اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:267-268].
أيها الإخوان! بني الإسلام على خمس، ومن أبرز أسسه وأهم دعائمه: الزكاة، التي هي رأس العبادات المالية، والتي تكرها مقرون بالشرك في قول الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7].
فالزكاة ركن من أركان الإسلام، من تركها جحوداً لها فقد كفر، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].
وقد شرح الله صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقتال مانعي الزكاة وقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً -أو عقالاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
ومن هنا أجمع المسلمون عامة والصحابة خاصة على قتال كل من منع الزكاة جاحداً لوجوبها، أما من منعها بخلاً وتهاوناً فقد ركب إثماً عظيماً، وعرض نفسه لسخط الله عز وجل.
ولقد توعد الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه [التوبة:34]، والمراد بالكنز هنا: منع الحقوق الواجبة من زكاة وغيرها، توعدهم الله عز وجل بنار جهنم يوم القيامة، فقال عز من قائل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35].
وفي هذا المعنى يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى مصيره إما إلى الجنة أو إلى النار).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه- فيطوّقه، فيقول: أنا كنزك.. أنا مالك، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]).
إنها تنمي المال وتطهره، كما أنها تطهر صاحب المال من الشحّ.. تطهر قلبه، وتطهر جسمه من الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
إنها تطهر المجتمعات من الفساد؛ ذلك أن المجتمع الذي لا يتوازن فيه الاقتصاد حسب ما يريده الله عز وجل ليعيش الفقراء آمنين من الفقر بسبب ما فرض الله لهم من أموال الأغنياء، حينما لا يكون ذلك سينتشر النهب والسلب والسرقة والفوضى، وهناك تباع الأعراض، ويتسلط الفقراء على الأغنياء، ويرفع الله عز وجل يده عن الأغنياء.
وما ينقم أهل هذا البلد لو بخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً في أموالهم، ما ينقمون إلا أن كانوا فقراء، فقدر الله لنا ثروات الأرض من تحت آلاف الأمتار، ولقد كنا عالة فأغنانا الله عز وجل، وكنا أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، وكنا خائفين فأمَّنَنا وطمأنَنَا، ويتخطف الناس من حولنا، ولو بخلنا بالزكاة فإنه يوشك أن يولي الله علينا حكاماً ظلمة، يسلبون أموالنا بدون حق، ويسوموننا سوء العذاب، وهذا الواقع المرير موجود، حيث تعيش مئات الملايين من البشر من المسلمين تحت مطارق الكافرين، مثل الحكم الشيوعي الذي كان رد فعل لما يقترفه المسلمون أولئك في يوم من الأيام من الإثم والمعصية والبخل بحق الله.
معشر المسلمين! إن أخوف ما نخافه أن يكون لدى طائفة منّا أموال ضخمة ولا يؤدون زكاتها، ويوجد في هذه الأيام من لديهم أموال كادت الأرقام أن تعجز عن إحصائها، وكادت البنوك أن تعجز عن حفظها، ثم يحسب هؤلاء زكاة أموالهم فيجدونها تبلغ عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، ثم تزل بهم القدم فيبخلون بهذا المال حينما يستكثرونها بالزكاة.
ولقد حدثنا القرآن الكريم عن رجل كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى بعض المفسرين أنه ثعلبة بن أبي حاطب ، كان رجلاً فقيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال له عليه الصلاة والسلام: يا فما كاد ثعلبة يقرأ هذه الآيات حينما سمعها من الركبان حتى جاء يحثو التراب على وجهه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرض ما يريد من المال، فرفض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكم في كتاب الله من الدروس، وكم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ!
فليحذر هؤلاء الذين منّ الله عليهم بالمال امتحاناً وفتنة واختباراً، ليحذر هؤلاء أن يبخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً معلوماً للسائل والمحروم، حتى إذا حانت ساعة الموت قرعوا سنّ الندم، وعضوا الأصابع، ولات ساعة مندم! يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأن أمرها خطير، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
معشر المسلمين! ويل للذين يبخلون بما أوجب الله عليهم من الصدقة؛ فإن الله عز وجل استخلفهم في هذا المال ليختبرهم، وأمرهم بالإنفاق مما جعلهم مستخلفين فيه فقال: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
ثم هذا المال سيصير لله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].
وحينئذ يجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يحافظ على هذا الواجب الذي فرض الله، وأن يحسب ماله وما عليه في رأس كل عام، وفي يوم يحدده ليخرج زكاة هذه الأموال من نقد أو عروض تجارة، ويصرف هذه الزكاة للذين يستحقونها، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة:60].
أيها الإخوان! لا يجوز أن ندفع الزكاة مجاملة أو محاباة أو صيانة لأموالنا؛ بل يجب أن ندفعها كما أمر الله عز وجل، فهو الذي تولى حفظها بنفسه وتوزيعها.
معشر المسلمين! إن هناك ظروفاً تتطلب من المسلم أن يبادر بإخراج زكاته طيبة بها نفسه، هناك عزاب لا يجدون مئونة الزواج، فيجب أن نبذل من أموالنا ما نزوجهم به من أجل أن نحصن أموالنا، ونحصن المجتمع من شر العزوبة، وعَلَم الجهاد اليوم قائم في سبيل الله في أرجاء الأرض، والمجاهدون يفقدون المال، وهناك الأُسر التي أرملتها الحروب على أيدي أولئك الظلمة، كل هؤلاء يجب أن نبذل أموالنا لهم، ولو خرجنا عن هذه الحدود الإقليمية فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما المؤمنون إخوة).
إن علينا أن نؤدي هذا الحق المقدس، ومن هنا ندرك الفرق الواضح بين نظام الإسلام في الصدقات والزكوات، وبين الأحكام الجائرة التي تسود أكثر العالم الإسلامي اليوم، فإن الزكاة في الإسلام يؤديها الناس ركن من أركان دينهم، طيبة بها أنفسهم، يبتغون الأجر والمثوبة من الله، أما تلك الضرائب فإنها لا تؤخذ إلا تحت قسوة القوانين الجائرة، والزكاة في الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، أما تلك فإنها تؤخذ من الأغنياء والمتوسطين والفقراء، ولا ترد على الفقراء ولكنها تنفق لتثبيت عروش تعتز بأهلها بسبب ما كسبت أيديهم.
انتبهوا لهذا الأمر، واحذروا البخل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
أيها الإخوان! حاسبوا أنفسكم قبل أن نقف يوم القيامة بين يدي أسرع الحاسبين، ليحاسبنا على هذه الأموال صغيرها وكبيرها، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في جنات النعيم.
اللهم إنا نتوجّه إليك في هذه الساعة المباركة من هذا اليوم المبارك، من هذا الشهر المبارك أن تهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن ترد المسلمين إليك رداً جميلاً، وأن ترزقهم حكاماً صالحين يقودونهم إلى طريق الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الإسلام من المفسدين والمخربين، اللهم طهر المجتمعات الإسلامية من الشح والبخل، والفساد والضلال، والمعصية والشرك، والشك والنفاق.
اللهم وأيد المسلمين المجاهدين في سبيلك، اللهم خذ بأيديهم إلى ما فيه سعادة الأمة بأجمعها، اللهم لا تكلهم إلينا فنعجز عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم وعليك بأعدائهم، اللهم وعليك بأعدائهم من جميع الكفرة والملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وأسقط عليهم كِسْفاً من السماء، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، واجعل فيهم آية وعظة للمتعظين والمعتبرين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر