الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين، آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجّلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فإن الأيام لابد لها من أن تقضى وإن الليالي لابد لها من أن تنتهي، وإن الأعمار لابد لها من أن تطوى، والله جل وعلا أراد بنا أشياء وأمرنا بأشياء، وليس من الحكمة أن ننشغل بما أراده بنا عما أمرنا به، والله تبارك وتعالى إذا كان قد أخبر بأن الدنيا فانية، وأن الأعمار ذاهبة، فإن أيام العبد ولياليه ما شغلت بشيء أعظم من تدبره لكلام ربه جل جلاله، وتأمله في آيات القرآن العظيم إما بأن يتلوه، وإما بأن يتدبره، وإما بأن يمن الله عليه بالجمع بين الأمرين، قال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31].
فإذا أراد الله بعبد خيراً ألزمه كتابه المبين يتلوه ويتدبره يقرأه في النهار، ويقوم به يدي ربه في الليل، قال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
فنقول والله المستعان: إن وجود المنن يدل على وجود المنان جل جلاله، كما أن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وعظمة المصنوع تدل على عظمة الصانع، فإن وجود المنن على العباد دلالة على أن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه، والله تبارك وتعالى له على عباده المنة السابغة، والحكمة البالغة، وهو -تبارك وتعالى- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا شريك معه ولا رب غيره ولا وزير له، تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد، لا يتعاظم شيئاً أعطاه، يده سحاء الليل والنهار، وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].
فهو -تبارك وتعالى- رب ذو فضل كريم العطاء واسع السخاء، ولا يمكن أن تكون هناك منن حتى يكون هناك رب عظيم جليل كريم رحمن رحيم يهب ويعطي، يخلق ما يشاء ويختار، والعلم بأن الله جل وعلا هو وحده المنان القادر على أن يهب من أعظم ما يجعل العبد عرضة لرحمة الله ونفحاته وعطاياه ومننه تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:89-92].
فالإظهار يكاد يعرفه كل أحد، وما أضمره الله جل وعلا من منن على بعض عباده هو الذي يتنبه له العلماء ويسابق فيه الأخيار الذين من الله عليهم بقدرته بأن يتدبروا كلام ربهم تبارك وتعالى.
فمن دلائل إعجاز القرآن: أن الله ذكر في كتابه المشرق والمغرب، ذكرهما مفردين، وذكرهما على هيئة التثنية، وذكرهما على صيغة الجمع، وكل ذكر لهما كان يحاذي السياق العام الذي جاء فيه، فلما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة -وهو حق مطلق له تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد- قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فأفرد الله ذكر المشرق، وأفرد ذكر المغرب، ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه، والتبتل إليه، وذكر وحدانيته، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:8-9].
فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الإفراد؛ لأن السياق والمنحى العام للآيات يتطلب هذا، ولا ملزم على الله فلما خاطب الله الثقلين الجن والأنس، فقال جل ذكره: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:14-16]، وكان الخطاب للاثنين ثنى جل وعلا المشرق والمغرب، ولم يذكرهما مفردين، فقال جل ذكره: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:17-18].
ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا صلى الله عليه وسلم، واختلافهم فيه -أي: القرشيين- فهذا يصدقه، وهذا يكذبه، والمكذبون له منهم من يقول: إنه مجنون، ومنهم من يقول: إنه ساحر، ومنهم من يقول: إنه كاهن، ومنهم من هو متوقف فيه، لما ذكر تعالى ذلك قال جل ثناؤه وتبارك اسمه: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ *عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:37-40]، فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني السياق العام والمنحى الذي جاء في الآيات، أي: لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن وفي فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني مفرقاً: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40]، وما يقال عن هذا السياق يقال كذلك عن التقديم والتأخير في كلام رب العزة جل جلاله.
فقد ذكر الله جل وعلا أولي العزم من الرسل في سورتين من كتابه هما الأحزاب والشورى، فقال في الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، فلما ذكر الله جل وعلا فضيلة الرسل بدأ بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليه، فقدمه، ثم ذكر الأنبياء بحسب ظهورهم التاريخي فقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، فعلى هذا الترتيب كان ظهورهم التاريخي.
فلما أراد الله ذكر الدين بيان أن الدين قديم قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الله بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما بدأ بنوح؛ لأنه أول من بعث بالرسالة، وأول رسل الله إلى أهل الأرض، فقال جل ثناؤه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فذكر الله جل وعلا أول الرسل، ولم يذكر أشرفهم وسيدهم؛ لأن الكلام عن الدين، وليس الكلام عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الوصية والدين، والفقهاء متفقون على أن الدين مقدم في إنجازه على الوصية، ومع ذلك قال الله تبارك اسمه وجل ثناؤه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، فقدم الوصية على الدين؛ لأن الدين يوجد من يطالب به، وأما الوصية فالغالب أنه لا يعلمها الفقراء، فلا يطالبون بها، فقدم الله جل وعلا ما حقه الاهتمام على ما يمكن تأجيله وإرجاؤه.
وهذا كله مندرج في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي كما هو معجز في معناه، ولا ريب في أنه كتاب من عند رب العالمين، فلا غرو ولا عجب أن يكون بهذا الأمر.
والله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أراد أن يكون له عند الله جل وعلا المقام الرفيع، فلتكن لله جل وعلا العظمة في قلبه، والمحبة، والإجلال، والخوف، والعبادة، والتقوى، وكل ما أمر الله تبارك وتعالى به، وهذا من أعظم ما تستدر به نعم الله وتستدفع به النقم، أعطانا الله ووهبنا وإياكم من نعمه، ودفع الله عنا وإياكم من النقم أكثر مما نخاف ونحذر.
والتبتل والانقطاع إلى الله جل ذكره من أعظم أسباب التوفيق، بل إنه من أجل مقامات الصديقين وأعظم منازل السائرين في دروب (إياك نعبد وإياك نستعين)، فإن الله تبارك وتعالى جعل من الانقطاع إليه سنة ماضية في الأخيار من خلقه، والأفذاذ من عباده، والأتقياء من الصالحين، قال الله لخير الخلق: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:8-9].
وهذا الانقطاع إلى الله جل وعلا -كما بينا- منزلة عظيمة ذكرها الله جل وعلا في سورة الزمر في مواطن متفرقة، فذكرها تارة بالتصريح، وذكرها تارة بالتضمين، فقال جل وعلا بالتصريح: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وقال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11]، وقال جل ذكره: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38]، فهذه الآيات وما أشبهها ومثيلاتها في هذه الصورة دعوة للمؤمن إلى أن ينقطع إلى ربه، والانقطاع إلى الله معناه: أن الإنسان لا تقر عينه بشيء أعظم مما تقر عينه بالله، وما يكون مقرباً من الله من شيء تكون قرة عينه به، فهذه إحدى معاني الانقطاع إلى الرب جل وعلا، وهذا ينجم عنه صدق التوكل على الله جل وعلا، وسيأتي بيانه تفصيلاً في قوله جل وعلا: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33].
ولذلك فالناس فريقان: فريق إذا ذكرت الله وحده عنده، وكان حديثك معه فيما يتعلق بقدرة الله وجلاله وفضله وكمال عزته كان فرحاً مسروراً مستبشراً.
وفريق آخر -عياذاً بالله، وأجارنا الله وإياكم من ذلك- يحب أن يذكر مع الله غيره، فلا يفرح إذا ذكرت لله وحده، وإنما يستأنس إذا ذكرت أن للأولياء والصالحين من الأنبياء أو من الملائكة أو من الأتقياء منزلة ومكانة، فينقل أقاصيص مكذوبة عنهم، فتستبشر نفسه، وتفرح إذا ذكر مع الله جل وعلا أحد غيره، قال الله جل وعلا: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
قال السيد الألوسي رحمه الله -وهو أحد علماء السنة في العراق-: وقد وجدنا هذا في بعض أهل زماننا، إذا تكلمنا عن الله وكمال قدرته جل وعلا وحده ضاقوا بنا ذرعاً، وإذا ذكرنا ما للموتى من الصالحين في قبورهم من قدرات وما أعطاهم الله جل وعلا من عطايا يحسبونها موجودة وهي ليس فيها إلا الوهم ظنوا بنا الظنون، وأنكروا علينا الأمر، وهذا كله - والعياذ بالله - من عدم كمال الانقطاع إلى الله جل وعلا، ومن انقطع قلبه إلى الله جل وعلا وحده علم أن أي أحد من الخلق لا يمكن أن يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن ملكه لغيره.
ويروى عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه أهمه أمر ذات يوم، فرأى في منامه من يقول له يا أبا عبد الله ! قل في دعائك: اللهم أني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية. ففرج الله عن هذا العبد الصالح همه بعد أن ذكر هذا الدعاء.
وموطن الشاهد منه أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله، فما دام أن الأمر إلى الله فإن أعظم مقامات التوحيد أن يفر المؤمن إلى الله جل وعلا وينقطع إليه وحده دون سواه كما قال العبد الصالح: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وأما قوله جل شأنه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22] فقد قال العلماء في بيانه جملةً: إذا كان القلب معرضاً عن الله ملتفتاً إلى غيره فهو قلب قاس، وإذا كان القلب مقبلاً على الله معرضاً عن غير الله فهو القلب اللين، وما ابتلى العبد بشيء أعظم من أن يتعلق بالأشباح والصور من دون الرب تبارك وتعالى، ويعرض عن الله، فيجد أنسه وفرحته في مجالس لا يذكر الله جل وعلا فيها طرفة عين، ويجد فرحته وأنسه في مواطن يُعصى الله جل وعلا فيها جهاراً، ويجد أنسه ورغبته وحياته في سفر بعيد عن مواطن يرفع فيها الآذان، وتقام فيها الصلوات.
أما الذين ألان الله جل وعلا قلوبهم فإنهم -وإن قرت أعينهم ببعض المجالس المباحة- لا تقر أعينهم وقلوبهم بشيء أعظم من مواطن يذكر الله جل وعلا فيها.
جمهور أهل التفسير على أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، قالوا: أضاف الله جل وعلا العباد إلى ذاته العلية، وأخبر بأنهم مسرفون في الذنوب، ثم أخبر جل وعلا بعد ذلك كله أنه يغفر لهم، وهذا من أعظم القرائن على أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله، وقد قال بعض أهل العلم: إنها آية مدنية نزلت في وحشي قاتل حمزة ، فإذا كان قاتل حمزة قد غفر الله له مع أن حمزة كان أسد الله محبباً مقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عمه وأخوه من الرضاعة، فإذا كان الله جل وعلا قد قبل توبته وإنابته، فما بالك بغير ذلك من الذنوب، فالله جل وعلا أرحم الرحماء، ولذلك قلنا: إنه ذو فضل، ولكنه جل وعلا حكم ذو عدل لا يظلم الناس مثقال ذره، وهذا قد ذكره الله في هذه السورة، فإن الله ذكر أهل الكفر فقال: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8]، ثم بين عدله جل وعلا فقال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، فهنا ميز جل وعلا بين المعرضين عنه والمقبلين عليه، وذكر أعظم صفات المقبلين عليه، فقال جل ذكره: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
فمعنى الآية إجمالاً: أن هذا الموصوف بهذه الصفة من عباد الله، وإن كان أكثر أهل العلم يقول: إنها تنطبق على عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه كما حكي ذلك عن ابن عمر وغيره، ولكنها عامه في الأمة كلها.
وهذا القنوت جاء في الآية مبهماً، ولكن السنة بينت، حيث قال صلى الله عليه وسلم -كما أخرجه الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بسند صحيح من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه-: (من قرأ بمائة آية من القرآن في ليلة كتب له قنوت ليلة)، فأيما عبد أراد بقيامه بين يدي الله رحمة الله، فلا هم له إلا أن يرحمه الله، وفي نفس الوقت يتلو مخافةً من عذاب الله، فتلا مائة آية من القرآن أو يزيد في ليلة واحدة، ولو في عدة ركعات كتبه الله جل وعلا من القانتين، وهذا سياق مدح عظيم من رب العالمين تشرئب إليه الأعناق وتنقطع دونه أمور الوصال.
قال الله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا [الزمر:9]، فقدم الله السجود على القيام؛ لأن العبد لا يكون في موضع هو فيه أقرب إلى الله جل وعلا من موضع السجود، فلهذا قال سبحانه: سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، الذين يعلمون أن الله وحده أحق بأن يعبد، والذين لا يعلمون أن الله إله واحد، فلم يعبدوه، وإنما يعرف الفرق بين الأمرين والتفريق بين الحالين من كان ذا لب وعقل وإنصاف، ولهذا قال جل ذكره وتبارك اسمه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
ويحكى عن رجل من الصالحين يقال له: أبو عثمان النيسابوري أنه كان محبوباً عند الناس، ففي آخر حياته جاءه رجل فقال له: يا أبا عثمان ! إنك لست إماماً ولا خطيباً، وإنني أجد الله قد وضع لك قبولاً في الأرض ومحبة، فأسألك بالله إلا أخبرتني بأرجى عمل عملته في الدين. فوافق الرجل على أن يخبره شريطة ألا يحدث به الناس إلا بعد موته، فحدث به السامع بعد موته.
قال: يا هذا إنه جاءني رجل ذات يوم أظنه من أهل الصلاح، فقال لي: إني أريد أن أزوجك ابنتي. فقبلت، فلما دخلت عليها إذا هي عوراء شوهاء عرجاء لا تحسن الكلام، وليس فيها من الجمال مثقال ذرة، فلما رأيتها رضيت بقضاء الله وقدره، فأقمت معها خمسة عشر عاماً، ففتنت بي وليس في قلبي نحوها من الهوى والميل مثقال ذرة، ولكنني كنت صابراً عليها أحسن إليها ولا أخبرها عما في قلبي إجلالاً لله تبارك وتعالى حتى توفاها الله جل وعلا.
وكان من تعلقها بي أنها تمنعني من أن أذهب إلى المسجد وإلى أقاربي وأصدقائي، وتريدني طيلة النهار أن أكون معها، فأطيعها في كثير من الأحيان، ولم أخبر بهذا أحداً، ولم أشك أمري إلى أحد غير الله، وفعلت ما فعلت إجلالاً لله، فإن كان الله كتب لي قبولاً فإني أرجو أن يكون بسريرتي هذه.
فمن أعظم ما تتقرب به إلى ربك أن يكون بينك وبين الله جل وعلا سريرة لا يعلمها أحد من الخلق تدخرها لنفسك بين يدي الله في يوم تكون أحوج ما تكون فيه إلى ما يكسو عورتك ويطفئ ظمأك، ويجعلك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
فأعمال السرائر إذا أخلص العبد لله فيها النية، وكان له عمل، سواء أكان عملاً عبادياً محضاً بينه وبين الله، أم عملاً بينه وبين الخلق، كإحسان إلى والده، أو قيام على أرملة أو عطف على يتيم، أو غير ذلك مما شرع الله مما لا يمكن لي ولا لغيري أن يحصيه، إذا جعل ذلك سريرة يدخرها بينه وبين الله كان ذلك من أعظم البشارات، فتأتيه بشارته في الدنيا قبل الآخرة، ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا
فهذه سريرة أظهرها بلال لعارض، وعظمتها في المداومة عليها، وأحب العمل إلى الله جل وعلا أدومه، وكلما ابتلي الإنسان ببلاء ونجح في الابتلاء كان ذلك بشارة من الله له بالثبات يوم القيامة يوم تزل الأقدام، والله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يهبك هبة وينزل منزلة حتى يؤهلك للوصول إليها، فإذا أراد الله لك منزلة أعطاك ما يعينك على الوصول إليها، إما بالفقد، وإما بالعطاء، فإما أن تفقد شيئاً فتصبر، وإما أن يوفقك الله لعمل صالح فتصنعه.
لا تعود نفسك أن يرق قلبك إلى شيء أعظم من القرآن، فلو سمعت مئات المحاضرات فإنها -والله الذي لا إله إلا هو- لا تعدل آية واحدة من كتاب الله، فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت:41-43].
فالمؤمن لا يريد شيئاً أعظم من رضوان الله، ورضوان الله لا ينال بشيء أعظم من حب كلام رب العالمين جل جلاله، ومن أعظم ما أثنى الله به على أوليائه والصالحين من خلقه أنهم يتصفون بثلاث صفات إذا تليت عليهم آيات الله: وجل القلب، واقشعرار الجلد، وذروف العين.
قال الله عن موسى وهارون وإبراهيم وإدريس وإسماعيل ومريم وابنها في سورة مريم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وأعظم ما ينصح به الإنسان ليحيا قلبه أن يقوم بين يديّ الله في الليل.
فإذا جئت لتقف بين يديه واختر آيات في أول تعودك على قيام الليل أثنى الله بها على ذاته العلية، ثم رددها كثيراً وأنت تصلي حتى تستميل قلبك، وتذرف عينك تدريجياً، ومع الأيام فإن قلبك لن يسكن بشيء أعظم من ذكر الله، ومن استأنس بالله استوحش من خلقه.
فالله تعالى يقول عن ذاته العلية: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:45-47]، فهذه أشياء محسوسة تراها قبل أن تنام، فإذا ربطتها بخالقها عظم اليقين في قلبك، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الفرقان:48-50].
ويقول جل وعلا في خواتيم الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
فأين شعر الشعراء؟! وأين كلام البلغاء؟ أين وصف الفصحاء؟ هذا كلام رب العزة جل جلاله، هذا قوت القلوب الحقيقي الذي يعيش به المؤمن، ويتعود على ألا يشرب إلا منه ولا ينهل إلا من معينه، هذا الذي يسوق إلى رضوان الجنات، ويوفق به المؤمن للطاعات، ويقاد به إلى أعلى المنازل.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة، مصير كل أحد إليك، ورزق كل أحد إليك، أسألك -اللهم- بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن ترزقنا الإخلاص فيما نقول ونسمع، وصل اللهم على محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر