والفأل فسر في الحديث أنه: الكلمة الطيبة، يسمعها الإنسان، ويتساءل في الطيب والخير، فالتساؤل مطلوب؛ لأنه رجا الخير وظنه، أي: أنه يظن أن يقع الخير ويرجوه، كأن يكون مثلاً مريضاً فيسمع قائلاً يقول: يا معافى! فيتفاءل أنه سيعافى ويبرأ، أو مثلاً يكون فاقداً شيئاً فيسمع إنساناً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل أنه سيجده أو يرشد إلى ما يطلبه وهكذا، فهذا هو الفأل، وليس هذا من الطيرة؛ لأنه ليس معنى ذلك أن يجعل هذا الكلام الذي يقوله دليلاً على وقوع الشيء كما يفعله المتطير، ولكنه يرجو ويظن خيراً بالله جل وعلا، ومن ظن بربه خيراً فإن الله يكون عند ظنه به.
وأما الطيرة: فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء، والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم! أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر، يقول: يا واجد! فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته].
ليست الطيرة ظن الشر فقط، وأنها ممنوعة من أجل ذلك، فهذا ممنوع ولا يجوز أن يظن الإنسان الشر، والله جل وعلا أخبر أنه لا يصيب الإنسان شيء إلا بما كسب: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ولكن الطيرة تمنع لهذا، ولأن الإنسان يعتقد أن هذا الطائر أو هذا الذي تطير به أنه سبب عليه وقوع الشر والحوادث، وأن هذا علامة على وقوعه، وهذا رجم بالغيب وكذب، فالله ما جعل هذا علامة، ويجب على الإنسان أن يتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه ليس نعيق الغراب -مثلاً- سبباً في غربة الإنسان أو موته، أو ظهور الثعلب أمامه سبب في ظفره وسعادته، هذا كذب على قدر الله وتصرفه، فإن هذه الأشياء ليس عندها الخير لا الغراب ولا الثعلب ولا غير ذلك، فالطيرة ممنوعة، ليس لأنها ظن الشر فقط، بل لأن الإنسان رتب على ذلك وقوع أشياء يقدرها الله، وهذا تكذيب لله جل وعلا، فهو لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته.
أما قول القائل: إن الله جعل التقدير مرتباً على وجود ذلك، فهذا كذب أيضاً، فمن أين له أن الله جعل ذلك مرتباً على هذا؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا باطل وشرك، فتعلق الإنسان بهذا الطائر -مثلاً- أو ذاك الحيوان، وظنه أن التصرفات والأمور تقع بسبب نعيقه أو حركته أو ظهوره، فهذا أشرك بالله في ذلك، حيث أضاف الحوادث إلى غير إرادة الله ومشيئته، فالله ما جعل ذلك دليلاً على أنه أراد شيئاً؛ لأن هذا تكذيب بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقول الله جل وعلا.
فالمقصود أن الطيرة ممنوعة؛ لأنها ظن الشر، ولأنه يزعم المتطير أن هذا الشيء -طائر أو غيره- تقع الحوادث بسببه، أو بظهوره، فهذا هو معنى كونها شركاً.
[ قوله: (قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)، بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم : ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية، التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم].
يعني: أنه جبل في الطبيعة على حبها والميل إليها، ولكن الفأل ليس هو هذا، الفأل: ظن الخير ورجاؤه كما سبق، وقد يكون الفأل في إظهار الحق وقمع العدو، مثلما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ذهب إلى خيبر وأتاهم صباحاً، وهم لا يعلمون به، فرآهم قد استقبلوه بالعمال ومعهم المساحي والفئوس للعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بقوم فساء صباح المنذرين)، يعني: لما رأى آلات الهدم كالمساحي والفئوس، تفاءل بأن خيبر خربت؛ لأنها عمرت على المعصية، وعلى محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتفاءل بذلك، فحقق الله جل وعلا ذلك له، وهذا لا يمنع العمل والاجتهاد والجد، ولكنه رجاء وظن، يرجو من الله ويظن به أن يحقق له هذا الرجاء، وهو مثلما سبق، إذا رجا الناس ربهم -ولو كان السبب ضعيفاً أو العلامة ضعيفة- فإنهم على خير؛ لأن رجاء الله عبادة، وظن الخير به عبادة، فيكونون على خير، بخلاف الطيرة، فإنها تطبيق للشيطان، واتباع لمخلوق ليس عنده أي تصرف، وتكون شركاً.
وقال الحليمي : وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن بالله، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
قال المصنف رحمه الله: ولـأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ]
هذا معناه أنه أدخل الفأل في الطيرة فقال: (أحسنها الفأل) وأن الطيرة لا يلتفت إليها المسلم، ولا يعتمد عليها، والفأل أيضاً لا يعتمد عليه، ولا يبني عليه شيئاً، وإنما يبني عليه ظناً ورجاءً فقط، يظن الخير ويرجوه، وإلا فهي مقطوعة عن التصرف.
وكذلك فيه الإرشاد إلى اللجوء إلى الله، والهروب إليه، والتوسل إليه بدعائه أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، والحسنات: كل خير، وكل ما فيه أنس ومسرة من أمور الدنيا والآخرة، والسيئات: كل مضر، وكل ما يسوءه ويضره في الدنيا والآخرة فهو سيئة، فصار هذا عاماً شاملاً في أن الأمور كلها بيد الله.
قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)، يعني: أنني لا أستطيع أن أتحول من حال إلى أخرى إلا إذا قويتني وأعنتني على ذلك، فمعنى ذلك أنه لجوء إلى الله، وتبرؤ من قوة النفس وتصرفها، وأنه لا قوة له ولا تصرف له إن لم يجعل الله جل وعلا له قوة وتصرفاً، فهو توحيد لله جل وعلا بالأفعال، وبالخضوع له والالتجاء إليه، والتبري من القوة أو التحول من حال إلى أخرى إلا بالله جل وعلا.
هذا من أعظم ما ينبغي للإنسان أنه يسأله ويلجأ إليه، ألا يعتمد على فأل ولا طيرة.
أما قوله: (ولا ترد مسلماً) ففيه تنبيه على أن الذي ترده الطيرة قد يكون خارجاً عن الإسلام؛ لأن المسلم لا ترده الطيرة، يعني: لو رآها -مثلاً- وقعت له فإنه يعرض عنها، ويتوكل على ربه جل وعلا، ويقول هذا الدعاء، ولا يأتيه إلا خير بإذن الله تعالى.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما].
فالمؤلف رحمه الله نقله من كتاب ابن السني ، وابن السني هكذا وقع الخطأ في كتابه عقبة بن عامر ، وليس الخطأ من الشيخ، وإنما وقع الخطأ في المصدر الذي هو كتاب عمل اليوم والليلة لـابن السني ، فالمؤلف رحمه الله نقله منه، وهذا الخطأ الذي فيه إما من الناسخ أو من بعض الرواة. والله أعلم.
قال الشارح رحمه الله: [وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد : عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره: الجهني ، واختلف في صحبته فقال البارودي : له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقاة التابعين، وقال المزي : لا صحبة له تصح.
قوله: (فقال: أحسنها الفأل) قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل، وروى الترمذي وصححه عن أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح! يا راشد!!) وروى أبو داود عن بريدة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه) وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل.
قال ابن القيم : أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.
قوله: (ولا ترد مسلماً)، قال الطيبي : تعريض بأن الكافر بخلافه.
قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت)، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، كقوله سبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:78-79]، ففيه نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، ويعد من اعتقدها سفيهاً مشركاً.
قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل، الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات، والحول: التحول، وهو الانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك بالله وحده لا شريك له، ففيه: التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته، وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله].
قوله صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك! الطيرة شرك)، التكرار هنا للتأكيد والمبالغة في البلاغ، وذلك يدل على أن الطيرة كانت منتشرة في الناس في ذلك الوقت، فلهذا بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عنها، وأخبر أنها شرك، والشرك معلوم عند المخاطبين أنه أكبر الذنوب، وقوله: (شرك) مطلق، قد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، وتبين فيما سبق التفصيل في هذا وهو أن الإنسان إذا كان يعتقد أن فعل الطيرة هو الذي يكون فيه الخير، أو مثلاً نعيقه، أو أن الخير معلق بظهور الحيوان، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا كان يعتقد أن الله جعله سبباً لذلك فهذا يكون من الشرك الأصغر.
وقوله: (ما منا إلا)، يعني: ما منا أحد إلا ويقع في نفسه شيء عندما يسمع شيئاً من ذلك (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، يذهب هذا الشيء الذي يقع، وحذف المقدر لعلمه به، وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في نفسه شيء؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس إيماناً وتوكلاً على الله، ولكن هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، ولهذا بين الترمذي رحمه الله أن هذا مدرج، وأنه من كلام ابن مسعود ، (وما منا إلا) أي: يقع في نفسه شيء من ذلك، غير أنه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وإنما يعرض عنه ويتوكل على ربه، فيذهب الله جل وعلا ذلك الذي يقع بالتوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، هذا هو معنى الكلام.
قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود : (الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك) ثلاثاً. وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد ].
قوله: (تكره الطيرة) يجب أن تحمل كلمة (تكره) على التحريم؛ لأن الشرك ليس فيه شيء مكروه كراهة تنزيه، بل كله محرم، والعلماء في القديم إذا قالوا: يكره كان مقصودهم أنه حرام، ولكن بعضهم يتورع عن كلمة حرام للخوف؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116]، يخاف أن يقول: حرام، فلا يقول على الشيء أنه حرام إلا إذا تأكد تأكداً تاماً بأن الله قد حرمه، هذا هو السبب، وكان في اصطلاحهم أيضاً أن وضع الكراهة على المحرم أمر شائع، وإنما اصطلح المتأخرون على تقسيم الكراهة إلى قسمين: قسم يكون كراهة تحريم، وقسم يكون كراهة تنزيه, وهذا اصطلاح حادث ما كان يعرفه السلف قديماً، ولا يجوز أن يحمل كلام العلماء في القديم على هذا الاصطلاح الحادث.
قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن مفلح : والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الاصطلاحية؟! قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.
قوله: (وما منا إلا)، قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري : في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك. انتهى، وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من أدب الكلام.
قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، أي: لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع أو دفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود )، قال ابن القيم : وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك].
قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات.
قوله: (من حديث ابن عمرو ) هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة -على الأصح- في الطائف.
قوله: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها -كإرادة السفر ونحوه- فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وسمع تشاؤماً فقد دخل في الشرك كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه، فيكون للشيطان منه نصيب.
قوله: (فما كفارة ذلك) إلى آخره، فإذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء؛ لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه.
وتضمن الحديث: أن الطيرة لا تضر من كرهها، ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
قال المصنف رحمه الله: [وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك) ]
في هذا الحديث -وإن كان الحديث ضعيفاً، وفيه انقطاع، فمثل هذا لا يعتمد عليه- حد الطيرة، وهو: أن يكون الإنسان عاملاً بما يقع له، إما أن يمضي في مراده إذا سمع الشيء الذي يرى أنه خير، أو يمتنع إذا رأى أنه شر، فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفسه شيء ثم لا يلتفت إليه، ويمضي في طريقه وعمله فهذا لا يضر، هذا لا يكون طيرة، وهذا معنى قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، يعني: إذا وقع في نفسك شيء فعملت به ومضيت على أساس ذلك في النهج الذي تريده وتقصده، أو رجعت إذا كان بعكس ذلك وتركت العمل فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفس الإنسان شيء ثم لا يلتفت إلى هذا الشيء، ويمضي معتمداً على ربه جل وعلا فهذا لا يضره، وليس هذا طيرة.
والحديث فيه انقطاع ونكارة، فهو منكر منقطع، ووجه النكارة أنه قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبرح لنا ظبي فمال إلى شقه فالتزمته، فقلت: تطيرت يا رسول الله؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل مثل هذا، ولا يقع منه مثل هذا، لهذا هذا الحديث لا يعتمد عليه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فبرح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله! تطيرت؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، وفي إسناده انقطاع، أي: بين مسلمة راويه وبين الفضل وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن معين : قتل يوم اليرموك، وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود : قتل بدمشق، كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا فيه اضطراب كثير جداً، حتى إن بعض المؤرخين يرى أنه قتل في قرب الصين في بلاد بعيدة، وبعضهم يرى أنه قتل في سمرقند، وعلى كل حال فمثل هذا ليس مهماً، المهم ما في الحديث من قوله: (فمال عن شقه فاحتضنته)، فهذا لا يثبت، ولا يقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشيء.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، هذا حد الطيرة المنهي عنها، أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيه كذلك، وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم: فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه، بخلاف ما يمضيه أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد فافهم الفرق والله أعلم].
يعني: أن الفأل رجاء من الله وظن حسن، وإن كان السبب ضعيفاً وتافهاً فالإنسان يكون على خير، والله عند ظن عبده به، إذا ظن خيراً أعطاه خيراً، ومع ذلك لا يجوز أن يعتمد على الفأل، ويجعله دليلاً له، ويمضي من أجل ذلك، فإن هذا لا يجوز، وإنما يظن أنه يحصل له خير، ويعتمد على ربه ويتوكل عليه، ويعمل الأسباب التي أمر بها.
أما الطيرة: فهي شر بل هي شرك؛ لأنه يجعل المستقبل الذي يقع معتمداً على فعل طير أو فعل حيوان أو شيء يراه أو ما أشبه ذلك، ومعلوم أن هذه الأشياء لا تصرف لها في الوقائع والحوادث، وإنما الحوادث التي ستحدث بيد الحي القيوم، الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يشاركه فيها أحد، ثم علم الغيب يختص بالله جل وعلا، فهذه الحيوانات وغيرها لا تعلم من المغيبات شيئاً، ولا تستطيع أن تتصرف في أمور الدنيا بشيء، فهذا هو الصواب وهذا هو الفرق بين الفأل والطيرة، فالطيرة: لا يجوز أن يعمل بها مطلقاً وهي من الشرك، أما الفأل: فهو الظن الحسن والرجاء من الله جل وعلا، ومع ذلك لا يعتمد عليه؛ لأن الاعتماد على ما أمر به الشارع، فما أمر الله جل وعلا به من الأفعال التي يحبها الله ويرضاها يعتمد عليه، ويتوكل على ربه.
الأولى: التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف:131] مع قوله: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19] ].
يعني: أنه لا معارضة بين هذه وهذه، وقوله: (طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) يعني: جزاؤهم وما يستحقونه، وقوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) يعني: أعمالكم التي تعملونها هي سبب ما يقع عليكم من العقوبات، فالمعنى واحد.
سبق أن نفي العدوى المقصود به: ما يعتقده المشركون قديماً، فإنهم يعتقدون أن المرض بطبعه وقوته هو الذي يعدي، ولا ينظرون إلى قدر الله، وأنه يجعل أسباباً يوجد بها هذا المرض، فالمنفي هو ما يعتقده المشركون، وليس المنفي أن مخالطة المريض قد تكون سبباً في مرض الصحيح، هذا لم ينف؛ لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتعارض، وقد نهى أن يورد الممرض على المصح، يعني: لا يختلط المريض بالصحيح لئلا يحدث بسبب ذلك مرض، وكذلك: (فر من المجذوم كفرارك من الأسد)، وسبق أن الراجح في هذا هو النهي، وإذا كان نهياً فلا إشكال فيه، والأمر واضح.
الهامة سبق تفسيرها، وأنها فسرت على تفسيرين، أحدهما: البومة المعروفة، الطائر الذي يكون في الليل، ويألف الخراب، وكان المشركون والجهلة يتشاءمون به أشد التشاؤم، ويتطيرون به، ويرون أنه إذا وقع على بيت أحدهم أنه سيموت، إما هو أو ولده أو والده أو قريب له، وهذا هو الذي نفي.
التفسير الثاني: وهو جهل آخر كان يعتقده المشركون، وهو أن الرجل إذا قتل مظلوماً ولم يؤخذ بثأره فإنه يخرج من هامته، -يعني: من دماغه- طائر يبقى صائماً على قبره: اسقوني! اسقوني! حتى يؤخذ بثأره، ولهذا يقول شاعرهم:
أو غبت حتى تقول الهامة اسقوني
فهذا أيضاً لا حقيقة له، وهو منفي وكلاهما مقصود.
الصفر تقدم أيضاً أنه فسر بثلاثة تفسيرات، أحدها: أنه شهر صفر، وكانوا يتشاءمون به، وأنه لا يأتي إلا بشر، هكذا كان يقولون، فلا يسافرون فيه، ولا يتزوجون فيه، وهذا منكر وباطل، فالشهر لا دخل له في الوقائع ولا في المستقبلات.
الثاني: أنه هو النسيء الذي ذكره الله في القرآن، وهو أنهم كانوا يقدمون شهر صفر إلى المحرم، فيجعلونه محرماً سنة، ويؤخرون شهر محرم إلى صفر حتى يستحلوا القتال في محرم، والسنة الأخرى يتركونه على ما هو عليه، فقال الله جل وعلا: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا [التوبة:37].
الثالث: أن المقصود بالصفر: حية تكون في بطن كنف الرجال، وتكون عندهم أعدى من الجرب، هكذا زعموا، وكل هذا باطل، وقد نفي هذا كله في حديث: (لا صفر)، وكل هذه الأمور الثلاثة باطلة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابعة: تفسير الفأل].
أي: بأنه الكلمة الطيبة يسمعها الرجل أو تقال له، هكذا جاء تفسيره في الحديث: (قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟! قال: الكلمة الطيبة يسمعها أو تقال له)، ووضح ذلك العلماء بأن الإنسان قد يكون مثلاً فاقداً شيئاً، فيسمع قائلاً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل بأنه سيجد وسيرشد إلى طلبه، أو يكون مريضاً ويسمع قائل يقول: يا معافى! أو ما أشبه ذلك، فيتفاءل بأنه سيشفى، ومع ذلك لا يعتمد على هذا، وإنما يرجو ويظن الخير.
أي: لا يضر إذا لم يعتمد عليه الإنسان ولم يمض على سبيل ذلك، فإذا أعرض عنه وتركه وصد عنه وتناساه فإنه لا يضره.
[التاسعة: ذكر ما يقول من وجده].
يعني: أن يقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك) يقول هذا ويمضي.
[العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة].
وقد تقدم الكلام على ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر