الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، لا رب غيره ولا إلـه سواه، وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنه قال ذات يوم لنفسه: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتوضأ في بيته وخرج يسأل عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكلما سأل عنه في مكان قيل له: مر من هاهنا، حتى علم أن النبي عليه الصلاة والسلام توجه إلى بئر أريس في قباء اليوم، فتبعه، فدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً -أي: بستاناً- فتوضأ ثم جلس على قف بئر أريس وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فجلس أبو موسى الأشعري بواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاء أبو بكر يستأذن، فأذن له وقال له: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجوار رسولنا صلواته الله وسلامه عليه، وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فاستأذن فأُذن له وقيل له: بشره بالجنة، فدخل عمر فصنع ما صنع صاحباه، ثم جاء عثمان فاستأذن فأذن له وقال: بشره بالجنة على بلوى تصيبه. فقال عثمان : الله المستعان، ثم لما أتى البئر وجد القف قد امتلأ من الجهة التي هم فيها، فقابلهما -أي: جلس في الجهة المقابلة- وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل صاحباه من قبل، فصلى الله على نبيه ورضي الله عن أصحابه.
أيها الأخ الكريم! كذلك المؤمنون الأخيار يتبعون سنة وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يلتمسونه حياً بين أظهرهم، ونحن اليوم نلتمس حياته وسيرته وهديه فيما نقله المتقون الأبرار والصالحون الأخيار مما حوته كتب العلماء من سيرته صلوات الله وسلامه عليه.
وفي العام التاسع كان عام الوفود، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يفد إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ممثلاً لعشيرته وقبيلته وقومه يريد أن يسمو بنفسه ويزكي قلبه ويتطهر من الذنوب بملاقاة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله بسنده أن ممن قدم ذئب، فقدم حتى أتى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعوى، فقال عليه الصلاة والسلام: (هذا وافد السباع).
ونحن لا نجيء إلى بيوت الله إلا لنتلمس بعضاً من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فكم في السنة من دلالات ضافية ومعان شامخة وعظات بالغة يفيء المؤمنون إلى فحواها ويقتبسون من سناها.
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتساباً
فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتاباً
مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا
فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي
ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصاباً
فلم أر مثل حكم الله حكماً
ولـم أر مثل باب الله بـابـاً
إن هدي الأنبياء الأعظم في القيام بالعبادات، والصلوات ذروة العبادات، وصلاة الفجر ذروة الصلوات وتاجها، أفردها الله جل وعلا في القرآن ذكراً فقال جل جلاله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
فجعل الله جل وعلا الفرائض الأربع يتبع بعضها بعضاً، وأفرد صلاة الفجر لوحدها زماناً وأثراً، فصلاة الفجر أحد أعظم الأسباب في رؤية وجه الله تبارك وتعالى، وليس للمؤمنين غاية أعظم من أن يروا وجه ربهم تبارك وتعالى، أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى القمر ليلة البدر فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم تلا صلوات الله وسلامه عليه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130]) ، قال العلماء من المفسرين وغيرهم: (قبل طلوع الشمس) أي: صلاة الفجر، و(قبل غروبها) أي: صلاة العصر.
وصلاة الفجر المحافظة عليها جماعة في مساجد المسلمين للرجال بعض دلالة على البراءة من النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)، فصلاة الفجر مع أخواتها مما يؤدى في الظلمة تكسب المؤمن نوراً تاماً في عرصات يوم القيامة، يوم يكون المؤمن أحوج ما يكون إلى النور، قال عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
وصلاة الفجر صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أيام غزوة خيبر على مقربة من خيبر قبل أن يصل إليها، فصلى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الصبح ثم دخل على خيبر، فلما دخل خيبر بعد أن طلعت الشمس كان اليهود خارجون إلى أراضيهم ومعهم المساحي والمكاتل، فتفاءل صلى الله عليه وسلم بما في أيديهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر خربت خيبر، إننا إذا نزلنا بساحة أرض فساء صباح المنذرين).
وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة قبل وفاته، فإنه عليه الصلاة والسلام حج حجة الوداع في العام العاشر ولم يعش بعدها نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر من ثلاثة أشهر، ولما كان في اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث وقال قبلها: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة) فنزل عليه الصلاة والسلام في خيف بني كنانة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وعند السحر قبل الفجر نزل عليه الصلاة والسلام إلى الحرم، فطاف طواف الوداع ثم صلى صلاة الفجر بأصحابه وبأهل مكة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تشرف به المهاد والنجاد يكبر على كل شرف من الأرض، فكانت صلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة.
وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ونبينا عليه الصلاة والسلام حي بين أظهرهم، فلم يصلوا صلاة بعد صلاة الفجر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات وانتقل إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كشف الستار الذي بين المسجد وحجرة عائشة وأطل عليهم وهم يصلون خلف أبي بكر صلاة الفجر فقرت عينه واطمأنت نفسه وتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف رغم وطأة الحمى عليه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ارتبطت صلاة الفجر بكثير من الأحداث العظام بفقد عظماء الأمة، تقول السيدة الجليلة الصحابية أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها وأرضاها: مالي ولصلاة الفجر.
وهذه الصحابية ولدت قرابة سنة ست من الهجرة، ورأت النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها لم ترو عنه؛ لأنه مات وسنها أربع سنين، وهذه الصحابية أرادها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لنفسه ليتزوجها حتى يكون بينه وبين آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب، فكلم أباها علياً فاعتذر بصغر سنها، فلما رأى إلحاحه قال له: إني سأبعثها إليك، فإن رضيت بها فثم، فأعطاها برداً وقال لها اذهبي به إلى أمير المؤمنين، فذهبت به إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما رآها كشف عن ساقها بعد أن لمسه، فقالت له وهي لا تعلم ما كان بينه وبين أبيها، لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، فرجعت إلى أبيها فأخبرته الخبر، وقالت: يا أبتاه لقد بعثتني إلى شيخ سوء، فقال رضي الله عنه وأرضاه: يا بنية هذا زوجك، فتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعة آلاف، ولم يكن يعطى مهر في ذلك الزمان بمثل هذا القدر، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه كان فرحاً بأن أصبح على نسب بآل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
فلما تزوجها عمر مكثت عنده ما شاء الله، ثم خرج عمر إلى صلاة الفجر، ثم أعيد به إلى بيته ليقال لها رضي الله عنها وأرضاها: طعن زوجك وقتل في صلاة الفجر. ثم بعد عمر رضي الله تعالى عنه تزوجها بعض الصحابة، فخرجت مع أبيها علي بن أبي طالب إلى الكوفة، فلما كان يوم السابع عشر من رمضان خرج علي رضي الله تعالى عنه ليصلي بالناس صلاة الفجر فطعن علي وضربت عنقه وهو ذاهب إلى صلاة الفجر، فأعيد إلى بيته ليقال لتلك المرأة كرة أخرى: إن أباك قد قتل وهو ذاهب إلى صلاة الفجر. فقالت رضي الله عنها وأرضاها: سبحان الله! مالي ولصلاة الفجر.
وفي عصرنا هذا يوم الإثنين الماضي -كما لا يجهله أحد- اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله شيخ المجاهدين والمرابطين في عصرنا ولا نزكي على الله أحداً، اغتالته وهو خارج من صلاة الفجر، حتى قال بعض علماء العصر -وهي كلمة محمودة-: إن أول من يعزى في الشيخ أحمد أهل صلاة الفجر؛ لأن أهل صلاة الفجر في الأمة قوم مميزون، فاغتالته إسرائيل تريد أن تعرف الناس بمنطق حق القوة، وليأتين عليها يوم -بإذن الله- يعرفها فيه أهل الإسلام بمنطق قوة الحق، وشتان بين الحالتين لمن تدبر اللفظين وما يعقلها إلا العالمون.
وقد كان اغتياله رحمه الله تعالى فجيعة على الأمة ينضم مع الفارق إلى سلسلة من فقدتهم الأمة من عظمائها ومجاهديها وأمرائها عبر السنين ممن ارتبط موتهم بصلاة الفجر بعد أن أنشأ جيلاً قرآنياً في الدور والمساجد وحلقات التحفيظ، فخرج أولئك الشباب بعد ذلك بقوة الإيمان التي في قلوبهم يقفون أمام آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وحلفائها بما أورثهم الله جل وعلا من اليقين في قلوبهم، وهذا اليقين ربوا من خلاله على سور القرآن، وإلا فإنه يستحيل عقلاً ونقلاً أن يقف أولئك الشباب والفتيان شامخين أمام العدو لو لم يكن في قلبهم من الإيمان واليقين والقرآن ما يثبتهم الله جل وعلا به.
اضرب تحجرت القلوب وليس لها إلا الحجر
اضرب فمن كفيك ينهمر المطر
في خان يونس في بلاطة في البوادي والحضر
ولى زمان الخوف أثمر في مساجدنا الشرر
في فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر
فرضي الله عن كل مؤمن جاهد في سبيل الله
إن أعظم ما يقف به المؤمن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مات وهو محافظ على هذه الصلاة وغيرها أعظم محافظة، حتى إنه قال في السنة القبلية التي قبلها: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وإن من أعجب العجب أن يفقد الإنسان حياءه من ربه جل وعلا فيسهر على لهو محرم أو يمكث على الفساد أياً كانت صوره الليل كله حتى إذا دنا الفجر نام، فإذا أصبح لعمله أو تجارته أو غير ذلك خرج يرجو الرزق ولا رزق إلا من الله، ويرجو أن يأمن العواقب ولا حافظ إلا الله، ويرجو أن يوفق ويسدد فيما يقول ويفعل والمسدد والموفق والمعطي والمانع الله، فيطلب ما عند الله وقد عصاه من قبل وفرط في أعظم فرائضه، يقول الله تبارك وتعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:20-22].
إن من أعظم دلائل النجاح وأسباب الفلاح أن يؤدي الإنسان -إن كان رجلاً- صلاة الفجر في جماعة مع المسلمين، وأن تؤديها المرأة أو الفتاة في وقتها في بيتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فأداء صلاة الفجر نوع من السكينة والاطمئنان وأمان، ويقع بها المؤمن في ذمة الله، وليس المراد بأن يكون المؤمن في ذمة الله أنه لا يصيبه أذى، فهذا لا يمكن أن يثبت عقلاً ولا نقلاً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم أحد ومع ذلك كسرت رباعيته وشج رأسه وأدمي عليه الصلاة والسلام، ولكن المقصود أن الإنسان إذا بقي يبقى على خير وعافية، وإن قبض يقبض وقد كان في ذمة رب العالمين جل جلاله، والله تبارك وتعالى خير الحافظين.
وكل سبب أدى إلى المحافظة عليها يجب أن يسعى المؤمن إليه، وكل سبب أعاق عنها أو حرم منها أو منعها فيجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عنه؛ لأنه لا جمع بين الاثنين، فلا يمكن أن يتم الأمران، فالله تبارك وتعالى خلق الناس منهم مؤمن ومنهم كافر، وبين لعباده النجدين، وأداء صلاة الفجر جماعة من أعظم أسباب التوفيق.
وهذا العنوان مقتبس مما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن
لقد خلق الله جل وعلا الرسل بشراً فيهم ما في الناس من العواطف، والرحمة، والألفة، وكل ما تقتضيه البشرية من خير، وأعطاهم من ذلك النصيب الأوفر والحظ الأمثل، ونبينا عليه الصلاة والسلام في الذروة من ذلك كله، ولقد كان عليه الصلاة والسلام شفيقاً رحيماً بالمؤمنين كلهم، فإذا تدبر الإنسان كيف كان نبينا عليه الصلاة والسلام رحيماً بآل بيته وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين ؛ استبان له كثير مما خفي من سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه.
تزوج نبينا عليه الصلاة والسلام خديجة ، ورزق منها الولد، ومات الأبناء قبل المبعث أو بعد المبعث بقليل، وبقي البنات الأربع: زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، فتزوجت زينب ابن خالتها أبا العاص ، وتزوج عثمان رقية ثم ماتت عنه يوم بدر، فتزوج بعدها أختها أم كلثوم .
وبعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر فدى المسلمون بعض أسراهم، فكان من الأسرى أبو العاص زوج ابنته زينب ، وكان على كفره، فأخرجت زينب -لتفدي زوجها- شيئاً من المصوغات كان عندها أخذته من أمها خديجة ، فأخرجته من خبائه لتفدي به زوجها أبا العاص ، فلما أخرجته ونظر النبي صلى الله وسلم إليه تذكر أيام خديجة فذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.
فهذه القريبة جداً من رسولنا صلى الله عليه وسلم جاء علي بن أبي طالب ليطلبها من رسول الله، فلما قعد بين يديه استحيا، وأصابته هيبة النبوة، فلم يستطع أن يقول شيئاً، فتكلم رسول الله عنه فقال: (أجئت لتخطب
وهذا أول الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في سيرته على أن يقتفي أثر إخوانه من الأنبياء امتثالاً لقول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فهو عليه الصلاة والسلام أعظم من يمتثل لأمر ربه حتى في التسمية والكنى وما أشبه ذلك مما يراه الناس يسيراً.
والشاهد من هذا كله أن من الناس اليوم من ينأى بنفسه عن هذه الأسماء خوفاً من أن يشبه ببعض الطوائف، والباطل لا يدفع بترك الحق، وإنما يدفع بالمضي على الحق والثبات عليه، لا بالتخلي عن الحق وسنة وهدي نبينا صلوات الله وسلامه.
فلما كان ذات يوم جاءه حذيفة رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام: (يا
إن المرء إذا أصبح أباً يتغير كثير من حاله، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنهم -أي: الأبناء- مجبنة مبخلة مجهلة) تدفع الرجل للجبن فيخاف أن يموت عن أبنائه، وتدفعه للبخل فيخاف أن ينفق فيصبح أبناؤه من بعده فقراء، وتدفعه إلى الجهل فيغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم.
إن كونك مسئولاً في دائرة ما أو رجلاً معروفاً أو إماماً أو خطيباً أو ما إلى ذلك من العطايا الدنيوية لا يغير شيئاً من أن تكون أباً في بيتك رءوفاً بزوجتك، رءوفاً بأولادك رءوفاً بقرابتك تتقرب إليهم وتدنو منهم، فلكل مقام مقال كما تقول العرب في أمثالها.
ومن شواهد هذا أنه عليه الصلاة والسلام -كما في المسند بسند صحيح- قام من الليل يسقي الحسن والحسين ، فرأته فاطمة وهو يدفع أحدهما ويقدم الآخر، فتعجبت فقال لها: (يا بنية! إن الأول قام قبله فاستسقاني فقمت فأسقيته) ثم قام الثاني فسقاه صلوات الله وسلامه عليه، والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فالمحذور الذي نراه نعرف كيف ندفعه، ونستعين بالله عليه، أما المحذور الذي لا نراه فلا نعرف كيف ندفعه؛ لأننا لا نراه، فيكفينا أن نستعين بالله جل وعلا عليه، فكان صلى الله وسلم عليه يضع يديه على رأس الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)، فهذه الاستعاذة تربي الأبناء أول الأمر على أن هناك رباً وإلـهاً يكلأ ويحفظ ويرعى ويفعل ما يريد لا إلـه إلا هو، وأن ثمة شروراً لا ترى بالعين ولا يدفعها إلا الرب تبارك وتعالى، فالله جل وعلا ولينا في كل نعمة، وملاذنا عند كل نقمة.
كما أن فيها أن المرء يستودع الله جل وعلا ثمرة فؤاده، والله تبارك وتعالى -كما قال يعقوب في كتاب الله- خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)، ومن دلائل هذا من باب الاستئناس أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان الرجل معه ابنه، ولم يكن هناك فرق بين الابن وأبيه، فتعجب عمر قائلاً: والله ما رأيت مثل هذا اليوم عجباً ما أشبه أحد أحداً أنت وابنك إلا كما أشبه الغراب الغراب، والعرب تضرب في أمثالها بالغراب في كثير الشبه بقرينه.
فقال له: يا أمير المؤمنين! كيف ولو عرفت أن أمه ولدته وهي ميتة. فغير عمر من جلسته وبدل من حالته وكان رضي الله عنه وأرضاه يحب غرائب الأخبار، فقال: أخبرني قال يا أمير المؤمنين! كانت زوجتي أم هذا الغلام حاملاً به، فعزمت على السفر فمنعتني، فلما وصلت إلى الباب ألحت علي ألا أذهب، قالت: كيف تتركني وأنا حامل! فوضعت يدي على بطنها وقلت: اللهم إنني أستودعك غلامي هذا ومضيت -بقدر الله لم يقل وأستودعك أمه- وخرجت فمضيت وقضيت في سفري ما شاء الله لي أن أمضي وأقضي، ثم عدت، فلما عدت إذا الباب مقفلاً، وإذا بأبناء عمومتي يحيطون بي ويخبرونني أن زوجتي قد ماتت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فأخذوني ليطعموني عشاء أعدوه لي، فبينما أنا على العشاء إذا بدخان يخرج من المقابر، فقلت: ما هذا الدخان؟ فقالوا: هذا الدخان يخرج من قبر زوجتك كل يوم منذ أن دفناها. فقال الرجل: والله إنني لمن أعلم خلق الله بها، كانت صوامة قوامة عفيفة لا تقر منكراً وتأمر بالمعروف ولا يخزيها الله أبداً، فقام وتوجه إلى المقبرة وتبعه أبناء عمومته، قال: فلما وصلت إليها -يا أمير المؤمنين- أخذت أحفر حتى وصلت إليها، فإذا هي ميتة جالسة وابنها هذا الذي معي حي عند قدميها، وإذا بمناد ينادي: يا من استودعت الله وديعة! خذ وديعتك.
قال العلماء: ولو أنه استودع الله جل وعلا الأم لوجدها كما استودعها، ولكن ليمضي قدر الله لم يجر الله على لسانه أن يودع الأم، فاللهم إنا نستودعك ديننا يا رب العالمين، وارزقنا الثبات عليه حتى نلقاك يا ذا الجلال والإكرام.
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يعوذ الحسن والحسين بما كان أنبياء الله من قبل يعوذون به أبناءهم، فخليل الله إبراهيم كان يعوذ به إسماعيل وإسحاق، فسنته صلى الله عليه وسلم في اقتفاء أثر إخوانه من الأنبياء من قبله.
بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي
وعلي يسمع ويضحك، رضي الله عن الجميع.
ثم كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان الحسين يرقى إلى المنبر وعمر عليه فيقول: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك، فيقول عمر : ولكن أبي ليس له منبر. ثم يضعه بجواره ويضع عمر يده على رأس الحسين ويقول: والله ما أنبت الشعر على رءوسنا إلا الله ثم أنتم يا آل محمد.
ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه تطوع الحسن والحسين بأن يدافعا عن داره حتى أمرهما رضي الله عنه وأرضاه -فيمن أمر- بأن يتركا الدار حتى لا يراق دم بسببه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه من أحوط الناس ومن أشد الناس ورعاً وحيطة في دماء المسلمين.
ثم سكن الحسن المدينة المنورة وبقي فيها، وورد أنه مات مسموماً فيها وعمره سبعة وأربعون عاماً، ودفن بجوار أمه فاطمة .
فخرج الحسين رضي الله عنه وأرضاه من مكة يريد الكوفة لما بعث له أهل العراق أن ائت إلينا فإنا سننصرك، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقيها، فلما علم بخروجه تبعه على مسيرة يومين أو ثلاثة، فلما لقيه قال: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنهم لن ينصروك. فلما ألح الحسين على الخروج قال له ابن عمر -وهذا من فقهه-: إن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فخيره بين أمري الدنيا والآخرة، فاختار عليه الصلاة والسلام أمر الآخرة وأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنال من الدنيا شيئاً ولكن الحسين -ليجري قدر الله- لم يأخذ بنصيحة ابن عمر ، ومضى حتى وصل إلى واد الطف في كربلاء من أرض العراق، فكان مقتله في يوم الجمعة في العاشر من محرم لعام واحد وستين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه، وقتل بعد أن أحجم الناس عن قتله قليلاً، وقتل إخوته الأربعة، ثم قتل اثنان من أبنائه علي الأكبر وعبد الله ، وبقي علي الأصغر المعروف بـزين العابدين ، وكان مريضاً فلم يستطع أن يخوض المعركة مع أبيه، فتنحى جانباً، ثم أخذ الناس بين إقدام وإحجام، ثم دلهم أحد الأشرار على أن يقتحموا الأمر فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه وهو صائم في اليوم العاشر من المحرم.
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً في دمائه تزميلاً
وكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
وأياً كان الأمر فإنك ترى في واقع الناس أنه قد ينال المال من لم يجمع، وقد يحصد الثمر من لم يزرع، ولكن المؤمن العاقل ليس له في الدنيا مطمع، يقول الله جل وعلا: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
فالمؤمن لا ينشد شيئاً أعظم من رضوان الله تبارك وتعالى، فما أتى من الدنيا تبعاً غير مقصود فلا مانع، وأما أن يسعى الإنسان في متاع الدنيا وزخرفها فيرتكب من أجل ذلك المحرمات والسرقات والرشوة وما أشبهها ويظلم ويحقد ويحسد ليرتفع؛ فإن الدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة، ولو كانت تنال بالعواطف لكان ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الأمر من يزيد وغيره، ولكن الأمور تجري وتمضي بقدر من الله تبارك وتعالى.
اللهم إنا نسألك قلوباً تحمدك على نعمائك، وترضى وتصبر على قدرك وقضائك، وتحن وتشتاق إلى يوم لقائك.
الإضاءة الثالثة: الحياة البرزخية:
والمدخل إليها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قتلى بدر من المشركين في قليب، ثم بعد ثلاثة أيام وقف عليهم صلوات الله وسلامه عليه يخاطبهم: يا أبا جهل ! يا عتبة بن ربيعة ! يا أمية بن خلف ! يا فلان بن فلان -يذكرهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له عمر متعجباً: يا رسول الله! ماذا تسمع من قوم قد جيفوا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يملكون جواباً).
لقد خلق الله خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وحياة البرزخ طور لا بد من أن نمر عليه، قال الله جل وعلا في كتابه المبين: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، والموت أول حياة البرزخ، والبعث والنشور نهاية حياة البرزخ، والقبر موطن حياة البرزخ.
ثم إنه في نفس الحديث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه التقى بموسى في السماء السادسة، وفي نفس الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى إماماً بالنبيين في المسجد الأقصى ومن جملتهم موسى.
والجواب عن هذا كله: أن عالم الأرواح أشبه بعالم الملائكة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصلاة في القبر لبعض الخلق نوع من النعيم يتنعمون به؛ لأنهم تعودوا على الصلاة في الدنيا، فيتنعمون بالصلاة في قبورهم كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، وأحوال أهل القبور: غيب مكنون لا يعلمه إلا الله جل علا، وإنما نمضي في الحديث فيه وفق ما دل عليه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون الأثر متعدياً بعد القبر، كما ثبت عن ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطيب رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يرفع الصوت في كلامه، فلما أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] حبس نفسه في الدار، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لهم: (قولوا له: إنك لست منهم. ثم قال له: يا
بل يتجاوز الأمر أكثر من ذلك، فقد صحح العلماء حديثاً -كما قال الشيخ الألباني رحمه الله- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون) فكان أبو الدرداء رضي الله عنه على علاقة وطيدة بـعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد كان مات قبله، فكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة .
وفي المسند بسند صحيح -كما قال الشيخ ناصر رحمه الله-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعمالكم تعرض على قرابتكم وعشيرتكم من الأموات، فإن كانت حسنة استبشروا وإن كانت سيئة قالوا: اللهم! أهدهم كما هديتنا).
كل ذلك إذا حاسب الإنسان نفسه فقد وطأ لنفسه موطئاً وثيراً برحمة الله في قبره، وإن كان غير ذلك فلا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك.
وتبعاً لهذا الأمر أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة القبور، وقال عليه الصلاة والسلام يذكر العلة: (فإنها تذكركم الآخرة)، فإن القبور تستوي في ظاهرها إن كانت مبنية على منهاج السنة وتختلف في باطنها اختلافاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ألا ترى أن الزناة -عياذاً بالله- كأن المحصن منهم يقول بلسان حاله: أنا أتمتع زيادة على زوجتي. وغير المحصن كأنه يقول بلسان حاله: أنا أتمتع رغم أنني لم أتزوج بعد، والله جل وعلا أجل من أن يخدع، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا: (فرأيت رجالاً ونساء عراة في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضو، فقلت للملكين: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزناة والزواني).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لما كان وجودهم في الدنيا خلوة يستترون بمعصية الله كان حقهم أن يفضحون عراة في عذاب القبر.
ويتثاقل الرجل عن الصلاة ويتباطأ في القيام إليها، وربما تردد وربما تركها بالمرة عياذاً بالله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من يرضخ رأسه ويثلغ بالحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة) ورأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا في عذاب البرزخ يسبح في نهر من دم ويلقم الحصى والحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء أكلة الربا من أمتك).
والحديث طويل، ويمكن أن تقيس عليه كثيراً من أحوال الناس في الدنيا إن لم يدركهم الله جل وعلا برحمته.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وما مضى قبسات وإضاءات من سيرة من ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات صلوات الله وسلامه عليه.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر