(اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً) وذلك أن هذا الاسم -وهو أهل السنة والجماعة- ينظر فيه باعتبارين: باعتبار العقائد والأصول، فهذا القول فيه على الأصول المعروفة، وينظر فيه باعتبار منهجهم العام -أي: منهج أهل السنة والجماعة العام- وهذا يدخل فيه الأخلاق وأحكام التشريع، وهذا من جهة أن أئمة السنة والجماعة من المحدثين والفقهاء لهم منهج في التفقه، ولهم منهج في الأخلاق، وإن كان هذا المنهج الذي يُذكر لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، وقد سبق معنا أن ما هو من عقائدهم لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، ما من عقيدة من عقيدتهم إلا وقد يشاركهم فيما هو منها بعض الطوائف من المسلمين، ففي صفات الله لا طائفة من الطوائف تحقق باب الصفات كتحقيق السلف، لكن ليس كل الطوائف هم من النفاة .. فقد وجد الأشعري وابن كلاب فأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها.
إذاً ما من أصل من أصول أهل السنة إلا ويشاركهم فيما هو منه بعض المسلمين، أما التحقيق لأصل باطراد فهذا في الغالب أنه اختصاص عندهم، أما أن يكون غيرهم عنده من الأصول ما ليس عندهم، فهذا ممتنع، كذلك في باب التشريع وباب الأخلاق فإن غيرهم يشاركهم في هذا، لكن هديهم أكثر تحقيقاً، وهذا باعتبار أن منهج أهل السنة والجماعة منهج عام في العقائد والأصول، أو في التشريع أو في الأخلاق.
وإن كان اسم أهل السنة أو اسم السلفية أو السلف إذا تكلم به انصرف إلى القول في العقائد باعتبارها هي الأشرف وهي محل النزاع من جهة الأصل بين أهل القبلة، لكن مع هذا فإن من فقه الناظر في كلامهم -أعني كلام السلف أو كلام أهل السنة- أن يعتبر هذا المعنى العام: أن طريقتهم طريقة عامة، وهي الأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأن هذا هو السبيل الذي أوجب الله به النجاة في مثل قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]فبيَّن سبحانه أن ثمة تلازماً بين طريق الرسول عليه الصلاة والسلام وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، قال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] فدل على أن سبيل المؤمنين هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم أخذوا وتلقوا عنه.
قال رحمه الله: [واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)] .
هذه الوصية الجامعة هي حديث العرباض بن سارية في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقتدوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وهم الخلفاء الأربعة، وهذا فيما يقرونه ويلتزمون به من الاجتهاد ويلزمون به الأمة، هذا معنى حديث العرباض في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) المقصود بسنة الخلفاء هنا: هو اجتهادهم الذي يلزمون به الأمة، فإذا ألزم أبو بكر الأمة بأمر، فإنه يجب على الأمة أن تلتزم به كسنة شرعية، ليست سنة مصلحية تعرض وتزول، لكن إذا ألزم به أبو بكر فإنه يكون سنةً شرعية لا يجوز لأحد أن يخرج عنها، هذا هو وجه أن لهم سنة بخلاف غيرهم، فإن الأمر يكون على حسب المصالح والقياسات والنزاع العلمي إلى غير ذلك، وهذا من تسديد الله لهؤلاء الأربعة.
ولهذا فرع بعض أهل الأصول: هل اتفاق الخلفاء الأربعة الراشدين على رأي في مسألة ما حجة، أم ليس بحجة؟
والمأخذ من هذا الحديث لا يدل على أن قول أحد منهم أو حتى اتفاقهم يكون حجةً بذاته في المسائل التي مردها إلى النصوص، إنما هذا فيما يختصون به من النوازل وما يتعلق بالمصالح المرسلة التي تعرض في زمنهم، فيكون هذا من تمام الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا قيل: إن الصحيح أن هذا الاتفاق ليس حجةً بذاته، لا يفهم منه أنه يخالف قولهم، لأنه لم يحفظ مسألة من مسائل العلم -أي: في مسائل التكليف- قد أجمع الخلفاء الراشدون فيها على قول وكان هذا القول ليس راجحاً فاحتجنا أن نرجحه بكون إجماعهم حجة، بل تجد أنهم إذا اتفقوا وحرر اتفاقهم على قول فلا بد أن يكون هذا القول عليه دلائل من السنة تغني عن النظر في قولهم هل هو حجة أو ليس بحجة.
ولذلك لا توجد مسألة اتفق عليها الخلفاء الراشدون وقولهم فيها مخالف لظاهر الأدلة، اللهم إلا أن يكون هذا من باب عدم الضبط لأقوالهم، كما ذكر كثير من فقهاء الشافعية مثلاً: أن مما اتفق عليه الخلفاء أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فهذا ليس عن الخلفاء الراشدين فيه اتفاق، وكأنهم -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله- دخل عليهم أن الخلفاء الراشدين كانوا يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، وكان الوضوء مما مست النار مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ، فكان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فبعض الصحابة بقي عنده بقية في هذه المسألة، فكان الخلفاء وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، حتى لا يلتبس هذا على المسلمين، فظن من ظن من فقهاء الشافعية أنهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، لأن هذا الفقيه من متأخري الشافعية بناه على أن لحم الإبل إنما وجب الوضوء منه لكونه مسته النار.
فهذا من جنس من يقول: إن لحم الإبل قد نسخ الأمر بالوضوء منه، والأمر ليس كذلك؛ لأن حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب يدلان على أن هذا كان بعد النسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله! أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا -وفي رواية قال: إن شئت- قيل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم)فلو كان هذا قبل النسخ لكان جوابه عن سؤال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ أن يقول: نعم، لأن لحم الغنم قد مسته النار، فلما قال: (إن شئت)، وفي رواية قال: (لا) أي: لا تتوضأ من لحم الغنم دل على أن هذا كان بعد النسخ، إنما الخلاف الذي يتوجه في مسألة لحم الإبل: هل قوله: (نعم) أراد به الرسول عليه الصلاة والسلام الإيجاب، أم أراد به الاستحباب؟
هذا الخلاف هو الذي يتوجه عند التحقيق، وكأنه هو مأخذ المتقدمين في المسألة الذين صح عندهم الحديث في هذا، أما أن ترد إلى هذا المعنى أن هذا من النسخ فهذا الحديث ظاهره يمنعه، فالمقصود من هذا أن لحم الإبل على الراجح في المسألة كما هو معروف مما يجب الوضوء منه، وهو مذهب أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة، لكن يبقى أن المسألة من مسائل النزاع المعروفة بين المحدثين والفقهاء.
ونتيجة هذا: أن الخلفاء الراشدين لا يجمعون على ما يخالف ظاهر السنة والكتاب.
هذا الهدي الذي قرره المصنف هنا هو من الفقه، ومنهج السلف رحمهم الله ومنهج أهل السنة والجماعة فيه جهتان: جهة إجماعية، وهذه هي الكلام في أصولهم، وهذه هي التي يحصل بها التمييز، بمعنى: أن المسألة من هذا النوع أو من هذا الوجه تضاف إلى السلف، ويكون من يشاركهم فيما هو من هذه المسألة تابعاً لهم، فيقال: إن من قول السلف كذا، ومن مذهب السلف كذا.
هذه المسائل التي تُضاف إلى السلف باختصاص هي مسائل الإجماع، وهي التي تسمى مذهباً للسلف، أي: أنهم يختصون به، وهذا الاختصاص لا يعني أنه يمتنع أن يشاركهم من هو من الطوائف الإسلامية فيما هو منه، بخلاف تحقيقه أو الاختصاص به فإنه لا يقع من غيرهم، أما ما كان من غير مسائل الإجماع، فهو وإن كان لهم -أعني: أئمة السلف- هدي في ذلك إلا أن هذا لا يوجب الإضافة المختصة في سائر مسائل التشريع المفصلة أو مسائل الأخلاق المفصلة أو أنواع النظر أو ما إلى ذلك.
وسبق معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرر أن مذهب السلف يتلقى بطريق النقل وليس بطريق الفهم، يقول: الأقوال التي تضاف إلى السلف على أنها دين لازم لا يجوز الاجتهاد بخلافه وما يقابله يكون بدعةً، وهذه البدعة لا يجوز الاجتهاد بها، حتى ولو كان من اجتهد بها يزعم أن لها ظاهراً من الدليل من الكتاب أو السنة، الأقوال التي تضاف إلى السلف لا بد أن تكون إجماعاً، وهذا الإجماع إما أنه يحصل بتواتر قولهم وعدم اختصاص بعض أئمتهم بمخالفة كتواطؤ قولهم: إن الإيمان قول وعمل، فهذا قد تواتر عنهم، فإن قيل: فقد خالف حماد بن أبي سليمان . قيل: خالف بعد الإجماع، فإن حماداً ليس هو أول السلف، فأول السلف هم الصحابة رضي الله عنهم، ثم التابعون لهم، ومن المعلوم: أن حماداً قد سبقه الصحابة وسبقه خلق من الأئمة ممن هم بعد الصحابة؛ ولذلك كان قوله خطأً في هذه المسألة.
الوجه الثاني في ثبوت مذهب السلف: أن يحكي من هو من المعتبرين في ضبط مذهبهم الإجماع عندهم على قول كحكاية الإمام أحمد الإجماع، أو حكاية إسحاق أو حكاية البخاري ، أو ما إلى ذلك من الأئمة المعتبرين، أو حتى من المتأخرين المحققين؛ كـشيخ الإسلام ابن تيمية إذا حكى أن إجماع السلف على كذا، فإن هذا يكون إجماعاً صحيحاً منضبطاً، وإذا حكى أبو عمر ابن عبد البر الإجماع، فإنه في الجملة يكون صحيحاً منضبطاً.
المقصود: أن هؤلاء إذا حكوا الإجماع وانضبط، ولم يظهر له مخالف، فإن هذا يكون مما يضبط به منهج السلف.
قال شيخ الإسلام : وأما تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم، فهذا من طرق أهل البدعة.
والمقصود من ذلك: أن المسائل التي تضاف إلى السلف على أنها من قولهم يلزم أن ما يقابلها يكون بدعةً، فالسنة يقابلها البدعة، وهذا لا يجوز أن يكون محصلاً بالفهم، صحيح أن هذه الأقوال في الفقه كأقوال الأئمة الأربعة هي أقوال لأئمة السلف، مع أن جمهورها يحصل بالفهم والنظر والتأمل .. إلى غير ذلك، وأكثرها محل نزاع بينهم، كاختلافهم في أكثر مسائل التكليف وفروعها، لكن هذا مما يضاف إلى الأعيان من أعيانهم ولا يضاف إلى جملتهم.
إذاً تحصل عندنا وجهان: الوجه الأول: ما كان من الأقوال مضافاً إلى جملتهم، وما كان من الأقوال مضافاً إلى معين، أما ما كان مضافاً إلى جملتهم أي يقال: هذا قول السلف، فهذا لا يجوز إضافته إلى جملتهم إلا بنقل الإجماع فيه على أحد وجهي ثبوت الإجماع، أما ما كان مضافاً إلى أعيانهم، فهذا يحصل بطريقة الفهم، ولذلك لا غرابة أن فيه اختلافاً؛ لأن كبارهم كانوا يختلفون، وقد اختلف الصحابة واختلف الأئمة الأربعة ومن قبل الأئمة الأربعة .. وهلم جراً.
فهذا لا يضاف إلى السلف، بل يضاف إلى أعيانهم، فيقال: قول أبي حنيفة كذا، وقول مالك كذا، والجمهور من الفقهاء كانوا على كذا .. إلى آخره، أو رأي المحدثين كذا ورأي أكثر الفقهاء كذا .. إلى غير ذلك.
فإن قال قائل: فما الفرق بينهما؟
قيل: الفرق بينهما أن الأول لا يُحصَّل إلا بطريق النقل والإجماع، فهذا ما يخالفه يكون بدعة، أما الثاني فإن ما يخالفه لا يكون بدعة؛ لأنهم هم مختلفون فيه.
أيضاً: مسألة زكاة حلي النساء، جمهور السلف من الفقهاء والمحدثين على أنه لا زكاة فيه، فلا يحق لأحد أن يقول: ومن الأحكام السلفية أن حلي النساء لا زكاة فيه، مع أن مالكاً والشافعي وأحمد والجمهور من أهل الحديث لا يرون وجوب الزكاة فيه، إلا أن هناك مخالفاً وهو أبو حنيفة وخلق من الكوفيين بل وغير الكوفيين.
فالمقصود: أن المسائل التي هي نزاع بين السلف إذا اجتهد مجتهد فرجح أحد القولين ونسبه إلى بعض أئمة السلف فهذا له، لكن لا يجعل هذا من الخصائص السلفية؛ فإن ذلك يلزم منه أن ذلك الإمام أو أولئك الأئمة المتقدمين لم يكونوا على جادة سلفية في هذا.
إذاً: تحصيل مذهب السلف بالفهم لا يجوز، مثله من اجتهد بنظر معين في الفقه ورأى أن الطريقة الصواب في الفقه هي كذا وكذا، وبنى هذا الاجتهاد على الأدلة، ووضع لنفسه طريقة معينة في تحصيل الفقه -أي: الأحكام الفقهية- ثم قال: هذه هي الطريقة السلفية، وجعلها مكافئة للطريقة التي يسمونها الطريقة المذهبية.
والسلف كما قلنا: هم الصحابة أو القرون الثلاثة الفاضلة ومن اقتدى بهم، فنجد أن هناك من يجتهد بطريقة فقهية معينة يجعل من يتبع هذه الطريقة سلفياً ومن يخالفها ليس سلفياً، وإن كان قد يقول بعضهم مثلاً: إنه ليس سلفياً في الفقه وإن كان سلفياً في العقيدة، وهذا التقسيم غلط؛ فإن مسائل السلف التي تضاف إليهم هي مسائل الإجماع.
وهذه مسألة عني شيخ الإسلام بتقريرها، وعدم فهمها هو الذي أدى إلى انقسام السلفيين الآن، فبعض السلفيين في مصر لهم طريقة تجدهم يزيدون بعض القضايا تختلف عن أنصار السنة في السودان، وعن غيرهم من السلفيين في أهل الشام، هذه التجمعات السلفية التي أصبح كل واحد منها يدعي التمام؛ موجبها خصائص من الفهم مبنية على اجتهاد شرعي، ولكنهم جعلوها من الموجبات السلفية.
والحق أن سائر الاجتهادات لا علاقة لها بمسألة التسمية السلفية، التسمية السلفية معتبرة بالعقائد والأصول، أما من خالف الاجتهاد فهو تحت حديث: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجر، ...)، فهو في مسائل الاجتهاد الممكنة التي يدخلها التقدم والتأخر، وهذه الاجتهادات كاجتهادات المتقدمين في مسائل الفقه وغيرها.
مع أنه من المعلوم أن هذه الطريقة التي تذكر أحياناً من أن فلاناً سلفي في العقيدة وليس سلفياً في الفقه، تقال فيمن انتسب لمذهب من المذاهب الأربعة، ولو أن شخصاً أراد أن يعكس المسألة لأمكنه أن يعكسها، فلو قال: إن السنة السلفية مضت بإقرار التمذهب؛ لما استطاع أحد أن ينكر عليه.. فهناك فرق بين أن تقول: إن السنة السلفية مضت بإقرار التمذهب، وبين أن تقول: إن السنة السلفية مضت بقصده أو تشريعه أو الحث عليه، والذي نتكلم عنه هو الإقرار فقط.
ووجه هذا الإقرار: أن التمذهب بمذاهب الفقهاء الأربعة بدأ من القرون المتقدمة، ولو أبعدت قلت: بدأ من القرن الرابع، مع أنه بدأ قبل ذلك، لكن انضبطت هذه المذاهب وبدأ الانتساب الصريح لها من القرن الرابع؛ بل من قبل، فالحقيقة أنه حتى في زمن التابعين قبل الأئمة الأربعة كان يعرف أن فلاناً له أصحاب، بل حتى الصحابة كان ابن مسعود له أصحاب ويرجحون قوله وينتصرون له؛ لأنهم رأوا أن منهجه هو الأقوى، وكان هناك أصحاب ينتسبون لفقه ابن عباس ، فهذا لم يكن غريباً زمن السلف وما كان منكراً، ومما كان يعلم أن أتباع ابن مسعود كانوا يوافقونه على مسائل هي خلاف الدليل، كمسألة التطبيق، ومسألة إذا كان إماماً وائتم به اثنان وقف وسطهم.
والمقصود من هذا: أن مسألة الأتباع والأصحاب مسألة معروفة، ثم انضبطت أكثر في المدارس الفقهية الأربع.. نعم هناك التعصب، لكن هذا التعصب مذموم؛ سواء كان لأحد الأمة الأربعة، أو كان لـأبي بكر أو كان لـعمر ، أو كان لأي شخص لعينه، لأنه لا يجوز التعصب -أي: الاجتماع على قول واحد بإطلاق- إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: من يحتج على إبطال التمذهب بكلام المتعصبين من الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة فهذا لا حجة فيه.
البعض يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] هاتوا دليلاً يدل على جواز التمذهب. وهذا جهل؛ فإن العلم لا يناقش بهذا الأسلوب، هذه سطحية في العلم.
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] لا جدل في هذه القاعدة، لكن كيف الرد إلى الله والرسول؟ هذا ليس من باب التعبد حتى تقول: هات لي دليلاً من القرآن والسنة يقول: تمذهب لـأحمد بن حنبل أو للشافعي .
ولو رددنا هذه المسألة إلى الله والرسول، فلن نجد في القرآن أو في السنة دليلاً على منع الاقتداء بأولي العلم، لأن الله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43] وإذا كان سؤالهم ممكناً، فهذا الاتباع هو من نفس هذه المادة: مادة السؤال.
وآخر عرف من حال الشافعي وما عنده من الأخذ عن المحدثين والفقهاء وسعة علمه باللغة، فناسبه فقه الشافعي ، ورأى بنظره أنه أقرب، فصار شافعياً، وصار هذا حنفياً، لأنه لم يلق المحدثين، إنما تقلد فقه أبي حنيفة كحال أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، فقد كان على فقه أبي حنيفة ، ولما لقي من لقي من أهل الحديث ترك كثيراً من قول أبي حنيفة .
إذاً: المسألة مسألة تراتيب علمية، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فإن يطيعوا
إذاً لا بد من هذا الاتباع، وهذا من سنن المرسلين: أن يقتدي المفضول بالفاضل.
أما إذا صار التمذهب تعصباً أو صار الانتصار من أجله ليس من أجل الدليل، أو صار على جهة التعبد أو نحو ذلك.. فلا شك أن هذه موجبات يعلم بطلانها من الشريعة وهي من البدع المنكرة.
إذاً: التمذهب فيه طرفان ووسط؛ فإذا غلا بعض المتمذهبين بتعصبهم للمذاهب، وصاروا يقلدون الأقوال ولا يعتبرون النظر في الدليل، وكان همهم الانتصار للمذهب، فهذا لا شك أنه بدعة وجدت في قرون من الأمة على يد بعض الفقهاء.
وقد أنكره قوم ولا سيما من المعاصرين الذين بالغوا في رده وجعلوا السلفية مرتبطةً بعدمه، والحق أن المحققين من السلفيين كـابن عبد البر وشيخ الإسلام وابن كثير ومن قبل هؤلاء أو من بعدهم، والمعاصرين الذين قرب عصرهم كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وشيوخ الدعوة، كل هؤلاء كانوا على التمذهب البعيد عن التعصب، إنما اختاروا أصولاً فقهيةً عند أحمد أو أصولاً عند الشافعي أو أصولاً عند أبي حنيفة . ولا أحد يجادل في أنك لو اخترت قول أبي حنيفة في مسألة لما أنكر عليك أحد، وإذا اختار أحد قول أبي حنيفة في ترجيح القياس على قول الصحابي.. هذه مسألة وهذه مسألة، فهو اختار اجتهادات أبي حنيفة ؛ لأنه عند الأئمة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع عندهم حجة، بعد ذلك تأتي الأدلة المختلف فيها، هذه فيها تراتيب بينهم -أي: بين الأئمة الأربعة- فبعض الناس من الناظرين بحسب درجة نظره وقوته يقدم قول أحمد أو قول الشافعي أو قول أبي حنيفة ، فهذا من تقليدهم في اجتهادهم كتقليدهم في آحاد فروع الشريعة.
فالمقصود: أن التمذهب لا بد أن يكون القول فيه معتدلاً، لا يجوز الانتساب للمذاهب على التعصب، ولكن لا يجوز إنكار ذلك.
وليس المقصود من هذا أن التمذهب سنة لازمة لا بد أن تبقى في المسلمين، بل ينبغي ذكر الاجتهاد، فالأمة الآن بحاجة إلى اجتهاد، لأن هناك مسائل نزلت لم يتكلم عنها الفقهاء من قبل، لكن المقصود أن الأمور تؤتى من أبواها، فتحصل الاجتهاد ليس بإنكار المذاهب، وتحصل السلفية ليس بإنكار المذاهب، فإن أئمة هؤلاء المذاهب هم أئمة السلف، وكثير من أتباعهم المحققين كانوا على عقيدة السلف، خاصة أن من ينكر هذا تجد أنه يأخذ بأقوال ابن حزم أو أقوال الشوكاني ، فرجعوا إلى قول عالم من علماء السنة والجماعة على أحسن تقدير.
هذه الأصول الثلاثة هي موازين الحق: الكتاب والسنة والإجماع، ومعلوم أن الإجماع لا ينعقد إلا بدليل، فكل مسألة أجمع عليها فهي أقوى من المسألة التي فيها ظاهر دليل وليس فيها إجماع .. لأن المسألة التي أجمع عليها لا بد أن يكون دليلها أقوى من المسألة التي فيها ظاهر دليل لم يصاحبه إجماع، فكل مسألة أجمع عليها فعليها دليل من الكتاب أو دليل من السنة ولا بد، وإن كان قد يتخلف عند البعض تحصيل هذا الدليل.
[وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة] .
وهذه العبارة من شيخ الإسلام رحمه الله كأنها محورة من كلام أبي محمد ابن حزم ، وشيخ الإسلام قد أخذ من ابن حزم ، وإذا قيل: إنه أخذه من ابن حزم ، فلا يعني أنه مقلد له، لكن يعني أن ابن حزم كان يقرر مثل هذا الكلام، فهذا مما كان جيداً في كلامه.
أبو محمد ابن حزم يقول: إن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة، وشيخ الإسلام هنا يقول: ما كان عليه السلف الأول، فهذا مقارب لقول أبي محمد ابن حزم .
وإذا قلنا: إن الإجماع المنضبط هو ما كان عليه الصحابة؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، فقد يقول قائل: إن هذا يستلزم إسقاط دليل الإجماع في كثير من المسائل الفقهية.
فأقول: إنه إذا تكلم عن الإجماع المنضبط القطعي المتعلق بمسائل أصول الدين، فلا شك أن الإجماع هنا هو إجماع السلف الأول إجماع الصحابة، أما إذا كان الكلام في مسائل التشريع -مسائل الفروع- فالقول في الإجماع هنا يكون أسهل من القول الذي قاله أبو محمد ابن حزم .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر