يذكر الله سبحانه وتعالى كيف أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر هارباً إلى مدين من بلاد الشام، وكان السبب في ذلك كما ذكرنا أنه اعترض على فرعون في تأليهه نفسه، فخرج من عندهم ثم دخل المدينة في يوم من الأيام على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل شيعة موسى عليه السلام، والآخر من عدوه، وكأنه يوجد عداء قبل ذلك بين موسى وفرعون، فلذلك لم يكن في المدينة في هذا الوقت بسبب ذلك، وكان هذا الفرعوني يريد أن يسخر الإسرائيلي في عمله ويكرهه على العمل بغير أجر ويضربه، وهذا الآخر يمتنع ويدافع عن نفسه، فاستغاث بموسى عليه، فما كان من موسى عليه الصلاة والسلام إلا أن ضربه بجمع يده ولكمه؛ فقضى عليه، ثم ندم بعد ذلك وقال: هذا من عمل الشيطان، لأنه لم يقصد قتله والشيطان عدو للإنسان يدعوه إلى الشر وإلى البعد عن الله سبحانه وتعالى، إنه عدو مضل وضلاله بين واضح.
ثم استغفر موسى ربه سبحانه وتعالى ودعاه أن يغفر له فقال: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] ثم عاهد ربه سبحانه فقال: رب بما أنعمت علي وما أعطيتني من نعم عظيمة وقويتني ونشأتني على عبادتك، ولم تجعلني مثل هؤلاء الكفرة في عبادتهم لفرعون، فعلي عهد ألا أكون نصيراً للمجرمين وسأكون نصيراً للمؤمنين وللضعفاء.
ولم يعرف بقتل هذا القبطي من البشر سوى موسى عليه الصلاة والسلام وهذا الرجل الإسرائيلي الذي استغاث به.
فأصبح موسى في اليوم الثاني وهو خائف يترقب: ترى ما الذي سيحصل في هذا اليوم؟
هل سيخبر الإسرائيلي عن موسى أنه قتل القبطي أم يسكت عنه؟
فلم يذهب إلى قصر فرعون، ولكنه لبث في المدينة خائف يترقب، فإذا به يبتلى مرة ثانية عليه الصلاة والسلام فيجد الذي استنصره بالأمس يستصرخه اليوم وهو يتشاجر مع رجل من قوم فرعون.
قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص:18]، أي: إنك داع إلى الهوى وداع إلى الغواية، ومعنى الغوي: كثير الشر.
ولكن لما كان بين موسى عليه السلام وبين الله عهد أن ينصر المظلوم ولا يكون ظهيراً للمجرمين، وهنا ضعيف يستنصره على مجرم يقاتله فلا بد من نصر المظلوم.
وكأن موسى عليه السلام اشتد على هذا الرجل الإسرائيلي في الكلام، واشتد أيضاً على الآخر الفرعوني، فإذا بهذا الإسرائيلي يصرح بقتل موسى للقبطي، وذلك إما في الشجار فقال له: يا موسى اقتله كما قتلت القبطي البارحة.
فعرف القبطي ذلك فقال لموسى عليه الصلاة والسلام: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ [القصص:19]، يعني: لكونك قوياً تريد أن تقتلني، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ [القصص:19] والجبار الإنسان الذي يقتل بغير تفكير وبغير نظر في العاقبة وبغير تحرٍ واستفهام عن السبب.
ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:19] أي: أصلح بيننا بدلاً من أن تضربني، لكنك تريد أن تكون جباراً ولا تريد أن تكون مصلحاً.
وفر القبطي إلى فرعون ليخبره أن الذي قتل القبطي بالأمس هو موسى الذي ربيته في بيتك.
فاجتمع الناس عند فرعون واتفقوا على قتل موسى عليه الصلاة والسلام، فأسرع رجل منهم وهو مؤمن آل فرعون، وخرج من قصر فرعون يبحث عن موسى ليحذره.
والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قدر له أسبابه ويسرها له، فهو الذي ربى موسى في بيت فرعون، ونجاه من القتل، وهنا ينجيه من القتل مرة ثانية، فيأتيه هذا المؤمن ويحذره: إن الملأ يأتمرون بك. والملأ: هم علية القوم الكبار والوزراء، فتشاوروا مع فرعون في ذلك وائتمروا يعني: أخذ بعضهم أمر بعض لينفذوه فيه بقتلك.
قال تعالى: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] أي: اهرب من هذا المكان إني لك من الناصحين.
فأخذ موسى هذا الخبر وخرج عليه الصلاة والسلام من مصر.
يعني: أصبح موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب وينتظر، وخرج من المدينة أيضاً خائفاً يترقب عليه الصلاة والسلام، والإنسان الخائف ينتظر كل دقيقة ماذا يحصل له من المصائب.
فهو يترقب كأنه ينظر ويراقب هل يأتيه أحد من هذا المكان، ابتلي بخوف شديد جداً يذكره ربنا هنا ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام التي كان يؤذي فيها في مكة هو والمؤمنون، أي: مهما أخافكم هؤلاء فالأمر ليس كما حدث لموسى، بل كان ما حدث لموسى أصعب مما أنتم فيه، وقد نجاه الله عز وجل، فاطمئنوا فإن الله ينجيكم.
ثم قال موسى داعياً ربه سبحانه: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21] فاستجاب له ربه سبحانه ونجاه ودله ، وموسى لا يعرف الطريق، ولم يخرج من مصر قبل ذلك، وسيخرج الآن من مصر متوجهاً إلى الشام لا يدري أين الطريق.
أي: ناحية مدين من بلاد الشام عند الأردن، فخرج موسى من مصر متوجهاً إلى بلاد الشام. فقال حين توجه إلى مدين: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]. فهو لا يعرف أين الطريق الصحيح، لأن فرعون مسيطر على البلاد كلها، فموسى لا يعرف أن هناك بلاداً أخرى ولا يتحكم فيها فرعون، فلذلك طلب من ربه أن يهديه سبحانه، وقد طمأنه بعد ذلك الرجل الصالح هناك وقال له: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] وهنا اطمأن موسى لما أعلمه أبو الفتاتين بأنه قد نجا من فرعون، وأن فرعون ليس له سلطان في تلك الأرض، فموسى خارج وهو لا يدري إلى أين يمتد سلطان فرعون.
وفي قوله تعالى: قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي [القصص:22] قراءتان:
قراءة الجمهور عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي [القصص:22] بالمد وبالقصر.
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِ سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] فلا يوجد فيها مد أصلاً.
والمعنى: عسى ربي أن يدلني ولا يضلني عن الطريق، ويهدني سواء الطريق الصحيحة المستقيمة التي أصل بها إلى النجاة.
خرج موسى عليه السلام من مصر ولم يكن مهيئاً نفسه للسفر، وليس معه زاد ولا مركوب، بل لم يكن معه شيء وكان بمفرده؛ لأنه جاء لهذا المكان وهو خائف يترقب وليس على باله الخروج، فإذا بالرجل يأتي إليه وينصحه بالخروج، فيهرب موسى على قدميه، قالوا: مشى حوالي ثمانمائة وخمسين ميلاً يعني: أكثر من ألف كيلو متر مشاها موسى عليه الصلاة والسلام من مصر حتى وصل إلى مدين.
قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] فهو لا يعرف الطريق حتى يصل إلى هذا المكان الذي وصل إليه، فلما خرج من مصر متوجهاً بدا متردداً خشية أن يضل أو يته، ولكنه وصل بفضل الله سبحانه وتعالى إلى مدين، ولكن لم يكن معه طعام ولا شراب، قالوا: كان يشرب من المياه التي في طريقه ويأكل من ورق الأشجار.
ولقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خرج من مصر حتى وصل إلى مدين وقد حفيت قدماه وسقط نعله عليه الصلاة والسلام، وصار بطنه لاصقاً في ظهره. يعني: من طول المسافة التي قطعها حتى وصل إلى هذا المكان، إذ لا يعقل أن إنساناً سيخرج من مصر متوجهاً إلى الشام ماشياً، ومع ذلك سيمشي الليل والنهار مثلاً، ولا يأكل فيها شيئاً إذ ليس معه مال ولا طعام.
وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام يرينا الله عز وجل حقارة الدنيا وأنها لا قيمة لها، وأنه مهما ابتلى الله عز وجل الإنسان فيها بأن سلب منه ماله أو أخذ منه صحته، أو ابتلاه بالمصائب، فعليه أن يتصبر اتعاظاً بما حدث لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
فهذا النبي عليه السلام يؤذى في مكة، وأحياناً يجوع حتى يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فالذي ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر إلى موسى كيف خرج من مصر إلى أن وصل إلى الشام، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، وينظر إلى أيوب عليه السلام كيف ابتلاه الله سبحانه وتعالى ومكث في البلاء ثماني عشرة سنة حتى هجره القريب العبيد إلا زوجه وصديقين من أصدقائه عليه الصلاة والسلام، وصديقاه في النهاية قالا عنه: لا بد أنه عمل معصية أخفاها لذلك ابتلاه الله بذلك؛ فالذي ينظر إلى أحوال هؤلاء الأنبياء يتعظ ويعتبر ويكون له بهم أسوة.
والمؤمن حين يبتليه الله عز وجل بشيء لا ينظر إلى الناس؛ لأنه إذا نظر إليهم تعب إذ إنهم لا بد أن يقولوا: هذا قد عمل مصيبة من المصائب حتى ابتلاه الله تعالى بهذا البلاء، كما قالوا عن أيوب عليه الصلاة والسلام حتى دعا ربه فنجاه مما كان فيه، فالنظر إلى الناس يتعب ولكن الإنسان ينظر إلى ربه، ويتذكر نعم الله عز وجل عليه.
تبقى الصورة أنه وصل إلى بئر ماء وعليها زحام شديد من الناس كل واحد يريد أن يسقي أنعامه، وجاء موسى عليه الصلاة والسلام ونظر فإذا بامرأتين بعيدتين عن الناس معهما مواشيهما تذودانهما، أي: فكأنهما تدفعان الأغنام كيلا تزدحما مع الناس، خوفاً من أن تضيع الأغنام، فكان الناس يسقون والفتاتان تنتظران حتى ينتهوا ثم يذهبوا، وبعد ذلك تسقيان، وهذا لا شك انتظار طويل ممل.
فمعنى قوله تعالى: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23]، أي: تدفعان أغنامهما أو مواشيهما بعيداً عن الماء وبعيداً عن الناس.
قال تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23]، والخطب بمعنى المصيبة والأمر الهام العظيم.
وكأنه وجد المرأتين في حسرة وشدة وضيق، ولذلك لم يقل: ما حالكما؟ إنما قال: ما خطبكما وأي بلية نزلت بكما؟
فموسى عليه الصلاة والسلام الذي خرج ماشياً من مصر حتى وصل إلى مدين بعد مشي طويل وتعب شديد ولم يأكل إلا أوراق الأشجار، هو الذي كان قد دعا قبل ذلك فقال: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، أي: سيكون نصيراً للضعفاء.
وهاتان المرأتان ضعيفتان، فسألهما ليساعدهما، ثم كان جوابهما: قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] أي: لا نقدر أن نسقي الأغنام أو الأنعام حتى يذهب كل الرعاة.
وفي قوله: حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]، قراءتان: وهذه قراءة الجمهور. وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر حَتَّى يَصدُرَ الرِّعَاءُ [القصص:23] بجعل الفعل ثلاثياً من صدر بمعنى: مشى، ويكون المعنى: حتى يمشي الرعاء.
والقراءة الأولى من الفعل الرباعي (أصدرَ) فيكون المعنى: حتى يأخذوا الأنعام وينصرفوا بها، وهذه قراءة الجمهور. فكأن الإنسان الوارد من أقبل على الماء، والصادر من انصرف عنه.
قالتا: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] يعني: ليس عندنا رجال إلا أبانا، وأبونا شيخ كبير ضعيف لا يقدر أن يأتي بهذه الأغنام فيسقيها فاضطررنا لذلك، فسقى لهما عليه الصلاة والسلام كما سيأتي.
وقيل: إنه ذهب إلى بئر كانت مغلقة بحجر لا يحمله إلا عدد من الرجال فرفع غطاء البئر وحده وسقى أنعام هاتين الفتاتين، والله أعلم بالحال.
لكن معناه: أن الله عز وجل أمده بقوة عظيمة من عنده حتى يصبر على هذا الذي هو فيه ويفعل هذه الأشياء العظيمة.
ولما سقى لهما انصرف ولم ينتظر منهما الأجرة ولم يقل: أنا جائع أعطوني غنمة أكلها أو شربة لبن، فلم ينتظر أجراً إلا من الله.
انصرفت الفتاتان وتولى من موسى إلى ظل شجرة قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] يدعو ربه سبحانه وتعالى: رب إني محتاج لما تنزله علي من خير، أو إنك قد أنزلت إلي خيراً كثيراً وأنا محتاج إلى خير أكثر.
وهذا الدعاء العظيم والطلب من الله فيه أدب الأنبياء مع الله سبحانه وتعالى، فلم يقل له: أنا فقير أو أنا هارب أو جائع، ولكن قال: يا رب أنت قد أنعمت علي بنعم عظيمة، فأعطيتني القوة ونجيتني من فرعون ومن معه، وأطعمتني وربيتني وفعلت بي خيراً عظيماً، وأنا الآن محتاج لمزيد من الخير.
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، قوله تعالى: (فجاءته) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، فكأنه دعا فحصلت النتيجة حالاً من فضل الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] فيه أدب المشي للنساء، وأن المرأة تمشي في جانب الطريق لا في منتصفه ولا تمشي بحركات ملفتة للنظر كما تفعل نساء اليوم؛ لكنها تمشي على استحياء في طريقها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي تستر وجهها وهي تأتي في الطريق لتنادي موسى عليه الصلاة والسلام.
قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25] أي: أبي يدعوك ليعطيك أجر سقيك لنا.
فذهب معها موسى عليه الصلاة والسلام لا طالباً للأجر، إذ ليس الأنبياء بالذين يأخذون أجراً على عمل يسدونه إلى الناس، ولكن لجيب إنساناً يدعوه، فليذهب لينظر ما المراد من دعوته له.
وذكروا أن المرأة كانت تمشي أمام موسى عليه الصلاة والسلام في الطريق لتدله عليها، فجاءت الرياح فصفقت ثوبها، فكأنه استحيا أن ينظر إليها فقال: كوني من ورائي ودليني بصوتك على الطريق.
ففعلت ذلك حتى وصل موسى إلى الرجل فلما جاءه وقص عليه القصص، قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] .
وهنا لم يذكر من هو هذا الرجل، وإن كان أكثر المفسرين على أنه النبي شعيب عليه الصلاة والسلام.
وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي تربى في بيت فرعون فترة طويلة في عزة ومال ورفاهية، فلا بد أن يتأدب قليلاً ليتعلم كيف يصبر على شظف العيش، ويصبر على الفقر ويصبر على العمل ويربي الغنم، وما من نبي إلا عوده ربه على ذلك حتى يتعود على تربية الناس بعد ذلك.
فهنا موسى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى بيت هذا الرجل، والنبي لا يتعلم إلا من نبي، لذلك قالوا: إنه شعيب عليه الصلاة والسلام.
لكن بعض المفسرين يرى أنه ليس شعيباً، فقالوا: بين موسى وشعيب فترة طويلة، واحتجوا بالآية التي في سورة هود أن شعيباً قال لقومه: وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89].
قالوا: ولوط ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهلاك قوم لوط كان في حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبين إبراهيم وبين موسى حوالي أربعمائة سنة، ولا يمكن أن يعيش شعيب أربعمائة سنة، فقوله: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89] يعني أنهم رأوا الذي حصل لقوم لوط، أو كانوا قريبي العهد بهم، فتكون سنوات قليلة بين شعيب وقومه، وبين قوم لوط، وتكون الفترة بين شعيب وبين موسى فترة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة.
ولكننا نقول: ما المانع أن يعمر الله سبحانه شعيباً هذه المدة كما عمر نوحاً ألف سنة.
قالوا: لكن أهل الكتاب في كتبهم لم يسموه شعيباً وإنما سموه (ثيرون)، قالوا: فهذا الاسم غير اسم سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام. قالوا: فهذا يدل على أنه ليس شعيباً عليه السلام قبله.
وأجيب بأنه قد يكون قريباً لشعيب، فيبقى البيت بيت نبوة منه رجل صالح قريب لشعيب وإن لم يكن شعيباً.
قالوا: لو كان شعيباً لكان حرياً أن يذكره القرآن باسمه، ونحن نقف على ما قاله الله سبحانه إنه رجل، والله أعلم.
فالرجل قال لموسى عليه الصلاة والسلام: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] ثم طلب منه أن يكون أجيراً عنده على ما يأتي بعد ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر