يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن القرء عند العلماء يأتي على معنيين: الطهر أو الحيض، والمرأة التي تعتد بالقرء هي: المرأة المطلقة الحائض، أي: التي تحيض وليست بحامل، قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]،واختار الأحناف والحنابلة أن معنى القرء في هذه الآية الحيض، واختار الشافعية والمالكية أن القرء: هو الطهر، وقد بينا الخلاف والراجح.
وهذه عدتها الأشهر، كما قال الله جل في علاه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]، فجعلها بالأشهر وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، يعني: لصغر، وهذه الآية فيها دلالة واضحة عند الفقهاء على أنه يجوز أن يتزوج الرجل ابنة ثلاث سنين أو أربع أو خمس أو ست، فإن قيل: وإن كانت لا تطيق الجماع، قلنا: لو كانت لا تطيق الجماع فله أن يتمتع بخدمتها، أو يتمتع بالتقبيل، أو غير ذلك.
أما اليائسة من الحيض: فهي التي انقطع عنها الدم ولم يرجع لها مرة أخرى. فعدة القسمين ثلاثة أشهر، إذ البدل يساوي الأصل، فالأصل: القرء وهو الحيض، فقد عده الله جل في علاه بثلاثة قروء، قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فلما عدم الأصل كان البدل مساوياً للأصل، فقال: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4].
الصنف الثاني: المرأة التي توفي عنها زوجها، وهذه على العموم، سواء كانت يائسة، أو كانت صغيرة، أو كانت حائضاً، فعدتها بالأشهر، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، وهذا في أول الأحكام ثم نسخه الله جل في علاه بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فعدة المرأة التي توفي عنها زوجها: أربعة أشهر وعشراً، أما على غير الزوج فثلاثة أيام، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)، فهذه العدة الثانية وهي بالأشهر.
وهنا ملحوظة مهمة جداً لا بد من النظر إليها ألا وهي: أن الأشهر تحسب بالعربي لا بالميلادي، والعد يكون بالأشهر القمرية لا الشمسية، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، فالمواقيت تحسب بالأهلة؛ أي: بالأشهر القمرية، سواء كانت تسعة وعشرين أو كانت ثلاثين فهي تحسب بذلك أربعة أشهر وعشراً أو ثلاثة أشهر على حسب المعتدة.
أما المرأة الحامل المطلقة: فإن عدتها: أن تضع الحمل، وأما المرأة التي توفي عنها زوجها: فعدتها: أن تضع الحمل على الراجح كما سنبين الخلاف، قال الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، ووجه الدلالة من الآية: العموم، إذ بين أن أي امرأة كانت حاملة، سواء توفي عنها زوجها أم لم يتوف عنها زوجها فإن عدتها وضع الحمل، كما قال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، والغرض المقصود من العدة: هو براءة الرحم، وبراءة الرحم تعرف: بالولادة، وهذا على الراجح.
أما جماهير أهل العلم فقالوا: بأن عدتها وضع الحمل، والذي نجم الخلاف بسببه هو قول الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فإن هذه الآية عامة من وجه وخاصة من وجه، فهي عامة في المطلقة وفي المتوفى عنها زوجها، وخاصة بأولات الأحمال، والآية الثانية: قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فإن هذه الآية أيضاً عامة من وجه وخاصة من وجه آخر، فهي عامة في الحامل والحائض وغير الحائض فعدتهن أربعة أشهر وعشراً، وخاصة بالمرأة التي توفي عنها زوجها، فقال الجمهور: أما عموم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهو مخصوص بقول الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، كأنهم يقولون: المرأة الحامل التي توفي عنها زوجها آيتها هي قول الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فخصصوا بها عموم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فالخاص من هنا يخصص عموم هذه الآية.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وكثير من التابعين: بأن الأصح في هذه المسألة تطبيق القاعدة الفقهية التي نتفق عليها جميعاً وهي: إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، فلا بد من إعمال الدليلين بأن نأخذ أبعد الأجلين، فنقول: إن كانت حاملاً وتوفي عنها زوجها فننظر، فإن كانت ولادتها بعد شهر قلنا لها: عدتك ثلاثة أشهر وعشراً؛ لأن هذا هو أبعد الأجلين، وإن كانت في بداية الحمل فنقول: عدتك وضع الحمل، فهي أبعد الأجلين، وبذلك نكون عملنا بالآية الأولى، وعملنا بالآية الثانية، وإعمال الكلام أولى من إهماله، وهذا القول من القوة بمكان في النظر، وهو موافق للتأصيل والتقعيد الفقهي عند العلماء، لولا أننا قد قعدنا قاعدة هي أهم من القواعد بأسرها ألا وهي:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
فهنا الآيتان ظاهرهما التعارض لكن قد فصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النزاع، ورجح بين الآيتين، كحديث سبيعة الأسلمية حيث كانت حاملاً وما هي إلا ساعات حتى ولدت فتهيأت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك وقال: يا لكع! -وقد كان يريدها- أتتزينين للخطاب؟! قالت: فجمعت علي ثيابي، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له ما قال أبو السنابل ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كذب أبو السنابل)، أي: أخطأ أبو السنابل ، (قد حللت للخطاب)؛ وذلك لأن الله جل وعلا قال: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد فصل النزاع في المسألة، ونحن ندور مع الشارع حيث دار، وهذا الحديث فاصل في النزاع، وهو الصحيح الراجح.
والحديث الثاني أيضاً في الصحيحن وهو عن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه قال: يا رسول الله! إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل، قال: (يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ) أو قال: (اغسل ما أصابك منه) وهذا أوضح في الدلالة، إذ أنه أمر بالغسل، ولا يأمر بالغسل إلا على نجاسة، فهذا فيه دلالة واضحة على أنها نجسة، أما حكم أن الرجل إذا جامع امرأته فعليه أن يتوضأ فهذا منسوخ.
القول الثاني: وهو قول للشافعية وابن حزم ، وهو ترجيح ابن عبد البر من المالكية، قالوا: رطوبة فرج المرأة طاهرة، واستدلوا بما يلي:
أولاً: الأصل، فإن الأصل عدم النجاسة ما لم يدل دليل على ذلك، قالوا: فإن قيل: الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اغسل ما أصابك)، قلنا: لا نوافق على هذا المقدمة، فإن قوله: (اغسل ما أصابك)، أي: اغسل استحباباً لا وجوباً.
الدليل الثاني: الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها (أنها كانت تفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من جماع، فيدل على أنه أصاب المرأة، وإذا أصاب المرأة فلا بد أن يصيب الثوب رطوبة فرج المرأة، وهذا الحديث ظاهر جداً في أن رطوبة فرج المرأة كانت تلاقي الثوب ومع ذلك كانت لا تغسله بل تفركه، وفيه دلالة على أنه ليس نجساً؛ إذ لو كان نجساً لأمرت بالغسل، لكنها كانت تفرك ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا فيه دلالة على عدم النجاسة.
والراجح من القولين: هو القول الثاني، وهو أن رطوبة فرج المرأة طاهرة وليست بنجسة، لا سيما وأن مقاصد الشريعة توافق القول بذلك؛ لأن المرأة إذا كانت تتابع معها هذه الرطوبة وقلنا بالنجاسة لشق عليها هذا الأمر شقة لا يعلمها إلا الله جل في علاه، حيث يجب عليها غسل الثوب، وغسل المحل، والوضوء دائماً وفي هذه مشقة، فالصحيح الراجح في ذلك: أنها طاهرة، وهذا الذي يتفق مع روح الشريعة.
إذاً: القول الأول: ينقض الوضوء؛ لأنه خرج من السبيلين فيعامل معاملة الريح.
القول الثاني: وهو قول ابن حزم قال: لا ينقض الوضوء، والدلالة على ذلك: أن الأصل عدم نقض الوضوء. ونحن نقول: قد جاء الدليل الناقل عن هذا الأصل، ألا وهو: القياس على الريح، وهذا القياس مضمون جداً، فإن الريح طاهر وخرج من السبيلين فينقض، وكذلك رطوبة الفرج فإنها تخرج من السبيلين وهي ناقض أيضاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر