اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:20-24].
يذكر الله عز وجل المؤمنين في هذه الآيات بما كانوا يدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى به، ويطلبونه، ويقولون: لولا نزلت آية في القرآن تأمرنا أن نجاهد في سبيل الله، فكانوا يقولون ذلك.
وكان ربنا سبحانه تبارك وتعالى يصبرهم على ما هم فيه، ويقول لهم: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكفوا أيديكم، وذكر ذلك في سورة النساء فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [النساء:77].
إذاً: كان المؤمنون يطلبون من الله عز وجل أن يأمرهم أمراً في القرآن بأن يخرجوا مجاهدين في سبيل الله، وكان القرآن يأمرهم بمجاهدة أنفسهم؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه، فكان القرآن يربيهم مدة ثلاثة عشر عاماً وهم في مكة، فيأمرهم بأن يكفوا أيديهم، وأن يصبروا على الأذى، وإذا أمر بالجهاد فهو جهاد الكلمة والنفس.
ولكن لما هاجروا إلى المدينة بدأ أمر الجهاد يتغير، فكان يأمرهم بدفع أعدائهم، وهذا يسمى: بقتال وجهاد الدفع، فإذا تعرض لك أعداؤك فدافع عن نفسك، ثم تدرج الله بهم إلى أن أمرهم أن يخرجوا غازين مجاهدين في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، ويقاتلون من يمنعهم من تبليغ دعوة الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا يذكر المؤمنين أنهم كانوا كثيراً ما يطلبون من ربهم سبحانه أن ينزل عليهم آية فيها ذكر الجهاد ويأمرهم فيها بالقتال.
فقال هنا: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد:20] والله أعلم بعباده سبحانه، الله أعلم بمن يقوم بأمره، ومن يتخاذل ويترك نصرة دين الله سبحانه، الله أعلم هل هؤلاء يستحقون في ذلك الوقت أن ينزل عليهم أو لا يستحقون فيؤخر عنهم هذا الأمر إلى حين.
فلذلك كأنه يقول لهم: لا تطلبوا الشيء الذي لا تدرون هل تقدرون عليه أو لا، وصرح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، فلا تقل: متى نقاتل ؟ متى يفرض علينا؟ لا، لا تطلب هذا الشيء، (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا).
إذاً: الإنسان لا يتمنى البلاء، ولا يقل: لو أنه فرض الجهاد لقاتلت وفعلت وفعلت. لا تقل هذا، لا تدري لعلك لا تصبر، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون ذلك، والبعض منهم كان يتمنى أنه يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم قتالاً، مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه، فكان يقول وقد تغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر: (لئن أشهدني الله عز وجل -يعني: موقعة أخرى مع النبي صلى الله عليه وسلم- مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل) الله سيرى ما أفعل، ويسكت، ولا يزيد أكثر من ذلك؛ خوفاً من أن يقول شيئاً لا يقدر عليه، ولما جاء يوم أحد أبلى فيه أعظم البلاء رضي الله عنه، وقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يعرف إلا ببنانه، أي: بعلامة كانت في أصبعه، إنسان قتيل لا يعرفونه إلا بأصبعه كيف سيكون شكل هذا القتيل ؟! سيكون ممزقاً ومقطعاً قطعاً، بحيث لا يستطيع الناظر إليه أن يعرفه، فأبلى بلاء حسناً، وجاهد في سبيل الله حتى قتل.
وكثيرٌ ممن كانوا يقولون: نريد الجهاد! نريد الجهاد! عندما يأتي الجهاد لا يجاهدون، ولا يفعلون شيئاً، بل يخافون كما قال الله عز وجل عنهم أنهم يقولون: لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، لم كتبت علينا القتال؟ فلو كنت أخرتنا قليلاً نستمتع بالدنيا، ثم بعد ذلك نجاهد في سبيل الله، فلذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) يعني: دائماً تسألوا الله العافية، فإذا جاء وقت الجهاد في سبيل الله عز وجل فاثبتوا وانصروا الله، قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وهنا يخبرنا عن حال المنافقين، المنافق دائماً كثير الكلام، يتكلم كثيراً جداً، ويظهر شجاعته في وقت السلم، أما في وقت الحرب فهو الجبان، والخائف المعرض، الذي يولي دبره ويهرب، فإذا انتهى القتال رجع يتحدث ويتكلم، فيذكر الله عز وجل هنا صورة هؤلاء المنافقين كما في سورة المنافقون قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] إذاً: أشكالهم طويلة وعريضة، ومناظرهم جميلة، ولكن إذا حدث القتال فهم أجبن ما يكون، يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم ويتركونه، ويهربون قائلين: لا طاقة لنا بذلك.
قال تعالى: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ [محمد:20] أي: ليست منسوخة، وذكر فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].
قوله: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [محمد:20] يعني: الأمر به، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد:20] فهؤلاء أصحاب أمراض، وليست أمراضاً بدنية فيعذرون، وإنما هم أمراض القلوب.
قوله: رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [محمد:20] أي: تظهر أمراضهم الآن، يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد:20] يعني: تجدهم مذعورين، وفي غاية الرعب والذعر، ومندهشين، ومتحيرين، فينظر أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم محدقاً النظر فيه، كالذي ستخرج روحه!
قوله: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ [محمد:20] يهددهم ويتوعدهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: فَأَوْلَى لَهُمْ [محمد:20] أي: قاربهم ما يهلكهم بسبب ذلك، فلينتظروا عذاب الله عز وجل بسبب كلامهم الذي لا تنفذه أفعالهم.
ثم بدأ واستأنف فقال: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد:21] أي: هلا قال هؤلاء: أمرنا، شأننا، فعلنا الطاعة والقول المعروف، فهذه بداية، كأنه يقول: هذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة وقول معروف، يعني: لو كان حالهم ذلك، وشأنهم أنهم يتكلمون فيقولون: سمعنا وأطعنا، مثلما يقول المؤمنون.
قال تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21] كان الأخير بهؤلاء أن يكونوا مطيعين لله وللرسول، ولا يتمنوا لقاء العدو، فإذا جد الجد، ونزل الأمر بالجهاد جاهدوا وصدقوا الله، لو فعلوا هذا لكان خيراً لهم.
وقد يكون على الوصل بالآية التي تليها، ( فأولى لهم طاعة وقول معروف ) أي: أولى بهؤلاء من الفرار، ومن تمني لقاء العدو ثم عدم التنفيذ، أولى بهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يطيعوا ربهم سبحانه، وأن يقولوا القول المعروف.
فإذا جد القتال، وعزم الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ [محمد:21] أي: في الإيمان، وفي تنفيذ ما يقولونه والإخلاص لله عز وجل، وفي الجهاد في سبيل الله، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21].
فيتعلم المؤمن من هذه الآية: أنه لا يكثر من الأماني، ولا يتكلم عن نفسه بالشيء الذي يتباهى به ويفتخر، ويظهر نفسه أنه شيء كبير، فإذا كان وقت الجد إذا به صغير في تنفيذ ما يقول، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، لا تقل: أنا أفعل كذا، لو كنت أنا مكان هذا لكنت فعلت. وفعلت، فيقول لك: لا، لو كنت أنت تستحق ذلك لكنا جعلناك مكان هذا الإنسان، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، ولا تتكلم بما لا تستطيعه، ولكن اسأل ربك أن يوفقك ويعينك على الخير.
وقوله: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع : ( فهل عسيِتم ).
وقوله: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: ( إن تُولِّيتم ) على البناء للمفعول، بمعنى: إن وليناكم ولاية، أو إذا وليتم ولاية من الولايات.
وقوله: ( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب : (وتقطَعوا أرحامكم) بدون تشديد فيها.
فالمعنى: أنه يقول: أنا أعلم بكم منكم، ففي قلوبكم الدغل والفساد، وفي إيمانكم الغش، فلو أنكم كما تزعمون فستجاهدون وتنتصرون ليس بفضلكم، ولكن بفضل الله عز وجل، فإذا ولاكم الله عز وجل ولاية فأنتم أهل الجور، وأنتم أهل الظلم أيها المنافقون، لا تصلحون للولايات، بل أنتم مفسدون، وهذا سيكون حالكم عندما يوليكم الله عز وجل ولاية من الولايات، وستتنكرون للمؤمنين، بل ستتنكرون لأقرب الناس إليكم: الأرحام، فستقطعون أرحامكم، وستفسدون في الأرض فتحكمون بظلم، وتقيمون غير شرع الله سبحانه، ولا تقيمون جهاداً في سبيل الله، وتتولون معرضين، فهذا حال المنافقين إذا أصابوا ولاية من الولايات.
قال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الرحم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]).
هذه الرحم التي أمرنا الله عز وجل في كتابه أن نصلها، قال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] فوصية من الله سبحانه بكل هؤلاء: الأرحام، والجيران، والأصدقاء، والأصحاب، والمؤمنين عامة، اهتموا بشئون هؤلاء جميعهم، وصلوا أرحامكم، وصلوا المؤمنين، ولا تقطعوا الوشائج بينكم وبينهم، فمن قطعها فأولئك الذين لعنهم الله، وأبعدهم وطردهم من رحمته سبحانه، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23].
( أصمهم ) أصم آذانهم، ( وأعمى أبصارهم ) وقد ذكر الله عز وجل فقال: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] أجسامهم جميلة وصحيحة، فيها العافية. وقوله: ( أعمى أبصارهم ) هل هم عميان ؟ كأن المعنى هنا: أبصارهم كلا أبصار، وأسماعهم كلا أسماع.
إذاً: كأنهم لا سمع معهم كأنهم طرش؛ لأنهم لا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما يضرهم، فلا يبصرون فيعتبرون، ولكن ينظرون إلى ما يضرهم، فيسمعون إلى كلام المنافقين، ولا يسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم ليهتدوا به.
فالمنافقون ينظرون إلى العورات، ويتجسسون على المؤمنين، أما أن ينظروا في كتاب الله وفي آيات الله سبحانه تبارك وتعالى في الكون فيعتبرون فلا، فكأنهم لا ينتفعون بأسماعهم، ولا بأبصارهم، فهم عمي الأبصار، إذاً العمى هنا راجع إلى البصائر والقلوب، فسمع لا ينفع، وبصر لا يرى الحق، فكأنهم لا شيء عندهم.
ولذلك وصف الله عز وجل الكفار بأنهم لا يعلمون، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] كأن العلم بالدنيا ليس هو العلم الحقيقي، وإنما هو علم قاصر، وليس معناه: أنك لا تتعلم شئون الدنيا، ولكن لا يكون تعلم الدنيا للدنيا، وإنما تتعلم لتنتفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
فالعلم الذي يورث الخشية في القلب هو العلم المطلوب الذي ينفعك عند الله سبحانه تبارك وتعالى، أما العلم الذي يورث الغرور والتيه والفخر على الخلق فهذا لا ينتفع به أي إنسان، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23]، الذين لم يستمعوا القول فيتبعون أحسنه، والذين لم يطيعوا الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين إذا ولاهم الله وأعطاهم ولاية إذا بهم يقطعون أرحامهم، ولا يعرفون لأحد فضله ولا حقه.
قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24] بالهمزة في قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير : ( القران ) والمعنى واحد.
فقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ [محمد:24] فيه حث على تدبر كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد أمرنا الله فقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] استمع وليس مجرد سماع، فتكون الآيات تمر على الأذن من غير أن تعيها، وإنما قال: أنصت، فلا بد أن تحترم كتاب الله عز وجل، وتستمع وتصغي السمع إلى كتاب الله عز وجل، وتتأمل وتتدبر في كتابه سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، هذا استنكار من الله، وقال: ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ ) ولم يقل: ( أم على قلوبهم )، فأراد بذلك العموم، والمعنى: أي قلوب هؤلاء وقلوب أمثالهم، وليس قلوبهم فقط، فقال: ( أم على قلوب ) والمعنى: أن كل إنسان هذا حاله، لا يستمع لكتاب الله عز وجل، ولا يعيه، ولا يتدبر فيه، فعلى قلبه قفل، وهو الغلق الذي يجعل على الباب، كذلك هؤلاء: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ولم يقل: ( أقفال ) وكأن كل قلب من قلوب هؤلاء المنافقين عليه قفل يناسبه.
وكذا كل إنسان يسمع كلام الله عز وجل فلا ينتبه له، ولا يعي ما يقوله الله عز وجل، ولا يعمل به، يكون داخلاً تحت هذه الآية، وكل من أعرض عن كتاب الله سبحانه، ونصح بالقرآن وقيل له: إن الله يأمر بكذا، فرفض أن يفعل ما أمره الله عز وجل، فعلى القلوب أقفالها.
إذاً: هنا ربنا سبحانه في هذه الآيات يشير إلى أنه يجب على الإنسان المؤمن أن يمسك لسانه عن تمني الشيء الذي لا يقدر عليه، فيجب على الإنسان المؤمن أن يتدبر كتاب الله سبحانه، وأن يعمل به، ويجب على الإنسان المؤمن إذا ولاه الله عز وجل ولاية من الولايات أن يراعي في ذلك إقامة الحق والعدل، ولا يتنصل من أقربائه، ولا يقطع رحمه.
وهنا لاحظ بين إنسان يوليه الله عز وجل ولاية، فيقوم بتوظيف أقاربه، فلان يجعله في كذا.. وفلان يوليه كذا، وهنا ليس معنى الآية كذلك، ليس المعنى أن توظف أقاربك، فتكون بهذا وصلت الأرحام، ولكن الإنسان الذي يتولى ولاية، فمن الأمانة أن يجعل الإنسان في مكانه.
إذاً قوله: وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22] معناه: أنهم إذا ولاهم الله يتكبرون فيقطعون أرحامهم، فلا يعرفون إلا المنافقين، ولا يعرفون إلا الكبراء بزعمهم، أما الصغار الذين كانوا يعرفونهم قبل ذلك، فقد أصبحوا يحتقرونهم الآن، فهذا هو المعنى.
أما الذي يتولى ولاية من الولايات، فيبتدأ بتوظيف كل أقاربه فيها، ويضع محسوبياته من غير كفاءة ولا غيرها، فهذه من علامات الساعة، وقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه العلامات فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فأي إنسان يتولى ولاية من الولايات، فيبدأ بتوظيف فلان، فيضعه في المصلحة المعينة لأنه قريبه، ويكون أهل الكفاءة في هذا الشيء معزولون، ويولى من لا يصلح، فهذه هي الخيانة، وهذه من أشراط الساعة وعلاماتها.
وفي الآية حث على صلة الأرحام، وليس معناه أنك تجامل في غير الحق وفي الباطل.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر