بعد ما انتهى المؤلف من باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قال في آخره: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب، وهذا أول باب بدأ فيه بالشرح، فهو يذكر ما ينافي التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أو ينافي كمالها، وبدأ بلبس الحلقة أو الخيط لأجل دفع البلاء الذي لم ينزل، أو لأجل رفعه إذا كان نازلاً في الإنسان.
فمن لبس شيئاً من الملبوسات سواء كان خيطاً، أو خرزات أو نحاساً أو فضة أو تمائم فيها طلاسم أو قراءات أو غير ذلك لأجل هذا، فقد وقع في المحذور، وقع إما فيما ينافي أصل التوحيد أو فيما ينافي كماله الواجب الذي يجب على كل عبد، فيصبح معرضاً لعقاب الله أو معرضاً للخلود في النار، فذكر هذا، وسيأتي ذكر أشياء كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه.
وهذه الأمور مما يجب على عموم المسلمين جميعاً أن يعرفوها ويعلموها ويجتنبوها؛ لأنها تنافي أصل دينهم، وقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطريقة المؤلف أنه إذا ذكر هذه الأشياء استدل عليها بآيات من كتاب الله، ثم أتبع ذلك بما يوضح الآيات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعد ذلك استدلال، لأن هذا هو الأصل الذي يجب أن يرجع إليه المسلمون: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإنسان لا يسأل عن غير ذلك، فلا يسأل عن عقله ولا عن قياسه وفكره، ولا عن أوضاعه التي يتعارف عليها الناس ويجد عليها أهل بلده، بل هذه قد تضره ولا تنفعه، وإنما السؤال عن معرفة الله جل وعلا، من يعبد؟ وبأي شيء يعبده؟ ومن الذي جاءه بما يتعبد به؟ هذه الأمور الثلاثة هي التي يسأل عنها كل إنسان يوضع في قبره، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فإن كان متيقناً عارفاً عالماً بذلك فإنه يجيب بكل طمأنينة فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ينتهي السؤال عند ذلك، بل يقال له بعد ذلك: وما يدريك؟ يعني: هات الدليل على قولك! فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به واتبعت، عند ذلك يكون هذا دليل مقنعاً، وهذا هو الدليل، ولا يقول: نظرت بعقلي، أو نظرت في فكري، أو أخذت ذلك عن شيخي، أو عن أهل بلدي، أو غير ذلك، وإذا قال ذلك فهو هالك.
أما إذا كان غير عالم بذلك، وغير موقن به، فإنه يتلعثم في الجواب ويتردد ويقول: ها.. ها.. لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يقال له: لا دريت ولا تليت، يعني: لا تعلمت وعرفت، ولا قرأت كتاب الله القراءة التي تعلم بها ما خلقت من أجله، فيكون هذا مبدأ العذاب، فيضربه الملك الذي يسأله بمطراق من النار يلتهب عليه قبره ناراً، ويصيح صيحة يسمعه كل من يليه من المخلوقات إلا الجن والإنس فإنهم لا يسمعونه؛ لأن عذاب القبر أخفي عن الجن والإنس لأنهم هم المكلفون وهم المرادون به، ولو ظهر ما استطاع أحد أن يدفن أحداً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو ظهر ذلك لما استطاع أحد أن يذهب إلى المقابر لشدة الهول!
والمقصود أن هذا أمر واجب متعين حتمي لا بد منه، ويجب على الإنسان أن يعتني به أشد العناية، وقد كثرت هذه الأمور الشركية في الناس من تعليق التمائم ولبس الخيوط والحلق وما أشبه ذلك، ويزعمون أن بها الشفاء أو بها دفع الجن أو دفع عيون الناس أو ما أشبه ذلك، وهذا كله اعتقاد باطل، بل هو إما أن يكون منافياً لأصل الدين الإسلامي أو منافياً لكماله الواجب الذي يجب على الإنسان أن يعمله ويكمل به دينه.
فبدأ بذلك تفسيراً له، وقوله: لدفع البلاء أو رفعه، يعني: أنه إذا لبس هذه الأمور من أجل دفع الشر الذي يتوقع نزوله أو من أجل رفعه بعد حصوله، أما دفعه قبل أن ينزل فبأن يعتقد أن هذا يمنع من إصابة العين أو إصابة الجن أو إصابة حسد الحاسد أو ما أشبه ذلك، أو أنه يمنع الروماتيزم كما يقوله الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً من دين الله، أو أنه يزيل المرض الذي يسمى واهنة أو يسمى ريحاً أو غير ذلك، فمن فعل ذلك فإنه قد وقع في الشرك، فإما أن يكون شركاً أكبر منافياً للتوحيد أو يكون شركاً أصغر، فإن كان يعتقد أن هذه الملبوسات من خيوط أو خرزات وحروز وما أشبه ذلك تنفع بنفسها وتدفع، فهذا شرك أكبر يكون منافياً لأصل التوحيد، وإن اعتقد أنها مجرد سبب، والنافع والدافع هو الله جل وعلا؛ فهذا شرك أصغر يكون منافياً لكمال التوحيد، وإن كان اعتقد أن هذا قد يكون سبباً فإن الأسباب لا يجوز تعاطيها إلا إذا كانت مباحة، والأسباب المحرمة لا يجوز فعلها، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاء هذه الأمة ليس فيما حرم عليها، وإنما فيما أباحه الله جل وعلا.
بعد ما أخبر الله عن الكفار أنهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ فإنهم يقرون بأنه الله جل وعلا لا شريك له في ذلك، ولا معين له ولا مظاهر له في ذلك.
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم من باب التقرير والتحدي وإبطال دعوتهم عن المدعوات التي يدعونها من الآلهة بأنواعها، وقد علم أن آلهتهم التي يدعونها مختلفة، منها: ما هو شجر، ومنها ما هو حجر، ومنها ما هو ميت مقبور، ومنها ما هو ملك من الملائكة، ومنها ما هو كوكب من الكواكب، ومنها ما هو نبي أو ولي من الأولياء، وكلها داخلة فيما أمر الله جل وعلا به نبيه أن يوجه السؤال إليهم، يقول: أَفَرَأَيْتُمْ أي: أخبروني عن هذه المدعوات التي تدعونها من دون الله، إن أرادني الله بضر، أي: بمرضٍ أو ألمٍ أو مصيبة أو غير ذلك؛ هل تستطيع أن ترد هذا وتمنعه؟! أو أرادني برحمة، أي: بخير وإحسان وصحة ونصر وتأييد وقوة وعزة وعلم وخير؛ هل تستطيع أن تمنع ذلك؟!
الرسول صلى الله عليه وسلم وجه إليهم هذا السؤال فسكتوا؛ لأنهم يعلمون أنها لا تنفع ولا تدفع، وما استطاعوا أن يقولوا: نعم، بل علموا يقيناً أنها لا تنفع، وفي هذا إبطال دعواهم، فإذا كانت هذه المدعوات لا تنفع في منع البلاء، ولا تدفعه بعد حصوله، فأي فائدة في دعوتها؟!
ثم أخبر أن الكافي والحسيب الذي يكفي عبده ويدفع عنه البلاء قبل وقوعه، ويرفعه عنه إذا وقع فيه هو الله وحده، وقد اعترفوا بهذا وأقروا به، اعترفوا بأن الذي يكشف الضر ويجيب المضطر هو الله وحده لا شريك له في ذلك، وبهذا تبطل دعوتهم ويبطل شركهم، ولكنهم يكابرون ويعاندون، ويأبون أن يتركوا ما هم عليه؛ لأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، وليس لهم حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم عليه، فضرهم تعظيم الآباء وتقليدهم، فمنعهم ذلك من قبول الحق واتباعه، هذا هو السبب فقط وإلا فقد تيقنوا أنها لا تنفع لا في دفع البلاء ولا في رفعه بعد حصوله.
والخيوط والخرز والتمائم شرك من أي نوع كانت، سواء كانت من فضة كما يفعلها بعض الناس، ويزعم أن فيها بركة، أو من نحاس وصفر كما يفعله بعض الناس ويزعم أنها تشفي من الروماتيزم أو أنها مثلاً تنفع من عين الإنسان، أو تنفع من إصابة الجن، أو ما أشبه ذلك كما يعتقده كثير من الجهلة، وهي سنة المشركين الذين كانوا يتعلقون بغير الله جل وعلا، ومن فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في هذه الآية؛ لأن هذه الآية عامة في كل ما فيه شيء من هذا المعنى من الدعوة أو الاعتقاد أو الادعاء، وإلا فهي لا تنفع في جلب شيء من الخير، ولا في دفع شيء من الشر، وأمرها في هذا ظاهر وواضح.
فتبين بهذا أن من فعل ذلك فإنه مشابه للمشركين في دعوتهم غير الله جل وعلا، وإن كان هذا ليس من الشرك الأكبر إذا اعتقد أن هذا مجرد سبب كما مضى، أما إذا اعتقد أن هذه المعلقات بنفسها تدفع وتمنع فإن هذا كالذي يدعو اللات والعزى فمكون مشركاً شركاً أكبر، ولكن هذا لا يحصل من عاقل ولا من مسلم، وإنما جهلة المسلمين قد يظنون أنها أسباب، أو فيها شيء من الخصائص جعلها الله فيها وما أشبه ذلك، ومع ذلك فهذا من الشرك الأصغر الذي يجب أن يجتنب، ويجب أن ينزه الإنسان دينه ويطهره من ذلك، وإلا فقد تعرض لعقاب الله جل وعلا، ويكون ذلك وسيلة إلى الشرك الأكبر، ويجب أن يعلق رجاءه وطلبه بالله وحده جل وعلا، وأن يتخلى عن كل مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، فهي لا نفع فيها، وإنما هي متعبدة أو مخلوقة للمنافع التي ينتفع بها فيما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه.
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي على ذلك، ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه غيرهم من أئمة العلم، وأكثر رواياته تدور على المبارك بن فضالة ، قال الإمام أحمد فيه: إنه يرفع ما كان موقوفاً؛ ولهذا قال الذي حشى على الكتاب: إنه ضعيف، وهذا خطأ فاحش، فالحديث صحيح، وقد جاء من غير رواية مبارك بن فضالة، فقد رواه الطبراني بأسانيد عدة من طريق هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وكذلك رواه من طرق أخرى، فهو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في عضد الرجل حلقة من صفر أو حلقة -يعني: أنها من غير الصفر- فقال: (ما هذه؟)، فيحتمل أن الاستفهام عن السبب، ولكن جاء في رواية أنه قال: (ويحك! ما هذا؟!)، فدل على أن هذا إنكار من أول الأمر، وأنه منكر، ولا يجوز وضع مثل هذه الأشياء في الأيدي، ولا في الأرجل، ولا على أي شيء من أعضاء الإنسان؛ لأنها لا نفع فيها، فلما قال له: إنها من الواهنة، والواهنة مرض يعتقد أهل الجاهلية أنه يصيب الإنسان ويأخذه في كتفه، أو في عضده، وأنه يصيب الرجال دون النساء، وأن اتخاذ هذه الحلق والخرزات تخفف ذلك أو تزيله، وهو اعتقاد جاهلي شركي.
ثم قال له: (انزعها) والنزع هو الأخذ بقوة، (فإنها لا تزيدك إلا وهناً) والوهن هو الهلاك، يعني: أنها تزيدك شراً وهلاكاً؛ لأنها تعلق بغير الله جل وعلا وهو شرك، شرك بالله، وفي رواية أنه قال: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا يدلنا على أنها ليست من الشرك الأصغر؛ لأن الذي لا يفلح أبداً يكون ممن استحكم هلاكه، ومنع من دخول رحمة الله وجنته، وهذا لمن اعتقد أنها تدفع البلاء قبل نزوله أو ترفعه بعد حصوله، فمن اعتقد ذلك فإنه إذا مات وهو يفعل هذا الشيء فإنه لا يفلح أبداً.
فدل هذا على أنه يحرم على الإنسان أن يعلق بفعله شيئاً من الخيوط أو من النحاس أو من غيرها من التمائم مما يفعله أهل الجاهلية وأهل الشرك أو أشباههم الذين يتشبهون بهم، وهذا أمر يوجد في الناس إلى الآن، ويعتقدون أن هذا المرض الذي تسميه الجاهلية واهنة موجود، وأن هذه التي تعلق من الخيوط والخرزات أو من الفضة والنحاس والسلاسل التي يعلقها الجهال وأشباههم أنها تنفع من ذلك، وهذا -كما سمعنا في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم- لا يزيد الإنسان إلا وهناً أي: لا يزيده إلا هلاكاً، وإذا كان معتقداً فيه النفع بنفسه أو أنه يرفع البلاء والمرض الذي ينزل بالإنسان فإنه إذا مات على ذلك لا يفلح أبداً.
وهذا أمر صعب جداً، ويجب على من تهمه نفسه أن يعتني بذلك، وأن يتجنبه، وأن ينصح أخاه الذي يقع في مثل هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك ووضحه في هذا الحديث.
قال: وقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38]، قال ابن كثير : أي: لا تستطيع شيئاً من الأمر قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر:38] أي: الله كافي من توكل عليه عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] كما قال هود عليه السلام حين قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].
قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها].
هكذا المشركون يخوفون أهل التوحيد وأهل الإيمان بآلهتهم؛ لهذا تجد الذي يتعلق بالأولياء أو بالمقبورين يسلك هذا المسلك، وإذا قيل له: لا تدع هؤلاء! قال: هل أنت لا تخاف من الصالحين أن يصيبوك بمرض أو بألم أو بشيء لأنك تعاديهم وتبغضهم؟ فهذا كقول قوم هود له: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ يعني: أنه أصابك بعض الآلهة بجنون أو بخبل فأصبحت تدعونا أن نترك عبادة هذه الآلهة، فقال مجيباً لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي: مما تشركون من دون الله، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ يعني: اجتمعوا أنتم وآلهتكم واستعينوا بمن تريدون فوجهوا لي الشيء الذي تستطيعونه من الضر أو الجنون أو غير ذلك، فلن تصلوا إليّ؛ لأني تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فهذا شأن الموحد المؤمن الذي لا يتعلق إلا بالله جل وعلا، أما المشرك فإنه يخاف من المخلوق الضعيف، بل من الميت الرميم المرتهن في قبره بعمله.
والميت نفسه مرتهنة كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] رهينة لا تستطيع أن تعمل شيئاً أو تتصرف أو تذهب أو تأتي أو تجيء، فإن كان من أهل السعادة، ومن أهل التقى؛ فهي منعمة في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة فهو مشغول بالعذاب، وكلاهما مشغول عمن يناديه ويدعوه.
أما إذا كانت أحجاراً أو أشجاراً فالأمر في ذلك واضح وجلي، وقد علمنا أن هؤلاء الذي يدعون الآلهة من دون الله ما كانوا يعتقدون أنها تتصرف بالعطاء والمنع وإنزال المطر وإنبات النبات ودفع العدو، وإنما كانوا يتبركون بها، ويتخذونها شفعاء عند الله.
ومن اعتقد أن الأموات يتصرفون ويستطيعون أن يأتوا بالخير ويمنعوا العدو؛ فقد ضل في عقله بعد ضلاله في دينه، فأصبح لا عقل له ولا دين، وهذا ما كان أبو جهل وأبو لهب وأشباههما يعتقدونه، بل عقولهم تمنعهم من ذلك.
فعلى هذا فدعوة غير الله جل وعلا من أي نوع كانت هي ضلال وخروج عن الصراط المستقيم الذي بعث به رسل الله، فكل رسول بعث بالإنذار من هذا الشيء، والتحذير منه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، كل رسول يقول هذا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يقاتل الناس عليها حتى يذعنوا لها ويقولوها.
وفي هذا إبطال لدعوة هؤلاء بالأمثلة والتقديرات والإيضاح الذي يقرون به، ولا يستطيعون إنكاره، فيكون هذا إلزاماً لهم في إبطال معبوداتهم، ووجوب عبادة الله وحده، ومع هذا الإلزام وهذا الإيضاح الجلي عاندوا وكابروا، وامتنعوا من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوا على شركهم مع علمهم العلم اليقيني أنه ضلال، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر.
إِلَيْهِ تَجْأَرُونَ أي: تدعونه بتضرع ورفع صوت، وإلحاح وحاجة شديدة.
إذا مسهم الضر كان هذا شأنهم، فهم لا يلتفتون إلى آلهتهم التي يعبدونها، وهذا من الأمور التي فارق فيها المشركون الأوائل أهل الشرك المتأخرين، فإنهم إذا مسهم الضر ازداد شركهم ودعوتهم لغير الله جل وعلا، وهرعوا إلى القبور يدعونها، ويلجئون إليها، والأمر كما قلنا: لا عقل ولا دين عندهم، ذهبت عقولهم، وأديانهم، وجهلوا اللغة، وبعد ذلك جهلوا دينهم، فصار الشرك عندهم أعظم وأشد.
أما المشركون القدامى فإنهم إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنه لا ينجيهم من الشدائد ويكشف عنهم الضر إلا الله وحده: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] أي: إذا ركبوا البحر وهاجت بهم الرياح أخلصوا الدعوة لله وحده، وكفروا بآلهتهم، وإذا كان معهم شيء من أصنامهم ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا ينجيكم في مثل هذه المواطن إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، وهذا أمر معروف ومتقرر.
ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً فر من فر من المشركين ومنهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فقد كان مشركاً وكان يأبى أن يقبل الإسلام، ففر هارباً وترك مكة وأهله وزوجته، فوفق له أنه وجد أهل سفينة يريدون اليمن قرب جدة، فركب معهم فهاجت بهم الريح عند ذلك، فقال بعضهم لبعض: أخلصوا الدعاء لله، وألقوا ما معكم من الأصنام، فإنه لا ينجيكم في هذه الحالة إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، عند ذلك فكر في نفسه فقال: إذاً: إلى أين أهرب؟! لئن أنجاني الله جل وعلا من هذه الكربة لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضع يدي في يده فليصنع بي ما شاء، وهذا سبب إسلامه.
والمقصود أن هذا أمر واضح، وقد ذكر الله جل وعلا عنهم في القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا لله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا مستدلاً على وجوب توحيده وحده، وإلزامهم بذلك: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، وكلهم يقرون بأنه الله وحده، لا اللات ولا هبل، ولا مناة ولا العزى، ولا غير ذلك من الآلهة التي كانوا يدعونها، بل يعترفون أنه الله جل وعلا وحده، وهذا لا يحتاج إلى استدلال عليه؛ لأنه أمر ظاهر جلي، وإنما احتيج إلى ذلك لما جهل الذين يدعون غير الله هذا الأمر، وصاروا يعتقدون أن الشرك هو أن يدعو الإنسان من يعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيقول: إذا دعوت المقبور وأنت لا تعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت فليس في هذا شرك، هذا ما قاله أحد من خلق الله، وإنما قاله هؤلاء الذين خرجوا عن المعقولات بعد خروجهم عن المشروعات التي جاءت بها الرسل، وهو أمر واضح جلي جداً.
فالمقصود أن دعوة غير الله جل وعلا كلها من باب اتخاذ الوسائط والتبركات والشفاعة.
قال رحمه الله: [قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله، وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك، وهو ألا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم].
قوله: عن عمران بن حصين أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد - بنون وجيم - مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة].
وكان من علماء الصحابة وأفاضلهم، والصحابة كلهم رضي الله عنهم فضلاء وعلماء؛ لأنهم تعلموا وتربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنالوا البركة من رؤيته وسماع كلامه، وكذلك امتثال أوامره؛ فلهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير قرون هذه الأمة، وأنه بعث في خير هذه الأمة، وحذر من الكلام فيهم أو سبهم، وأخبر أن أحداً لن يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ في ذلك مد أحدهم ولا نصيف المد. وهذا تمثيل ومخاطبة لمن جاء بعدهم، فكيف بمن يأتي متأخراً ثم يحط من شأنهم وربما سبهم وذمهم؟! فهذا من الضلال الأكبر، ومن الخروج عن السنن التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعمران بن حصين رضي الله عنه كان ممن تسلم عليه الملائكة، فإنه رضوان الله عليه أصيب ببواسير، فاكتوى من أجل ذلك، فامتنعت الملائكة من التسليم عليه، ثم ترك الكي فعادت إلى السلام عليه، وقد أخبر بعض تلامذته بذلك وقال: لا تخبر بهذا حتى أموت.
وفضائل الصحابة وكراماتهم معروفة ومشهورة، ويجب على المسلم أن يحبهم ويتبعهم ويعرف قدرهم؛ لأنهم هم الوساطة بيننا وبين رسولنا في إبلاغ الدين، ونقل أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فديننا أخذناه عنهم، وهم الذي بلغونا إياه عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [قوله: (رأى رجلاً) في رواية الحاكم: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال: ما هذه؟) ... الحديث، فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
قوله: (ما هذه؟) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر.
قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات : الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
قوله: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه].
وقد يكون الشيء المحرم فيه منفعة، ولكن ليس كل ما فيه منفعة يجوز استعماله أو فعله، وقد قال الله جل وعلا في الخمر والميسر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فأخبر أن فيها من المنافع، ولكن الضر أكبر.
وهكذا المحرمات، قد ينتفع الزاني بالزنا وهو محرم، فليس كل شيء فيه نفع يجوز فعله، بل يجب أن يتبع الإنسان في ذلك شرع الله، فما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه فعله، وما منع منه يجب أن يمتنع منه سواء كان فيه نفع أو ليس فيه نفع، والغالب أن ما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله أن نفعه مستغرق في مضراته، وضره أعظم وأشد وأكثر.
قوله: (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبداً)؛ لأنه شرك، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه شاهد لكلام الصحابة رضي الله عنهم أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك].
ذكر المؤلف أنه لا يعذر بالجهل أحد؛ لأنه قال صلوات الله وسلامه عليه: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا الخطاب موجه إلى الصحابي رضوان الله عليه، فيقول: إن هذا يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل؛ لأنه كان جاهلاً بالحكم، ولو كان يعلم أن هذا من الشرك لم يكن ليقدم عليه، ومع ذلك يقول له: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) فدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، في الأمور التي تعبد الله جل وعلا بها عباده، مثل تعلق ودعاء وطلب النفع، ودفع الضر، وما أشبه ذلك مما هو من توحيد الله جل وعلا.
الإنسان لا يعذر بجهله في ذلك، فكيف بمن صرف أصل العبادة لله جل وعلا في السجود والنداء وطلب كشف الكربات وإجابة الدعوات، وما أشبه ذلك مما يفعله كثير ممن هو في بلاد المسلمين ويصلي ويصوم، ويزعم أنه مسلم في ذلك؟! إذا قارنا بين فعل هؤلاء مع ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تبين البون الشاسع.
وذلك أن الله جل وعلا خلق عباده لعبادته، وفطرهم على ذلك، فالعبادة أمر مفطور عليه الإنسان؛ ولهذا السبب تجد أن الذي لا يعبد الله لا بد أن يعبد غيره، فلا يمكن أن يوجد بنو آدم منفكين عن العبادة نهائياً حتى الملاحدة، الملاحدة الذين يزعمون أنه لا إله والحياة مادة، وأن الأديان كلها خرافة هم يتعبدون، ولكن للشيطان! ويعبدون شهواتهم من فروجهم وبطونهم وساداتهم الذين يوجهونهم ويأمرونهم وينهونهم، فهم عباد لهؤلاء، فسنة الله جل وعلا في خلقه أن الذي لا يعبد الله يعبد الشيطان باختلاف مظاهره.
فالشيطان له مظاهر كثيرة، قد يظهر في مظهر صورة بارزة، وقد يظهر بمظهر شخص، وقد يظهر بمظهر شهوة وهوى، إلى غير ذلك، فالمقصود أن عبادة الله جل وعلا لا يجوز أن يكون الإنسان جاهلاً فيها، بل لا بد أن يكون على علم ويقين.
يدل على هذا أنه جاء في حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل ميت يسأل في قبره عن ثلاث: يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وإذا تلعثم أو تردد أو قال: ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لم يقبل ذلك منه، بل يعذب ويقال له: لا دريت ولا تليت، ومعنى ذلك أنك كنت مقلداً ليس عندك علم، وليس عندك يقين وبرهان من هذا الدين الذي جاءت به الرسل، وكنت لا تعبد إلا الله جل وعلا.
فهذا لا يعذر فيه إنسان، ولا بد من مساءلة الميت عن ذلك، فإن كان موقناً عن علم ويقين فإنه يجيب، وإذا كان متردداً جاء بالتردد، ويقول: ها.. ها.. لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يعذب، فيضربه الملك بمطراق من حديد يلتهب عليه قبره ناراً -نسأل الله العافية-، وهذا يدلنا على أنه غير معذور بجهله في أصل الدين، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا.
فلهذا يكون لهم أجر من أتى بعدهم وأخذ عنهم، والذين أخذوا عن الذين أخذوا عنهم، يكون لهم من الأجر مثل أجور هؤلاء، وربما امتد الأمر إلى يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر المهتدين شيئاً.
ولا يمكن أن يكون الإنسان منفكاً عن الذنوب؛ ولهذا جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم)؛ وذلك أنه لا بد أن تظهر آثار أسماء الله جل وعلا وصفاته، فهو الغفور الرحيم التواب البر الذي يرحم ويعفو ويغفر ويستر ويجبر، فآثار أسمائه وأوصافه لا بد أن تظهر على عباده، فالذي يقترح أن المؤمن لا يقع في الذنوب فهو جاهل في الواقع، وهو اقتراح لا يمكن وجوده، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، الذين يتوبون ويرجعون.
وفي الحديث الصحيح عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا: (إن عبداً من عباد الله أذنب فقال: ربي! إني أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، فقال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، قال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، اعمل ما شئت) يعني: كل ما أصبت ذنباً فاستغفرت فإن الله يغفره، ولو تكرر ذلك مراراً، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان يصر على فعل الذنوب، ويصير الذنب محبوباً إليه، ويصير عزمه الإقامة على فعله، ولا يريد تركه، وإنما يستغفر بلسانه، فإن هذا يسمى استغفار الكاذب، ولكن المعنى أنه يندم إذا وقع في الذنب وتركه وأسف على وقوعه فيه وعزم على ألا يعود إليه، وإذا كان بهذه المثابة ولو يقع في اليوم في ذنوب كثيرة، ويتصف بهذه الصفة؛ فإن الله يغفر له ولا يبالي.
فالمقصود أن أولياء الله لا ينفكون عن الذنوب، ولكن يوفقهم الله جل وعلا للتوبة.
وقد ابتلي في دولة المعتزلة، وذلك لما كانت المعتزلة لهم الدولة، وكانوا هم الذين تخرج على أيديهم خلفاء المسلمين، فغروا خلفاء المسلمين، وزينوا لهم الباطل، ثم أمروهم بفتنة الناس وابتلائهم، وكان إذا تردد الخليفة في شيء من الأمر جاءوا إليه يقسمون له، ويحلفون له، ويقولون: إذا كان في هذا الأمر إثم فهو علينا، نحن نتحمله عنك، ويحلفون له بذلك، وقد يقولون: اقتل هذا الرجل وأنت مأجور، وإذا كان فيه إثم فهو علينا.
وقد أمروه بقتل الإمام أحمد وقالوا له مثل ما قالوا لغيره، وصار الأمر صعباً جداً، فهم أمروا الخليفة بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، وكل من لم يقل: إن القرآن مخلوق يجب أن يقتل ، ولا سيما العلماء، فبدءوا بالعلماء الكبار؛ لأنهم قدوة الناس، فقتلوا خلقاً على ذلك بهذه الفتنة.
أما الموظفون في الجيش أو في القضاء أو في غير ذلك، فإذا لم يجب أحدهم إلى ذلك فإنه يعزل ويطرد ويمنع من العطاء يعني: من بيت المال الذي هو حق لجميع المسلمين، هذا إن لم يقتل، فصارت فتنة عظيمة.
لهذا صار الإنسان يؤتى به مقيداً بالحديد من أول الأمر وإن كان من كبار العلماء، ويؤتى به إليهم في مجالسهم التي فيها من الأبهة ومن الأمور التي تبهر، وليس بينه وبين أن يقتل إلا أن يقال: اقتلوه فقط؛ فلهذا أجاب كثير من العلماء بالقول بأن القرآن مخلوق، وهم يعتقدون أنه كلام الله صفة من صفاته خوفاً من القتل.
وصبر الإمام أحمد على ذلك، وضرب حتى أغمي عليه مراراً، يضرب حتى تسيل الدماء من جسده كله، ثم سجن ما يقرب من سنتين، وكل ذلك وهو صابر، ويقول: القرآن كلام الله، وبذلك جزاه الله جل وعلا في الدنيا قبل الآخرة الذكر الحسن، وكذلك القبول في جميع الأمة، فلا تجد من يتكلم فيه وإن كان مخالفاً له وعدواً له لهذا السبب، وهذا من نصر الله جل وعلا؛ لأنه وعد جل وعلا أن من ينصر الله ينصره.
وقد قتل من نظرائه خلق من العلماء بهذا السبب، قتلوا لأنهم قالوا: إن القرآن كلام الله، ولكن الإمام أحمد لما كان له من الشهرة ومن العلم والقبول عند الناس ثم صبر وقاوم هذه الفتنة العارمة العظيمة؛ جعل الله جل وعلا له من الذكر والقبول ما يناسب ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر