إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [41]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل كما أنه يصلي على عباده الصالحين -أي: يثني عليهم- فإنه يلعن المستحقين للعن من العصاة، وقد جاء في الشرع لعن من يستحق اللعن، كمن لعن والديه أو آوى محدثاً، أو غير منار الأرض، فعلى المسلم اجتناب ما يعرضه للعن من الله تعالى وهو الطرد من رحمته سبحانه.
    قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)رواه مسلم من طرق، وفيه قصة.

    ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لـعلي : أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أسرَّ إليّ شيئاً كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض)يعنى المنار].

    الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الثقلين: الجن والإنس، فهو رسول لجميع من على وجه الأرض، والذين على وجه الأرض هم الجن والإنس، فلا يمكن أن يخص إنساناً بعينه بشيء جاء به من عند الله؛ لأنه مبلغ عن الله جل وعلا، فهو يبلغ عموم الناس، ولهذا كان إذا حدث بالحديث أعاده ثلاثا،ً ثم يقول: (بلغوا عني)، ويقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما وعاها، فرب مبلغ أفقه من سامع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    فالذي يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خص قوماً دون آخرين بما يبلغه فهو ضال، ولم يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والله جل وعلا يقول له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة ، وسمي صاحب السر؛ لأن إسراره إلى حذيفة كان بأسماء أناس معينين من المنافقين، قال له: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، وهؤلاء كانوا يخضعون لأحكام الإسلام، وكانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وفي الصلاة وفي غير ذلك، إلا أنهم أبطنوا كفراً ونفاقاً، فأخبره بذلك وقال له: لا تخبر أحداً، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا يصلي عليه؟ فإن صلى عليه حذيفة صلى عليه، وإذا لم يصل عليه امتنع من الصلاة عليه.

    والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة تبوك كان يسير ذات ليلة في الليل، وكان أمامه جبل وفيه عقبة فقال للمسلمين: (إني سالك في هذه العقبة فلا يسلكها أحد حتى انتهي أو أذهب) فانتهز بعض المنافقين فرصة، وقالوا: هذه فرصة لنذهب ونكمن له في عرض الجبل فإذا توسط به نفرنا به ناقته فيسقط من عليها ويموت، هكذا خططوا ودبروا فسار الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه حذيفة يقود ناقته، ومعه كذلك عمار بن ياسر يسوقها، فلما صار في أثناء الجبل في الطريق وهو يصعد نفذوا مخططهم، وساروا في وجه ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار حذيفة يضرب وجوه ركائبهم وكانوا متلثمين فهربوا خوفاً من أن يعرفوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟ قال: لا، ولكني عرفت بعض الرواحل، فأخبره بأسمائهم وقال: هم فلان وفلان وفلان وفلان، ثم قال له: لا تخبر أحداً) لأن الله جل وعلا أمره أن يأخذ علانيتهم وأن يكل سرائرهم إلى الله، فإذا قال الإنسان: آمنت وامتثل الواجبات والفروض كالصلاة والصوم والزكاة فيحكم بأنه مسلم، وإن كان مكناً في نفسه التكذيب والكفر، فالذي في القلب إلى الله.

    والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسر شيئاً من الدين لأحد، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] لأن هذا معاتبة له، ومع ذلك أظهره وبينه، ولم يخف شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يكون؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أمين الله على وحيه، وهو الذي يبلغه إلى خلقه، وهو الواسطة بيننا وبين ربنا في إبلاغنا الدين، ولا يكون هذا المبلغ والواسطة إلا أميناً صادقاً حتى لا يكتم شيئاً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يمكن أن يتحلى الإنسان بأنه يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا تيقن يقيناً أنه جاء بالدين كله من عند الله، وبلغه البلاغ المبين، ولم يكتم شيئاً، ولم يسر لأحد شيئاً من هذا الدين.

    العشرة المبشرون بالجنة

    قال الشارح رحمه الله: [وعلي بن أبي طالب : هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين].

    العشرة المشهود لهم بالجنة هم: أبو بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، هؤلاء هم العشرة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، والزبير في الجنة، وطلحة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة) شهد لهم في هذا الحديث وجمعهم هكذا، ولهذا سموا العشرة المشهود لهم بالجنة، أي: الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة.

    وهناك غيرهم من الصحابة ممن أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة، مثل: ثابت بن قيس بن شماس ، فإنه لما نزل قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] وكان رضي الله عنه جهوري الصوت، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان إذا جاءت الوفود أمره أن يخطب عنه صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية اعتزل وصار يبكي وقال: إذاً: قد حبط عملي؛ لأني أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس في بيته، ففقده الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: إنه يبكي منذ نزلت هذه الآية، وقال: إنه هو المقصود بها، فقال: (بل هو من أهل الجنة)، ثم أرسل إليه ودعاه.

    وكذلك الحسن والحسين ، أخبر: أنهما من أهل الجنة، وكذلك عبد الله بن عمر ، وكذلك عبد الله بن سلام ، وغيرهم، وهكذا أهل بيعة الرضوان أخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وكانوا ألفاً وخمسمائة، وأهل بدر كذلك، وغيرهم، بل يقول الإمام ابن حزم : الذي نعتقده ونجزم به أن جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهم خير الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقول: (بعثت في خير القرون)ويقول: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون)فجعل القرون المفضلة ثلاثة، وخيرهم قرنه ثم رتب الذين بعدهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، ثم الذين بعدهم كذلك رتبهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، والله جل وعلا أخبر عن الصحابة عموماً أنه يحبهم ويحبونه، وأنه أعد لهم جنات، كما قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ. . [الفتح:29]إلى آخر الآية وذكر في آخرها: أنه جعلهم بهذه الصفة ليغيضوا الكفار؛ ولهذا قال الإمام مالك رضي الله عنه: كل من غاضه شأن الصحابة فليس بمؤمن، لقول الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] كما أنه قال في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] أي: من كان في قلبه غل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له حق في الفيء وفي المغانم.

    وعلى كل حال المقصود: أن هؤلاء العشرة هم المقصودون بقوله: العشرة المشهود لهم بالجنة.

    معنى الصلاة واللعن

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لعن الله): اللعن: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل: واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها، قال أبو السعادات : أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:43-44]وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب:64] وقال تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61].

    والقرآن كلامه تعالى، أوحاه إلى جبريل عليه السلام، وبلغه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجبريل سمعه منه، كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم، فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة، قال الإمام أحمد رحمه الله: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء)].

    يقول: إن الله يصلي كما أنه يلعن، ومعنى يصلي: أي: يثني، وصلاته جل وعلا هي: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية فيما ذكره البخاري في صحيحه، فالصلاة ضد اللعنة، فبعض عباد الله يكون قريباً إلى الله جل وعلا، متبعاً أوامره، مجتنباً نواهيه، مسارعاً في مرضاته، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، ويحارب أعداءه، ويجاهد في سبيله.

    فهؤلاء هم الذين يصلي عليهم الله جل وعلا، والله جل وعلا إذا صلى على عبده فمعنى ذلك: أنه رضي عنه، ويلزم من ذلك الرضا بفعله، وإلا فصلاته غير رضاه.

    أما الصلاة من الخلق فهي الدعاء، وأصل الصلاة التي جاء بها الشرع هي الصلاة المعروفة التي تفتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، وتشتمل على القيام والقراءة والركوع وغير ذلك، وأصلها مأخوذ من الدعاء.

    قال الله جل وعلا آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] يعني: ادع لهم فهذا بالنسبة للخلق، ومعلوم أن الفعل يختلف بإضافته وصدوره من الخلق عما إذا صدر من الله جل وعلا، فالله جل وعلا له أفعال تخصه كما أن له صفات يختص بها، وعباده كذلك، وليس بين الله جل وعلا وبين خلقه مشابهة أو مماثلة، ولكن يجب أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التحريف أو التأويل الذي يخرج الكلام عن مراد المتكلم.

    وهذا هو طريق أهل السنة، وهو الذي يجب اتباعه؛ لأنه هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج صحابته رضوان الله عليهم، وهذا الطريق من خالفه فقد خالف سبيل المؤمنين، ومن خالف سبيل المؤمنين، وسلك غير طريقهم فالله جل وعلا يوليه ما تولى، ويصليه جهنم.

    ما أهل به لغير الله شرك وإن سمى الذابح اسم الله عند ذبحه

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من ذبح لغير الله) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]: ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله.

    وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان:

    الأول: أنه مما أهل به لغير الله.

    والثاني: أنها ذبيحة مرتد.

    ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن ذبائح الجن) ].

    الإهلال لغير الله جل وعلا المقصود به: الإعلان للشيء، فيعلم أن هذا لفلان، وسواء كان ذلك قبل الذبح أو في حالة الذبح، فإنه إذا عين هذه الذبيحة وقال: هذه للشيخ الفلاني أو للقبر الفلاني أو للولي الفلاني فهذا مما أهل به لغير الله، ولو ذبحها وقال: باسم الله فإنها تكون محرمة؛ لأنها مما أهل به لغير الله جل وعلا؛ لأن الاعتبار هو بالنية والقصد وليس بالألفاظ، فالألفاظ ما تغير من المقاصد شيئاً، فإذا قصد ذلك بنيته وفعله الذي يسبق تسميته فإنه له حكم ذلك، ويكون بهذا قد ذبح لغير الله، وهذا ليس خاصاً بالذبائح، بل الأطعمة التي تعين وتوزع على أولئك العاكفين عند القبور أو على الأضرحة أو توضع في الصناديق التي تعد للنذور هي مما أهل به لغير لله، وهي من المحرمات، وفاعل ذلك يكون قد فعل شركاً أكبر، وإذا كان عالماً بهذا ومات عليه يكون خالداً في النار -نسأل الله العافية-، وإن كان جاهلاً يجب أن يتوب ويرجع إلى الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم على الناس أن يفعلوا هذا، وقد كانوا يفعلونه في زمنه صلوات الله وسلامه عليه فنهاهم عنه.

    فكل عمل من قول أو فعل يتعدى نفعه -مثل الصدقات والذبائح وغيرها- أو فعل يكون خاصاً به -من الدعاء والركوع والانحاء وما أشبه ذلك- يجعل لغير الله فهو شرك، ومثله الطواف ومثله الجلوس والعكوف في المكان الذي يرجى بركته، أو يجلس في مكان من الأمكنة التي يعبد فيها غير الله مثل الأضرحة وقبور الأولياء، فإذا جلس عندها طلباً للبركة فهو من العاكفين عند الأوثان؛ لأن العكوف في مساجد الله عبادة، ولا يجوز أن يكون العكوف لغير الله، يعني: طلب البركة والخير إذا قصد به التقرب فهو عبادة، كما أن الطواف في بيت الله عبادة من أعظم العبادات، وكذلك الدوران على القبور والأضرحة والأمكنة التي تعظم إذا قصد بذلك تعظيمها فهي عبادة لغير الله، وهو شرك أكبر يجعل الفاعل لهذا خارجاً من الدين الإسلامي.

    والمقصود: أن هذا ليس خاصاً بالدماء التي تراق، بل هو عام لكل ما يُقرب من نذور لهذا الميت، ويرجى بها التقرب إليهم، وإن كان يسميها أصحابها تقرباً أو توسلاً أو محبة أو ما أشبه ذلك، فالأسماء لا عبرة بها، وإنما الاعتبار بالفعل الذي يفعل وإن سمي بأي اسم كان، فصاحبه له حكم المشركين الذين نزل القرآن وجاءت دعوة الرسل بالإخبار بأنهم مشركون، وأنهم إذا بقوا على هذا فإن الله برئ منهم ورسوله.

    قال الشارح: [ قال الزمخشري : كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك.

    وذكر إبراهيم المروزي : أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أُهلَّ به لغير الله ].

    وليس هذا خاصاً بالسلطان، فإذا استقبل شخص من الأشخاص بحيث يذبح له حينما يطلع تعظيماً له وتقرباً، فهذه الذبيحة مما أهل به لغير الله، وذابحها بذلك إن كان مسلماً فإنه يكون مرتداً بهذا الفعل، وذبيحته تكون حراماً؛ لأنها قد اجتمع فيها مانعان:

    الأول: أنها مما أُهلَّ به لغير الله، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن نأكل مما أُهلّ به لغيره.

    والثاني: أنها ذبيحة مرتد؛ لأنه ارتد بهذا الفعل.

    لعن من لعن والديه

    قال الشارح: [ وقوله: (لعن الله من لعن والديه) يعني: أباه وأمه، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) ].

    هذا إذا كان تسبباً، وأما إذا كان بالفعل والمواجهة فهو أعظم مما إذا كان متسبباً في شتمهما، ومعلوم أن هذا يكون مضاداً لأمر الله جل وعلا ببر الوالدين، والإحسان إليهما، فإنه بهذا يضع بليغ الإساءة موضع الإحسان، فمثل هذا استحق اللعن من الله جل وعلا : (لعن الله من لعن والديه) وسواء كان الوالد أباً مباشراً أو جداً وإن علا، وإن كان جدَّ جدَّ الجد، وكذلك الأم وإن كانت أم أم أم أم فلا يجوز أن يكون الإنسان سبباً للعن والديه بفعله الذي يفعله، فإن فعل ذلك فإنه يكون ملعوناً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لعن من آوى محدثاً

    قال الشارح: [ قوله: (لعن الله من آوى محدثاً) أي: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، وآوى بفتح الهمزة ممدودة أي: ضمه إليه وحماه. قال أبو السعادات : أويت إلى المنزل وآويت غيري وآويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي، وأما (مُحْدِثاً) فقال أبو السعادات : يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبالفتح: هو الأمر المُبْتَدَعُ نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.

    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم].

    محدِث ومُحدَث متلازمان، فإذا أحدث الإنسان بمعنى أنه فعل المعصية التي نهي عنها، فيسمى محدثاً؛ سواء ارتكب حدّاً من الحدود التي حرمها الله، أو ارتكب جريمة في حق غيره بأن أخذ ماله أو استطال على عرضه، أو بهته بالكذب والزور وتكلم فيه بما ليس فيه، أو غير ذلك من الذنوب، سواء تعلق بحق الله، أو تعلق بحق الآخرين، وكله يصدق عليه أنه مُحْدِثٌ لأنه جاء بخلاف الشرع.

    والمحدِث هو فاعل الحدث، والمحدَث هو المفعول، ولكن إذا وجد من الناس من يرضى بفعله، ويناصره عليه، ويحول بينه وبين الإنكار عليه، أو إقامة الحد أو أخذ الحق منه، فيكون هذا الذي فعل هذا مؤوياً له وناصراً له، وربما كان ذنبه وجرمه أعظم من الذي أحدث الحدث، فيكون أولى باللعن.

    ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضَادَّ الله في أرضه) وإذا كان يُضَادُّه فهو يحاربه، والمحارب لله جل وعلا يكون من أبعد الناس عنه، قال تعالى وتقدس: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5].

    فالمقصود أن رواية الفتح ورواية الكسر متلازمتان.

    لعن من غير منار الأرض

    قال الشارح: [قوله صلى الله عليه وسلم: (ولعن الله من غير منار الأرض)بفتح الميم: علامات حدودها، قال أبو السعادات في النهاية -في مادة تَخَمَ-: ملعون من غَيَّرَ تخوم الأرض، أي: معالمها وحدودها واحدها تُخْمٌ قيل: أراد حدود الحرم خاصة، وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يُهتدى بها في الطريق، وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً قال: ويروى تخوم بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء. انتهى

    وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين]

    تخوم الأرض: الشيء الذي يجعل علامة للاهتداء به، سواء كان موضوعاً علامة على الطريق الذي يسار فيه، أو علامة على أن ملك فلان ينتهي إلى هذا، أو أن هذا يفصل ملك هذا عن هذا، وكل هذا داخل في تغيير منار الأرض، وكله منار؛ لأن المنار هو الذي يستنار به ويهتدى به، سواء في السير أو في معرفة الملك.

    ومن ذلك، بل أولى وأعظم منه معالم الشرع، ومن يقوم ببيانها وإيضاحها ودعوة الناس إليها، وتغيير ذلك هو الحيلولة بين من يفعل ذلك وبين أن يستفيد الناس منه، ويقوم بما يجب عليه؛ لأن هذا واجب على كل أحد، كل من علم علماً وجب عليه أن يبينه لعباد الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتبليغ، والله جل وعلا يقول له: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباعه صلوات الله وسلامه عليه لا بد أن يكون لهم نصيب من طريقته ودعوته للناس وإلى توحيد الله جل وعلا.

    فالتغيير في دين الله أعظم من التغيير في الحقوق المعينة، وسبق أن قلنا: إن هذا أيضاً يدخل فيه ما يفعله بعض الفسقة الذين قد يتولون شيئاً من معالم الأرض، أو من وثائقها التي توثق بها كالصكوك والمواثيق التي يكون فيها التحديد والإشهاد والإثبات، فربما تسول لبعض الفسقة أنفسهم أن يغيروا في الكتابة تقليلاً أو تكثيراً أو إزالة أو إخفاء، فيخفون شيئاً من ذلك أو يمزقونه؛ لأجل أن ينفعوا غيرهم أو ينتفعوا؛ فهذا أيضاً من تغيير أماكن الأرض ومنارها، فهم داخلون في اللعنة.

    وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءت مثل هذا، فإنها تعم كل ما يدخل فيها من المنهيات التي تخالف الشرع؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعطي جوامع الكلم.

    حكم لعن الفاسق

    قال الشارح: [وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان:

    أحدهما: أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره.

    والثاني: لا يجوز واختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله].

    ذكر أنه اختار القول الأول في المسألة رجلاً، والثاني رجلين، ومن عادة العلماء أنهم يذكرون جزئيات فقط، وإلا فالمسألة معروفة ومشهورة، والذين تكلموا فيها كثيرون جداً، ولكن هكذا كانت عادة العلماء، فإنهم يشيرون إلى رءوس المسائل فقط، ثم على طالب العلم أن يبحث عن ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087685287

    عدد مرات الحفظ

    773534432