ثانياً: حضارة العبيد: نعم. إنها حضارة العبيد، إنها الحضارة الخاوية الروح.. إنها الحضارة التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي؛ ليسوم البشرية كلها سوء العذاب، فلقد شهدت البشرية اليوم في ظل حضارة العبيد من الوحشية ما لا يمكن على الإطلاق أن تجسده كلمات قواميس اللغة!!
إن البشرية الآن تشهد من صنوف الوحشية والبربرية في ظل حضارة الرجل الغربي الذي تقدم ليقود العالم كله في ظل تأخر أمة القيادة، تشهد البشرية اليوم من صنوف الوحشية والبربرية والهمجية على يد الرجل الغربي ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها في عالم الغابات.
ليست مبالغة، وما عليك إلا أن تنظر إلى الواقع المرير للبشرية المنكودة التي حادت عن منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
مقومات الحضارة
أيها الأحبة: لابد للحضارة من عنصرين ألا وهما: العنصر المادي، والعنصر الأخلاقي.
ونحن لا ننكر ألبتة ما وصلت إليه الحضارة الغربية في عالم المادة، فليس من الإنصاف ولا من التعقل أن ننكر ذلك، بل إننا نثبت ذلك للحضارة الغربية في عالم المادة، ونقر بأن الرجل الغربي قد انطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وانطلق بعيداً بعيداً في أعماق البحار والمحيطات، وفجَّر الذرة، وصنع القنبلة النووية، وصنَّع القنابل الجرثومية، بل وحوَّل العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات.
لا ننكر ذلك أبداً، ولا نتجاهل هذا، ولكننا على يقين جازم أن الحياة ليست كلها مادة، فلو استطاع طائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد فلن يستطيع أن يواصل طيرانه وتحليقه، وإنما سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وإن طالت مدة طيرانه في هذا الفضاء الفسيح.
الحياة ليست مادة فحسب، بل لابد للجانب الأخلاقي من تواجد فعال في هذه الحضارة، فالحضارة المادية التي وصلت إليها الحضارة الغربية ما استطاعت أن ترتقي بالإنسان -ابن هذه الحضارة- إلى طهارة إنسانيته أو إلى وضاءة آدميته، بل ما استطاعت أن توفر لابن هذه الحضارة سعادة البال، وانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، بل يقف علماء النفس والطب في حيرة ودهشة أمام هذه الحالات المتزايدة لعدد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، وأمام هذه الحالات الهائلة للانتحار الجماعي في مثل هذه البلاد المتحضرة، التي وصل فيها الإنسان إلى ما وصل إليه في جانب المادة كما تعلمون وكما ترون وتسمعون، وصدق الله عز وجل إذ يقول:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا *
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى *
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
لقد عجزت الحضارة المادية أن ترتقي بإنسانها -ابن هذه الحضارة الخاوية الروح- إلى السعادة.. إلى انشراح الصدر.. إلى راحة الضمير.. إلى طمأنينة النفس وراحة البال، عجزت؛ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع للتجارب المعملية في أحد المعامل، فهذه الروح يعجز أي إنسان على هذه الأرض أن يقدم لها المنهج الذي يرقيها ويغذيها، إذ لا يستطيع أن يقدم لهذه الروح منهج صلاحها وفلاحها في الدنيا والآخرة إلا خالق هذه الروح، قال جل وعلا:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فقدان الحضارة الغربية للعنصر الأخلاقي
أيها الأحبة: إن الناظر إلى الحضارة الغربية يجد أنها قد فقدت العنصر الأخلاقي، ومن المعلوم أن سنة الله في تطوير الحياة أن الحضارة اللاحقة حتماً ولابد أن تتفوق على الحضارة السابقة في الجانب المادي، وهذه سنة من سنن الله في تطوير هذه الحياة، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب التطوير المادي.
وأضرب لكم مثالاً ليتضح ما أقول: انظر إلى الكتابة في الماضي السحيق، وانظر الآن إلى الكتابة بعد هذا التطور المذهل في آلات الطباعة الحديثة التي تطبع الآن عشرات الآلاف من الكلمات في الدقيقة الواحدة، فما وصل إليه الغربي الآن إنما هو محصلة لأدمغة وعقول عشرات الأجيال، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب المادة، لكن محال أن ترتقي حضارة على ظهر الأرض أو أن تدوم بالعنصر المادي فقط، بل إن الحضارة لا تسود ولا تبقى إلا بالعنصر الأخلاقي؛ ليحدث التوازن بين العنصر المادي وبين العنصر الأخلاقي.
وارجع البصر مرة ومرة.. وكرة بعد كرة إلى العنصر الأخلاقي في ظل قيادة الرجل الغربي؛ لتعلم أنها حضارة قد تجردت من الأخلاق، لتعلم أنها حضارة العبيد، يسعد فيها ابن الحضارة الكافرة بأن يجلس لا على كرسي، بل على عظام أخيه الإنسان! يسعد فيها ابن هذه الحضارة لا بشرب كأس من الماء البارد، وإنما بشرب برك دماء لإخوانه هنا وهناك!
انظر لتتعرف على حقيقة هذه الحضارة التي تجردت من كل خُلق ومن كل فضيلة!
انظر الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة، وارجع البصر كرة أخرى إلى ما يجري الآن على أرض الشيشان!! وارجع البصر كرة ثالثة إلى ما يجري الآن على أرض فلسطين!! وارجع البصر كرة رابعة إلى ما يجري الآن على أرض العراق!! وارجع البصر كرة خامسة إلى ما يجرى الآن على أرض كشمير!! وارجع البصر كرة سادسة وسابعة وعاشرة إلى ما يجري الآن في كل مكان وُحِّدَ فيه الملك جل جلاله؛ لترى إلى أي درك دنيء وصلت حضارة الغرب في جانب الأخلاق!
لا خلق، لا فضيلة، وإن خرج علينا ابن هذه الحضارة الكافرة بهذه الشعارات الرنانة الجوفاء كحقوق الإنسان، والديمقراطية المشئومة، وحرية المعتقدات، والنظام العالمي.. والسلام العالمي، إلى آخر هذه الدعاوى الكاذبة التي لم تعد تنطلي الآن إلا على السذج والرعاع.
إن هذه الأفعال البشعة تبين بجلاء لكل ذي لب حضارة الغرب في هذه الأيام، رغماً عن أنف الدجل الإعلامي والعهر السياسي الذي يتغنى به قادة الغرب في قاعات المؤتمرات وفي المجالس والهيئات والمنظمات، يتغنى قادة العالم الغربي بهذه الشعارات والواقع يكذِّب هذا الدجل الإعلامي، ويكذب هذا العهر السياسي.
جراجات المسلمين في ظل الحضارة العالمية الجديدة
إخواني في الله: انظروا الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة منذ أربع سنوات، لأبين لحضراتكم قيمة هذه الحضارة التي يتغنى بها أولئك وهؤلاء في كل مناسبة.
وبدون مناسبة، منذ أربع سنوات قُتِلَ إلى يومنا هذا على أرض البوسنة بمنتهى الوحشية والبربرية ما يزيد على نصف مليون.
في ظل حضارة الرجل الغربي اغتصاب جماعي منظم للنساء على أرض البوسنة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة الغربية التي يتغنى بها في الليل والنهار!!
صرخت المسلمة باسم الإنسانية.. صرخت في الضمير العالمي كله وقالت:
أنا أيها الناس مسلمة طوى أحـلامها الأوباش والفسـاق
أخذوا صغيري وهو يرفع صوته أمي وفي نظراته إشفاق
ولدي وتبلغني بقية صرخة مـخنوقة ويقهـقه الأفـاق
ويجرني وغدٌ إلى سردابه قـهراً وتـظلم حـولي الآفاق
ويئن في صدري العفاف ويشتكي طهري وتغمض جفنها الأخلاق
أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق
عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبِيٌٌّ قلبه خفاق
أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق
أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق
إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق
فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق
لا تيأسي فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق
هذا ما يُفعل بالمرأة في ظل الحضارة الغربية!!
هذا ما يفعل بالمرأة في ظل النظام العالمي الجديد!!
هذا ما يفعل بالمرأة في ظل السلام العالمي الجديد!!
هذا ما يفعل بالمرأة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة التي يتغنى بحضارته الخاوية الكافرة في الليل والنهار!!
حتى الأطفال شهدوا -في ظل حضارة الغربيين- ما لا يمكن لمخلوق على ظهر الأرض أن يجسده، كما ذكرت في خطبة (البوسنة بين الملحمة الصربية والعمرية) أن الأطفال لم يسلموا في ظل حضارة العبيد التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي اللعين الملعون.
حتى الطفل يستخدم الآن على أرض البوسنة كدرع بشري، بمعنى أن يفخخ الأطفال بالألغام، وينادي الصرب الكفرة الفجرة أنهم قد أفرجوا عن مجموعة كبيرة من أطفال المسلمين، فإذا ما وصل الأطفال إلى قواعد البوسنة المسلمة، وخرج القادة وخرج الأهل لاستقبال أطفالهم وأبنائهم، يقوم الصرب عن طريق أجهزة التحكم من بُعد -التي تعرف بالريموت كنترول- بتفجير الألغام التي وضعوها في هؤلاء الأطفال المساكين، فيقتل الأطفال ويقتل كل من خرج لاستقبالهم!
في ظل حضارة الغربي اللعين الفاجر الملعون المرأة لم تسلم.. الشيخ الكبير لم يسلم.. الطفل الرضيع والصغير لم يسلم، بل قد كانوا يأتون بالأم وينتزعون ولدها الرضيع من صدرها، بل ووالله قد نشرت وكالات الأنباء بالصور أنهم كانوا يبقرون البطون ويخرجون الأجنة من بطون أمهاتهم!
ينتزع الطفل من صدر أمه، وتقيد الأم بالأغلال، ويوضع الطفل على النار ليشوى والأم تنظر، فإذا ما انتهى هؤلاء الفجرة من شَيِّهِ أُجبرت الأم تحت تهديد الرصاص أن تأكل من لحم طفلها المشوي.
في ظل الحضارة الغربية فعل هذا بالأطفال، وقتلوا أربعين ألف طفل، وشردوا مائة ألف طفل إلى مخيمات اللاجئين الكنسية في زغرب في مقدونيا، وفي ألبانيا، وأوروبا كلها.
أخي! فكر الآن في طفلك، فكر في ولدك لتشعر بما أقول.
أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا
يباع الطفل المسلم الآن في أوروبا بمائة دولار فقط.
تشهد أوروبا الآن أبشع تجارة رقيق للأطفال في التاريخ كله، بل يستخدم الطفل الآن كفأر تجارب في معامل قلعة الكفر أمريكا وإنجلترا وهولندا.. في هذه الدول التي تتغنى بالحضارة المكذوبة الكافرة الفاجرة يستخدم الطفل كفأر تجارب!
أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا
أطفالنا بيعوا وأوروبا التي تشري ففيها راجت الأسواق
أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق
أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق
يا مجلس الأمن! بل يا مجلس الرعب يا مجلس الخوف الذي في ظله
كسر الأمان وضيع الميثاق
أو ما يحركك الذي يجرى لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق
يعفى عن الصرب الذين تجبروا ويفرد بالعقاب عراق
وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق
إنها ورب الكعبة حضارة العبيد بكل المقاييس!!
أين هذه الحضارة التي يفعل الإنسان في ظلها بأخيه الإنسان ما تستحي الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات؟!
هل نسيتم ما فعله ابن هذه الحضارة بقنبلته النووية في هيروشيما وناجازاكي؟
هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في قلعة الكفر أمريكا بالزنوج السود؟! وليست أحداث لوس أنجلوس من أحد ببعيد.
هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في كل مكان بأخيه الإنسان؟!
من أجل ماذا؟ من أجل التطهير العرقي!
من أجل ماذا؟! من أجل اللون!! من أجل العقيدة! من أجل الدين!!
هذا ما يفعله الإنسان الآن بأخيه الإنسان في ظل قيادة الرجل الغربي!!
إنها -يا إخوة!- حضارة العبيد، ولا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذا العنصر فإن الجراح دامية، ولكن تعال معي لنبين لهؤلاء الذين يخشون الإسلام، ويخافونه، بل ويستحي أحدهم أن يعلن أنه مسلم، أو أن يذكر في مؤتمر من المؤتمرات لفظة إسلام أو آية قرآن، أو حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكأن الإسلام ليس إلا دين التطرف والإرهاب، بل إني والله أعجب حينما تحدث مصيبة في أي موقع أو أي مكان فإذا بها تنسب إلى الإسلام والمسلمين والمتطرفين والإرهابيين.
كنت أتوقع يوم أن حدثت أحداث لوس أنجلوس في أمريكا أن يقولوا بأن الذي فجر هذه الأحداث هم الإرهابيون والمتطرفون!!
كنت أتوقع يوم أن وقع الزلزال في مصر أن يقولوا بأن الذي أحدث الزلزال هم الإسلاميون والإرهابيون والمتطرفون
!
وكنت أتوقع إذا حدثت أي مصيبة -ولا زلت- أن تلصق المصيبة والتهمة بالإسلام.. بالإرهابيين.. بالمتطرفين!!
وإذا أردت أن تتحقق من صدق ذلك -فإني لست مبالغاً ولا مهولاً- ما عليك الليلة إلا أن تجلس أمام مسلسل فاجر من المسلسلات التي يعزف على وترها إعلامنا الوقور.. الحيي.. الذي يحارب التطرف والإرهاب لترى السخرية لا بالمتطرف والمتطرفين ولا بالإرهاب والإرهابيين، إنما بسنة سيد النبيين، وأنتم جميعاً تشاهدون وتسمعون وتقرءون!! إنه الواقع المر الأليم!!
والله لو علمتم عظمة الإسلام وحقيقته وعدالته؛ لمنحتم الدعاة الصادقين الجوائز والمكافئات لينطلقوا وليعلموا الناس جميعاً في الشرق والغرب -بعد بلاد المسلمين- حقيقة هذا الإسلام.
حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة
أخي! حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة، هو العنصر الثالث:
إنه الإسلام.. الإسلام الذي جاء فجعل الناس جميعاً سواسية بين يدي الله عز وجل، لا عصبية لراية.. لا عصبية للون.. لا عصبية لجنس.. لا عصبية لوطن، فكلها رايات زائفة في ظل حضارة الإسلام لا أصل لها ولا وجود.
جاء الإسلام ليجعل الناس جميعاً بين يدي الله عز وجل سواء.
العدل والمساواة في حضارة الإسلام
أمثلة حية تجسد حضارة الإسلام
جاء في الصحيحين: أن امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت، فغضبت قريش وحزنت لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقيم عليها الحد ويقطع يدها، فقالوا: لا، لابد أن يشفع أحد عند رسول الله في هذه المرأة الشريفة حتى لا تقطع يدها فبحثوا: عمن يشفع فقالوا: إنه الحب ابن الحب
أسامة بن زيد ، فانطلق
أسامة بقلب رقيق ليشفع لهذه المرأة المخزومية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (
أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ؟! وارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وهو غاضب وقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن
فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
إنه التطبيق العملي للمساواة، وللإنسانية الواحدة!
وهذا
أبو ذر الغفاري ، رجل من غفار أبيض اللون، وهذا
بلال الحبشي رجل من الحبشة أسمر اللون، وكلاهما من أصحاب رسول الله الأخيار، حدث بينهما خلاف واحتد الخلاف، فنظر
أبو ذر لـ
بلال وقال له: يا ابن السوداء! فغضب
بلال ، وأنطلق إلى سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال
أبو ذر ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، والتفت إلى
أبي ذر رضي الله عنه وقال: (
أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) -والحديث في الصحيحين- فندم
أبو ذر وبكى.
انظر إلى هذا الأفق الوضيء، وإلى هذه القمة السامقة التي جسدت هذا الندم حينما وضع
أبو ذر خده على الأرض، واستحلف
بلالاً رضي الله عنه أن يطأ بنعله على خده الآخر.
إنه الإسلام، إنها الحضارة الإسلامية!!
أيها الأحبة: لو استطردت في ذكر هذه الأمثلة لطالت الوقفة جداً، واسمحوا لي أن أُذَكِّر أيضاً بهذا المشهد، وتمنيت أن لو سمعه كل زعماء الغرب الفجرة، إنه
عمر، وما أدراكم ما
عمر؟!
عمر بن الخطاب الذي رأى قافلة تدنو من المدينة في الليل، فقال لـ
عبد الرحمن بن عوف : يا
عبد الرحمن ! هل لك في أجر الليلة؟ قال: ماذا تريد يا أمير المؤمنين؟ فقال: تعال بنا لنحرس هذه القافلة الليلة!!
يقول هذا وهو أمير المؤمنين!! فليسمع العالم كله، ولتسمع الحضارة الغربية الكاذبة هذه النّزعة الإنسانية الفريدة!! ويقوم
عمر و
عبد الرحمن بن عوف يصليان ويحرسان، وفجأة سمع
عمر بكاء صبي في القافلة، فدنا
عمر من صوت بكاء الصبي، ثم نادى على أم الصبي وقال: اتق الله وأحسني إلى صبيك.
طفل يبكي فيحرك قلب الحاكم.. طفل يبكي عند أمه وهي أقرب الناس إليه فيتحرك له قلب أمير المؤمنين.
قلب حاكم الدولة يتحرك لبكاء طفل بين أحضان أمه، لا أقول: بين أحضان القنابل والطائرات والدبابات والرشاشات والغابات، بل بين أحضان أمه! فيقترب
عمر ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم ينصرف لصلاته، وبعد فترة يسمع بكاء الصبي مرة ثانية، فيدنو
عمر من الأم ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم يرجع إلى صلاته، وفي المرة الثالثة يسمع بكاء الصبي فيرجع إلى المرأة ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك فإني أراك أم سوء، فقالت: يا عبد الله! لقد أبرمتني منذ الليلة -أي: لقد أزعجتني، وهي لا تعرف من تخاطب- إنني أفطم الولد عن الثدي كرهاً، فقال
عمر : ولم تستعجليه؟ فقالت: لأن
عمر بن الخطاب لا يبرم عطاءً إلا لمن فطم عن الرضاعة، فبكى
عمر ، وانخلع قلبه لهذه الكلمة، وعاد يجر ثوبه وهو يبكي.
يقول
عبد الرحمن بن عوف: فما سمع أحد منه قراءة -أي: ما عرف الناس قراءته- في صلاة الفجر من شده بكائه فلما فرغ من صلاته قبض على لحيته وبكى وقال: ويل لـ
عمر .. يا بؤساً لـ
عمر .. كم قتلت يا
عمر من أطفال المسلمين؟!
كم قتلت يا
عمر من أطفال المسلمين؟! فلتسمع الدنيا.. فليسمع قادة الغرب.. وليسمع قادة المسلمين.
ثم يأمر
عمر بن الخطاب المنادي أن يمشي بين الناس ويقول: لا تستعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نبرم العطاء لكل من ولد في الإسلام منذ أول يوم!
إنها عظمة الإسلام.. إنها الإنسانية الفذة! إنها صورة سامقة مهما أوتيت من البلاغة والفصاحة فلن أستطيع أن أجسد لحضراتكم هذه النّزعة الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام، والتي أصَّل قواعدها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام، وأكتفي بهذا القدر لأُعَرِّجَ على بقية العناصر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة! عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: الحضارة الإسلامية والنّزعة الأخلاقية، وستعجب إذا قلت لك أيها الحبيب: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى عَلَى أرض المعارك وفي ميادين الحروب، مع أن رؤية الدم تثير الدم، ومع أن القتال يثير الحمية في النفوس والانتقام، وبالرغم من ذلك كله أقول: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى في ميادين القتال والحروب الله أكبر.
(
يغضب النبي حينما يرى امرأة قد قتلت في الميدان، ويأمر الصحابة ألا يفعلوا ذلك)، ويأمر
الصديق جيش
أسامة ويقول: لا تقتلوا شيخاً، ولا امرأة، ولا رجلاً تفرغ للعبادة في صومعته، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا بقرة إلا للأكل.
هذه مُثُلُ الإسلام حتى في عالم الحروب والمعارك.
بل ولا يعلم التاريخ أحداً فُعلَ به من الأذى والاضطهاد ما فُعلَ في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. أوذي في مكة.. وضع التراب على رأسه.. وضعت النجاسة على ظهره.. خنق حتى كادت أنفاسه أن تخرج.. طرد من بلده.. حرم من بيته وماله.. أوذي أصحابه أشد الإيذاء، وبالرغم من ذلك، وبعد أن ترك بلده ووطنه وهاجر إلى المدينة ما تركه المشركون حتى في المدينة، بل جردوا عليه السيوف ورفعوها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً في يوم فتح مكة، ووقف أهل مكة جميعاً بين يديه، قال لهم صاحب الخلق: (
ماذا تظنون أَنِّي فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول لكم ما قاله أَخِي يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وللأمانة العلمية أقول: إن هذا الحديث ضعيف.
سبحان الله! حتى في هذه الأوقات الحرجة؟!
انظروا إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: (
عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد أن رمي بالحجارة وطرد، وفعل به أهل الطائف أبشع ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، ونزل إليه ملك الجبال وقال له: مرني بما شئت يا رسول الله -فماذا قال صاحب الخلق في هذه الأوقات التي قد يميل القلب فيها إلى التشفي والانتقام، إذ إن الإنسان يشعر بالظلم- فقال: إني لم أبعث لعاناً ولا فحاشاً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وطبق الصحابة والمسلمون هذه المبادئ أعظم تطبيق شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
انظروا ماذا فعل المسلمون يوم أن امتدت الفتوح الإسلامية إلى بلاد سمرقند في عهد
عمر بن عبد العزيز ، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي القضاة يخبره بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأنهم دخلوا عليهم عنوة، ولم يفرضوا عليهم جزية، ولم ينذروهم بالقتال، وأرسل قاض القضاة إلى
عمر بن عبد العزيز ليخبره بذلك، فما كان من
عمر رضي الله عنه إلا أن أمر قائد الجيوش في سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما علم أهل سمرقند أن الجيش قد انسحب بأمر أمير المؤمنين
عمر ، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح المنتصر؛ ليعلنوا جميعاً شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
تاريخ الحروب الإسلامية تاريخ مشرف، فليقرأ الناس التاريخ، وليقفوا جميعاً أمام عبر هذا التاريخ، وأنتم تعلمون ما فعله
صلاح الدين بالصليبيين، وتعلمون أنه قدم طبيبه الخاص في أرض المعركة لقائد الحملة الصليبية، لما سمع أنه مريض ولا يوجد من يبذل له الدواء والعلاج، فأرسل له
صلاح الدين طبيبه الخاص ليبذل له الدواء والعلاج.
ولما صرخت امرأة نصرانية، ورمت بنفسها على خيمة
صلاح الدين في الليل، سألها ما الخبر؟ فأخبرته أن أحد أفراد الجيش قد أخذ ولدها، فأمر
صلاح الدين أن يرد الجيش -بأي سبيل- هذا الطفل، ولم يهدأ حتى اطمأن بنفسه أن المرأة قد رد إليها طفلها.
وتعلمون ما فعله
محمد الفاتح بالنصارى الصليبيين في كنيسة -آيا صوفيا- حينما فتح القسطنطينية، فعل ما سيقف التاريخ أمامه وقفة إعزاز وإجلال وإكبار.
اقرءوا التاريخ لتعرفوا ما فعله هؤلاء الأطهار الأبرار حتى في المعارك والحروب والميادين.
لقد ضرب الإسلام أروع الأمثال في السماحة حتى في أرض المعارك التي تثير فيها رؤية الدم الدماء، وينتشي القادة الفاتحون بسكرة النصر للتشفي والانتقام، ولكن هذا لم يحدث في ظل حضارة الإسلام التي أصل أصولها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام.