عليه كالمودع لهم.
ومن هنا أخذ من قال من العلماء إنها ليلة إحدى وعشرين، وبسط القول فقهياً لا وعظياً في ليلة القدر على النحو التالي:
قال بعض العلماء: إنها ليلة النصف من شعبان، وهذا ينسب إلى عكرمة ، وهو مرجوح جداً؛ لأن القرآن يعارضه، قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وقال جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].
وينسب إلى زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود أن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان، ودليلهم آية الأنفال: إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41]، فقال الله جل وعلا: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)، ويوم بدر كان يوم السابع عشر من رمضان، فقالوا: إن هذا دليل على أنها ليلة السابع عشر من رمضان.
وأكثر علماء الأمة الباقون على أنها في العشر الأواخر، وهو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
ثم إن الذين قالوا: إنها في العشر الأواخر -وهذا هو الحق- انقسموا إلى قسمين في أصل القضية فقهياً:
ففريق قال: إنها تتنقل، والدافع إلى القول بأنها تتنقل عدم إمكانية الجمع بين الأحاديث، فقد ورد في صحيح البخاري أنها ليلة إحدى وعشرين، وورد في صحيح البخاري أنها ليلة ثلاث وعشرين، وأقسم أبي أنها ليلة سبع وعشرين، وفي المسند من حديث ابن عمر أنها ليلة أربع وعشرين، فقالوا: لا يمكن الجمع ما بين هذه الأحاديث إلا أن نقول: إن ليلة القدر تتنقل في كل عام، إلا أنها في ليال الوتر أرجى منها في ليال الشفع، ولا يلزم أن تكون في ليالي الوتر فقط، لكنها أرجى في ليالي الوتر من ليالي الشفع.
الفريق الآخر قالوا: لا تتنقل، بل هي ليلة أنزل فيها القرآن، فهذه الليلة من كل عام تكون ليلة القدر، وهؤلاء اختلفوا في تحديدها، فمذهب الشافعي -فيما أظن الساعة- أنها ليلة أربع وعشرين، ومذهب أبي بن كعب وعليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين، وكان أبي رضي الله عنه يقسم كما رواه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش .
وبعض العلماء يرى أنها ليلة إحدى وعشرين، وآخرون يرون أنها ليلة تسع وعشرين.
وجملة القول أن يقال: إن من قام رمضان كله وافق ليلة القدر، ثم نقول: من قام العشر الأواخر كلها بإذن الله ورحمته يكون قد وافق ليلة القدر.
ثم يحرص الإنسان على قيام ليلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالمرغوب المطلوب الأول فيها قيامها، على أنه ينبغي أن يعلم أن عائشة تقول: (ما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها) والمعنى أنه يصلي بعض الليل ويقرأ في بعضه، ويدعو في بعضه، ويذكر الله في بعضه، ولو استراح في بعضه فلا حرج، لكن أفضل أن يستريح في مقام عبادته في مسجده أو في بيته أو في عمله، والناس يختلفون، ورب الجميع واحد، والله يطلع على القلوب لا على الأبدان، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147].
وقبل هذه الليلة من الليل قبل أن تدخل العشر لابد أن يستشعر الإنسان أن الله رحيم، وأن الإنسان له ذنوب يرجو من الله أن يغفرها، وله عيوب يرجو من الله أن يسترها، وله آمال يرجو من الله أن يحققها، وله مخاوف يرجو من الله أن يجيره منها، وهناك جنة يرغب أن يدخلها، وهناك نار يخشى أن يمسه لهيبها، وهناك أمور وأمور لا يقدر عليها إلا الله، فيزدلف الإنسان بقلبه في المقام الأول برغبة صادقة من القلب أن الله جل وعلا يوفقه لقيام ليلة القدر.
ووالله لن تنال المطلوب، ولن تدفع المرهوب إلا برحمة من الله وفضل، فلا تتكلنّ على شيء من قوتك أبداً، وقل: اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وطول وقوة إلا حولك وقوتك، اللهم أقمني في مكان ترضى فيه عني، كان الشافعي يقول: أهمني أمر فرأيت في المنام أن طارقاً يطرقني فيقول: يا أبا عبد الله ! قل في دعائك: اللهم إنني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، ووفقني اللهم لما تحب وترضى من القول والعمل، قال الشافعي : فقلتها ففرج الله عني.
والمقصود من هذا أن تزدلف إلى الله في سجودك في النهار أن يوفقك الله جل وعلا لقيام الليل، فوالله إن من تحرر من الذنوب نهاراً رزق منّة العطاء والوقوف بين يدي الله ليلاً، ومن أثقلته ذنوبه في النهار صعب عليه أن يرزق الوقوف ليلاً بين يدي الواحد القهار.
ففي النهار تعامل مع الله جل وعلا تعامل المسكين، وتعامل معه تعامل عبد له عند ربه حاجة تكون في الليل، فيحاول في النهار أن يستجر بمسكنته رحمة العظيم؛ حتى يمن الله جل وعلا عليه بالتوفيق في ليلة القدر، وادخل على والدتك وبرها وأنت ترجو ببرها رحمة الله، وقل في سجودك: اللهم وفقني لقيام ليلة القدر، وأحسن فيها مقامي بين يديك، وتوخ مسكيناً أو سائلاً أو أرملة أو يتيماً فأحسن إليه؛ عل الله جل وعلا أن يكرمك بالقيام بين يديه، وتوخ أحداً من قرنائك أو جيرانك أو أصحابك بينك وبينهم شحناء فاعف عنه، وتنازل عن حقك؛ طمعاً في أن الله جل وعلا يوفقك في القيام بين يديه.
فهذا بعض ما يمكن صنيعه وإلا باب استدرار رحمة الله جل وعلا مفتوح، فاصنعه فإذا جاء الليل لا يكن همك إلا ذنبك، ولا يكون رغبتك إلا في ربك تبارك وتعالى، فقف بين يديه اسأله وارجوه والله جل وعلا لا أحد أحب إليه المدح منه، فأكثر من الثناء عن الله، واعترف بذنبك، قال الله يعلم الأبوين آدم وحواء: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وأثن على الله جل وعلا بما هو أهله، ثم صل ولو كنت في سجودك على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وابدأ بالعظائم، وأعظم الأمور أن يرزقك الله الجنة، وأعظم الأمور أن يجيرك الله من النار، ثم اسأل الله كما قالت عائشة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فيحاول المؤمن قدر الإمكان أن يردد هذا الدعاء المأثور عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
هذا كل ما يمكن أن يقال فقهياً عن ليلة القدر.
هذه بعض القرائن والبراهين على أن المؤمن يعظم الله:
وعلى النقيض من ذلك أهل الفجور والكفر والفسوق عياذاً بالله، فإنهم لا يجدون فرحاً ولا استبشاراً إذا حدثوا عن الله، قال الله جل وعلا عنهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، وقال جل وعلا في سورة أخرى وهي الإسراء: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء:46]، فما الذي ينبغي أن تسمعه أيها المبارك؟! أن تحاول قدر الإمكان أن تجد في نفسك طمأنينة وسكينة، وأنت تتكلم عن الله أو تتلو كلام الله، أو تسمع شيئاً عن الله، أو تصنع صنيعاً من أجل الله، أو تترك شيئاً من أجل الله، فهذا من أعظم العلامات على أن العبد يعظم ربه التعظيم اللائق به.
ووالله كل نعيم وعده الله جل وعلا عباده إنما هو مرهون بقدر تعظيمهم لله تبارك وتعالى، ومن احتفى الله به في الملأ الأعلى إنما احتفى الله به لما في تعظيمه لله تبارك وتعالى وهو على الأرض، قال الخليل إبراهيم عليه السلام -وكان أعظم العباد تعظيماً لله بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم- قال يخاطب أباه: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، فاحتفى الله جل وعلا بهذا النبي الكريم أبي الأنبياء لما كان في قلب إبراهيم من تعظيم الرب تبارك وتعالى.
ومن قرائن هذا التعظيم أن الإنسان يؤمر بالنهي عن شيء، فيطلب منه الشيء من أجل أبيه وأمه وجيرانه وعلاقاته فيأبى، فإذا طلب منه شيء من أجل الله تركه تعظيماً لربه تبارك وتعالى، وهذه تربية يصنعها الإنسان لنفسه مع مر الأيام وتوالي الأعوام، فيجدّ الإنسان إذا كان لديه رغبة كيف يربي نفسه على أنه يعظم ربه جل وعلا التعظيم اللائق به، فلا يخوف ولا يذكر بأحد بعد الله. هذا أمر.
الأمر الثاني: السعي إلى الطاعات، فالذين يعظمون الله لا تكاد تجف بشرتهم من الوضوء؛ يريدون ما عند الله تكفيراً للذنوب، وطلباً لرحمة علام الغيوب، وتتسابق خطواتهم إلى بيوته جل وعلا، يرجون ما عند الله جل وعلا من المغفرة، يجدون راحة قلب وانشراح صدر وجباههم على الأرض؛ رغبة فيما عند الله جل وعلا من النعيم.
ومن قرائن هذا أنهم يفرون عن المعاصي، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] إلى غير ذلك مما نهى الله عنه، فكلما زين له باب معصية تذكر عظمة الله جل جلاله فتركها وبعد عنها؛ خوفاًوفرقاً من أن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه.
اللهم لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، أنت الله لا إله إلا أنت تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وتقبض وتبسط، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أنت ربنا خالقنا من العدم، ربيتنا بالنعم، نشهد ونحاج أن وجهك أكرم الوجوه، واسمك اللهم أعظم الأسماء، وعطيتك يا ربنا هي العطية الجزلى، فاللهم صل على محمد وعلى آله، واغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين، اللهم اغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين.
اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر.
وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: ليلة القدر جهلها العلماء الأبرار، والمتقون الأخيار، وما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال: (أرى رؤياكم تواطأت على العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر)، وقد مكث صلى الله عليه وسلم -وعنه يؤخذ الدين- يتحراها دون أن يحدد وقتها، فلا يقبل بعد ذلك أن يأتي أحد ويجزم بتحديدها إلى يوم القيامة، فهذا محال أن يقع بتاتاً، أسأل الله لنا ولهذا الشخص غفران الذنوب.
الجواب: قال بعض العلماء بوجود علامات في ليلها، منها: أن الشمس صبيحتها لا يكون لها أشعة، لكني لا أجزم بشيء من هذا، وإنما نقول: هي في العشر الأواخر وترها وشفعها، والإنسان عليه أن يجتهد فيها، وقد يعطى بعض الناس دليلاً على أنه رآها كما دل عليه حديث عائشة ، لكن لا يلزم من ذلك القبول، ولا يلزم من عدم رؤيا الدليل عدم القبول، وقد كان ابن مسعود إذا سئل يقول: من قام العام كله أدرك ليلة القدر.
الجواب: اختلفوا في هذا، فقال بعض العلماء: يكون ولو لحظة، وهذا قول بعيد، والذي أميل إليه والعلم عند الله أنه يكون ليلة بكاملها، فيعتكف الإنسان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأن مظنة القيام مكانه الليل، فيكون الاعتكاف من غروب الشمس إلى الفجر، هذا أقل الاعتكاف فيما نعتقده، والعلم عند الله.
الجواب: لا أرى هذا حسناً، فهذا يثبط الهمم، فلو جاء إنسان وقال: أنا رأيتها في إحدى وعشرين فربما يكون صادقاً وتكون الرؤيا غير صادقة، لكن ذلك يثبط الناس في بقية الشهر، لكن العاقل يبقى متحرياً لها حتى آخر ليلة؛ لأنه لا يدري أين هي، ولا يحسن بالفضلاء نشر مثل هذه الرسائل وإذاعتها بين الناس، بل يترك الناس للعمل والتحري والبحث، عل الله جل وعلا أن يتقبل من الجميع.
الجواب: اختلف العلماء فيها، والأظهر كما قال العلماء أن الكاف في: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] عائدة للمجموع لا للجميع، والمعنى: أنها عائدة باعتبار مجموعيهما أي: إلى الإنس لا لجميعهما، أي: ليس هناك رسل من الجن، لأن الله قال: إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، فقوله تبارك وتعالى: (إِلَّا رِجَالًا) دل على أنهم ليسوا من الجن.
والمشهور عند العلماء أن جميع الرسل من الإنس إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعث للجن والإنس كافة في زمانه، وقول الله جل وعلا: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] يدل على أن الجن مخاطبين ببعض ما كلف الله به الرسل كإيمان هؤلاء برسالة عيسى عليه السلام، والمسألة فيها خلاف شهير بين العلماء، لكن كما قلت: الراجح أنه ليس هناك مرسلون من الجن، لكن يخاطب الجن ببعثة بعض الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهذه مسألة غيبية لا يمكن لنا أن نجزم فيها بأكثر من هذا.
الجواب: أقول: أول نقطة تحاول تربي نفسك عليها: ألا تعلق نفسك بأن تتأثر بأحد بعينه، ولا بقارئ بعينه، لكن كل من قرأ عليك القرآن حاول أن تتأثر به، وكل من ذكرك بالله حاول أن تتأثر به، فالله جل وعلا دينه وعظمته أجل وأكبر من أن يضعها في شخص هو وحده ينفع الناس وغيره لا ينفعون، فيجب أن يعلم الإنسان أن الله عظيم، وأن له آيات تدل عليه تبارك وتعالى، ومن ذلك أن يفقه الإنسان كيف يتعامل مع ربه جل وعلا، والتعامل مع سبحانه وتعالى يحتاج إلى قلب منكسر، وقلب شارد تماماً عن المخلوقين مهما رأى فيهم من عظمة، ومهما رأى فيهم من خشوع، ومهما رأى فيهم من جمال الصوت في القرآن، فيحبهم بقدر، وليعلم أنهم ليسوا هم وحدهم يذكر بالله، وأن كل شيء أصلاً حولنا يذكر بالله، فالله يقول: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50].
ولا يوجد شيء ممكن أن يذكر المؤمن بعظمة الله أكثر من أن يقرأ المؤمن القرآن، فاختاروا آيات من القرآن فيها إخبار من الله جل وعلا عن عظمته، ثم رددها بصوت تسمع فيه نفسك في مكان يغلب على ظنك ألا يراك فيه أحد، وأنت تقرؤها تدبر كيف يخبر الله جل وعلا عن ذاته العلية.
أتريد أن تعرف صفاته؟ لن يدلك عليها أحد أعلم ولا أعظم منه، لا أحد أعلم بالله من الله، فاختر آيات أثنى الله جل وعلا فيها على نفسه، وأخبر فيها تبارك وتعالى عن عظيم خلقه، ومدح الله جل وعلا فيها نفسه، اقرأها وأنت تسمع فيها نفسك، فإذا ما خشعت في المرة الأولى حاول أن تكررها لعلك تخشع في الركعة الثانية، وإذا ما خشعت في الركعة الثانية حاول أن تكررها مع آيات أخر حتى لا تبتدع في الدين حتى تصل إلى بغيتك، فيبدأ القلب يألف أنه لا يتعظ ولا يستجيب لشيء أكثر من كلام الله، لكن إنسان عود نفسه على أغاني، أو عود نفسه على أناشيد، أو عود نفسه على شيخ معين وما أشبه ذلك هذا قد يتضرر، لكن حاول أنت أن يكون تذكيرك من نفسك في نفسك، الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:1-7]، فهذه وأمثالها اقرأها لينير الله جل وعلا قلبك.
الجواب: إن قريشاً عندما كتبت الصلح بينها وبين رسول الله قالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، فكتب صلى الله عليه وسلم: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، ثم قال كلمة يجب أن يفهمها العلوج الذين في الدينمارك، قال عليه الصلاة والسلام: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، والله لو اجتمع الدينماركيون وغيرهم على أن ينالوا شعرة من مقامه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لما استطاعوا، فالله قال له وهو أصدق القائلين: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، وقال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
وأما نصرته صلى الله عليه وسلم فهي على ثلاثة أوجه:
الأول: نصرة سياسية، وهذه تقع على الحكام بمقاطعة ذلك البلد.
الثاني: نصرة اقتصادية، وذلك بأن يمتنع الإنسان من أن يتعامل اقتصادياً معهم.
الثالث: نصرة عملية، وهي أن الإنسان يزداد اتباعاً لهديه صلى الله عليه وسلم، فذلك أغيظ لقلوبهم، حتى يعلموا أنهم مهما صنعوا ليشوهوا مقامه عندنا فلن ...... فما قاله الأفاكون باطل كله، فقد وصفوه بالعنف والله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ووصفوه بالضلال والله يقول: (إنا أرسلناك هاديا)، ووصفوه بالكذب والله يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، ولا ينتظر ممن كفر بالله أن ينصف رسوله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن ينتقم لرسوله قريباً عاجلاً غير آجل.
الشيخ: لا، لا يصرح به، لا يعلن النية إلا في موضعين في الإسلام: عن الحج والعمرة، وعند ذبح الأضاحي، وأما غير ذلك فتبقى النية محلها القلب، فإذا نويت الخروج صباحاً فتنوي الخروج من الاعتكاف، نسأل الله أن يتقبل منا ومنك.
الجواب: هذا تخويف من أن الإنسان يعرض عليه الأمر فلا يقبله مرة بعد مرة فيطبع الله على قلبه، فلو أراده بعد ذلك لا يمكِّنه الله جل وعلا منه؛ لأن هذه الآية تفسرها آية الأنعام: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
الجواب: إذا كان لا يوجد أحد يؤم المصلين غيره فليؤم ولو لم ينطق حرف الراء، وإن كان يوجد من يحسن القرآن مثله فليصل بهم.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر