أما بعد:
قال الحافظ المنذري رحمه الله: [ الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، والترهيب من إخلافه، ومن الخيانة، ومن الغدر، وقتل المعاهد أو ظلمه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تقبلوا إلي ستاً أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن) رواه أبو يعلى .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)، رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي ].
هذه أحاديث ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، وفيها أن المؤمن إذا وعد وعداً فعليه أن ينجز وينفذ وعده، ولا يترك ما وعد أن يفعله فيتركه.
وأيضاً: أنه يؤتمن فيؤدي الأمانة، ولا يخون في أمانته، والأمانة أمانتان: أمانة مع الخالق، وأمانة مع الخلق.
فالأمانة مع الله عز وجل هي التي قال فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فالأمانة مع الله هي التكاليف الشرعية.
والأمانة مع الخلْق هي: ما يؤتمن عليه من أموال الناس، ومن دماء الناس، ومن أعراض الناس، فما يؤتمن عليه من شيء فيلزمه أن يحافظ عليه، وأن يؤديه ولا يخون فيه.
والستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي: (اصدقوا إذا حدثتم)، فبدأ بالصدق، وفي رواية أنس : (إذا حدث أحدكم فلا يكذب)، فالصدق منجاة ينجي الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وقد يصيب الإنسان بسبب صدقه ابتلاء من الابتلاءات، ولكن الله عز وجل في النهاية ينجيه بصدقه، وقد رأينا ما صنع كعب بن مالك وما صنع المنافقون في غزوة تبوك، فـكعب تخلف بغير عذر، وكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لن ينفعه إلا الصدق، فصدق، وكان معه اثنان من المؤمنين قد تخلفا عن هذه الغزوة أيضاً، فعاقب النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا، ثم كان في النهاية الفرج من الله عز وجل، فغفر لهم سبحانه وأنزل التوبة عليهم.
وأما المنافقون الذين اعتذروا كذباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد فضحهم الله عز وجل بكذبهم، وأنزل فيهم الآيات من سور البراءة يفضحهم بها.
فالغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المؤمن وينصحه ويأمره بأنه إذا حدث فلا يكذب في حديثه.
قال: (وأوفوا إذا وعدتم)، وفي رواية أنس : (وإذا وعد فلا يخلف)، فإذا وعدت إنساناً بشيء تصنعه فلا تخلف وعدك إلا لعذر من الأعذار، فصاحب العذر معذور، ولكن لا تعد إنساناً ثم تخلف في موعدك من غير عذر.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا اؤتمن فلا يخن)، وفي حديث عبادة : (وأداو إذا اؤتمنتم)، فأنتم مؤتمنون على أمانات: على دينكم.. على صلاتكم.. على زكاتكم.. على وضوئكم.. على طهارتكم.. على عباداتكم، وأنتم مؤتمنون في معاملتكم مع الناس، فإذا ائتمنك إنسان على شيء فأد إليه هذه الأمانة كما أمرك الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58].
ثم ذكر ثلاث خصال فقال: (واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).
قوله: (احفظوا فروجكم) فيحفظ المسلم فرجه إلا عن زوجه أو ملك يمينه.
وقوله:(وغضوا أبصاركم)، فالإنسان إما أن ينظر إلى ما أحل الله وإما إلى ما حرم الله، وإذا نظر إلى ما حرم الله اشتهى الحرام، ويصدق ذلك فرجه أو يكذبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسد الذريعة للوقوع في الزنا فيقول مؤدباً المؤمنين: (غضوا أبصاركم)، فإذا غضضت بصرك في الدنيا ومنعت نفسك وحرمتها من فتنة أمامها، فالله يعوضك من فضله ومن كرمه لذة إيمان وحلاوة إيمان تجدها في قلبك، فالذي يكف شره عن الناس، ويكف بصره عن أن ينظر إلى شيء حرمه الله عز وجل، يعوضه الله عن هذا الكف بإيمان يجد حلاوته في قلبه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وكفوا أيديكم)، فكف يدك فلا تمدها إلى حرام، فلا تسرق أموال الناس، ولا تخن، ولا تغدر، ولا تأخذ أموالاً في خلسة، ولا تسلب أموال الناس، فاحذر أن تمد يدك إلى حرام، فلا تمد يدك إلى مال الناس فتسرقه أو تغتصبه، ولا تمد اليد فتمسك بها ما حرم الله، فلا تلمس بها من النساء من حرم الله سبحانه، ولا تمد اليد فتسفك بها دماء أو تضرب بها ظلماً.
فقوله: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، فتعم الكف عن الحرام بجميع وجوهه.
فحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمانة، فذكر أن الله عز وجل جعلها في جذر قلوب الرجال، فمن هم هؤلاء الرجال؟ إنهم الرجال الصادقون، الرجال الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعوا على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فنزلت الأمانة في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين دخلوا في الإسلام وهم صادقون، فالله جعل الأمانة في جذر قلوبهم، يعني: في أصل قلوبهم، فهي أمانة ثابتة لا تتزعزع أبداً، ولا تخرج من قلوبهم.
قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) يعني: نزلت الأحكام الشرعية، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم الله عز وجل، وبارك فيهم وفي أعمالهم وأعمارهم، ولما أسلموا ملأ الله قلوبهم بالأمانة، ثم نزل القرآن فهذب هذه القلوب وهذه الأبدان، وجاءت السنة فتعلموا وتأدبوا، ورباهم النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كيف ترفع: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه) أي: يكون الإنسان نائماً فتقبض الأمانة من قلبه، لكن لماذا تقبض؟ وما هو السبب في هذا الشيء؟
السبب هو ما يصنعه الإنسان، وما يعاقب به فبما كسبت يداه، والله عز وجل يجزي العبد بصنيعه، فكأنهم فعلوا ذنوباً ووقعوا في معاصٍ فعوقبوا عليها بأن نزعت هذه الأمانة من قلوبهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت) يعني: يبقى أثر قليل، والوكت: مثل الحكة في يد الإنسان، فيبقى أثر هذه الحكة موجوداً في يده.
قال: (وينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل)، أي: ينام نومة ثانية فتقبض الأمانة من قلبه، ويبقى من هذه الأمانة كأثر المجل، والمجل فسره بقوله: (كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً) أي: كأنه أثر جمرة جاءت على اليد أو على الرجل فانتفخت اليد أو الرجل من هذا الجمر، وهذا الانتفاخ يظن الناظر إليه أنه كبير، لكن حقيقته أنه منفوخ على لا شيء، فهكذا الإنسان تقبض الأمانة من قلبه ويصبح بين الناس يقولون عنه: أمين، وفي الظاهر أنه أمين، وحقيقته أنه ليست فيه أمانة.
يقول الراوي: (ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، وقال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريهم هذه الجمرة مثل الحصى لو تدحرجت على الرجل، فستحرق جزءاً من الرجل، وسينتفخ هذا الجزء، وهذا الانتفاخ ليس فيه دم، وهذا الانتفاخ ليس لحماً، وإنما هو انتفاخ لا شيء تحته.
وكذلك الأمانة تقبض من قلب الإنسان، فيصبح أمام الناس ظاهره أنه أمين، وأما قلبه فخاين، وما أكثر ذلك!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة) يعني: أن البائع يبيع الشيء ويدلس على الناس ويخدع الناس ويعطيهم الشيء الفاسد، ويوهمهم أن هذا صالح، فيخون في الأمانة، والمشتري يدفع بعض الثمن، ويخون في باقيه فلا يدفعه، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة لا البائع ولا المشتري.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً)أي: حتى يقول الناس ذلك، يعني: أن الأمانة تصير عملة نادرة، ويقال: كل الناس فيهم خيانة إلا فلان، أو إلا في بني فلان ففيهم واحد أمين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) يعني: أن الناس لما يمدحون بعضهم لا يذكرون الأمانة؛ لأنه لا يوجد أحد أمين، فيقولون: فلان هذا إنسان عاقل، فلان هذا ذكي، فلان هذا ظريف، فلان كذا، لكن ليس أميناً.
وهكذا كل أمانة من أمانات الدنيا، وكذلك أمانات الدين.
قال: (وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه)، فيذكر أن واحداً أدى له ذهباً، والثاني أدى له فضه، والثالث أدى له كذا، فتمثل له هذه الأمانة أمامه وهو متوجه إلى النار.
قال: (فيراها فيعرفها)، فيجري وراء هذه الوديعة التي خانها في الدنيا، فيهوي في أثرها في النار، تهوي في النار وهو يهوي وراءها في النار، فيمسكها في النار، ثم يحاول أن يصعد بها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج من النار زلت عن منكبه وهوت في النار، فينزل وراءها في النار مرة ثانية، ولا يزال يصعد بها ويهوي في أثرها أبد الآبدين.
فأمر الأمانة خطير جداً، وما أكثر ما نرى من يصلي ويصوم ويزكي، وإذا جاء وقت الأمانة فهو خائن، فلا تقدر أن تمدحه، ولا تقدر أن تقول لمن سألك عنه: فلان أمين، فضع مالك عند هذا الإنسان، لا تقدر أن تقول هذا الشيء، هذا في الدنيا، وهذه العقوبة يوم القيامة، فكم من الناس من يأتي يوم القيامة وهو خائن، فيأتي الذي اختلس مليون جنيه، والذي أخذ ألف جنيه، والذي أخذ جنيهاً واحداً، والذي أخذ أقل من ذلك، ويقال له: هذه الأمانة فهات هذه الأمانة، فيهوي في النار ليأتي بها، فيحملها على منكبه، فإذا كاد أن يخرج زلت من على منكبه، ووقعت في النار، فينزل في النار ليأتي بها، ولا يزال كذلك أبد الآبدين إن لم يكن من الموحدين.
ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة -وأشياء عددها- وأشد ذلك الودائع.
يقول راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود رضي الله عنه؟ قال كذا وقال كذا، قال البراء : صدق، أما سمعت الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
لذلك احرصوا على أداء الأمانة، فمن وجد في نفسه القدرة فليتحمل، ومن لم يجد فليبتعد عن أخذ ودائع الناس وأخذ أموال الناس، وإلا فالجزاء كما سمعتم.
نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر