يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:1-19].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أحبتي في الله! هذه هي الحلقة الثانية من: "دروس من القرآن" أسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، ولقد كان الحديث في الحلقة السابقة عن أول سورة النور، وكيف حافظ الإسلام على الأخلاق والفضيلة، وحارب الرذيلة، لكن بناءً على رغبة إخوتي الذين يرون الجهاد يقرع أبواب الناس في هذه الأيام، آثرت أن يكون هذا الحديث في هذه الحلقة الثانية عن الجهاد في سبيل الله متمثلاً في جزء من سورة الأنفال التي نزلت يوم بدر، والتي تتكلم عن الجهاد من أولها إلى آخرها، وبناءً على ذلك ستكون هذه الحلقة -إن شاء الله- عن بعض سورة الأنفال، وعن الجهاد في سبيل الله.
ثم أيضاً بناءً على رغبة كثير من الإخوة في ألا نكثر في ذكر معاني الكلمات اللفظية والإعرابية ليكون التفسير موضوعياً وشاملاً نستجيب لذلك إن شاء الله، علماً أن تحليل الكلمات اللغوية هو منطلق من منطلقات فهم كتاب الله عز وجل، لكن ربما أنه قد يحتاج إلى وقت أطول.
سورة الأنفال هذه سورة كلها مدنية، إلا أن هناك خلافاً في سبع آيات، ومنها قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30]، قال بعض المفسرين: إنها نزلت في مكة يوم الهجرة، ولا شك أن هذه الآيات نزلت في شأن الهجرة؛ لأنها تصف موقف المشركين بالنسبة للهجرة، لكن لا يمنع أن تكون نزلت في المدينة؛ لأن الهجرة هي الهجرة إلى المدينة نفسها، فلا يمنع أن تكون تأخرت عن الموقف بضعة أيام، إلا أن الذين يقولون إنها مكية يقولون: نزلت في ليلة الهجرة في مكة لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن مؤامرة القوم في دار الندوة، وسوف نتعرض -إن شاء الله- لمؤامرتهم ضد الإسلام في دار الندوة في ليلة الهجرة حينما اتفقوا وجاءهم الشيطان، ودخل عليهم في صورة شيخ نجدي، وكانوا يتداولون الرأي: هل نقتل محمداً؟.. هل نخرجه من مكة؟.. هل نحبسه ونكبله بالأغلال؟ فقال أبو جهل: أرى أن تقتلوه، وصوب الشيطان الرأي الذي يرى قتله، وأن يُؤتى برجل من كل قبيلة، ويعطى سيفاً حاداً، ويقتلون محمداً جميعاً، ويستريح الناس من شره، ويتفرق دمه في القبائل، فلا يطالب بنو هاشم ولا بنو المطلب بدمه، وتدفع لهم الدية، فكشف الله تعالى هذه المؤامرة، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
ولا يمنع أن تكون نزلت في المدينة.
أما الآيات التسعة والستون البقية فبإجماع علماء المسلمين أنها نزلت في المدينة بعد موقعة بدر الكبرى التي أكرم الله عز وجل فيها الإسلام والمسلمين، ورفع فيها راية الإسلام، وبالرغم من أنها أول معركة في تاريخ الإسلام، فما كانت هناك غزوة مثل غزوة بدر، فهي الغزوة الأولى التي وقف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة.
وسيأتينا -إن شاء الله- في قصة الأسرى في آخر السورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع كبار الصحابة وقال: (عندي سبعون أسيراً ماذا أفعل بهم؟) فمنهم من قال: يا رسول الله! هم إخواننا وأبناء عمنا نأخذ منهم فداء، فقام عمر وقال: يا رسول الله! أرى أن تسلم لكل واحد منا قريبه ليقطع عنقه الآن، حتى قال بعض الصحابة: أرى يا رسول الله! أن نجعلهم بين جبلين فنحرقهم بالنار، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما نظر إلى هذين الرأيين، وإنما أخذ الفداء، حتى أنزل الله تعالى العتاب لرسوله صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، ثم قال بعد ذلك: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، أي: لولا أن الله تعالى غفر لأهل بدر لأصابكم العذاب؛ إذ كيف تأخذون الفداء من الأسرى مع أنها أول معركة في التاريخ، ويجب على المسلمين إذا كانت معركتهم الأولى مع عدوهم أن يشردوا الكافرين، وأن يقطعوهم تقطيعاً.
ولذلك يقول المفسرون: إن الله تعالى لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال وبين التوبة، مع أنه لم تنزل سورة من القرآن إلا وفي مقدمتها (بسم الله الرحمن الرحيم) يقولون: حتى لا تكون هناك رحمة في قلوب هؤلاء المؤمنين لهؤلاء الكافرين؛ لأن سورة الأنفال نزلت في القتال، وسورة التوبة نزلت أيضاً في القتال، إلا أن سورة الأنفال نزلت تتحدث عن موقعة بدر، وسورة التوبة تتحدث عن غزوة تبوك مع أحداث أخرى.
وعلى كلٍ نقول: هذه السورة جلها نزل بعد غزوة بدر الكبرى مباشرة، ونزل في بدر بعض الآيات منها.
وأول ما يتبادر للذهن أن الآية الأولى تشير إلى خلاف حصل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس غريباً أن يحصل الخلاف؛ لأنها أول معركة، والمسلمون ما زالوا جدداً على القتال في سبيل الله وعلى الغنائم، والمسلمون الذين هاجروا فقدوا أموالهم كلها في مكة؛ فقد هاجروا بأنفسهم وما أخذوا شيئاً من أموالهم، وإنما عاشوا فقراء في المدينة، وكانوا من أثرى الناس في مكة، فحصل شيء من الخلاف في غنائم بدر، فإنه لما انتهت المعركة اختلف بعض المسلمين في الغنائم؛ لأن قوماً استمروا في المعركة، وصاروا يحرسون موقع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرقة أخرى أخذت الغنائم، فلما انتهت المعركة قال بعضهم لبعض: أنتم أخذتم الغنائم، ونحن نحرس ثغور المسلمين، وقالت الأخرى: نحن الذين حصلنا عليها، فأنزل الله تعالى قرآناً يزيل فيه هذا الخلاف، وأن هذه الغنائم ليست ملكاً لكم، وإنما هي لله ولرسوله، وذلك قد يحتمل أنها قبل أن تباح الغنائم لهذه الأمة، أو بعدما أبيحت الغنائم لهذه الأمة، لكن قسمتها أجلت حتى يحكم الله تعالى في ذلك.
فالآية الأولى فيها قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، هذه الآية تعطينا أن الأنفال -أي: الغنائم- ترجع إلى الله وإلى رسوله، لكن في الآية الأخرى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ... [الأنفال:41] إلى آخر الآية، ظاهرها خلاف الآية الأولى، ولذا قال المفسرون: هل هذه ناسخة لتلك، أو تلك ناسخة لهذه، أو نوفق بينهما؟
فمنهم من قال: إن هذه هي المنسوخة، وهو الأقرب؛ لأن هذه نزلت قبل تلك، بقطع النظر عن الترتيب في المصحف، ومنهم من قال: ليس بينهما تعارض؛ فلا حاجة إلى النسخ، وإنما هذه توقف قسمة الغنائم، وتجعل الأمر لله ولرسوله، وتلك تبين كيف تقسم الغنائم حسب أمر الله عز وجل وقسمة رسوله، وبهذا لا يبقى إشكال في معنى الآيتين.
لكن النفل في الحقيقة هو: مال يعطيه قائد المعركة لبعض المقاتلين زيادة وتشجيعاً، إلا أنه صار يُطلق على الغنائم.
قوله: قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1]، أي: قل لهؤلاء: الله تعالى هو الذي يقسم، وسيقسم هذه الأنفال.
الجواب: لأنها أول معركة، والدولة حديثة النشء، ولو بدأ الخلاف في دولة جديدة لكانت ثغرة يدخل منها العدو إلى الإيقاع بالأمة الإسلامية، لكن الله سبحانه وتعالى أمر هنا بالإصلاح حتى لا توجد ثغرة؛ لأن الخلاف دائماً إنما يحدث بسبب المال أو بسبب العدو، فهذان أمران يحدثان الخلاف دائماً؛ فإما أن يندس العدو داخل صفوف المسلمين فيفرق المسلمين، وإما أن يكون هناك مال يختلف عليه الناس فيكون سبباً للفرقة بين الناس.
أما لو كان الخلاف في البحث عن الحق فذلك لا يضر، أما الخلاف بالنسبة للمال أو بالنسبة لتدخل عدو خارجي ليفرق صفوف المسلمين إلى قسمين فهذه هي المشكلة، ولذلك دعا الله تعالى المسلمين إلى إصلاح ذات البين قبل أن يفكروا في قسمة الغنائم، ودائماً الشيطان يدخل من هذه الهوة وهذه الثغرة التي يحدثها المال أو يحدثها العدو في صفوف المسلمين.
الجواب: أما مع الكافرين فليس هناك إصلاح، بل لابد أن تكون حرب شعواء بين المسلمين وبين عدوهم لا تهدأ أبداً حتى يكون الدين كله لله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالإصلاح إذا كان؛ لأن الاختلاف بين المسلمين في أمور جزئية، أما إذا كانت هناك كليات أو كانت هناك أمور هامة يختلف عليها المسلمون الصالحون والفاسقون ثم يأتي واحد ليتدخل ليصلح بين هؤلاء، فنقول: لا يقبل الإصلاح في مثل هذه الحال، وإنما الإصلاح يجب أن يكون بين المؤمنين.
وعندنا آيتان في القرآن:
الأولى: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
والثانية: قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فكيف نفعل بهذا العموم وهذا الخصوص؟
الجواب: نقول: الآية التي فيها الإصلاح بين الناس نحملها على الآية الخاصة: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
إذاً: الإصلاح ليس بين الناس عموماً، وإنما بين الناس المؤمنين أنفسهم.
وعلى هذا نقول: إذا كان الخلاف على هذا الدين ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فلا نقبل أي وساطة ولا نقبل أنصاف الحلول وأرباع الحلول في هذا الأمر، ولا نقبل إلا أن يكون الدين كله لله، ونرفض أي مبدأ أو أي ثغرة تريد أن تفرق بين المسلمين، أما إذا كان هناك خلاف بين المسلمين على أمر من الأمور الجزئية التي لا تؤثر على الدين فيجب الإصلاح في مثل هذه، وهذا هو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وهو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، ونحمل عليه الآية العامة في قول الله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فإذا كان الإصلاح بين الناس لمصلحة هذا الدين فنقبله، وإذا كانت وساطة بين الكفار والمسلمين حتى يحصل تقارب فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يعتبر التقاءً مع الجاهلية في منتصف الطريق، والإسلام لا يقبل أي مفاهمة أو أي مفاوضة أو أي مساومة على دين الله سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]؛ أمرهم بهذا لأنهم مؤمنون، وكلهم يسعون إلى الإصلاح وإلى الخير، لا إلى اختلاف جزئي في أمر من الأمور.
وقوله: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، لا شك أنهم مؤمنون، ولكن قال: (إن كنتم مؤمنين) ليثير غريزة الإيمان في نفوس الناس، كما تقول لواحد من الناس: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حماس الرجولة فيه، وكذلك أقول له: إن كنت مسلماً فدافع عن دينك ضد هؤلاء الطغاة والفجرة الذين يحاولون هدم هذا الدين، فأنا أعرف أنه مسلم وهو يعرف أنه مسلم، لكن أريد أن أحرك غريزة الإسلام في قلبه.
لم يقل: يتوكلون على ربهم، والفرق بين قوله تعالى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وبين: (ويتوكلون على ربهم) أن فيه تقديم ما حقه التأخير؛ يقول علماء اللغة: هذا يدل على الحصر، مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أصلها: نعبد إياك، أو نعبدك، فتقديم الجار والمجرور على الفعل المتعلق به هو تقديم للحصر، أي: لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون إلا على الله، مهما كان الجو مظلماً ومكفهراً، ومهما أوتي البشر من قوى مادية ضاربة في الأرض يحسبها الإنسان تدفع شيئاً من قضاء الله وقدره، لكنها في الحقيقة لا تغني من الله عز وجل شيئاً، فإذا اعتمد الإنسان على قوة البشر أو على قوته أو على أي قوة دون الله عز وجل، فهو لا يمكن أن يستفيد من هذه القوة.
إذاً: لابد أن يتوكل العبد على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله عز وجل، وإذا توكل على غير الله فإن الله تعالى يرفع يده عنه، وإذا توكل على الله تعالى فإن الله كافيه، قال عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
إذاً: الله تعالى لا يكفي إلا من توكل عليه، أما من توكل على غير الله من قوى البشر فإنه مغلوب لا محالة.
وليست الصلاة هي الحركات الآلية التي يؤديها بعض الناس دون أن تصل إلى القلب، وإنما هي الصلاة المستقيمة، ولذلك ما قال الله تعالى: يصلون، وإنما قال: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3]، فالصلاة كما نعرف هي عمود الإسلام، وتركها ردة عن الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تركها فقد كفر)، بل إن الله تعالى أمرنا بأن نقاتل كل من ترك الصلاة حتى يعود إلى الصلاة، ونقاتله قتال الكافرين لا قتال العصاة، فقال عز وجل: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].
إذاً: ترك الصلاة مع إنكار وجوبها ردة بإجماع علماء المسلمين، وعلى رأي جمهور علماء المسلمين: إذا كان يعتقد وجوبها ولكنه يتركها تهاوناً فإنه يقتل؛ فاتفقوا على أنه يقتل تارك الصلاة إذا لم يتب، واختلفوا: هل يقتل ردة أو يقتل حداً؟ فالذين قالوا: إنها ردة وكفر قالوا: يقتل ردة، ويترتب على هذا أنه لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث.. إلى غير ذلك.
ولما كانت الآيات سوف تتحدث عن الجهاد جاء الإنفاق؛ لأن الجهاد يكون بالمال كما يكون بالنفس، ولربما الرجل قد يبخل بنفسه ودمه فلا يقدمه في سبيل الله، لكنه يجود بماله، فيقوم هذا المال بسد ثغرة من ثغرات الجهاد في سبيل الله، كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن لو بخل الناس بأنفسهم وبأموالهم جميعاً عن الجهاد في سبيل الله، فهذه هي التهلكة التي يقول الله عز وجل عنها: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فلابد من بذل المال.
وقال الله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، وأصحاب الصلاة منهم.
وقال الله تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، يعني: ليسوا مؤمنين أدعياء فقط، لكنهم مؤمنون حقاً، و(حقاً) هنا مصدر لفعل محذوف، أي: أحق الله ذلك حقاً، فأصبح أمراً مؤكداً.
إذاً: هذا الذي جمع هذه الصفات هو المؤمن.
فإذا أردت يا أخي! أن تعرف مقياس الإيمان عندك فزن بنفسك بهذه الآية: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:2-3]، فإذا كانت هذه الصفات موجودة فيك فأنت -إن شاء الله- من المؤمنين حقاً، وذلك لا يمنع أن تكون هناك صفات أخرى مطلوبة أيضاً في المؤمن، من ترك ما حرم الله وفعل ما أوجب الله، لكن هذه الصفات المذكورة مقياس واضح لكل واحد من الناس.
أما موقعة بدر الكبرى -وهي أول موقعة في تاريخ الأمة الإسلامية- فبدأ الحديث عنها في قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، وعندنا هنا مشبه ومشبه به، فالمشبه: صدق إيمان أصحاب النبي وتفاوتهم في الدرجات، والمشبه به: إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد، وهذا أمر شاهده المسلمون، وشاهده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك فيه، إذاً: المشبه هو: أن هؤلاء المؤمنون لهم درجات عند ربهم، يعني: إذا كان عند أحد شك بأن للمؤمنين درجات عند الله تعالى في الآخرة فليقطع الشك؛ لأن هذا شيء ملموس رآه المسلمون بأعينهم وعايشوه، وهو أن الله تعالى أخرج المؤمنين من بيوتهم وأخرج معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد.
وأداة التشبيه هي الكاف في قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:5]، أي: بالشيء الثابت الذي لا شك فيه.
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، ولماذا كره المؤمنون القتال في معركة بدر؟
ما كان المؤمنون جبناء، بل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا شجعان، فقد تركوا الوطن وجاءوا من مكة إلى المدينة، وتركوا الأهل والعشيرة، وأُوذوا في سبيل الله، وكانوا في الحياة المكية يتمنون الجهاد في سبيل الله، كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، وهذا في الحياة المكية، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك.
الجواب: لأنها معركة خرجوا لها على غير استعداد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع بأن عيراً قدمت من الشام بقيادة أبي سفيان، وكان المسلمون المهاجرون قد تركوا أموالهم في مكة يتمتع بها المشركون، بل وتركوا بيوتهم وأولادهم وأهليهم هناك، فأراد المسلمون أن يعوضوا عن هذا المال الذي تركوه بمكة من هذه العير القادمة من الشام إلى مكة، وكانت تمر بالمدينة، فأرادوا أن يأخذوا هذه العير، وكان فيها مال كثير، وكان يقودها أبو سفيان، وكان من أدهى العرب.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً من المسلمين يريد أخذ العير، لا يريد القتال، وليس معهم سلاح إلا سلاح دفاع، لكن الله تعالى يريد أن يكون ذلك قتالاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسلمين يكرهون هذه المعركة، يعني: يخافون منها، ليست كراهية نفسية، وإنما هي كراهية خوف؛ لأنهم كانوا على غير استعداد.
قال: (والله يا رسول الله لقد آمنا بك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق)، وهذه المقالة لابد أن يقولها كل واحد حينما يسمع داعي الجهاد في سبيل الله تحت راية المؤمنين، ثم قال: (وإنا والله لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فوالله! لو وجهتنا إلى برك الغماد أو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك ما تخلف منا رجل واحد)، هذا هو موقف المسلم حينما ينادي منادي الجهاد في سبيل الله.
فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر من رجل ما كان بينه وبينه اتفاق، وهو يمثل جميع الأنصار وهم الأكثرية، فعزم رسول صلى الله عليه وسلم على القتال، ثم قضى ليلة بدر وما قبلها من الليالي بين ركوع وسجود لله سبحانه وتعالى.
هكذا القيادة، فيجب أن تتعرف إلى الله تعالى في ساعة الشدة، فلا ترقص وتغني وتأتي بالأشياء التي حرم الله عز وجل وتطرب للمعركة تحت أصوات الراقصات والمغنيات، كما يُفعل في أيامنا الحاضرة!
فأمة الإسلام تعرف الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي ساعة الشدة يزيد تعرفها على الله عز وجل، بل هذه صفة من صفات المشركين في الجاهلية قبل الإسلام، فإنهم كانوا إذا خافوا وإذا هبت ريح عاصف فزعوا إلى الله عز وجل، ودعوا الله مخلصين له الدين، فقارن يا أخي! بين هذا وبين حال الناس في أيامنا الحاضرة، فالعدو يطوق البلاد الإسلامية من كل جانب، ومع ذلك لا يلتفتون إلى أفكارهم ومذاهبهم ولهوهم ولعبهم حتى في مثل هذه الظروف.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ويريه في المنام أنه سوف ينتصر، ومع ذلك يقضي ليلته التي تسبق المعركة راكعاً وساجداً لله عز وجل، يتوسل بين يدي الله، ويقول: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، حتى يأتيه أبو بكر رضي الله عنه عند الفجر، فيقول: (يا رسول الله! إن الله ناصرك ومنجزك ما وعد) وكان قد سقط رداؤه من شدة رفع يديه بين يدي الله عز وجل، فكان أبو بكر يضع رداءه على كتفيه ويقول: (يا رسول الله! امض حيث أراك الله).
هذا هو الفرق الذي جعل الهزيمة تحل بالمسلمين اليوم، فإن النصر ينزل من عند الله عز وجل، بل إن الله عز وجل أنزل خمسة آلاف من الملائكة مقابل ألف رجل جاءوا كافرين، مع أن واحداً من الملائكة استطاع أن يحمل ديار قوم لوط ويرفعها فوق السماء إلى أن سمعت الملائكة صياح ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها، فواحد يستطيع أن يهلك هذه الأمة كلها بأمر الله عز وجل، لكن الله سبحانة وتعالى يريد أن يبين أن الأسباب ولو كانت كثيرة لا تغني من الله عز وجل، فأنزل خمسة آلاف من الملائكة، وأيضاً أنزلهم مسومين، أي: مزودين بالأسلحة.
فما هو الفرق؟ الفرق: هل يرجع الناس في ساعة الصفر وفي ساعة الشدة إلى الله عز وجل أو يتمادون في ضلالهم؟ وهل يتوب الناس من معصية الله عز وجل أو يبقون على ما حرم الله، أو يحدثون أشياء جديدة؟ فالربا ينتشر في بلاد المسلمين حتى في ساعة الشدة، والأغاني لا تتغير، والمسرحيات، وكأننا نعيش حياة سلم في هذا العالم الإسلامي الذي نعيش معه اليوم.
إذاً: لابد من التغيير، والله سبحانه وتعالى ربى المسلمين قبل أن يتحدث عن هذه المعركة؛ ليعلم المسلمون أنه لابد من التربية قبل المعركة، ولابد من العودة إلى الله عز وجل قبل المعركة، ولابد من التضرع بين يدي الله عز وجل قبل المعركة، والله تعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، فإذا كان الأمر كذلك فإن نصر الله أبعد عن هؤلاء الناس مما بين المشرق والمغرب؛ حتى يعود هؤلاء الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ولو -على الأقل- في ساعة الشدة، وكان المطلوب أن يتعرفوا إلى الله في ساعة الرخاء قبل ساعة الشدة؛ لأن الله تعالى يقول: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ [الزمر:61].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن نطالب المسلمين اليوم في وقت الشدة أن يعودوا إلى الله عز وجل، وأن يهجروا المحرمات، وأن يتضرعوا بين يدي الله عز وجل إذا كانوا يريدون النصر، أما إذا كانوا يفكرون في نصر يأتي من غير الله عز وجل فهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو الخلل في التوحيد فضلاً عن الأعمال.
فدارت المعركة وكان المسلمون كارهين، ولابد أن يأتي نصر الله؛ لأن هؤلاء المسلمين عرفوا من يقاتلون، وعرفوا إلى من يرجعون وإلى من يتضرعون، حتى قال أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة وهو يصفها: (والله إنا نرى الرأس يقطع ونرى اليد تقطع ولا نرى من هو الذي يقطعهما).
لقد أنزل الله عز وجل ملائكة، وليس نزول الملائكة محصوراً على المرسلين عليهم الصلاة والسلام وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً في بدر، بل إن الله تعالى يقول: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:13]، وهذه الآية دليل على أنها خالدة إلى يوم القيامة.
وهنا يقول الله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، ما كرهوا القتال، وإنما خافوا لأن السلاح غير موجود، ولا تعجب أن يكون هناك خوف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي؛ ولأنه ليست لهم تجارب مع عدوهم، لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يغير معايير الحياة، ونواميس الحياة التي ألفها الناس، فالعدد لا قيمة له والعدة لا قيمة لها إذا أنزل الله وجل النصر من السماء، ولذلك هم لا يكرهون القتال بل كانوا يتمنون القتال، وكانوا يستعجلون القتال وهم في مكة، والله تعالى يقول: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي: حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
ثم قال عز وجل: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الأنفال:6]، أي: تبين أنه لابد من القتال، وبعضهم كان يجادل، لكن ليس الجدال الحاد الذي يفرق الصف، وإنما جدال نقاش حيث كانوا يقولون: يا رسول الله! نحن خرجنا للعير وليس معنا سلاح، فكيف نقاتل العدو؟ والله تعالى يقول: لابد أن تقاتلوا العدو.
وقوله: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الأنفال:6]، أي: بعدما اتضح أنه لابد من القتال، كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، أي: كانوا يظنون أنها مهلكة، فكانوا يقولون: هؤلاء ألف من أهل مكة مزودون بالسلاح، ونحن ثلاثمائة ليس معنا سلاح، فإذا واجهناهم فهذا هو الموت، لكن الله تعالى يعلم أن هذا هو الحياة؛ لأن الحياة تكون في الجهاد في سبيل الله، وبمقدار ما يعطل المسلمون الجهاد في سبيل الله يكون لهم نصيب من الموت.
لكن هذا غير مراد؛ لأن الله تعالى يريد أن يقع الحق هنا، ويريد أن تنطمس معالم الباطل التي طالما انتفخت في الأرض، ورفعت رءوسها، وأحاطت حتى بكعبة الله عز وجل، فلابد أن ينحط الباطل ويرتفع الحق في مثل هذا الموقف، ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ [الأنفال:7]، أي: واذكروا (إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)، إما العير أو النفير، والنفير هو: الجيش الذي قدم من مكة، أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7]، يعني: سيحصل نصر بمعركة أو سيحصل عير بدون معركة، فماذا سيتمنى الناس؟
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ [الأنفال:7]، يعني: الذي لا يحتاج إلى قتال ولا يحتاج إلى سلاح هو الذي يتمنونه؛ لأن معنى الشوكة السلاح.
(وَتَوَدُّونَ)، يعني: ترغبون، فالإنسان له رغبة لكن لله سبحانه وتعالى إرادة هي التي تنفذ لا إرادة البشر، والله تعالى يريد أن تكون المعركة حتى تنقمع هذه الشوكة، وحتى تنكسر هذه الشوكة، وحتى يبطل مفعول الكفر الذي رفع رأسه في هذه الأرض، وحتى يرتفع الحق.
قال سبحانه: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7]، الكافرون دائماً يفسدون في الأرض، ودائماً هم الذين يشوشون على المسلمين، ودائماً هم الذين يفتنون المؤمنين في دينهم، ودائماً هم الذين يستعملون أولياء لهم ولو من المسلمين من أجل أن يفتنوا هؤلاء الناس عن دينهم، فالله تعالى يريد أن يقمع هؤلاء وأولئك من المنافقين والكافرين وغيرهم، وترتفع كفة الإسلام، ولذا قال: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7].
والدابر معناه: المؤخر، أي لا يبقى للكفر على هذه الأرض مكان، ولا تبقى له دولة، ولا يبقى له أنصار ولا أعوان ولا دعاة ولا أحد يمده، وهذا هو الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وإرادة الله تعالى تنفذ، لكن لابد أن تنفذ على أيدي هؤلاء المؤمنين، فإن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يمتحن المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، كما قال سبحانه وتعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20]، يعني: هل تتحملون هذه الفتنة؟ ولابد أن تتحملوها.
ثم يقول الله تعالى: وَيَقْطَعَ دَابِرَ [الأنفال:7]، يعني: مؤخر ونهاية الْكَافِرِينَ [الأنفال:7]، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ [الأنفال:8]، أي: حتى يظهر الإسلام، وفعلاً ظهر الإسلام بعد موقعة بدر، وسقط الباطل، قال سبحانه: وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8]، فالمجرمون بطبيعتهم لا يريدون أن يسقط الباطل ويرتفع الحق، وهم دائماً أعوان للباطل ضد الحق، وهم دائماً يريدون أن يرتفع الباطل وينخفض الحق، ولذلك تجد أنهم يستعملون كل الوسائل وجميع الطاقات حتى إنهم يقدمون أنفسهم وربما يقدمون أعراضهم أيضاً وأموالهم حتى ترتفع كفة الباطل وتنخفض كفة الحق، أما الله سبحانه وتعالى فهو يريد أن يسلط المؤمنين على الكافرين، حتى تنخفض كفة الباطل وترتفع كفة الحق.
فالاستغاثة في مثل هذه الظروف الشديدة يجب أن تكون بالله عز وجل، والله تعالى يملك قلوب العباد، وهو الذي يملك نواصيهم فكلها بيده، كما قال عز وجل: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [المنافقون:7]، وقال: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفتح:4]، سواء كان المستغيث من البشر أو من الملائكة؛ فالمكروب الذي وصل إلى ساعة الصفر وطوقه عدوه من كل جانب حينما يستغيث بالله عز وجل، فإن الله تعالى قريب مجيب.
ولذلك لم يخيب الله عز وجل استغاثة هؤلاء القوم, إنما أسعفهم بملائكة، وأخبرهم أن هؤلاء الملائكة لا ينفعون ولا يضرون من دون الله.
وهؤلاء الملائكة نزلوا من السماء، وكانوا خمسة آلاف ملك مدججين بالأسلحة، وواحد منهم يستطيع أن يقلب الأرض كلها رأساً على عقب بأمر الله عز وجل، ومع ذلك لا يُعتمد عليهم، ولذلك سيأتينا من أين يأتي النصر، فليس من الملائكة، وإنما هو من عند الله عز وجل.
فالله تعالى يقول للمسلمين هنا (إِذْ)، أي: اذكروا أيها المسلمون! إِذْ تَسْتَغِيثُونَ [الأنفال:9]، أي: تطلبون الغوث من الله عز وجل وتقولون: يا رب! يا رب! يكررون هذه الدعوة، ويتهجدون في جنح الليل المظلم، ويتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويزيلون المنكرات حتى لا يبقى في الأرض منكر؛ لأن النصر لا ينزل مع وجود المنكرات في الأرض، لاسيما إذا كانت هناك منكرات كبيرة، ولاسيما إذا كان هناك دعاة للباطل والضلال قد رفعوا رءوسهم، ولاسيما إذا كانت هناك أماكن يحارب فيها الله عز وجل، وينتشر فيها الربا، ويُؤذى فيها الدعاة إلى الله تعالى، ويُؤذى فيها أولياء الله؛ وهم الذين تعتبر أذيتهم حرباً لله، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهل يستطيع إنسان أن يحارب الله ويحارب الناس في آنٍ واحد؟!
يستطيع، وإذا حارب الله وحارب الناس فسوف يسلط الله عز وجل عليه هؤلاء الناس؛ لأن نواصي المؤمنين والكافرين كلها بيد الله عز وجل وفي قبضته.
فهنا كانوا يستغيثون بالله، لأنه لا يغيث ولا يكشف الضر ولا يأتي بالخير ولا يزيل الكربة إلا الله عز وجل، فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، هذه الفاء يقول علماء اللغة: إنها للترتيب السريع؛ ولذلك إذا جاء الجواب بالفاء فهو سريع، وإذا جاء بـ(ثم) فهو بعيد.
إذاً: لماذا لا يجرب الناس الآن الاستغاثة بالله عز وجل وحده! فإن كل التجارب قد جربوها إلا العودة إلى الله عز وجل عودة صحيحة.
فلماذا لا تُعمل هذه التجربة ولو مرة واحدة في حياة الناس اليوم وفي عالمهم؟
قال سبحانه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، فلماذا استجاب؟
الجواب: استجاب لأن الاستغاثة كانت بالله عز وجل وحده، لو كانت استغاثة بالمخلوق لما حصل لهم النصر؛ لأن الله تعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، كما في الحديث القدسي.
وقوله عز وجل: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، السين أيضاً تدل على السرعة، كما أن الفاء تدل على السرعة، أي: فاستجاب لكم في الحال، وماذا استجاب لهم الله عز وجل؟
قال عز وجل: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، وفي قراءة سبعية: (بألف من الملائكة مردَفين)، وسواء كانوا هم أردفوا غيرهم أو أردفهم غيرهم فالمهم أن العدد بلغ خمسة آلاف، كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة آل عمران بقوله: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمران:124]، ثم بين بعد ذلك فقال: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125]، يعني: معهم السلاح.
إذاً: واحد يردف مجموعة معها اثنين يصبح العدد ثلاثة، وواحد يردف معه أربعة يصبح العدد خمسة، والعدد (خمسة) مضروب في (ألف) يصبح العدد خمسة آلاف، فليس هناك تعارض بين آية آل عمران وآية الأنفال.
الجواب: لا، ولو نزلت كل ملائكة السماء الذين يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، والذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس هناك موضع شبر في السماء إلا وملك ساجد لربه أو راكع)، فلو نزل هذا العدد الكبير كله إلى الأرض دون أن يحقق الله عز وجل النصر لهؤلاء المسلمين لما كانوا سيستفيدون من هذا العدد.
إذاً: لابد أن يكون الاعتماد على الله، ولذلك يقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126]، والضمير في (جعله) يعود إلى نزول الملائكة الألف المردفين.
فإذا كان خمسة آلاف من الملائكة مدججين بالأسلحة لا يغنون من الله عز وجل شيئاً، فهل لو أتانا من بلاد الكفر ملايين البشر ليدفعوا الضر عنا يستطيعون ذلك دون إرادة الله عز وجل؟
لا أحد يستطيع ذلك، فإن الملائكة وهم الملائكة يقول الله تعالى عنهم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]؛ وذلك حتى لا يعتمد أحد على غير الله عز وجل.
فانظروا يا إخوان! بالرغم من كثرة العدد، وبالرغم من عظمة الملائكة الذين نزلوا من السماء، وبالرغم من أنهم مسومون، فإنه لا يأتي النصر على أيدي هؤلاء، وإنما هم بشرى فقط، ومعنى بشرى: تستبشرون ولا تخافون مرة أخرى، ولذا قال سبحانه: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10]، يعني: أنكم إذا رأيتم الملائكة تقاتل تطمئنون فقط، لكن النصر لا يأتي على أيدي هؤلاء، وإنما يأتي من عند الله عز وجل مباشرة.
إذاً: تعلق مخلوق بمخلوق من دون الله عز وجل نقص في الملة وفي العقيدة، وضعف في الدين، وسبب من أسباب الفشل مهما كان هذا الإنسان قد أُعطي من القوى البشرية، وليس معنى ذلك أن نقول: إن الإنسان لا يستعين بالإنسان، وإنما نقول: الإنسان لا يعتمد إلا على الله عز وجل، فإن الله تعالى هو الذي يملك النصر، ولذلك سنجد في دروس لاحقة أن المسلمين في غزوة حنين بلغوا اثني عشر ألفاً، وهو أكبر عدد وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة من المعارك، ومع ذلك غُلبوا.
فبعدما تمكن الإسلام من قلوبهم ودخلوا المعركة وهو مزودون بالأسلحة وعازمون على القتال، وفيهم أهل مكة والمدينة قد اشتركوا جميعاً في غزوة حنين، وذلك بعدما دخل أهل مكة في الإسلام، ومعهم كل شيء من وسائل النصر المعروفة مادياً، لكن قال واحد منهم كلمة هي: لن نهزم اليوم من قلة! فالله تعالى قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، ولكن لابد أن يكون نصر المؤمنين: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:26].
إذاً: نحن لا نقول: الرقم لا قيمة له، أو الاستعداد لا أثر له، بل الاستعداد مطلوب، كما قال عز وجل وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].
ربط هذا الجيش بالله عز وجل، وإصلاح أوضاع المسلمين الذين سيدافع عنهم هذا الجيش؛ فإنه لا يأتي النصر إذا كان هذا الجيش بعيداً عن الله عز وجل؛ ويُفرض عليه أن يحلق لحيته في كل يوم، وأن يأتي في الصباح ويقدم التحية للعلم، بدلاً من أن يقدمها لله عز وجل.
وهذه معاصٍ تتكرر كل يوم، بل تتكرر كل لحظة، بل حتى الصلاة لا تُقام في كثير من ثكنات الجيوش التي تقول: إنها جيوش إسلامية، مع أن الله تعالى أمر المسلمين أن يقيموا صلاة الخوف في ساحة المعركة، بل لو نظرنا إلى وسائل التربية لوجدنا أن كثيراً منها بعيد عن الله عز وجل!
إذاً: لا يمكن لمثل هذه الجيوش أن تنتصر مهما بلغت من القوة، وريما يقول قائل: إن هذه الجيوش الكافرة قد اكتسحت العالم؟
فنقول: هؤلاء كافرون، والكافرون الله تعالى يقول عنهم مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، لكن المسلمون لا يقبل الله تعالى منهم أنصاف الحلول، وإنما يريد منهم أن يدخلوا المعركة وأن يقبلوا على العدو بإيمان صادق، وأن يعتمدوا على الله عز وجل، أما الاعتماد على قوى بشرية من دون الله عز وجل فإنها لا تغني من الله تعالى شيئاً، ولذلك الملائكة وهم خمسة آلاف مدججون بالسلاح يقول الله تعالى عنهم وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126]، أي: فقط في الظاهر، ويُستفاد منهم وجودهم كمظهر قوة.
ثم قال سبحانه: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، (ما) و(إلا) صيغة حصر، أي: النصر لا يأتي إلا من عند الله، لا من الملائكة ولا من جيش آخر يفد لمساعدة أمة من الأمم، ولا من سلاح فتاك نادر في الأرض، الله تعالى إذا أراد أن يبطل هذا يبطل مفعوله في لحظة، فلا يُستفاد منه أبداً، كما حدث لجيوش في بلاد المسلمين سبقتنا بسنوات قليلة، فلما أراد الله ألا يستفاد منها لم يستفد منها، لكن إذا نزل النصر من عند الله عز وجل تحقق ولو العدد قليل، بشرط أن يكون المنصور مؤمناً متمسكاً بدينه.
ثم يقول الله تعالى: إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، عزيز: قوي، وحكيم: يضع الأمور في مواضعها، فينزل النصر حيث يتطلب الموقف النصر، وينزل الهزيمة حيث يتطلب الموقف الهزيمة تربية للمؤمنين، كما حدث يوم أحد ويوم حنين، والله تعالى قد ينفع بالقوة الضاربة في الأرض فيُستفاد منها، وقد يبطل مفعول هذه القوة الضاربة في الأرض فلا يُستفاد منها، ولذلك يقول الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10].
إذاً: العزة لله ليست لأحد من البشر إلا من أعزه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى لا يعز بهذة العزة ولا يعطيها إلا من يستحقها من المؤمنين، فالله تعالى يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
هذا أمر عجيب! في ساعة المعركة من يستطيع أن يأتيه النعاس؛ فالنعاس معروف أنه لا يأتي الإنسان إلا وهو مطمئن، وإذا كنت في حالة خوف فإنه لا يأتيك النعاس، بل النوم لا ياتي أبداً، وربما تسهر الليالي والأيام، ثم تبحث عن النوم وأنت قلق خائف فلا يأتي النوم أبداً.
لكن المسلمين وهم هذا العدد القليل أصابهم النوم في ساعة المعركة، وليس نوماً معناه أنه غفلة عن المعركة، وإنما هو نعاس يهدئ الأعصاب؛ لأنهم سهروا في الليل في التهجد، وما سهروا على رقص وغناء وحفلات، كما نشاهده في عالمنا اليوم في أعياد ميلاد المسيح والكرسمس وما أشبه ذلك.
فهم سهروا في طاعة الله عز وجل، ولما سهروا ما بين راكع وساجد لله عز وجل أراد أن يعطيهم النوم، ولكنه ليس نوماً يضيع عليهم الفرصة، وإنما هو نوم تطمئن فيه النفس، وتهدأ فيه الأعصاب، ويشعر المسلم إذا أصابه النعاس في مثل هذا الموقف أنه مطمئن، ولذلك لا يأتي النعاس -وهو مقدمة النوم- إلا بعد أن يطمئن هذا الإنسان على نفسه، فالله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] .
ويقول: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ [الأنفال:11]، وفي قراءة (إذ يغشاكم النعاس)، يعني: سواء أن الله تعالى غشاهم النعاس أو النعاس غشيهم فهو بإرادة الله سبحانه تعالى، والغشيان التغطية، يعني: غطى كل واحد؛ حتى كان أحدهم في المعركة يشعر بالنوم، ثم ينتبه ويقول لجاره: كم عدد هؤلاء القوم؟ فيقول: هم بين السبعين والثمانين، فينظر العدو أيضاً إلى المسلمين فيقول: كم عدد أهل المدينة؟ فيقول صاحبه: هم ما بين المائة إلى السبعين، وكل واحد يقلله الله تعالى في عين الآخر؛ حتى تكون هذه المعركة، وحتى يبدأ هذا الصدام، وحتى لا يرجع أحدهم دون أن تكون معركة.
فالله تعالى يقول هنا: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، أي: يطهرهم في أجسامهم فيغتسلون، ويتوضئون، ويصلون، ويطهرهم في قلوبهم، حتى تزول تلك الوحشة التي يشعرون بها، فإن الذي أنزل المطر هو الذي سوف ينزل النصر.
يقول الله تعالى: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:11]، ومن رجز الشيطان ما يحدثه في القلب من قلق وخوف، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ [الأنفال:11]؛ لأن نزول المطر علامة على نصر الله عز وجل وعلى كون الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين.
وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، حتى إذا تحرك المسلمون يتحركون بسرعة على هذه الرمال اللينة، وينطلقون بسرعة؛ فتكون الأقدام ثابتة، كما أن الله تعالى يثبت به أيضاً الأقدام من الناحية المعنوية بحيث يشعرون بأن النصر سوف ينزل عليهم عما قريب.
يقول الله تعالى هنا: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، وسواء كان المعنى: يقوي أقدام السير أو يقوي جانبكم في المعركة؛ فيؤهلكم إلى أن تدخلوا المعركة بقلوب ثابتة.
وبعد ذلك أصدر الله تعالى أمره للملائكة أن تنزل إلى الأرض، وهذا هو الشيء الذي يجب أن يطلبه المسلمون دائماً وأبداً، سواء جاءت الملائكة أو نزل النصر من عند الله تعالى مباشرة دون أن يحتاج إلى واسطة، فنزول الملائكة يُعتبر طمأنينة لقلوب المؤمنين، وإلا فإن النصر يأتي من عند الله تعالى، لا يأتي بقوة من قوى البشر أو غيرهم.
فهذه أمة مؤمنة خرجت لهدف الجهاد في سبيل الله، لا تريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، أمة خرجت تائبة إلى الله تعالى منيبة، تريد أن يظهر هذا الدين، وأن ينخفض جانب الكفر، أمة خرجت منيبة إلى الله عز وجل تتضرع في جوف الليل الآخر، لا تلهو، ولا تغني، ولا تلعب، ولا ترقص، ولا تأتي بمسرحيات قبل المعركة ولا بعد المعركة، ولكنها أمة تريد فقط أن ترتفع كفة الإسلام.
ثم بعد ذلك صدقوا مع الله عز وجل وعزموا على القتال ولو بعدد قليل، ووجد يقين في هذه القلوب على أن النصر يأتي من عند الله، ووجد أيضاً يقين على أن المقاييس المادية والعددية والكمية والكيفية لا أثر لها إذا أنزل الله عز وجل النصر، فهنا جاء النصر من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال:12]، فالله مع الملائكة أيضاً، والملائكة مع المسلمين، وبهذا لا يمكن أن تكون هزيمة في مثل هذا الموقف أبداً.
إذاً: لابد أن يكون نصر؛ لأن الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين، وقد أمر بأن تنزل الكتائب من الملائكة من أجل أن تطمئن المؤمنين، ثم أمر الله تعالى بالنصر فتحقق؛ لأن النصر لا يأتي إلا من عند الله، ولذلك قال الله تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال:12]، حتى لا يفهم الناس أن الملائكة وحدها هي التي تقاتل، بل الله عز وجل من فوق سبع سموات يراقب هذا الموقف ويدبر هذا الكون، ولذا قال: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، يعني: النصر سيأتي، وإنما المسألة تثبيت فقط، فالتثبيت غير القتال، فالله تعالى ما أمرهم أن يقاتلوا، ولا أمر المسلمين أن يقاتلوا، بل الله تعالى حقق النصر؛ لأن المسلمين قد استعدوا لذلك، فالمسألة مسألة تثبيت، وليست مسألة قتال، مع أن القتال حصل بعد ذلك.
وقوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]، فمهما أظهروا من القوة والإرهاب لنا في أي وقت من الأوقات فإن الله تعالى يضع في قلوبهم الرعب وينزع من قلوبنا المهابة لهؤلاء، وحينئذ يتحقق النصر.
ولذلك فإن الرعب من الميزات التي أعطيت للرسول صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء من قبله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر).
فالله تعالى أمر بتقطيع الأيدي التي تحمل السلاح أو تحمل القلم لتتناول من دين الله عز وجل، وأمر بأن تقطع الرءوس، وأرشدهم كيف يضربون, وإذا كان الضرب في الوجه ممنوعاً في الإسلام، فإنه في مثل معركة بدر أمر الله تعالى بضربها فقال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12]، والذي فوق الأعناق هي الوجوه والرءوس.
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، أي: قطعوا الأصابع، لماذا؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]، أي: حاربوا الله، وبارزوا الله تعالى بالمعصية، وأغضبوا الله سبحانه وتعالى بكيدهم ومكرهم، وتعرضهم لدين الله عز وجل، وتعرضهم للمؤمنين.
إذاً: لابد أن تقطعوا هذه الرءوس التي تتكلم وتبصر وتسمع، وأن تقطعوا هذه الأيدي التي طالما حملت السلاح أو آذت المسلمين بأي نوع من أنواع الأذى.
الجواب: ليست خاصة؛ لأنها لو كانت خاصة لما قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]، ولكن حتى يعلم الناس أن الذين يشاقون الله ويبارزون الله سبحانه وتعالى ويعاندونه ويؤذون أولياءه الذين ينافحون عن دين الله إلى يوم القيامة، حتى يعلم هؤلاء أن الله تعالى لهم بالمرصاد، فالله تعالى قال: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]، يعني: يتحدث عن أمر مستقبل أيضاً.
فقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، يتحدث عن هؤلاء القوم، لكن بالنسبة لمن يأتي في أي عصر يريد أن يبارز الله وأن يحارب الله سبحانه وتعالى بالمعصية فإن الله تعالى لا يتركه ولا يهمله، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، لا نقف عند هذا الحد، بل وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13]، سواء كان في بدر مع محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد محمد مع الصالحين الذين يسيرون على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أو في أي عصر من العصور التي تكون فيها المشاقة من هؤلاء المجرمين والكافرين والملاحدة والضالين والظالمين والطغاة إلى يوم القيامة، فمن يبارز الله عز وجل بالمعاصي فإن الله شديد العقاب.
فليست العقوبة خاصة بأمة ولا بعصر ولا خاصة بالأنبياء، وإنما هي باقية وخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع بين الحق والباطل سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، فكل من شاق الله ورسوله فسوف يجد هذا الجزاء، لكن ربما يرد على بعض نفوس ضعاف الإيمان شيء من الشك، فيقول: كثير ممن يبارز الله عز وجل بالمعاصي ويشاقه اليوم أين هذه العقوبة منهم؟
فنقول: إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لكن بشرط أن يكون الصراع بين الإيمان والإلحاد، بين الحق والباطل، لا في سبيل التراب، ولا في سبيل العرق ولا الجنس، ولا ليرى مكانه، ولا ليقال: إن فلاناً شجاع، ولكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا وقف المسلمون في أي عصر من العصور هذا الموقف وأرادوا أن يوقعوا العقوبة بمن شاق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، أي: لهؤلاء الذين يشاقون الله ورسوله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
والحمد لله رب العالمين.
الجواب: الإسلام مر بأربع مراحل: مرحلة الصبر، وتجدونها في الآيات المكية، كقوله تعالى: فَاصْبِرُوا [الأعراف:87]، وقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].
ثم جاء الدفاع في المرحلة الثانية، ومن ذلك قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، وذلك أول ما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ثم أُمر المسلمون بالقتال ابتداءً، لكن من قدم الجزية تقبل منه الجزية، وهذه هي المرحلة الثالثة.
المرحلة الرابعة التي أعتقدها أنا: أنها مرحلة القتال دون أن تقبل الجزية، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]، إلى غير ذلك من الآيات التي تجدونها في سورة التوبة؛ لأن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن في آيات الجهاد؛ حيث إنها نزلت في غزوة تبوك، وهي تعتبر من أواخر الغزوات.
وعلى كلٍ تكون المراحل أربع، ولذلك المسلم لا يضع السلاح حتى يكون الدين كله لله، لقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، والفتنة ليس معناها الفوضى، وإنما معنى الفتنة: الكفر، يعني: قاتلوا الكافرين حتى لا يبقى كفر على وجه الأرض، وحتى يكون الدين كله لله، فلا يبقى دين غير دين الإسلام.
ولذلك أعتقد أن المسلمين مفرطون حينما يضعون السلاح على الأرض وهناك من يعبد في هذه الأرض غير الله سبحانه وتعالى، لكن لو بقيت دولة تهادن المسلمين، والمسلمون يشعرون بالقوة فنقول في مثل هذه النقطة: هذه نقطة ضعف، فيدعون القتال حتى يتقوى هؤلاء المسلمون لينشروا هذا الإسلام في هذه الأرض بطريق القوة.
ولذلك لا يضير الإسلام أنه ينتشر بالقوة؛ لأن الإسلام انتشر بالحكمة فوقف العدو في وجهه فالله سبحانه وتعالى أراد أن يزيح ما يقف في وجه هذه الدعوة، ولذلك الذي أعتقده أنا أن آخر ما استقر عليه الدين: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: كفر، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، لكن لا مانع أن يبقى كافرون يعيشون في ظل دولة إسلامية، والله تعالى يقول: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8].
لكن يا إخوان! لا تظنوا أن معنى (تبروهم) هو هذا اللين وهذه الرقة التي يعيشها المسلمون مع أعداء الله، ولكن إذا كان هناك كافر فقير عاش بدولة إسلامية وهو ذليل فقير، فنحسن إليه، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإذا تحاكم رجل كافر ومسلم أمامنا نحكم بالعدل بينهما، هذا معنى (تقسطوا إليهم)، أما هذه الرقة وهذا اللين وهذا الذوبان مع الكافرين، فهو الشيء الذي لا يقبله الإسلام في أي حال من الأحوال.
الجواب: يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73]، وهذا دليل على أن المنافق غير الكافر؛ لأن الكافر كافر معروف، أما المنافق فهو أخطر على الإسلام من الكافر، ولذلك يقول الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
أما كيف نقاتل هؤلاء، فإذا علمنا بأن هؤلاء منافقون فعلينا أن نراسل الدولة ونناصح الدولة ونقول لهم: اتقوا الله، هؤلاء منافقون لا تتركوهم يتسلمون أمور الحياة؛ لأن هؤلاء سوف يدمرون الحرث والنسل، وهؤلاء متربصون، كما تربص المنافقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أحاط الأحزاب بالمدينة خرج المنافقون من أوكارهم وتعاونوا مع الأحزاب، وأعتقد أن هذا هو الذي يحدث في مثل هذه الأيام، لما أحاط بنا عدونا من كل جانب تحرك المنافقون وكأنهم بدءوا يتمالئون مع العدو، ولربما لا يظهرون للدولة أنهم يتمالئون مع العدو، لكن تحركاتهم تريد أن تربك الدولة، وتربك المجتمع، كما نلاحظ في أيامنا الحاضرة.
فهؤلاء لابد أن ننبه الدولة على أخطارهم، ونقول: فلان وفلان وفلان أبعدوهم عن المناصب؛ لأنهم سوف يوقعون بهذه الدولة، ونحن لا نريد إلا أن تكون هذه الدولة؛ لأنها دولة حكمت بحكم الله ولا نريد غيرها يحكم هذه البلاد، فوجود هؤلاء المنافقين سوف يربك الدولة؛ لأن الدولة الآن ما تدري: هل تحارب العدو الخارجي الذي يطوقها من جميع الجهات أو تحارب العدو الداخلي؟ فهؤلاء المنافقون بدوء يحرضون ضد الدعاة والمصلحين والمؤمنين من أجل أن يحولوا بينهم وبين الدولة، ولربما يقولون: إن هؤلاء أعداء لكم، فتوقع هذه الدولة بهؤلاء الدعاة، فتسقط من عين الله عز وجل؛ لأن هذه الدولة لو آذت هؤلاء الدعاة فسوف تقع في حرب مع الله عز وجل، وإذا حاربت الله عز وجل فسوف تنهزم، بل ستنهزم حتى في حربها مع الناس؛ كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً -يعني: رجلاً صالحاً- فقد آذنته بالحرب)، ومن يستطيع أن يحارب الله، ثم يحارب الناس بعد ذلك؟!
فنحن ندعو المسئولين الكبار في الدولة أن ينتبهوا للمنافقين الذين يندسون في دوائر الدولة، ولا أقول: في الإعلام أو غيره، بل الحقيقة أننا أصبحنا نشك في كثير من الناس الآن، وأنهم غير مخلصين للدولة، إضافة إلى أنهم غير مخلصين لدين الله عز وجل، وأنهم أعداء لدين الله عز وجل، ولكن البوادر تدل أن في وسائل الإعلام وفي غيرها أناساً مندسين الآن، ولذلك ما قالوا للدولة ولا وجهوا الدولة في مثل هذه الظروف الحرجة أن تغير كثيراً من برامجها وكثيراً من تحركاتها وأعمالها، فأصبح الأمر إن لم يكن أشد من السابق فهو ليس بأقل من السابق خطراً.
وهذه كلها من أعمال المنافقين الذين يضرون بالدولة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي الدولة حتى تعرف هؤلاء ومواقعهم، فهم مكشوفون الآن، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا نحن أمام هؤلاء المنافقين، كما نسأله أيضاً أن يثبت أقدامنا أمام الكافرين المحيطين بهذه الدولة.
الجواب: الاعتماد على غير الله عز وجل كفر ومذلة وسبب سقوط هذا الإنسان من عين الله عز وجل، والله تعالى لما أنزل الملائكة ما قال للمسلمين: هذا النصر جاء، بل قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، مع أنهم ملائكة يضربون بقوة الله تعالى.
إذاً: من باب أولى أن يكونوا أناساً من البشر فضلاً عن ناس غير مسلمين يكرهون الإسلام ويكرهون بلاد الإسلام والدولة الإسلامية، فلا يعتمد على هؤلاء، وإنما هؤلاء نعتبرهم قوة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شرهم وشر من جاءوا ليحاربوه.
أما موقفك أيها المسلم! فأنت مطالب بالجهاد في سبيل الله، والدفاع عن بلاد المسلمين، فعليك أن تستعد لهم بقدر ما أوتيت من قوة، ولا مانع أن تنضم إلى المجموعة غير المسلمة في مثل هذه الظروف؛ لأن الظروف يوجد فيها عدو يطوق بلاد المسلمين، ويطوق دولة إسلامية، ويريد أن يقضي على هذا الإسلام في مهده.
ولذلك فنحن مطالبون أن ندافع عن بلاد المسلمين، لا عنها كتراب، وإنما عنها كأرض للإسلام، وكمقدسات يتجه إليها المسلمون في كل يوم خمس مرات في صلاتهم، ويحجون ويعتمرون إليها، فلابد أن نستميت في الدفاع عن هذه البلاد.
وأقول أيضاً: نحن لا نفرط بهذه الدولة، ولا نريد غيرها، وإن كان الواشون والمنافقون لربما يوقعون بيننا وبينها، فنحن لا نريد غيرها، فهي التي تحكم بشرع الله، ولكن نرجو أن تضرب بيد من حديد على هؤلاء المفسدين؛ حتى لا تفسد العلاقات بيننا وبينها؛ لأن هؤلاء المنافقين والعلمانيين إنما يريدون أن تفسد العلاقات بين المؤمنين والدولة، ثم يحدث ما يحدث من جفاء، وهذا هو أكثر ما يحدث الخلل في صفوف المسلمين.
إذاً: لابد من الدفاع، فقد يصبح الدفاع فرض عين في مثل هذه الظروف وليس فرض كفاية، وقد أجمع علماء المسلمين على أنه إذا هجم عدو من الخارج على دولة إسلامية، فإن كل واحد من هؤلاء المسلمين أصبح عليه فرض عين أن يكافح هؤلاء بقدر ما أوتي من قوة، ومن يتأخر عن ذلك فهو من الذين قال الله تعالى عنهم: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال:16].
الجواب: يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فقوة الإيمان وقوة السلاح والتدريب والرمي، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، كل هذا يدخل في الاستعداد.
إذاً: المسلمون مطالبون بكل نوع من أنواع القوى التي يستطيعون أن يقدموها في مثل هذه الظروف، ولذلك فهم مطالبون بأن يقووا إيمانهم، وحينما يقوون إيمانهم هم مطالبون بأن يقووا جيشهم وعددهم وعدتهم.
وأيضاً هم مطالبون بألا يرحموا هؤلاء الكافرين، لقوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال:57]، أي: قطعهم تقطيعاً.
إذاً: المسلمون مطالبون بإعداد جميع أنواع القوى، لكن حينما يعدون إعداداً مادياً ويغفلون أو يتغافلون عن القوى المعنوية فإن هذه هي البلية، وهذا هو الذي يحدث في كثير من الأحيان، أو حينما يتعلقون بغير الله سبحانه وتعالى، ويظنون أن غير الله سبحانه وتعالى هو الذي سوف ينصرهم، فهذه هي البلية، والله تعالى يقول: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، فعلينا أن نبحث عن النصر في موقعه وحيث يكون.
الجواب: الحكمة معناها في اللغة: وضع الأمور في مواضعها، فالكلمة الطيبة الرقيقة اللينة حكمة حينما يكون الموقف يتطلب مثل هذه الكلمة، والقتل حكمة، وإبادة أمة من الأمم منحرفة عن منهج الله تعتبر حكمة، فمعنى الحكمة تختلف حسب الظروف وحسب مقتضيات الأمر، فاللين حكمة إذا كان الموقف يتطلب اللين، والقسوة والشدة حكمة إذا كان لابد من هذا الأمر، ولذلك قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، ولربما يطلق على الحكمة -وهذا في أول الإسلام- معنى اللين.
لكن الحكمة في معناها اللغوي والاصطلاحي الذي اتفق عليه علماء المسلمين بعد ذلك هي: وضع الأمور في مواضعها، ولذلك فإننا مطالبون بالحكمة بمعنى اللين حينما يكون للين موقعاً، ولكن إذا كان لابد من القوة فلابد أن تكون للأمة الإسلامية قوة.
ولذلك لا تعجبوا حينما ذكر الله عز وجل إنزال الحديد مع إنزال الكتب السماوية، وقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25]، فمعنى ذلك: أنه لابد من القوة، وتعتبر حكمة حينما يتطلب الموقف القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة بضوابط كثيرة أهمها:
ألا تجر وراءها مشاكل، ولذلك نحن ندعو الشباب الذي أصبح الآن يتحمس لدينه إلى الحكمة، ولربما نكرر هذه الكلمة دائماً وأبداً لكثرة ما يردنا من الأسئلة، سواء كان من خلال الهاتف أو من خلال الأوراق أو من خلال المواجهة والمشافهة كلهم يقول: ماذا نعمل في مثل هذه الظروف؟ وكأن الشباب يريد أن يدمر ويفسد الحرث والنسل، ويريد أن يستعمل قوته ويعتبرها حكمة، فنقول: هذه ليست من الحكمة، بل عليك يا أخي! أن تضبط نفسك وتوازنك، فأنت تعيش في دولة إسلامية، وأنا واثق أنها لن تترك هؤلاء المجرمين الذين أثاروك في يوم من الأيام، أو في أيام كثيرة، لن تتركهم يتمادون في مثل هذا الباطل؛ لأن إثارتك سوف تسبب غضب الله أولاً، ثم لربما تسبب غضب مسلم من المسلمين، فيدمر أشياء كثيرة بدافع غيرته على دين الله عز وجل.
فأنا أنصح المسئولين في الدولة بالانتباه لذلك، فوالله الذي لا إله غيره إننا دائماً وأبداً يأتينا شباب يريدون أن يقدموا على أمور نخشى أن تكون لها خطورة، فنحن نكون كوابح أمام هؤلاء، ونقول لهم اتقوا الله، لكن ربما يأتي يوم من الأيام لا يأخذون رأينا في مثل هذه الأمور، فأقول للمسئولين: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء الشباب، ويحركون فيهم الشجاعة والحمية والغيرة، والغيرة أحياناً تكون غير منضبطة، لاسيما في عصر الصحوة الإسلامية التي وجه الله تعالى فيها كثيراً من الشباب إلى دين الله، ولربما أن بعضهم كان في يوم من الأيام حرباً على الإسلام، فإذا به الآن قوة ضاربة في الأرض لهذا الدين، فأنا أقول: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء؛ حتى لا تكون فتنة، والله المستعان.
الجواب: قد يكون المال أنفع للمسلمين من النفس، لاسيما في ظروف بلاد فقيرة، كما يوجد في أفغانستان وفي أرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي غيرها، ولربما تكون النفس أنفع من المال حينما يتوفر المال ولا نجد الرجال، كما يوجد في بعض المواقع الأخرى، ولذلك نقول: المال غالباً أنفع من الرجال في الظروف العادية؛ لأن مال رجل واحد من الأثرياء ربما يمون آلاف الرجال للجهاد في سبيل الله، لاسيما حينما يكون هناك فقر ومسغبة، كما يوجد في بعض المناطق الإسلامية.
ولكن حينما يكون المال ولا يكون رجال فلابد أيضاً من الرجال، فالله تعالى يقدم المال في أكثر الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم المال في أكثر الأحاديث، ولربما يتقدم الرجال على المال، المهم أن التقديم يكون حسب الحاجة، فإذا كانت الحاجة إلى المال فالمال يكون أفضل، وذلك حينما يتوفر عدد الرجال، وحينما يكون المال متوفراً والرجال قلة لابد أن نقدم أنفسنا وأرواحنا في سبيل الله.
وخير هذه الأمور من يقدم نفسه وماله في سبيل الله، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، أي: لم يرجع لا بنفسه ولا بماله، وهذه أعلى المراتب وأفضل الدرجات.
الجواب: الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة واضح، فتمني لقاء العدو إذا لم يقم قتال، والأمور مستقرة على طاعة الله، فلا نتمنى لقاء العدو في مثل هذه الحال، لكن إذا وجد القتال وقام العدو ووقف صفاً في وجوه المسلمين، أو في وجه الزحف الإسلامي ففي مثل هذه الحالة نتمنى الشهادة، ولكني أرى الآن -خصوصاً من خلال أخبار أسمعها من شباب يسافرون إلى بعض مواقع قتالية في أرض الله- أن أحدهم دائماً يسعى إلى الشهادة فقط، أنا لا أريد هذا، فالله تعالى يقول: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
إذاً: لابد أن يقدموا جهداً قبل أن يسعوا إلى الشهادة، فالشهادة مطلب يستفيد منه هذا المستشهد، لكن قتل الكافرين ومصارعة الكافرين تستفيد منه الدولة الإسلامية كلها، ولذلك الأصل: ألا نتمنى قتال العدو، لكن إذا قام القتال ووجد وأصبح حقيقة ففي مثل هذه الحال نتمنى الشهادة، ولا نتمنى القتال؛ لأن القتال موجود، وإنما نتمنى الشهادة، لكن تمنينا الشهادة لا يعني أن الإنسان يزج بنفسه في أمور مخاطرة لا يستفيد منها الإسلام، أو لربما تجر على الإسلام أضراراً أو تقلل عدد المسلمين أو عدد هذا الجيش، أو تفت في عضد المجاهدين حينما يرون كثرة الاستشهاد، وإنما المسلم يقاتل لا ليستشهد، وإنما يقاتل حتى يستشهد بعد ذلك، ولذلك نجد في قتال المسلمين يوم مؤتة أنه لما رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن المعركة ليست لمصلحة المسلمين انسحب بالجيش، ولو كانت المسألة مسألة استشهاد فقط لزج بثلاثة آلاف معه من المسلمين في وسط الروم وأبيدوا، وحصلوا على الشهادة وانتهى الأمر، لكن لما رأى خالد رضي الله عنه أن الموقف والتكتيك الحربي يتطلب الانسحاب انسحب، فالمسألة مسألة هزيمة أعداء لا مسألة شهادة فقط.
الجواب: يعتبر المرابط مرابطاً في سبيل الله بشروط:
الشرط الأول: أن يكون مخلصاً في القصد لله سبحانه وتعالى، فيقصد من وراء مرابطته الدفاع عن دين الله وعن أرض الإسلام، لا عن وطنه الذي هو تراب وأرض.
الشرط الثاني: أن يكون مستعداً مجرباً قبل أن يكون مرابطاً، فعليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل باحثاً عن الحق، يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يكون أيضاً تحت قيادة إسلامية خالصة إن أمكن، ولكنه قد يعذر حينما يكون تحت قيادة غير إسلامية إذا أصلح هدفه، فلربما يكون اثنان أحدهما في سبيل الله والآخر في سبيل آخر، والله تعالى يبعث كل واحد يوم القيامة على نيته، ويعطي الله سبحانه وتعالى كل واحد على حسب ما يعتقد وما ينوي وما يقصد.
فالمرابطة تعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله؛ لأنه صراع بين المسلمين وبين الكافرين، ولا يمنع أن تكون هناك أمور لا يرضى بها كثير من المسلمين، لكن المهم أن الدفاع عن بلاد المسلمين كأرض إسلام أمر مطالب به كل واحد من المسلمين، لكن بشروطه.
الجواب: ليست هناك مؤسسات إسلامية لها وزن كبير وإن كانت موجودة والحمد لله، كرابطة العالم الإسلامي وغيرها، لكن الحقيقة أن فيها الضعف الشديد، وهذا هو الشيء الذي يحز في النفس، وهو أن تكون هذه المنظمات الإسلامية على هذا المستوى الصغير لا تدافع عن حقوق المسلمين إلا بشجب أو بكلمة فقط لا أكثر ولا أقل، والذي نتمناه من الله سبحانه وتعالى ونرجوه منه سبحانه وتعالى أن يهيئ لهذا العالم دولة إسلامية تتبنى الإسلام بمعناه الحقيقي، وتملك جيشاً إسلامياً ضارباً في الأرض يدافع عن المسلمين لا يفرق بين المسلمين في فلسطين ولا في جنوب الفلبين، ولا في أي مكان من الأرض.
أما واقعهم في الحقيقة فهو موقف ضعيف وهو الشجب والاستنكار في بعض الأحيان، لا في كل الأحيان، أما الدم الإسلامي فهو أرخص الدماء اليوم على وجه الأرض! ولو تتبعت أخبار العالم عبر الأثير لوجدت أن هناك تركيزاً كاملاً على المسلمين، ويكفي ما يدور في الهند في أيامنا الحاضرة، من أجل مسجد سيهدم يدافع عنه المسلمون نجد أن قوىً ضاربة داخل الهند قامت ضدهم، بالرغم من أن عدد المسلمين في الهند يزيد على مائة وثمانين مليون مسلم، ومع ذلك لا يجدون إمداداً، أكثر ظني أن كثيراً من المسلمين لا يدري ماذا يحدث في الهند، بل أخوف ما أخاف أن المسلمين في الهند يُذبحون بأموال المسلمين! فهذا يأتي بهندوسي وهذا يأتي بسيخي، ثم يأخذون هذه الأموال ويذهبون هناك يذبحون بها المسلمين، فنقول لهؤلاء أصحاب المؤسسات أو الدوائر الرسمية الحكومية الذين يستقدمون غير المسلمين: اتقوا الله! فالمسلمون يُذبحون في الهند، وقد يكون ذلك بأموال مسلمين، والمسلمون يُذبحون في جنوب الفلبين، وقد يكون ذلك بأموال المسلمين!
إذاً: لا يجوز أن تذهب أموال المسلمين إلا إلى المسلمين، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر