الموت حقيقة لابد أن يذوقها كل إنسان، وله سكرات وزفرات، وفي لحظة الموت يعاين المرء ما هو قادم عليه من رحمة أو عذاب، ويرى ما أعد له من جنة أو نار، فعلى المسلم أن يستعد له بالأعمال الصالحة، وأن يتزود من التقوى، وأن يسارع بالتوبة إلى الله من كل ذنب.
الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة؛ فنقلهم الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنسوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول: أنا الملك.. أنا الجبار.. أنا المتكبر.. لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب على ذاته سبحانه:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبى داعي ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلب، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس في سائر الأكوان، رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، وزكاه ربه على جميع الخلق، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ هذه السلسلة بالموت وتنتهي بالجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها.
وقد تحتاج منا هذه السلسلة إلى عام ونصف أو عامين، إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
تزداد حاجتنا جميعاً بلا استثناء من طلاب علم ورجال ونساء، إلى هذه السلسلة العلمية الجديدة؛ لأننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وأعرض فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، وتمضي الحياة مسرعة ومعظم أهلها في غفلة مريرة عما هو آتٍ.
حقارة الدنيا وقصر عمرها
الدنيا مزرعة الآخرة
الفطناء العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار! تدبروا معي قول
علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله).
فالدنيا مزرعة الآخرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
أنس ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
فلابد من هذا التأصيل، ولابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان .. إلى دار القرار، فلابد قبل أن تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه الدار.
فالدنيا دار ممر والآخرة هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.
إذا علمت ذلك أيها الحبيب الكريم! فاعلم هذه الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها الأنبياء والمرسلون، والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد لنا كل لحظة من لحظات الزمن قول الله جل وعلا:
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
قال عز وجل:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
وقوله عز وجل:
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم كما قال الشاعر:
كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى
كل مدخور سيفنى كل مذكور سيُنسى
ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى
وقال الشاعر الآخر:
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم!
تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب؟! أما أنذرك الشيب؟!
وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت؟! أما أسمعك الصوت؟!
أما تخشى من الفوت؟! فتحتاط وتهتم
فكم تسدر فى السهو وتختال من الزهو
وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم!
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم
بذا أوصيك يا صاح! وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم
حال الإنسان عند النزع
لا يرد الموت شيء
-
موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
سأل
سليمان بن عبد الملك عالماً من علماء السلف يقال له:
أبو حازم، قال
سليمان : يا
أبا حازم ما لنا نكره الموت؟!
وبعض الناس الآن ربما يتضجر إن ذُكِّر بالموت، وربما يقول لمذكره: ذكرنا بموضوع آخر، وهل ما وجدت إلا الموت لتذكرنا به؟! فقال
سليمان بن عبد الملك لـ
أبى حازم : يا
أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال
أبو حازم : لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب!
في زيارة لي إلى أمريكا نبهني أحد الإخوة إلى رجل منَّ الله عليه بالأموال، ومع ذلك لا يصلي ولا يعرف حقاً للكبير المتعال، فذهبت إليه لأذكره بالله جل وعلا، وهو مسلم عربي وليس أمريكياً، فقال لي: يا أخي! أنا ما أتيت إلى هذه البلاد إلا من أجل الدولار، وأعدك إن عدتُ إلى بلدي ألا أفارق المسجد أبداً! قلت: سبحان الله! ومن يضمن لك يا مسكين أن ترجع إلى بلدك، ومن يضمن لك أن يمر عليك يومُ بكامله، والله! لا تضمن أن تتنفس بعد هذه اللحظات.
فدع عنك ما قد فات من زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب!
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب
دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
يا
أبا حازم ! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال
سليمان بن عبد الملك : يا
أبا حازم ! كيف حالنا عند الله تعالى؟!
قال: اعرض نفسك على كتاب الله.
قال
سليمان : أين أجده؟
قال: في قوله تعالى:
إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].
قال
سليمان بن عبد الملك : فأين رحمة الله يا
أبا حازم؟!
قال
أبو حازم : إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
فقال
سليمان بن عبد الملك : فكيف عرضنا على الله غداً؟
فقال
أبو حازم : أما المحسن فكالغائب في سفر يقدم على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسيء كالعبد الآبق يقدم على مولاه.
وفي الصحيحين من حديث
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: لا يا
عائشة ! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه، كره لقاء الله وكره الله لقاءه).
وفي صحيح البخاري من حديث
أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق)، إي والله! لو سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت.
والحديث عن النفس حديث طويل ومكروه، فإنما هي آية ثابتة، وإنما هي أحاديث ثابتة نذكر بها كلما أردنا أن نذكر الآخرين -وأنفسنا قبل الآخرين- بالموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا.
أيها اللاهي! أيها الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير! أيها الحقير، ذكر نفسك وقل لها:
يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.