وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ولم يخش في الله لومة لائم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جاء في الأخبار أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وفي ذلك الموقف تدنو الشمس من الناس قدر ميل، فيشتد الحر في أرض المحشر، ويأخذهم العرق حتى يلجم بعض الناس إلجاماً على قدر أعمالهم، وفي ذلك الحر الشديد والموقف الرهيب يستظل أقوامٌ في ظل عرش الرحمن، وما هي إلا سويعات ثم يصيرون إلى منازلهم في الجنة قبل منتصف النهار من أيام الدنيا، كما قال الله عز وجل عن هؤلاء: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان:24].
في ذلك الموقف يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وقد صح في الحديث عن رسول الله عليه السلام أن من بين هؤلاء الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة سبعة.. قال عليه السلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا وذرياتنا وجميع المسلمين من هؤلاء الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة.
وسنتكلم في هذه الرسالة الموجزة عن كل واحد من هؤلاء السبعة. نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
فالإمام العادل هو الذي يحكم بين الناس بحكم الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى لداود عليه الصلاة والسلام: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، هذا هو العدل! ولذلك أرسل الله المرسلين بالكتب السماوية من أجل أن يعدلوا بين البشر، بحيث لا يكون للمحسوبيات ولا للآباء ولا للأمجاد ولا للمراكز أي أثر في إقامة العدل بين عامة الناس، فالناس سواسية كأسنان المشط.
إذاً: الإمام العادل هو الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فإن حكم بأحكام الطواغيت، وآراء الرجال، وأعرض عن شرع الله؛ فهو الكافر المرتد الذي يقول الله عز وجل عنه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وهو الظالم لنفسه وللأمة الذي يقول الله عز وجل عنه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وهو الفاسق الخارج عن طاعة الله، وليست له طاعةٌ على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
والأمة التي تتحاكم إلى هذا الجائر الحاكم بغير ما أنزل الله أمةٌ ضالة منحرفة عن النهج القويم والصراط المستقيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، ولم يقل: برأيك؛ لأنه حتى النبي عليه السلام ليس له أن يحكم برأيه، فضلاً عن أن يأتي رجل كافر أو حتى مسلم ليضع قانوناً للبشرية غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن البشرية لا يجوز لها أن تخضع لنظام غير نظام الله أو لشرع غير شرعه.
الإمام العادل: هو الذي يقول الله عز وجل فيه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، أي: أعطيناهم سلطة، ونفوذاً، وتصرفاً، وأمراً ونهياً أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
هذا هو الإمام العادل.. يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الأمة.. ويؤتي الزكاة المفروضة، ويفرضها على الأمة.. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما لو وقف هذا الإمام ضد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس بعادل، ولم يؤدِ الأمانة والمسئولية التي أناطها الله عز وجل بعنقه، وسيسأل عن هذه الأمانة يوم القيامة: أحفظ أم ضيع؟
الإمام العادل: هو الذي لا يقدم نفسه على غيره، ولا يرى لنفسه حقاً على غيره، بل ويترفع عن حظوظ نفسه مقابل إقامة العدل في مجتمعه، ولا يتميز إلا بما ميزه الله عز وجل، أما هو فإنه يساوي بين حاشيته وبين نفسه وبين غيره.
وفي ظل هذه الدولة الإسلامية العادلة كان الراكب يسير من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً في دولة واحدة، وتحت رايةٍ واحدة، ليست هناك حدودٌ ولا حواجز تستوقفه لتقول له: من أنت؟ ولو قيل له: من أنت؟ لقال: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! في ظل العدل قامت هذه الدولة في مدةٍ وجيزة، لا تبلغ نصف قرنٍ من الزمان.
وفي ظل الجور الذي يعيشه العالم اليوم تمزقت الدولة الإسلامية، فأصبحت عشرات الدول.
فالعدل هو الذي يقيم الأمم.. كما أن الجور هو سبب دمار الشعوب والأمم، وشتان بين العادل والجائر؛ قال عليه السلام: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأما القاسطون -وهم الجائرون- فيقول الله عز وجل عنهم: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:15].
كان عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر يرص الصفوف للقاء العدو، وكان يمسح بيده الكريمة بطون القوم؛ ليتأكد من استقامة الصف، فيمر على أعرابي يدعى سواد بن غزية ، فيمسح على بطنه، فيقول: (يا رسول الله أوجعتني!)، أتظنون أنه قال: خذوه إلى السجن؟! لا.. بل كشف الرسول عليه السلام عن بطنه وقال: (خذ حقك مني)، فيأتي هذا الصحابي ويقبل بطن رسول الله عليه السلام، فيسأل عن السر في ذلك، فيقول: (والله إنها لساعة أرجو أن تكون آخر عمري من الدنيا، وأريد أن يكون آخر عهدي بالدنيا تقبيل رسول الله عليه السلام، أو تقبيلي لبطن رسول الله عليه السلام).
وذات يوم اختصم بلال وأبو ذر رضي الله عنهما في أمرٍ من الأمور، فقال أبو ذر لـبلال : (اذهب يا ابن السوداء!، فغضب
هكذا يقر الإسلام قواعد العدل في الأمة، وحينئذ فليس في منظور الإسلام شريف ولا وضيع: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وكذلك المرأة المخزومية التي كانت تأخذ المتاع وتجحده، وأراد النبي عليه السلام أن يقطع يدها، فأراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها عند رسول الله؛ لئلا تلحق العار ببني مخزوم، وهم من أشراف قريش، فقال الرسول عليه السلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن
ويقول أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: (القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)، هكذا يعلم ولاة أمر المسلمين كيف يتعاملون مع الله ومع الناس.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد أراد ذات يوم أن يقنن المهور لعل ذلك يكون حلاً للأزمة.. فقال ذات يومٍ وهو على المنبر: إن المهور باهظة فيجب أن تكون كذا وكذا.. فتقوم امرأة وتقول له: أخطأت يا عمر ! إن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [النساء:20]، فقال: أخطأ عمر وأصابت المرأة.
ويقول ذات يوم: إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني، فيقوم سلمان الفارسي ويهز سيفه وسط المسجد ويقول: يا عمر ! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول: الحمد لله الذي جعل في قوم عمر من يقومه بسيفه لو اعوج.
لم يقل: خذوه إلى السجن، أو إلى التحقيق؛ لأنه يريد أن يحكم هذه الأمة بالعدل، ولذلك فليس غريباً أن ينام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويتوسد رداءه -وهو خليفة المسلمين- ليقول له شاهد عيان: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر .
وفي ذات يوم أسلم رجل من نصارى العرب في بلاد الشام يدعى جبلة بن الأيهم ، وكان رجلاً مرموقاً في قومه، ففرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أسلم هذا الرجل القيادي العظيم، وأسلم معه خلقٌ كثير، وطلب جبلة بن الأيهم من عمر بن الخطاب أن يأذن له ليعتمر، مع أنه لم يكن الطريق إلى العمرة مقفلاً، لكنه يريد أن يكون له موكبٌ خاص، فأذن له عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب جبلة إلى مكة، وهو حديث عهدٍ بجاهلية، وبينما هو يطوف ويجر رداءه في المطاف، كان وراءه رجل من فقراء المسلمين من فزارة، فوطئ على رداء جبلة بن الأيهم دون أن يشعر، فسقط الرداء، فالتفت جبلة فلطم الفزاري حتى انهدم حاجبه، فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! هذا ما فعل بي جبلة بن الأيهم . وكان في موكبٍ عظيم يطوفون حول الكعبة، فقال عمر : ائتوني بـجبلة..
إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون على حساب الميل والجور، وإنما: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فجيء بـجبلة ذليلاً أمام عمر ، فقال له: يا جبلة ! أأنت الذي هدمت حاجبه؟ قال: نعم. إنه وطئ ردائي. فقال الفزاري : والله ما علمت به يا أمير المؤمنين! فقال عمر : كتاب الله القصاص يا جبلة ! يكسر حاجبك، فقال: كيف يا أمير المؤمنين؟! هو سوقة وأنا رجل من عظماء العرب، قال: ليس في ديننا سوقةٌ وعظيم، الكل في حكم الله سواء، فقال: إذاً أتنصر يا أمير المؤمنين! قال: لو تنصرت لقتلتك حد الردة. قال: أعطني مهلة ثلاثة أيام، فأعطاه مهلة ثلاثة أيام، فهرب الرجل في ليلةٍ مظلمة ومن معه إلى ملك الروم وارتدوا عن الإسلام.
فلم يندم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ارتدوا عن الإسلام مقابل أن يقر قواعد العدل والإنصاف في الأمة الإسلامية.
وحينما اختلف ابن لـعمرو بن العاص مع رجل من أقباط مصر، حينما سابقه فسبقه القبطي فضربه ابن عمرو بن العاص ، فأرسل عمر إلى عمرو يقول له: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!)، وأمر أن يُوقف ابن الأمير ليضربه الرجل القبطي وإن كان على غير ملة الإسلام.
فلما ولى اليهودي رجع مؤمناً؛ لأن هذه الأخلاق تدعو إلى الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فسقط منك فأخذته.
انظر يا أخي ماذا فعل العدل!! رد الدرع والحق إلى صاحبه، ودخل رجل يهوديٌ في الإسلام وحسن إسلامه، وانتهت القضية بالعدل، الذي لا يُحكم الناس إلا به.
إن ديننا الإسلامي دين عدل حتى مع غير المسلمين، فلابد أن ينصفَ الكافرُ من المسلم إذا كان المسلم ظالماً، فهذا طعمة بن أبيرق كان رجلاً يدعي الإسلام، وفي ذات يوم سرق سرقة وأراد أن يلصقها برجل يهودي، وارتفع الأمر إلى الرسول عليه السلام، وجاء ناس من قوم طعمة يشهدون أن السارق هو اليهودي، حتى كاد النبي عليه السلام أن يعاقب اليهودي، لولا أن الله تعالى أنزل قرآناً يبرئه، ويأمر الرسول بالعدل والتحري، ويحذر المسلمين من أن يشهدوا ولو مع رجل مسلم ضد رجل كافر.
قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:105-107]، ولو كان مسلماً وذاك يهودي.. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:107-109]، ثم أخبر الله عز وجل أن الإنسان إذا عمل سوءاً فعليه أن يستغفر الله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النساء:110-112]، ولو كان يهودياً، ثم يقول الله تعالى لرسوله الله عليه السلام: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [النساء:113].
إذاً: هذا هو العدل الذي قامت عليه دولة الإسلام، ولو فتشنا عن أسباب سقوط الأمم؛ لوجدنا أن السبب الرئيس هو عدم العدل بين الرعية، فإن الأمم لا تقوم إلا على العدل ولا تستقر إلا بالعدل، ولذلك فإن العدل هو أفضل طريق إلى الجنة، ولرضا الله عز وجل، ولاستقرار الأمور وهدوئها.
والعدل هو الذي يفرض على الإمام الذي يحكم بشرع الله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فلابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الأمة التي لا ترسخ فيها قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يفسح فيها الطريق للدعوة إلى الله عز وجل؛ أمةٌ في خطر؛ لأنها تكون قد فقدت أكبر وأعظم مقوم من مقومات البقاء والوجود في هذه الأرض، ويخشى عليها من عقاب الله عز وجل.
إنه قد تأتي فترةٌ من الفترات، في زمن من الأزمنة، في مكان من الأمكنة ينشط دعاة الباطل، ويتكلمون ملء أفواههم، ويسكت دعاة الحق عن الدعوة إليه، وحينئذٍ يضطر دعاة الحق إلى أن يطالبوا بالعدل؛ فضلاً عن أن يطالبوا بأن تكون الكلمة للمصلحين لا للفسقة والمجرمين، هذا هو الذي يحدث في كثيرٍ من الأحيان في أيامنا الحاضرة في جل العالم الإسلامي.
ولذلك فليس من العدل أن يتحرك دعاة الباطل ويسكت دعاة الحق؛ لأنه إذا تحرك دعاة الباطل وسكت دعاة الحق فإن المصيبة لن تكون في الجور وعدم العدل فقط، ولكنها مصيبة الفساد العريض الذي سيصيب الأمة، ولذلك نقول لمن ولي أمراً من أمور المسلمين: اتق الله! واترك المجال للدعوة إلى الله عز وجل، فإن دعاة الباطل وإن ابتسموا في وجوه الناس، أو في وجوه ولاة الأمر، فهم الذين يحملون الحقد الدفين على هذه الأمة، وعلى أي حكومةٍ شرعية تقوم على منهج الكتاب والسنة، أما دعاة الحق فهم الذين يشعرون دائماً بالعهد والميثاق الذي أبرموه بينهم وبين الله عز وجل من جانب، وبينهم وبين السلطة الشرعية من جانب آخر، وهم الذين يحرصون كل الحرص أن تكون على ما يرضي الله عز وجل، وأن تكون الأمور على ما يرضي الحاكم بشرع الله عز وجل.
إن مفهوم الإمام العادل ليس مقصوراً على من تولى الإمامة الكبرى فحسب، وإن كان هذا أول ما يتبادر إلى الذهن، لكن كل من ولي أمر المسلمين فإنه سيسأل بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن هذه المسئولية، وعن هذه الأمانة التي تحملها، وهي الأمانة التي يقول الله عز وجل عنها: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
إن الإمام العادل الذي يحكم الناس بشرع الله، ويطبق فيهم أوامر الله عز وجل، ويفسح الطريق للدعوة إلى الله من أجل أن تسير الأمور إلى الأفضل، هو أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة.
أما الإمام الجائر الذي يسير بالأمة في طرق منحرفة معوجة، ويرى أن الحق له دائماً وليس هناك حق عليه.. الذي يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ولا يفكر أنه سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ذلك الحساب الذي ينشر له فيه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال له في ذلك الموقف: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14]؛ فإنه على خطر عظيم، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل قبل فوات الأوان.
وإنما تسلطت هذه البطانة على هذا الحاكم؛ لأنه أعرض عن دين الله وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وليس الشياطين شياطين الجن فقط، بل إن شياطين الإنس أكثر وأشد، وقد يفسدون في حياة البشر أكثر مما يفسده شياطين الجن.
إن شيطان الجن يهرب منك إن استعذت بالله منه، لكن هذا الشيطان -شيطان الإنس- يدنو منك ويقترب مع أنك تستعيذ بالله منه.. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، لا يفارقه أبداً حتى في حال نومه، فهو دائماً معه يقول له: افعل كذا.. لا تفعل كذا.. حتى يفسد عليه دينه، وفي يوم القيامة يوم القدوم على الله عز وجل، يندم ذلك الذي انجرَّ وراء هذا الشيطان من شياطين البشر، ولكن ولات ساعة مندم.. وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:36-38].
لكن هذا لا ينفعه في ذلك اليوم، قال الله تعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، فهو وشيطانه الذي كان سبباً في ضلاله في عذاب أليم.
إنه من فضل الله على هذا الإمام العادل أنه يكون في مقدمة السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة، فحري بمن ولي أمراً من أمور المسلمين أن يكون عادلاً؛ حتى ينال هذه المكرمة العظيمة، وإنه لمن الخسارة بمكان أن يفرط في هذا الأمر العظيم، فيخسر خسارة لا ينفع معها مال ولا بنون ولا سلطان ولاجاه.
إننا حينما ننظر إلى شباب الصحوة اليوم نتذكر هذا العنصر من عناصر هذا الحديث الصحيح.
لقد مرت الأمة بظروف حرجة حتى كان يقول القائل: سينتهي الإسلام حينما يموت فلان وفلان من الناس، فإذا بها تخيب كل توقعاتهم، وتفسد كل حساباتهم، ويخر عليهم السقف من فوقهم، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، في فترة كانوا يظنون أن الإسلام وأن الخير سوف يودع هذه الأمة بعد فترة وجيزة، فإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
إن كثيراً من شباب الصحوة الإسلامية لم ينشأ حتى في بيت محافظ، ففي بيوتهم كثيرٌ من المحرمات، ولربما يكون سلوك الأب غير سلوك الابن.. لقد كان منذُ مدةٍ ليست بالقريبة يشتكي الآباء من الأبناء، وفي أيامنا الحاضرة نجد أن الأبناء هم الذين يشتكون من الآباء؛ إن هؤلاء الشباب الذين ولدوا على الفطرة هم الآن يعودون إلى الفطرة والحمد لله.
إن هذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله لم يتربَّ في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام الغانيات والراقصات، ولا أمام المسرحيات والمسلسلات.. هذه الوسائل المفسدة التي قد غزت جميع بيوت المسلمين؛ فلم تدع بيت شعر ولا مدر -إلا ما شاء الله- إلا ودخلته.
هؤلاء الشباب الذين تربوا على طاعة الله عز وجل، قد أغمضوا أعينهم عن كل هذه الوسائل، وإن كانت تغزوهم في عقر دارهم، وتتابعهم آناء الليل وآناء النهار، ولكن بالرغم من هذا يأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يظهر هذا النور على الدين كله، وأن يظهر هذا الخير في فترةٍ كانت الحسابات تقول غير ذلك.
فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه، يقود جيشاً إلى بلاد الشام وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان في مقدمة هذا الجيش أكابر المهاجرين والأنصار.
لقد كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه شاباً في مستهل حياته، اشتكته زوجته إلى رسول الله عليه السلام وقالت: (يا رسول الله! إن
إلى هؤلاء الشباب الذين يسابقون الفتيات اليوم على الموضات، والذين نستطيع أن نقول: إنهم أنصاف أو أرباع أو أشباه رجال، وأنهم أقرب إلى النساء في كثيرٍ من الأحيان منهم إلى الرجال! نقول لهم: إن محمد بن القاسم قاد جيشاً ليفتح لنا شبه القارة الهندية وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة!
لقد كان الشباب في عهد النبي عليه السلام، يقف أحدهم على رءوس أقدامه؛ ليراهم النبي عليه السلام كبار الأجسام حتى لا يعفيهم من القتال في سبيل الله!!
كم هو الفرق بين أولئك الشباب وبين شبابنا اليوم؟! إن الفرق كبير والبون شاسع، ولكن لنا أمل في شباب الصحوة الإسلامية المباركة، أن يعز الله بهم الإسلام والمسلمين.
وفي غزوة بدر يأتي الشابان الصغيران، اللذان لم يبلغا الحلم بعد، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء ، فيطلبان أبا جهل ، ويبحثان عنه أشد البحث.. يا ترى لماذا هذا كله؟! من أجل أن يقتلا فرعون هذه الأمة؛ لأنه كان يسب رسول الله عليه السلام.. فوجداه بعد بحث طويل، وعناء كبير، فتسابقا على قتله، حتى قتلاه وأراحا هذه الأمة منه.
أين شبابنا الذين أصبح هم أحدهم كيف يشبع شهوة بطنه وفرجه من أولئك الشباب؟!
إن الشاب الذي ينشأ في عبادة الله عز وجل -إضافةً إلى كونه عضواً فاعلاً ونافعاً في مجتمعه- هو في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.
ثالث هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).
إن هذا الرجل قد أحب المسجد وألفه حتى اختلط حب المسجد بدمه ولحمه وعظمه، فصار المسجد أحب إليه حتى من بيته، وصار إخوانه الذين يرتادون المساجد أحب إليه من أصدقائه، وأقرب إليه من أهله وذويه.
إن القلوب إذا تعلقت بالمساجد ازدادت إيماناً وهدىً وتقوى، وهناك في المساجد يتربى الرجال، لا في المسارح وأمام الأفلام والملهيات..
فالمساجد مصانع الرجال، ومن المساجد تنطلق وتنهض الأجيال، وإن المؤمنين لا تتعلق قلوبهم إلا بالمساجد، ولذلك يقول الله تعالى عن المساجد: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37]، ليسوا ذكوراً فحسب، ولكنهم رجال؛ لأن كلمة (رجل) تحمل معنيين: الأول: ذكر، والثاني: رجل مكتمل الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة (رجال) في القرآن ولا في السنة إلا وتعني رجالاً عظاماً، قال الله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ [النور:37]، وقال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً [الأنبياء:7]، وهكذا كلما تتبعنا كلمة (رجال) وجدناها تحمل هذا المعنى، أي: أنهم اكتملت الرجولة عندهم.
ولذلك فإن أصحاب المساجد هم الرجال حقيقة، قال تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37]، وقد جاءت هذه الآية بعد آية تتحدث عن نور الإيمان الذي يكون في القلب، قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، أي: مثل الإيمان الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، وليس المعنى: أن النور اسم من أسماء الله؛ لأنه لو كان اسماً من أسماء الله لما جاز تشبيهه بغيره، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، ثم يقول الله بعد ذلك: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37].
قال المفسرون: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بقوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ)، وكأن سائلاً سأل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كالمشكاة، وهي الكوة غير النافذة، وفي هذه الكوة سراج، وهذا السراج عليه زجاجة، والكوة تعكس الضوء إلى الأمام، والزجاجة تزيد هذا الضوء، وهذا السراج يوقد من شجرة الزيتون التي تصيبها الشمس في وقت الشروق ووقت الغروب؟ هذا ضوء عجيب! فيقول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36].
فإذا أردت -يا أخي- أن تبحث عن هذه القلوب النيرة المضيئة فلن تجدها في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام اللهو والموسيقى، والمسرحيات والمسلسلات التي ابتلي بها كثير من المسلمين اليوم، وانتشرت في بيوت المسلمين انتشار النار في الهشيم، وحلت محل ذكر الله وتلاوة كتابه المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن هذه القلوب لم تترب في تلك الأماكن، وإنما تربت في المساجد: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، أي: أن هذا الإيمان ولد وتربى ونشأ في هذه البيوت، ومن هنا يذكر الرسول عليه السلام من هؤلاء السبعة: (ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد).
كم هو الفرق بين هؤلاء الرجال، وبين رجال قلوبهم معلقة بزينة الحياة الدنيا ومتاعها؟! حتى إن أحدهم إذا دخل إلى المسجد تجده يصلي وهو يخطط كيف يكسب في هذه التجارة، وكيف يتعامل، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يبني ويهدم؟!
وأشد من ذلك قوم قلوبهم معلقةٌ بالمحرمات، ينتظرون العطل والإجازات؛ ليفروا من المجتمع المحافظ كما يفر الطير من القفص، إلى بلاد الكفر والفسوق والعصيان؛ ليشبع رغباته وشهواته، وليفسد على نفسه وعلى أمته دينها وأخلاقها.
لقد كان الرسول عليه السلام لا يقدم على الصلاة شغلاً، بل حتى في ساعة المعركة أمره الله عز وجل أن يقيم الصلاة جماعة، والرءوس تتطاير، والدماء تراق، والأنفس تزهق، قال الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].
هذا هو منهج المسلم، عليه أن يجعل الصلاة أهم أعماله، لا أن يضعها على هامش الحياة كما هو حال كثير من الناس، بل حتى في المعركة، وقد حمي الوطيس، لابد أن تقام الصلاة جماعة، ولو أدى ذلك إلى تغيير شيء من حركات الصلاة وهيئاتها، فيسجد صف ويبقى صف يحرس المسلمين في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يسجد الصف الثاني ويبقى الصف الأول يحرس المسلمين وهو يصلي.
كم هو الفرق بين هذا الأمر وبين الواقع الذي يعيشه كثير من الناس؟! إذا طال عليهم الليل تخلفوا عن صلاة الفجر؛ لأن البرد شديد، وإذا قصر الليل تركوا صلاة الفجر؛ لأن الليل قصير، وما هذا إلا لأن الإيمان ضعيف في نفوس كثير من هؤلاء الناس، حتى أصبح إيمانهم لا يرشدهم إلى المسجد، فضلاً عن أن يدفعهم إلى الجهاد، وإلى إراقة الدماء في سبيل الله.
إن الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ولا يؤذيهم العرق، ولا يزعجهم الحساب: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].
إن هذين الرجلين ليست بينهما صلة نسب ولا قرابة، ولا مال، ولا شركة، ولا مصالح، وإنما هي محبة في الله سبحانه وتعالى من أجل دين الله، من أجل هذا الحق الذي جاء به محمد عليه السلام من عند الله تعالى، كانت هذه المحبة والعلاقة بين رجلين أو بين امرأتين؛ لأن ذكر الرجل هنا ليس خاصاً بالرجال، بل إن النساء يدخلن في مثل هذا الحكم.
إن المحبة في الله هي أوثق عرى الإيمان، والمتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة.
وإن شرط المحبة أن تكون خالصة لله، قال عليه السلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، إن هذه الصفات إذا وجدت عند العبد المؤمن فإنه سيجد حلاوة الإيمان، والتي منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
إن هناك علاقات كثيرة قائمة على معصية الله، وقائمة على أمور الدنيا، وعلى الفساد في الأرض، وعلى المباحات في كثير من الأحيان، لكنها لا تدوم أبداً.
ولذلك أخبر الله تبارك وتعالى بأن كل العلاقات التي هي قائمة بين البشر في الحياة الدنيا على غير طاعة الله وتقواه -أنها منتهية؛ بل تتحول يوم القيامة إلى عداوة محضة، قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقد تتحول العلاقات التي تبنى على غير طاعة الله إلى خصومة ونزاع في الحياة الدنيا، وهذا يحدث كثيراً؛ لأنها لم تقم على أساس صحيح، وإن لم تفسد هذه العلاقات في الحياة الدنيا فسوف تفسد في الحياة الآخرة، بل إن المتحابين على غير طاعة الله يلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67-68]، وقال تعالى عن الكفار إذا ألقوا في النار: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت:29]، هكذا هم في الآخرة، لكنه في الدنيا كان يفديه بالروح وبالدم، وربما أظهر له الولاء الكامل وهو كاذب.
احذر مصاحبة الأشقياء، فإن مصاحبتك لهم كالجلوس عند نافخ الكير، فلابد أن ينالك منه شيء من الأذى.. إما أن يحرق ثيابك، أو -على الأقل- تجد منه رائحةً خبيثة، وعليك بمرافقة الصالحين، وابحث لأولادك عن صحبة صالحة، فإن الجليس الصالح كبائع المسك، إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تجد منه -على الأقل- رائحة طيبة.
وأكثر من ضل عن الطريق إنما كان بسبب قرناء السوء، وجلساء الباطل، والبطانة الفاسدة التي تزين لهم السوء، وتبعدهم عن طاعة الله عز وجل، وقد يوقعون بين المؤمنين، ويؤججون بينهم العداوة.
يروى أن أحد خلفاء بني أمية كان جالساً في مجلسه وفي كبريائه، فمر عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وكان رجلاً صالحاً، وقد كان عند الخليفة جليس صالح وجليس فاسق، فقال الجليس الفاسق للخليفة: يا أمير المؤمنين! هل تعرف هذا؟ قال: لا. قال هذا الذي يقول:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فقال: ائتوني به، وأراد أن يفتك به. فقال له الجليس الصالح: يا أمير المؤمنين! وهو الذي يقول أيضاً:
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
فقال: أطلقوه!
إذاً: هذا هو الفرق بين الجليسين، ولذلك فإن على المرء المسلم أن لا يتخذ جليساً سيئاً، ولا يخالطه، بل ولا يجعله له سكرتيراً، ولا مدير مكتب، ولا بطانة؛ لأنه سوف يسخر أمامه بالمؤمنين، ويضحك منهم، ويتتبع هفواتهم، بل عليه أن يبحث عن الرجال الصالحين، الذين يدلونه على الخير، فإذا فعل خيراً شجعوه، وإذا نسي خيراً ذكروه، وإذا غفل نبهوه.. هكذا تكون البطانة الصالحة، وهكذا يكون الجلساء الصالحون.
إن المتحابين بجلال الله تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، وهم بعد ذلك على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء، وهم الذين يعيشون حياةً سعيدة في هذه الحياة الدنيا.. حياة مشتملة على طاعة الله ومرضاته، خالية من معصية الله وما يغضبه.
أما الذين يوالون الفسقة، وربما يوالون الكفرة، فإنهم على أمر خطير: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
إذاً: الولاء لغير الله، ولغير أولياء الله، ولغير الصالحين؛ معصية عظيمة، وجريمة منكرة، سوف يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.
لقد مدح الله سبحانه وتعالى صدقة السر فقال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل من صدقة السر؛ وذلك إذا كان هناك حاجة إلى إعلان الصدقة، كالرجل الذي جاء بصرة وقدمها إلى النبي عليه السلام، فجعل الناس يقتدون بهذا الرجل ويقدمون صدقاتهم.
لكن الأصل أن الصدقة تكون سراً؛ لأن الصدقة إنما سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه إذا أخرجها سراً فإن هذا دليل على أنه لا يريد ثناءً من الناس؛ فإن هذا الثناء قد يجر إلى الرياء والسمعة.
وقال عليه السلام مادحاً صدقة السر: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)، وهذا الرجل قد تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وذلك كناية عن شدة إخفائه عند إخراج الصدقة.
إذاً: أفضل أنواع الصدقة هي صدقة السر.
لذلك على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك صدقة السر، ولو بشيء يسير، فقد كان بعض السلف يتصدق كل يوم، فإذا لم يجد أحياناً تصدق ببصلة يقدمها إلى فقير.
إن أصحاب صدقة السر هم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
من يستطيع أن يفعل مثل هذا الموقف؟! شاب شهوته متأججة مشتعلة، والفتن والمغريات كثيرة.. أفلام، ومسلسلات، ونساء، واختلاط، وعشق وغرام، وموسيقى وأغان تملأ الأسواق والبيوت.. أمور كثيرة تؤجج الشهوة وتشعلها، وقد تكون المهور غالية فلا يستطيع أن يتزوج، ثم تعرض له شهوة من شهوات الحياة الدنيا، وليس هناك أحد يطلع عليه إلا الله عز وجل..
قد أسدل الأستار، وأخفى أمره في ظلام الليل، ثم تدعوه امرأة ذات منصب -أي: مكانة عالية- وجمال، وتقول له: تعال للفاحشة! فهل سيترك هذا الشاب تلك الفاحشة بعد تلك المغريات، وبعد تلك الأمور التي شحذت شهوته وأشعلتها في قلبه؟!
نعم.. إنه يستطيع أن يتركها إن كان من الأتقياء الصالحين؛ لأنه يعرف أن هذه الشهوة سوف تحرمه شهوةً خالدة ونعيماً لا يزول، فيقول كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
هكذا يجب أن تكون الخشية لله عز وجل، وإن هذه الخشية التي تنتهي بدمعة حارة تنزل على الخد، وقد غاب هذا الإنسان عن أعين الناس، لا يمكن أن تلين لأجل مخلوق من المخلوقين.
إن هذه الخشية هي التي نريد أن نتحلى بها جميعاً؛ بل إننا أشد حاجة إليها من حاجتنا إلى الطعام والشراب والهواء في أيامنا الحاضرة؛ لأن الفتن قد كثرت وانتشرت، واعترضت طريق المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وأصبح كثير من الناس يخوَّف بغير الله عز وجل: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36]، لقد خاف كثير من الناس من غير الله عز وجل في هذا السبيل، فحصل خلل لا في جانب العمل والسلوك فحسب، بل في جانب العقيدة والتوحيد.
إن الخشية من دون الله عز وجل ليست معصية فحسب، ولكنها نوع من الشرك.. لماذا تكون الخشية لغير الله عز وجل؟ أليست قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! أليس الرزق والحياة والموت والنشور كله بيد الله عز وجل؟!
أليس البشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟
أليست الأرزاق مقسومة ومقدرة من لدن حكيم خبير؟
أليست الأعمار مقدرة في كتابٍ مؤجل لا يستأخر عنه الإنسان ساعة ولا يستقدم؟
إذاً: فلم الخشية من غير الله عز وجل؟
لقد ذكر الله تعالى في مكان لا يطلع عليه أحد، ولا يراه إلا الله عز وجل، فعظم الله تعالى في قلبه، وتصور كبرياءه وجبروته، وأنه مالك الملك لا إله إلا هو.. خالق السماء ورافعها، وباسط الأرض وداحيها، الذي بيده مقادير الأمور، يعلم كل صغيرة وكبيرة.. تذكر هذا كله فدمعت عيناه خشية من الله، وخوفاً منه سبحانه، وتعظيماً له، وإقراراً بجبروته وملكوته.
لقد قلَّب فكره في ماضي أيامه، فمرت أمام عينيه صفحة سوداء من ذنوبه وآثامه، ومعاصيه وجرائمه؛ تذكر هذا كله وتذكر أن له رباً يغفر السيئات، ويتجاوز عن المعاصي والمهلكات، ويدعو عبده ليستغفر من الذنوب والزلات.. فنزلت على خده دمعة حارة صادقة من قلب خاشع قانت، معترف بذنوبه وآثامه، نادم على تفريطه وإجرامه.. دمعة يرجو بها من الله أن يغفر له ما مضى، وأن يتجاز له عما سلف.
إن هذا الرجل قد بكى من خشية الله وهو في خلوة لا يراه فيها أحد، وقلبه خالٍ من التعلق بالدنيا، وهذا يدل على صدق إخلاصه لله رب العالمين، وتجرده عن الرياء والسمعة، أو مدح الناس وثنائهم، بل إنه يرجو الثواب من الله وكفى، فلما كانت هذه حاله لم يعد يهمه نظر الناس إليه ما دام أن رب الناس ينظر إليه.
إن هذا الرجل لما كان كذلك استحق أن يكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
وقد ورد في البكاء من خشية الله أحاديث عن النبي عليه السلام، منها حديث أبي ريحانه رفعه: (صرفت النار عن عين بكت من خشية الله).
وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله). رواه الترمذي والحاكم وصححه.
لقد دمعت عين هذا الرجل خشية لله عز وجل، وخوفاً منه سبحانه، وإن هذا السلوك لمن صفات عباد الله المتقين وأوليائه الصالحين، الذين يراقبونه في جميع تحركاتهم وتصرفاتهم، ويعلمون أنه سبحانه مطلع عليهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يغيب عنه شيء وإن كان مثقال ذرة أتى بها وحاسب عليها.
إنه لما استقر هذا الأمر في قلب هذا العبد المؤمن، وعرف أن الله تعالى مطلع عليه.. دمعت عيناه خشية من ربه ومولاه.
إن الخشية يجب أن تكون لله عز وجل وحده، ومن هنا سوف تنزل هذه الدمعة الصادقة، التي لو كانت كرأس الذباب -كما أخبر الرسول عليه السلام- فإنها سوف يكون لها وزنٌ في ميزان العبد يوم القيامة أكثر من كل أعماله التي يقدم بها على ربه سبحانه وتعالى.
وفي الأخير نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر