قال المصنف رحمه الله: [إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف: هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [البقرة:78] وأن طريقة الخلف: هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات].
موجب هذه المقالة التي تقول: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم أن أصحابها كانوا يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكانوا يعظمون السلف في الجملة، ويرون ظاهر القرآن على إثباتها، فقالوا: إن السلف كانوا ينفونها في نفس الأمر -أي: يعتقدون عدم ثبوت الصفات الفعلية- لكن موقفهم من آيات القرآن التفويض -أي: لا يتكلمون في معانيها لا إثباتاً ولا نفياً، ويعتقدون انتفاء المعنى الظاهر- والخلف تأولوها كما سلف، فهذا الظن الفاسد -الذي هو جهل وغلط على السلف- هو الذي أوجب هذه المقالة.
وبهذه الطريقة -طريقة الأشعرية- يكون الفرق بين السلف وعلماء الأشاعرة هو أن علماء الأشاعرة ذكروا التأويل والسلف لم يذكروا التأويل، ويبقى أن الطائفتين في فهم الأشعرية اتفقوا على نفي الصفات الفعلية، وهذا غلط شديد على السلف، فإن السلف كانوا يثبتون الصفات الواردة في كتاب الله سواء كانت صفات لازمة أو صفات فعلية.
وقد تكلم بعض المعاصرين في هذه المسألة، وقال: إن شيخ الإسلام يتناقض؛ فإنه تارةً يطلق في كتبه عبارة المجاز فيقول: وهذا من المجاز اللغوي، وهذا من مجاز اللغة. مع أن له رسائل ومواضع من كلامه يصرح فيها بإبطال المجاز؛ وبعضهم فرض هذا حتى في ابن القيم ، مع أن ابن القيم رحمه الله -في الجملة- تبعٌ لـشيخ الإسلام .
والصحيح أن القول في المجاز يقع على جهتين:
الأولى: المجاز باعتباره من عوارض الألفاظ.
الثانية: المجاز باعتباره من عوارض المعاني.
والذي أنكره شيخ الإسلام ، واشتد في دفعه وإبطاله هو المجاز باعتباره من عوارض المعاني، أما إذا كان من عوارض الألفاظ فهذا يقال: إنه مجرد اصطلاح، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحياناً يستعمل هذا الحرف، فيقول: وهذا من مجاز اللغة، وفُسر هذا بالمجاز. وجعل ابن القيم يقول هذا كثيراً أحياناً.
مثلاً: القول بأن عبارة: رأيت أسداً يخطب . من باب مجاز اللغة.. هذا كاصطلاح لا بأس به، كما أنك تقول: جاء زيد. جاء: فعل ماض، وزيد: فاعل. فإنه لا أحد يستطيع أن يقول لك: هات دليلاً على أن امرؤ القيس سمى زيداً فاعلاً، وأن هذا حال، أو تمييز، أو مفعول به؛ فإن هذه اصطلاحات، وقطعاً أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا يمكن أن شيخ الإسلام يعارض في اصطلاح لغوي؛ لأن عندنا اصطلاحات شرعية ما عارض فيها لا شيخ الإسلام ولا غيره.
كذلك الصيغ المستعملة في علم الحديث، مثلاً: هذا مقطوع، وهذا منقطع، وهذا مرسل، وهذا موقوف، وهذا إسناد صحيح، وهذا إسناد حسن.. هذه اصطلاحات ما تكلم بها الصحابة، لكن لا يمكن لأحد أن يقول: أين تصريح الصحابة بها؟
إذاً: لم يكن شيخ الإسلام رحمه الله ينكر المجاز كاصطلاح من عوارض الألفاظ، وإنما وقع نقده واعتراضه عليه باعتباره من عوارض المعاني.
وقد يقول قائل: إننا نرى شيخ الإسلام رحمه الله في رده لنظرية المجاز ينكرها أحياناً حتى من جهة اللغة الاصطلاحية اللفظية المحضة، فهو يقول مثلاً: ولم يذكر هذا التقسيم أئمة اللغة الكبار كـالخليل بن أحمد والأصمعي وأمثالهم ويقول: وهذا التقسيم لألفاظ العربية إلى حقيقة ومجاز لم يتكلم به أحد من السلف، ولا أحد من أئمة العربية المتقدمين ويقول: وأصحاب هذا التقسيم لم يذكروا له حداً صحيحاً، فإن المشهور عندهم أن الحقيقة: هو اللفظ الذي وضع في معنىً واستعمل له، والمجاز: هو اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له، وهذا يستلزم العلم بالوضع والاستعمال، قال: أما الاستعمال فهو استعمال أهل اللسان، وهم العرب، قال: فهذا يحفظ، ولكن أين العلم بالوضع؟
وهذا نقد قوي في كلام شيخ الإسلام للمجاز، حيث إنهم يقولون: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. فلابد إذاً أن نعرف الوضع ونعرف الاستعمال. ومن المعلوم أن الاستعمال هو استعمال العرب، لكن الوضع وضع من؟
ولهذا اعتنى علماء المعتزلة الذين دافعوا عن مسألة المجاز ببيان أصل اللغة.. هل هي قياسية، أو سماعية، أو أنها علِّمت لآدم، وكيف اختلف لسان البشر.. إلخ.
فـشيخ الإسلام رحمه الله -أحياناً- يعترض على مسألة المجاز حتى من الوجه الاصطلاحي اللفظي، وهذا من باب النقد الاستتباعي؛ بمعنى أنه إذا أراد أن يبطل المجاز باعتباره من عوارض المعاني فإنه يقول: لو أن شخصاً قصد إلى إبطال المجاز جملة وتفصيلاً حتى كاصطلاح، فإن هذا ممكن، فهو يريد أن يصل إلى أن المجاز كما أنه غلط من جهة كونه من عوارض المعاني كذلك يمكن إبطاله من جهة كونه من عوارض الألفاظ والاصطلاح، ومن المعلوم أنه إذا استطيع دفع المجاز باعتباره اصطلاحاً لفظياً فمن باب أولى أنه يمكن دفعه باعتباره من عوارض المعاني.
فهو أراد أن يجوز إبطال المجاز حتى كاصطلاح لفظي ليتحقق بطريقة الأولى إبطاله باعتباره من عوارض المعاني.
والنتيجة أن شيخ الإسلام ليس لديه موقف حاسم من المجاز كاصطلاح لفظي، وإن كان أحياناً ينقده استتباعاً، إنما موقفه الخاص من المجاز باعتباره من عوارض المعاني.
فإن المعتزلة -وهم أخص من نظم نظرية المجاز في اللغة، وكثير منهم أساطين في العربية- نفوا الصفات بدلائل كلامية مولدة من الفلسفة، فلما انتهوا من النفي وانتهى مذهب المعتزلة إلى أن الرب سبحانه يمتنع قيام الصفات به، رأوا أن نصوص القرآن تعارض النتيجة التي قرروها، فلما وصلوا إلى هذا وهم قوم يسلمون بالقرآن وأنه حق؛ تأولوه حتى لا يعارض النتيجة التي انتهوا إليها.
نقول: بغض النظر عن كون الاستدلال بهذين الدليلين من القرآن غلطاً، ولكن هب جدلاً أن الآيتين تدلان على نفي الرؤية؛ فإن غاية ما يمكن أن يقال: إن في الآيتين نفياً للرؤية؛ لا تدركه هذا نفي، لن تراني هذا نفي.
فلو فرضنا جدلاً أن في الآيتين نفياً للرؤية فهل المعتزلة تنفي الرؤية؟
الجواب: المعتزلة تنفي الرؤية نفي امتناع، بمعنى أنها تقول: إن الرؤية ممتنعة على الله. والذي في القرآن أقصى ما يمكن أن يدل عليه هو النفي فقط، ومن المعلوم أن المنفي لا يلزم أن يكون ممتنعاً؛ فإن الشيء قد ينفى وهو ليس ممتنعاً، لكن لعدم ثبوت سنده، وإذا كان يتعلق بالله سبحانه لعدم مشيئته.
إذاً: الشيء ينفى إما لكونه ممتنعاً في ذاته أو لكونه لم يشأه الله، والقرآن إنما نفى فقط، فلو كان المعتزلة يقفون عند القرآن المفصل لقالوا: الرؤيا منفية، والله أعلم هل تصح أو لا تصح؟
لكنهم لم يقفوا عند هذا، بل قالوا: الرؤية ممتنعة؛ مع أن الامتناع درجة أقوى من النفي المطلق، فهم قالوا قولاً أخص مما دل عليه ظاهر القرآن الذي لو فرض جدلاً أنه يدل على قولهم؛ وهذا يدل على أن المذهب زاد على الدلالة القرآنية.
ومن هنا نقول: إن المعتزلة لا دليل لهم تفصيلي من القرآن في كل مسائل الصفات.
إذاً: لما رأى القوم معارضة القرآن لنتيجتهم -التي هي نفي الصفات- أرادوا تأويل القرآن إلى قولهم، فجاءوا بنظرية المجاز هذه، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يهاجم مسألة المجاز بقوة، فهم قالوا: إن جميع ما ورد في صفات الباري هو من باب المجاز، ومن قواعدهم التي قرروها في المجاز: إن المجاز يصح نفيه. وبهذا قرروا أنه ليس في القرآن دليل واحد على إثبات صفة واحدة؛ لأن كل الآيات من باب المجاز، والمجاز يصح نفيه.. ولا شك أن هذا من الطعن في القرآن.
ولو فرض جدلاً صحة نظرية المجاز كنظرية لغوية فإن تطبيقها في مسائل الصفات ممتنع، وهذا له تفصيل آخر ليس هذا مقامه.
لكن المهم فهمه هو سبب قصد شيخ الإسلام رحمه الله قصداً شديداً إلى رد مسألة المجاز.
الأصل الأول: وهو الذي حصلوا به المذهب، وهو الدلائل الكلامية.
الأصل الثاني: وهو الذي تأولوا به القرآن، وهو النظرية المجازية.
ولهذا لو قال قائل: إن مذهب المعتزلة وكذا الأشاعرة -فيما يوافقون فيه المعتزلة كباب الصفات الفعلية- محصل بفهم لغوي، وقد عرف كثير من المعتزلة بالحذق في اللسان العربي، فهم فهموا القرآن بحسب كلام العرب؛ ولهذا لا يؤاخذون في قولهم؛ فإننا نقول: هذا الترتيب من جهة النظام العلمي غير صحيح؛ لأن المعتزلة أولاً رتبوا المذهب وحصلوه وانتهت نتيجته عندهم قبل النظر في المسألة اللغوية، فهم رتبوه ترتيباً عقلياً، حيث بنوه على دليل الأعراض، أما القضية اللغوية فقد استدعوها بعد انتهاء المذهب إلى نفي الصفات، لدرء التناقض بين المذهب والقرآن، فتأولوا القرآن بالمجاز.
إذاً: لم يتكون مذهب المعتزلة بدلالة اللغة، إنما بدليل عقلي، وأخص الدلائل التي اعتبرتها المعتزلة دليل الأعراض وهو دليل عقلي فلسفي يقوم على مقدمات فلسفية، بل ألفاظه -أصلاً- لم تعرف عند العرب بنفس المقاصد التي قصدها المعتزلة، وسيأتي إن شاء الله ذكره.
المهم: أن ما يشيعه الكثير من أن مذهب المعتزلة مذهب بني على فهم لغوي في القرآن لمسألة الصفات.. هذا غلط محض، فإن المعتزلة إذا أرادوا تقرير المذهب في كتبهم فإنهم يدخلون من جهة الدلائل الكلامية، وإذا انتهى تقرير المذهب يبقى المعارضة القرآنية للنتيجة، فيستدعون هنا مسألة اللغة عبر نظرية المجاز.
وهذا حتى لا يقول قائل -كما يقول البعض ممن يتكلم في هذا أو يصنف في هذا، ولا سيما بعض الباحثين من المعاصرين-: أن السلف فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب، والمعتزلة فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب؛ فإن هذا غلط محض، فإن المعتزلة لم تستخدم اللسان العربي إلا كجواب عن معارضة القرآن لنتيجتهم التي حصلوها تحصيلاً كلامياً فلسفياً.
قد كذبوا على طريقة السلف لما قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هكذا قال الأشاعرة، وقد كان المعتزلة يقولون: السلف مجسمة. وكلمة مجسمة تدل على أن السلف في فهم المعتزلة كانوا يثبتون إثباتاً حقيقياً، ولو كان السلف في فهم المعتزلة مفوضة لما قالوا عنهم مجسمة.
قوله: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر، أي: اعتقادهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية، فلما اعتقدوا بالشبهات التي تلقوها عن المعتزلة وأمثالهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية قرروا أن مذهب السلف فيها هو التفويض، ومذهب الخلف فيها هو التأويل.
أما فساد العقل فلأن الدلائل التي استعملها هؤلاء لنفي الصفات دلائل فاسدة بالعقل كما أنها فاسدة بالشرع؛ ولهذا من قواعد شيخ الإسلام : أن كل دليل عقلي يستدل به مبتدع على قول؛ فإن الدلائل العقلية نفسها تدل على بطلان هذا الدليل فضلاً عن الدلائل الشرعية. ولهذا من الخطأ القول بأن الدليل العقلي يرد بالدليل السمعي وحده، بل يرد بالدليل العقلي الصحيح والدليل السمعي؛ لأن العقل لا يعارض السمع.
مثال ذلك: أن من أخص أدلة المعتزلة على نفي الرؤية: قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] فهنا طريقتان للرد عليهم: إما أن يقال: إن الدليل لا يدل على نفي الرؤية.. وهذا بدهي وواضح.
وإما أن يقال -وهذا الذي يستعمله شيخ الإسلام وبعض المحققين من أهل العلم-: إن الدليل نفسه يدل على إثبات الرؤية؛ لأن الله نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، والإدراك قدر زائد على الرؤية، فإن من يرى الشيء لا يلزم أن يدركه.
فلما نفى القدر الزائد دل على ثبوت ما دونه؛ لأنه لو كان المعنى من أصله منتفياً لما احتيج إلى نفي القدر الزائد. وقد قال رجل لـابن عباس: إن الله يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] ويقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] قال له ابن عباس: يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى. قال: أتدركها كلها؟ قال: لا. قال: فالله أعظم. فكل من يبصر من بني آدم اليوم يرون السماء حقيقةً، لكن لا أحد من بني آدم يقول: إنه يدرك كل السماء على ماهيتها.
وكذلك يرون الشمس لكن لا يدركونها إدراكاً حقيقياً، ففي هذه الآية قال الله تعالى:
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] لأن الله يرى ولا يدرك، وهذا من كماله، بخلاف المخلوقات؛ فإنها ترى وتدرك.
وقد يقال: الشمس لا ندركها. فنقول: لكنها تقبل الإدراك، فأنت ترى البعيد فلا تدرك أهو امرأة أو رجل، لكن هذا البعيد الذي تراه الآن ولا تدركه يقبل الإدراك، بخلاف الباري سبحانه فإنه يرى ولا يدرك، كما أنه يُعلم ولا يحاط به علماً.
هنا قاعدة: وهي أن المذاهب المخالفة للسلف رتبت مذاهبها ترتيباً قبلياً من النصوص، بمعنى: أن المذهب بني على دلائل كلامية خاصة، ثم بعد ذلك نظروا في النصوص فربما وفقوا بين بعض النصوص، أو تأولوا بعض النصوص، أو فوضوا بعض النصوص؛ حسب اختلاف المذاهب في هذا، ولكن يبقى أن المذهب -الذي نقول أنه مخالف للسلف- كأساس بني على أدلة يسمونها الدلائل العقلية، وهي دلائل على صنفين:
مثلاً: في مسألة الصفات الفعلية عند الأشاعرة نجد أن الرازي يستدل بأدلة كثيرة فيها غير الأدلة التي أحياناً يستعملها الجويني ، والأدلة التي يستعملها الجويني قد تختلف عن الأدلة التي يستعملها القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله.
فهذه الأدلة التفصيلية ليس لها ذاك الاهتمام في المذهب عند أصحابها، بمعنى أن بطلان هذا الدليل لا يوجب عندهم بطلان المذهب؛ فكل مذهب بل كل كتاب من كتب المتكلمين فيه أدلة تفصيلية، هذه الأدلة ليس لها ذاك الاعتبار عندهم؛ ولهذا نجد أنه يستدل بها بعض أعيانهم وبعض أعيانهم يردون عليه، فـالرازي مثلاً يبطل أدلة الجويني ويأتي هو بأدلة جديدة.
وهذه المسألة ليس لها ذاك الاهتمام، لأن هذا الدليل التفصيلي ضمن أدلة، فإذا صح الدليل أو لم يصح يبقى المذهب موجوداً، فإنه إذا أبطل الدليل رقم تسعة من أدلة الرازي في فهم الأشاعرة فإن هذا لا يعني إبطال المذهب؛ فإن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول.
وهذا الدليل استدل به المعتزلة، وكذلك الأشاعرة، والماتريدية، واستدل به كذلك المشبهة كـهشام بن الحكم ومحمد بن كرام السجستاني .
وقد يقول قائل: كيف يستدل بدليل واحد أقوام يختلفون في المذهب كالأشاعرة والمعتزلة، بل يتناقضون؛ فإن المعتزلة خلاف المشبهة، فكيف نقول: إن المشبهة كـهشام بن الحكم يستدل بدليل الأعراض، والمعتزلة النفاة يستدلون بدليل الأعراض مع أن هذا مذهبه هو التشبيه وهذا مذهبه التعطيل، وبينهما نسبة تضاد.
نقول: إن الخلاف يرجع إلى طريقة ترتيب المقدمات في الدليل، يعني كل مذهب يرتب مقدمات تختلف عن المذهب الآخر، فيلتزم نتائج تختلف عن نتائج الآخر، فيبقى أن الدليل بوجه عام يقال: هو دليل الأعراض، ولكن يختلف الترتيب في المقدمات والنتائج.
مثلاً: المعتزلة يقولون: إن الصفات أعراض، وأن الأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة ولا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها. والنتيجة من هذا أنهم قالوا بنفي الصفات.
فهم جعلوا كل ما يقوم بالذات صفة سواء كان لازماً أو متعلقاً بالقدرة والمشيئة.
فلما جاء أبو الحسن الأشعري قال: هذا دليل فلسفي. ثم التزمه بعد أن غير في مقدمته، فقال: العرض عندنا ليس الشيء اللازم، إنما الذي يعرض ويزول، أما اللازم فلا إشكال فيه. ومن هنا أثبت أبو الحسن الأشعري الصفات اللازمة؛ لأنها عنده لا تسمى أعراضاً، فهو قد حصر العرض فيما يعرض ويزول. وهو الشيء الذي يتعلق بالقدرة والمشيئة، ومن هنا نفى الأشعري وجميع أصحابه الصفات الفعلية.
أما محمد بن كرام فهو يقول: إن دليل الأعراض يقود إلى إثبات الجسم، وبذلك أثبت الجسم لله... وهلم جرا.
إذاً: دليل الأعراض هو أكثر الأدلة شيوعاً في المخالفين.
وقد ذم كثير من فضلاء أهل العلم والفقهاء وبعض فضلاء المتكلمين هذا الدليل، ولكن الذين ذموه -في الغالب- لم يسلموا من تأثيره، وهذا إذا تكلمنا في غير من حقق في مذهب أهل السنة، وإلا فإن السلف قد ذموا هذا الدليل، وكذلك أتباعهم ذموا هذا الدليل ولم يتأثروا به، لكن من كان من الفقهاء له تأثر بأقوال المتكلمين فإنه قد يذم هذا الدليل مع أن نتيجة المذهب الذي يلتزمه مبنية على نفس هذا الدليل.
وبعبارة ممكن أن نلخصها: إن هناك تناقضاً أو عدم توافق بين الموقف النظري والموقف التطبيقي عند أكثر المتأخرين من المتكلمين، فهم يذمون شيئاً ومع ذلك يقعون في نفس ما ذموه أو في تأثير من تأثيره.
إذاً: دليل الأعراض: هو أنهم جعلوا الصفات أعراضاً، ورتبوا هذا على أن الأعراض ما يقابل الجوهر، وهذا عند المعتزلة، أو العرض ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين عند الأشاعرة.. وهذا الكلام ليس قضية لغوية من لغة العرب، ولا قضية شرعية منصوص عليها في القرآن.
وهذا يدلنا على أن هذه المذاهب كونت تكويناً في الأصل فلسفياً، لكن بحكم إسلامية أصحابها، وانتسابهم للقبلة -ولا شك أن الأشعرية من أهل الإسلام- استدلوا بمقاصد شرعية عامة، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65].
وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] حيث قالوا: إن الأحد هو المنزه عن حلول الحوادث... وهلم جرا.
هذا الدليل هو أشهر الأدلة، وهذا الدليل -كما تقدم- إذا أبطل عند المعتزلة بطل مذهبهم، وإذا أبطل عند الأشاعرة بطل مذهبهم، حيث إن المذهب في حقيقته مرتب على هذا الدليل.
وهو مقارب لدليل الأعراض، ونتيجته المحصلة: أن الصفات الفعلية تنتفي عن الله؛ لأن التخصيص هو -أي: التخصيص بالقصد المعين- المميز للحوادث، والرب سبحانه وتعالى منزه عن حلول الحوادث.. وعلى هذا الترتيب.
وهذا الدليل ضيق في الغالب ليس له انتشار واسع.
الأول: انتظام عقلي نظري.
الثاني: انتظام صوفي إشراقي، أي: أنه تارةً يكون كذا وتارةً يكون كذا.
وهو في كتبه مرة على هذا التصنيف ومرة على هذا التصنيف.
ومثال هذا: أن من أشهر كتب ابن سينا الإشارات والتنبيهات ، هذا الكتاب مركب من الفلسفة النظرية والفلسفة الإشراقية، ولهذا يتكلم في مقامات العارفين كلاماً صوفياً إشراقياً، ويتكلم في مسائل التجريد كلاماً نظرياً عقلياً أحياناً.
وفي كتابه الشفاء يستعمل -في الغالب- الطريقة الأرسطية، وإن كان أحياناً يدخل عليه الكلام في مسائل الإشراق والتصوف؛ ولهذا لما صنف كتاب الشفاء -وهو أكبر كتبه الفلسفية- قال: وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جرياً على عادة المشائين وأما الحق الذي لا جمجمة فيه فهو ما أودعناه في الحكمة المشرقية يقصد الطريقة الصوفية.
المهم: أن دليل التركيب هو المستعمل عند ابن سينا ، وأبي نصر الفارابي ، وأبي الوليد بن رشد .. إلخ.
فهؤلاء المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام هم الذين استعملوا دليل التركيب.
وهو دليل يقارب دليل الأعراض في النتيجة لكنه أغلى، أي: دليل غال في النتيجة؛ ولهذا أصحابه يبالغون في تعطيل الباري سبحانه وتعالى عن الصفات والأفعال.
ولهذا كان مذهب ابن سينا -صاحب هذا الدليل- أن وجود الله وجود مطلق مجرد عن الصفات الثبوتية، وإنما يوصف بالسلوب والإضافات والمركبات، وهذا تعطيل لصفات الباري سبحانه وتعالى.
وابن سينا هذا ليس له مقام يعرف، فقد كان إسماعيلي المذهب، باطني النشأة، ثم دخل في الفلسفة، واشتد قوله فيها، حتى أتى بمقالات الملاحدة الأرسطية وغيرها على طريقة معروفة في كتبه.
المهم: أن هذه الأدلة الثلاثة هي معاقد الاستدلال عند المخالفين للسلف في بناء مذاهبهم التي عطلوا بها صفات الله أو عطلوا بعضها، وهذه هي التي قصدها المصنف في قوله: على أمور عقلية .
إذاً: الأمور العقلية صنفان:
1- صنف تفصيلي: وهذا لا عبرة به كثيراً؛ لأن أصحابه أنفسهم يتعارضون فيه.
2- صنف هو معقد المذاهب، وهو ثلاثة أدلة: التخصيص، الأعراض، التركيب.
حرفوا فيه الكلم عن مواضعه بما سموه تأويلاً.
[فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين].
المقدمة الأولى: اعتقادهم انتفاء الصفات في نفس الأمر أو انتفاء بعض الصفات.
المقدمة الثانية: اعتقادهم أن الدلائل العقلية التي تأولوا بها النصوص هي المحققة للحق في هذا الباب،.
وإذا كان هذا القول في أصحاب المقالة الأولى - طريقة السلف أسلم.. إلخ - التي قالها من قالها من الأشعرية ومن وافقهم فالمقدمتان:
الأولى: انتفاء الصفات في نفس الأمر.
الثانية: أنهم اعتقدوا أن السلف كانوا مفوضة وأن الخلف تأولوا هذه النصوص.
[كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم].
وذلك لأنهم جعلوا مذهبهم مذهب تفويض، فهم يقرءون القرآن ولا يعرفون معناه كما وصف الله بذلك قوماً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [البقرة:78]أي: إلا قراءة.
[فاعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصد السبق في هذا كله. ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلال].
قوله: ثم هذا القول أي: قوله بأن مذهب السلف أسلم لكونه تفويضاً، ومذهب الخلف أعلم وأحكم لكونه تأويلاً.
وإذا كان المصنف سيصل إلى نتيجة هي أن هذا القول واضح الفساد والامتناع -وهو قول فضلاء الأشاعرة- فمن باب أولى قول غلاة الأشاعرة، فمن باب أولى قول المعتزلة، فمن باب أولى قول المتفلسفة.
فمن دقة عرض شيخ الإسلام أنه إذا أراد النقد أو المعارضة لمذاهب متسلسلة قصد أقربها إلى الحق فأبطله بالعقل والسمع؛ لأنه إذا تبين أن أقربها إلى الحق وأفضلها باطل سمعاً وعقلاً فمن باب أولى ما فوقه.
فهو رحمه الله كثيراً ما يقصد إبطال طريقة من يسميهم بفضلاء الأشاعرة؛ ليتحقق بطريقة الأولى بطلان طريقة غلاة الأشاعرة، ليتحقق بطريقة الأولى الثانية بطلان مذهب المعتزلة، وبطريقة الأولى كذلك بطلان طريقة الجهمية الغالية، ثم بطلان مذهب المتفلسفة.
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعـالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم].
يقول المصنف: كيف يقال هذا القول مع أننا نجد أن أئمة الخلف هؤلاء -يعني: أئمة الأشاعرة- صرحوا في كتبهم بأن طريقتهم لم توصلهم إلى حق؟
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سـن نادم
وقد رد عليه من رد من أصحاب السنة، فقال:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً رسول الهدى المبعوث من آل هاشم
أي: لو أنه أتى لمعين مذهب السلف لأصابه.
فإن الشهرستاني قطعاً لم يفهم مذهب السلف؛ لأنه شرح مذهب السلف في كتابه الملل والنحل شرحاً غلطاً، بل من العجب أنه خالف جمهور أصحابه وقال: إن السلف كان منهم مشبهة! وهذا القول لا يقوله جمهور الأشاعرة، ولهذا وإن كان كتابه الملل والنحل من أكبر كتب المقالات وأوسعها، لكنه من أجهل الكتب بتحصيل مذهب السلف.
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا الكلام لـمحمد بن عمر الرازي ، وهو عمدة المتأخرين من الأشاعرة.
وهو في كتابه أقسام اللذات وهو مخطوط لم يطبع.
وهذه النتيجة وقعت لخلق من الأشعرية وغيرهم -وبخاصة الأشاعرة- حيث يتبين لهم أن المسلك الكلامي الذي سلكوه ليس صواباً، فيميلون إلى تعظيم الطريقة المأثورة عن سلف الأمة، وإن كانوا في الجملة لا يهتدون إليها -أي: إلى تفاصيلها- عند التحقيق، وهذا الذي وقع فيه أبو المعالي الجويني في رسالته النظامية، ويقع في كلام محمد بن عمر الرازي في مثل هذا السياق، وكذلك في كلام أبي حامد الغزالي ؛ فإنه رجع إلى مذهب أهل السنة باعتبار أنه تبين له أن الحق في طريقة السلف، وإن كان لم يصب التعريف، وربما قصد مقاصد في مسائل الأحوال والتصوف وأضافها إلى مقامات الأئمة، ولا سيما من عرفوا بالعبادة من متقدمي أئمة السلف واشتهروا بها.
فهذا لا يحصل به أن هؤلاء رجعوا إلى مذهب أهل السنة رجوعاً متحققاً من جهة تقرير المسائل، وإن كانوا يذكرون رجوعهم ويتبين لهم أن ما سلكوه غلطاً، لأنهم لا يهتدون إلى مذهب السلف على التفصيل، بل يهتدون إليه مجملاً، وربما اهتدوا إلى مذهب يفارق المذهب الذي كانوا عليه يظنون أنه مذهب السلف، مثل ما وقع لـأبي المعالي الجويني في الرسالة النظامية؛ فإنه ذكر أن التأويل محرم وأن الصواب ما عليه سلف الأمة، والتزم مذهب السلف لكن ظن أن مذهب السلف هو التفويض.
هذا النقل لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ، وهو من كبار أئمة الأشعرية، وقد تقدم أنه ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة المتقدمين لكثرة عناية الأشاعرة في زمنه بمسألة الرد على أصناف المخالفين، بما في ذلك بعض الطوائف الفقهية وبخاصة الحنابلة، وقد صنف كتباً من أخصها كتاب الشامل ، وكتاب اللمع ، وكتاب: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وكما يظهر من وسم هذا الكتاب أن الجويني يقرر في هذا الكتاب قواطع من الأدلة، ولهذا استعمل الجزم الصريح في هذا الكتاب.
ثم في الرسالة النظامية رجع عن أكثر ما قرره في هذا.
ففي الرسالة النظامية رجع في مسألة الصفات عن التأويل إلى التفويض، وفي مسألة القدر رجع عن مسلك الأشعرية في مسألة الكسب، وأن العبد له إرادة مسلوبة التأثير، إلى قول مركب من قول أهل السنة وقول المعتزلة ونزعة فلسفية، فصار قوله في الجملة قولاً مركباً، ليس سلفياً محضاً وليس معتزلياً محضاً وليس فلسفياً محضاً، إنما فيه تركيب من أوجه كثيرة، مع بقية بقيت عليه من قول أصحابه.
هذه الجملة نسبت لـأبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، وهو من تلاميذ أبي المعالي الجويني .
وغرض المصنف من هذه النقولات أن يبين أن هذه المذاهب الكلامية قد شهد أصحابها على فسادها.
والملاحظ أن هذه النقولات هي عن متأخري الأشعرية، والموجب لهذا أن مقصود المصنف بالرد كان هذا الصنف من المتكلمين، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد في كلام غيرهم ممن هم أشد منهم غلطاً في هذا الباب كالمعتزلة وغيرهم ما هو من جنس هذا.
بمعنى أن الأشاعرة يحكمون على مذهب المعتزلة بالفساد، والمعتزلة يحكمون على مذهب الأشاعرة بالفساد، مع أن المادة الكلامية واحدة!
بل أخص من هذا أن البغداديين من المعتزلة يفارقون البصريين من المعتزلة في تقرير كثير من الدلائل والمسائل، وبين هذين الطائفتين تنازع كثير، ومن ذلك ما صنفه أبو رشيد النيسابوري في مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين من المعتزلة.
وكذلك نجد ما هو أخص من هذا: وهو أن أعيان أئمة البصريين من المعتزلة أو أعيان أئمة البغداديين من المعتزلة يقع التعارض بين الشيخ وتلميذه، فمثلاً: أبو الهذيل العلاف منظر مدرسة المعتزلة، كان من أصحابه أبو إسحاق النظام - إبراهيم بن سيار النظام - ومع ذلك وقع بين أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام نزاع شديد في طريقة تحصيل المذهب على طريقتين متناقضتين.
بل ما هو أخص من هذا، وهو: أنه في كلام الواحد من أعيان أئمة المتكلمين الكبار اضطراب كبير في كثير من المسائل، كما تقدم في حال أبي المعالي الجويني ، فإنه يقرر في كتب مقامات ويقرر في بعض الكتب الأخرى ما يناقض هذه المقامات، وكما تقدم معنا في كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً مع قربه من أهل السنة والجماعة، وكذلك ما يقع في كلام بعض أعيان المعتزلة.. وهلم جرا.
وفي المتفلسفة الأمر أشد؛ ولهذا نجد أن أبا الوليد بن رشد يتناقض كثيراً، وكذلك ابن سينا في كتبه يتناقض كثيراً، فهو مرة يمتدح الطريقة العقلية ويصححها، ومرة يشير إلى الطعن عليها ويصحح طريقة التصوف والعرفان.. وهلم جرا.
إذاً: الناظر في مقالات هؤلاء باعتبار طوائفهم أو باعتبار الطائفة الواحدة بين أصحابها، أو باعتبار الواحد منهم، يجد أن في كلامهم تناقضاً كثيراً، ولا شك أن التناقض دليل على الفساد، ولهذا كان من الدلائل على أن القرآن من عند الله أنه ليس فيه اختلاف: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]ولا يرى شيء من ذلك فيما يتعلق بمذهب السلف.
وهنا تظهر النتيجة من هذا، وهو أنه ليس هناك طائفة من طوائف المخالفين للسلف إلا وبين أصحابها نزاع كثير في تقرير الدلائل والمسائل. وهذا قدر واسع جداً، ولا يرى شيء من ذلك يقع في كلام أئمة السلف، فإنهم متفقون في الدلائل ومتفقون في المسائل، وإذا قيل: إنهم متفقون في الدلائل فهذا لا يعني أن كل دليل يستدل به إمام يلزم أن يكون هذا الدليل مستعملاً عند سائر الأئمة، ولكن الذي يلزم أنه ما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وفيها أدلة أجمع السلف على الاستدلال بها، ويكون ثبوت المسألة وتحققها بهذه الأدلة المجمع عليها.
وبعض الأئمة يجمعون مع الاستدلال بالنصوص الصريحة الاستدلال بشيء من الظواهر التي قد لا يسلم بها بعض الأئمة، فهذا الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الدلائل عند السلف؛ لأن هذا الاختلاف إنما يكون اختلافاً من جنس اختلاف المتكلمين لو كانت المسائل لا تثبت إلا بهذه الأدلة التي يقع فيها شيء -أحياناً- من النزاع.
إذاً السلف مذهبهم مذهب متفق من جهة دلائله ومسائله، أما المخالفون فمذهبهم ليس متفقاً لا من جهة دلائله ولا من جهة مسائله؛ وبهذا يعلم أن دلائل المعتزلة التي يذكرها بعض أعيانهم يمكن أن يذكر الرد عليها من كلام بعض أعيان المعتزلة الآخرين، فضلاً عن كلام الأشاعرة على المعتزلة، فضلاً عن كلام السلف على المعتزلة.
وكذلك بعض كلام الأشاعرة يمكن رده بكلام بعض أعيانهم، وإن كان هذا المقام إذا ذكر لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً، فإنك قد ترى بعض الأدلة التي تتفق عليها طائفة من الطوائف فتحصل بها مذهباً، وترى بعض المسائل تتفق عليها الطائفة وتحصل بهذه النتيجة اتفاقاً يضافون وينتسبون إليه، كالأصول الخمسة التي التزمها المعتزلة في الجملة، ولكن لهم في طرق تقريرها طرق مختلفة.
فالقصد: أن هذه الدلائل يدخلها التعارض كثيراً، وهذا هو مقصود المصنف رحمه الله من ذكر هذا المقام، وهو: تقرير أن المخالفين للسلف هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، أي: أنهم مختلفون فيما بينهم متناقضون في تقرير أقوالهم، وإن كانوا أحياناً يطلقون في كتبهم كثيراً من الإجماع، بل تجد بعضهم يقول: أجمع المسلمون على كذا. ولا يكون هذا صحيحاً في نفس الأمر.
ومن الأمثلة على ذلك: أن الجويني كثيراً ما يقول في كتبه: والدليل على ذلك إجماع المسلمين. مع أن القول الذي حكى فيه الإجماع ليس إجماعاً للمسلمين، بل ولا إجماعاً لأهل السنة والمنتسبين إليها، بل ولا إجماعاً للأشعرية وحدها.
ومن أمثلة نقله للإجماع قوله: أن وجوب النظر على المكلفين إجماع عند المسلمين . مع أن هذا لم توجبه طائفة بعينها بإجماعها، حتى مَنْ هم أخص من تكلم بمسألة النظر وهم المعتزلة، وعن المعتزلة دخل القول بمسألة وجوب النظر على الأشاعرة، حتى قال أبو جعفر السمناني : القول في إيجاب النظر في مذهبنا -يعني مذهب الأشعرية- بقية بقيت فيه من مذهب المعتزلة . فأصلاً القول بإيجاب النظر هو مبني على أصول القدرية نفاة القدر، ولهذا لا يمكن إثباته على أصول الكسبية الأشعرية مثبتة القدر الغالية في إثباته، ولكن حتى المعتزلة أصحاب النظر طائفة من أئمتهم لا يوجبونه، ويرون أن المعرفة تقع ضرورية، ومن هؤلاء الجاحظ الكاتب المعتزلي المعروف، وثمامة بن الأشرس ، وأبو إسحاق البلخي وجماعة من أكابر علماء المعتزلة؛ والخلاف بين الأشعرية في عدم إيجاب النظر مشهور.
فالقصد: أن ما يقع في بعض كتب المتكلمين من دعوى الإجماع هذا لا يلتفت إليه، فإنهم من أجهل الناس بالإجماع.
هذا التقرير تقرير نظري، أي: أنه يمتنع بالعقل أن يكون المحجوبون، المفضولون، المسبوقون، الحيارى، المتهوكون أعلم في باب أسماء الله وصفاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.. وهذا قاطع من قواطع النظر العقلي الشرعي.
[الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلاً عن سائر الأمم].
ولهذا لم يمتدح الله في القرآن من بعدهم إلا من اتبع هداهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]وقوله: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]عام في سائر من اتبعهم ولو تأخر زمنه.
[فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم].
يشير المصنف بقوله هذا إلى المتفلسفة الذين دخل قولهم على المسلمين.
[وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة! ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟! أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟! وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عن ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة. وليس غرضي واحداً معيناً وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء].
يستخدم المصنف هذه الإضافات أتباع الهند واليونان وورثة المجوس.. إلخ لأن لديه جزماً قاطعاً أن العلم الكلامي علم مولد من الفلسفة، وإن كان ضُمِّن بعض المقدمات العقلية المجردة عن الفسلفة، وكذلك بعض المقدمات الشرعية المجملة كمقدمة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل المذكورة في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]وبعض المقاصد الشرعية الفاضلة كأن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، فإن هذه يشترك فيها حتى المتكلمون مع أهل السنة؛ ولهذا المصنف يقول: إن أهل القبلة اتفقوا على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، ثم اختلفوا في تحقيق المناط.
وهذه المقدمة -كما قال المصنف- تصح في هذا الباب وتصح في غيره؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن الإسناد من الدين . فهذا وإن كانوا ذكروه في أعيان الأحاديث النبوية المروية بالإسناد المسلسل، إلا أن الأمر يقع كذلك هنا، فإن الدين لابد أن يتلقى بالإسناد، بمعنى أنه: ما كان من الدين ليس مأثوراً عن الصحابة رضي الله عنهم فإنه لا يكون من الدين الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه إذا لم يتخذ مذهب الصحابة رضي الله عنهم فيصلاً في هذا المقام فإن الدعوة من جهة الاستدلال بالشرع -أعني: الكتاب والسنة- تكثر عند الطوائف؛ ولهذا كان السلف رحمهم الله يلتزمون القول بأن الدلالة هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ولهذا كان من أخص مسائل الفرق بينهم وبين مخالفيهم من قدماء أهل البدع أن مخالفيهم لم يعتبروا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب، وأول من خرج عن إجماع الصحابة من أهل البدع الخوارج، ثم جاءت المعتزلة فالمرجئة فالمتكلمة والقدرية.. إلخ، فهذا الاعتبار بهذه القاعدة.
وفي زمن التابعين ظهرت مقالة تعطيل الصفات فأبطلها أئمة التابعين بما هو معروف في كتب السنة المسندة، وهذا متواتر في كلام الأئمة، وهذا يدل على أن القول الذي اتخذه هؤلاء الأئمة في مقابل قول الجهمية هو الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو إسناد مذهب أهل السنة: أنه ينتهي إلى هؤلاء الأئمة الذين تلقوا عن الصحابة، المتلقين عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا محصل هذا المقصد، وقد حصل المصنف به هذه المقدمة الضرورية التي دائماً تحقَّق: أن الأقوال معتبرة بهذه الأصول الثلاثة، وأن المخالفين في موقع المخالفة لا يكون قولهم مبنياً على الكتاب والسنة ولا الإجماع.
وعِلْم سائر الطوائف بأنها مفارقة للسلف أمر مستقر في الجملة، حتى إن المتأخرين من الأشاعرة صرحوا أن مذهب السلف ليس هو مذهب التأويل، وهذا التفصيل من حيث هو يدل على أن ثمة فرقاً بين ما كان عليه السلف وما كانوا عليه، وإن لم يصيبوا في تعيين مذهب السلف حيث قالوا: إنه التفويض.
ومن هنا كان علم الكلام ليس علماً له سابقة قبل الإسلام، فلو بحث باحث في التاريخ قبل الإسلام فإنه لا يجد علماً يسمى علم الكلام، فهو علم نشأ في المسلمين، لكنه مولد من الفلسفة مع مقاصد من العقل بل ومقاصد من الشرع المجمل؛ ولهذا لا تعجب أن ترى في كتب المتكلمين بعض الاستدلال ببعض الآيات، ولكن كما تقدم أنه في المعتزلة خاصة لا يتحصل استدلال مفصل بالقرآن، وإن كانوا قد يستدلون، لكن لا تجد التطابق بين الاستدلال والمذهب، وهذا بخلاف الأشاعرة، فإنهم قد يستدلون بآيات من القرآن ويكون الغلط من جهة استدلالهم.
المحصل: أن العلم الكلامي علم مولد، وقد شهد بعض أعيان المتكلمين الكبار على علم المعتزلة -وهو علم كلامي- أنه علم فلسفي، ونقول: هذه الشهادة تنقلب حتى على المذهب الأشعري؛ لأنه أخذ جزءاً من مذهب المعتزلة سواء كان ذلك في الدلائل أو في المسائل، فهم في هذا القدر وافقوا المعتزلة، وبهذا القدر وافقوا أهل السنة، والدليل على ذلك: أنه قبل عبد الله بن سعيد بن كلاب كان الناس أحد صنفين:
الأول: مثبتة للصفات على طريقة السلف.
الثاني: نفاة للصفات على طريقة المعتزلة والجهمية.
وإن كان هناك مشبهة الصفات، إلا أن هؤلاء شأنهم ظاهر، لكن أخص الأصناف ما يتعلق بمثبتة الصفات وهم السلف، أو نفاة الصفات وهم الجهمية والمعتزلة، ثم جاء الكلابية والأشعرية والماتريدية فأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضاً؛ ولهذا تجد دلائل الأشاعرة في محل الإثبات تقارب كثيراً دلائل السلف، وتجدهم في موضع النفي ينسجون على نفس دلائل المعتزلة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر