إسلام ويب

شرح كشف الشبهات [8]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان المشركون الأولون إذا اشتد بهم الكرب وأحدقت بهم الأزمات توجهوا إلى الله تعالى وأخلصوا له الدعاء وتركوا ما كانوا يدعون من دونه، كما أنهم إذا دعوا مع الله غيره فإنما يدعون خلقاً صالحين أو مقربين أو جمادات ليست عاصية لله تعالى، وبهذا كله يتبين أن شرك الأولين كان أهون من شرك المتأخرين، حتى وإن كان المتأخرون يشهدون الشهادتين ويصلون ويصومون.

    1.   

    شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد:

    استطرد الشيخ رحمه الله في ذكر شبه المتأخرين، وبيان سوء حالهم، وأنهم أسوأ ممن سبقهم فيما وقعوا فيه من الشرك، فقال رحمه الله:

    [فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخفُّ من شرك أهل زماننا بأمرين:

    أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء أوثاناً مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً [الإسراء:67]، وقوله: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:40-41] وقوله: وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8]، وقوله: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:32].

    فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله تعالى، ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ والله المستعان].

    هذا أول ما فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين، وذلك أن المتقدمين كانوا إذا اشتد بهم الكرب، وادلهمت عليهم الخطوب، وأحدقت بهم الأزمات، وتوالت عليهم الكوارث والكروب؛ توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى في الطلب، ونسوا ما كانوا يدعون من دونه كما هو ظاهر الآيات التي ساقها الشيخ رحمه الله في الاستدلال على ذلك. وأما حال المتأخرين فهم أسوأ منهم إذ أنهم يدعون الله وغيره في الرخاء، فإذا اشتد بهم الكرب ونزلت بهم المصائب وحلت بهم الكوارث سألوا غير الله سبحانه وتعالى، وتضرعوا إليه، وفزعوا إلى الأولياء والصالحين المزعومين يسألونهم كشف الكربات، وإزالة الكوارث والنوازل؛ وما ذلك إلا لقلة علمهم بالله سبحانه وتعالى، وشدة كفرهم به سبحانه وتعالى، فأرباب الشرك وأهل الكفر من المتقدمين كانوا أحسن حالاً من هؤلاء الذين اشتد بهم الكرب فلجئوا إلى المخلوقين، وهذا أول ما فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين.

    قال رحمه الله: [والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة؛ أو يدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعون هم الذين يُحِلُّون لهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به].

    هذا هو الأمر الثاني الذي فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين، وهو أن المتأخرين يصرفون العبادة للأولياء والصالحين، ويصرفونها أيضاً للفسقة والفجرة والكافرين، فبالنظر إلى الذين أشرك بهم الأولون يُعلم أنهم كانوا يصرفون العبادة إما لملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أو أنبياء أو صالحين، أو يصرفون العبادة إلى أحجار وأشجار مطيعة لله سبحانه وتعالى ليست عاصية، وهذه الأحجار والأشجار مطيعة طاعة قهرية فهي مربوبة لله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] فهي تعبد الله سبحانه وتعالى عبادة قهرية وعبادة خاصة كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في قنوت الأشياء وسجودها لله سبحانه وتعالى.

    وأما هؤلاء فإنهم يصرفون العبادة إلى أمثال أحمد البدوي الذي لم يُعرف عنه صلاح ولا علم ولا تُقى ولا عبادة ولا ورع، بل المعروف عنه والمشهور عنه خلاف ذلك، ويصرفون العبادة إلى أشياء كثيرة لا يعرف لها في الأمة لسان صدق، ولا يعرف لها عند الله سبحانه وتعالى جاه أو منزلة، وما ذلك إلا بتلاعب الشيطان، فإن الشيطان تلاعب بهؤلاء، والغالب أن الذين يدعونهم المتأخرون هم الذين يُحلّون لهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، فكأنهم افتضحوا فاصطلحوا، فهؤلاء المعبودون رضوا من أولئك بالعبادة، وهؤلاء العابدون رضوا من معبوديهم إباحة الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة.

    ثم قال رحمه الله: (والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، ويشهد به) ولا شك، وإن كان الكفر ملة واحدة، وهم جميعاً مندرجون تحت قول الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] إلا أن الشرك والكفر درجات، فهذا أخف من ذاك، وإن كانوا يتفقون في العقوبة الأخروية.

    1.   

    الرد على شبهة متأخري المشركين بأنهم يشهدون الشهادتين ويصلون فلا يسوغ تشبيههم بالمشركين الأولين

    ثم قال رحمه الله: [وإذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ بسمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً؛ ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم؛ فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟].

    هنا عاد الشيخ رحمه الله إلى ذكر شبهة عظيمة عند هؤلاء، وهي الشبهة الحادية عشرة، وهي أنهم قالوا: كيف تنزلون الآيات التي وردت في قوم يكذبون الرسول، ويحاربونه، وينكرون البعث، ولا يشهدون بألوهية الله سبحانه وتعالى على قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بالبعث، ويفعلون ما يفعلون من شرائع الإسلام؟ كيف تُسوون بين هؤلاء وأولئك؟ وهذه من الشبه الكبار التي أثارها مسوغو الشرك على الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنهم اتهموه بتكفير المسلمين، والمسلمون الذين يعنون في قولهم: (يكفر المسلمين) هم عبدة القبور، والذين يصرفون العبادة لغير الله بالذبح أو النذر أو غير ذلك من أنواع العبادة التي يصرفونها للأولياء المزعومين.

    هذه الشبهة من الشبه الكبار؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله في بداية جوابه:

    [فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه؛ كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج، أنزل الله في حقهم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

    ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً [النساء:150-151]، فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعضٍ فهو الكافر حقاً، وأنه يستحق ما ذكر زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا].

    هذا جواب الشيخ على هذه الشبهة، وملخص الشبهة: كيف تنزلون الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في المشركين الذين أنكروا البعث، وكذبوا الرسول، ولم يقروا لله سبحانه وتعالى بالألوهية؟ على قوم أقروا بذلك كله؟ يقول رحمه الله: (فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) إذاً: الجواب على شبهتهم، أولاً: أن إجماع أهل العلم انعقد على أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء مما أخبر به فإنه لا ينفعه تصديقه بل هو كافر. إذاً: هذا أول ما أجاب به الشيخ، وهو نقل إجماع أهل العلم على أن من كذب بشيء جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر.

    ثم قال: (وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج) أي: وكذلك أجمع أهل العلم أنه إذا آمن ببعض القرآن وجحد ببعضه فإنه كافر، فقوله: (كذلك) يعني: في الحكم، فإنه قد أجمع أهل العلم على أنه من آمن ببعض الكتاب وجحد بعضه فقد كفر ثم بدأ بذكر الأمثلة كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج.

    1.   

    من جحد شيئاً مما جاء به الرسول كفر

    إذاً: هذا تكميل لدليل الإجماع ثم قال: (ولمّا لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله تعالى في حقهم: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]) هذا دليل من الكتاب على كفر من جحد وجوب الحج أو امتنع عن أدائه استكباراً وجحوداً، فهذا الدليل نص على كفر من جحد الحج ولو أقر بباقي شرائع الإسلام، وهذا دليل من القرآن بعد أن ذكر دليل الإجماع، وهذه طريقة سلكها كثير من أهل العلم، وهي أنه إذا كان في المسألة دليل من الإجماع قدم دليل الإجماع على غيره من الأدلة؛ والعلة في ذلك أن دليل الإجماع لا يدخله النسخ خلافاً لأدلة الكتاب والسنة، فأتى بعد الإجماع بدليل من كتاب الله سبحانه وتعالى وهو قوله جل وعلا: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

    ثم قال رحمه الله: (ومن أقّر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحلّ دمه وماله كما قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً [النساء:150-151]) فهذا فيه الحكم بالكفر على من صدق ببعض الكتاب وجحد ببعضه فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً، وأنه يستحق ما ذكر زالت هذه الشبهة، وكيف زوالها؟ أن نقول لهم: إنكم وإن كنتم قد أقررتم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقررتم بالبعث، وبغير ذلك من شرائع الإسلام، فإنكم قد جحدتم وجوب صرف العبادة لله وحده دون غيره، فلما جحدتم هذا فقد جحدتم ما دل عليه الكتاب وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وقع في الكفر، وبهذا تندفع شبهتهم ويزول الإشكال. ثم قال رحمه الله: (وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا).

    واستطراداً في الرد على هذه الشبهة قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة، أنه كافر حلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله، لا يجحد هذا، ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول؛ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل].

    بعد أن بين لهم الشيخ رحمه الله أن من جحد أو أنكر شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر، نزّل هذا على ما وقعوا فيه من الشرك بالله سبحانه وتعالى فقال: (ويقال: إذا كنت تُقر أن من صدّق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان، لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدّمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول؛ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله!) تعجباً من هذا التناقض الذي أورده هؤلاء، وإنما أوردوه لأنهم تكالبت على قلوبهم الشبهات:

    ما زالت الشبهات تغزو قلبه حتى تشّحط بينهن قتيلاً

    فهؤلاء لما غطت الشبهات وطغت على قلوبهم غيبت عنهم هذه الحقائق الواضحة الجلية، وإلا فإن من له أدنى بصيرة ومن عنده معرفة بالقواعد العقلية لا يقول هذا الذي ذهبوا إليه. ومعلوم أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، ويدلك على هذا أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لأجله فقال جل ذكره: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ويدلك على هذا أيضاً أن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل لتقريره فقال جل ذكره: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال جل ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، والآيات في أن الرسل إنما بُعثوا لتقرير التوحيد ودعوة الناس إليه كثيرة جداً، ويدلك أيضاً على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، أنه أول واجب على المكلف؛ فأول ما يُطلب من العبد هو أن يقول: لا إله إلا الله، كما في حديث بَعْث معاذ إلى اليمن حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له بقية الشرائع التي يأمرهم بها , ويدلك على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد أنه هو الذي إذا ختم الإنسان حياته به دخل الجنة، فإن آخر ما تندب إليه وآخر ما يُشرع لك فعله هو قول: لا إله إلا الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة)، كل هذا وغيره مما دل عليه الكتاب والسنة بالنظر يدل على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد، فمن الخطأ أن تقول: إن جحد بعض شرائع الدين يكفر به الإنسان، وجحد التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به لا يكفر به الإنسان، ولا ينقص إيمانه، ولا تنزل عليه آيات الكافرين!

    وأول أَمْر أَمَر الله به عباده في كتابه هو توحيده، وذلك في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] فإن أول أمرٍ أمرَ الله به في كتابه هو عبادته، وعبادته هي توحيده سبحانه وتعالى.

    وهذا أيضاً مما ينضاف إلى ما سبق مما يدل على أن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به هو التوحيد.

    قتال الصحابة لبني حنيفة وهم يشهدون الشهادتين ويصلون دليل على كفرهم

    قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويؤذنون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة؛ فكيف بمن رفع شمسان ، أو يوسف ، أو صحابياً، أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه! كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الروم:59] ].

    هذا أول شاهد ذكره الشيخ رحمه الله على ما تقدم ذكره من أنه لا ينفع الإقرار بشرائع الدين وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع إنكار بعضها، بل لابد من الإقرار بالجميع وإلا فإنه يحكم عليهم بالكفر، والشاهد هو ما فعله الصحابة رضي الله عنهم من قتال بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويؤذنون، إلا أنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فكذبوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله جل وعلا: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فكذبوا ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم، وهذا جحد لبعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فأباح ذلك دماءهم وأموالهم وأخرجهم من ملة الإسلام مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، بل ويصلون ويؤذنون.

    ثم قال رحمه الله: (قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم فأثبت له النبوة كفر، وحلّ دمه وماله، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة؛ فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟) أليس هذا أولى بالتكفير؟ بلى والله! إنه أولى بالتكفير؛ ولذلك استعظم الشيخ رحمه الله التفريق بين هذين فقال: (سبحان الله ما أعظم شأنه!) من أن يُسوى به غيره ثم لا يكفر هذا المسوي: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الروم:59] والله هو الذي أعمى بصائرهم عن رؤية هذه الآيات البينات الواضحات.

    تحريق علي لمن اعتقدوا فيه الألوهية مع ادعائهم الإسلام دليل على كفرهم

    قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي رضي الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما؛ فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكفِّر؟].

    هذا هو الشاهد الثاني، وهو ما حدث من تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار للذين قالوا: إنه ربهم، وغلوا فيه حتى رفعوه إلى مرتبة الإلهية، وكلهم يدّعون الإسلام، بل هم من أصحاب علي وتعلموا العلم من الصحابة !! ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما من أنهما تُصرف لهما العبادة من دون الله سبحانه وتعالى، يقول: (فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟) فإن علياً رضي الله عنه لما قتلهم لم ينكر ذلك أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع الخلاف في إحراقهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما قولاً فُهم منه أنه لا يرى إحراقهم، وإنما يرى قتلهم بغير الإحراق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، وإلا فالصحابة اتفقوا على جواز قتلهم، وأنهم إنما قتلوا كفاراً، (أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟!) لا والله! حاشاهم، فهم أورع الناس أن يكفروا مسلماً، (أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكفّر؟!) الظاهر أنهم يظنون، وإلا لما أجازوا صرف العبادة لهؤلاء.

    تكفير العلماء للباطنية دليل على كفر من أنكر شيئاً من الشريعة

    والشاهد الثالث الذي ذكره الشيخ رحمه الله: [ويقال أيضاً: بنو عبيد القدَّاح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة؛ فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين].

    بنو عبيد القدّاح انتسبوا إلى عبيد الله بن ميمون القدّاح ، وهو يهودي في الأصل ادعى الإسلام، وادعى أنه من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فاطمة ، فدعا إلى نفسه، وتشرذم حوله بعض ضعفاء الدين والإيمان والعقل، فكوّن دولة في بلاد المغرب، حكم فيها المسلمين، وتسلط عليهم، وأظهر الكفر والفساد والبدع، وامتدت دولته إلى مصر، وهم يعرفون بالدولة العبيدية أو الفاطمية، ومدة حكم هذه الدولة كانت قرابة مائتي سنة، وهم الروافض الغلاة الذين ساموا المسلمين سوء العذاب، إلا أن الله طهر البلاد منهم، وأدال أهل السنة عليهم، فأسقطت دولتهم، وتبددوا وتفرقوا، فهؤلاء الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، إلا أنهم أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه من صرف العبادة لغير الله أو من تجويز صرف العبادة لغير الله.

    يقول رحمه الله: (أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم)، فالعلماء في ذاك الزمان أباحوا قتالهم، بل أوجبوا قتالهم، وحكموا عليهم بالكفر والردة، وأن بلادهم بلاد حرب كما يقول الشيخ، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين، فلم ينفعهم الإقرار بالشهادتين، ولم ينفعهم إقامة الجمعة والجماعات , مع ما أنكروه من شريعة رب السماوات.

    إثبات الفقهاء لباب حكم المرتد دليل على إمكان حدوث الكفر بعد الإسلام

    قال رحمه الله أيضاً في الجواب على هذه الشبهة: [ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإنكار البعث، وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة، كل نوعٍ منها يكفِّر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب].

    هذا رابع الشواهد الدالة على أن من أنكر شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفَّر ولو أتى ببقية شرائع الدين وأقر بها، وذلك أن العلماء على اختلاف مذاهبهم ذكروا في كتبهم باب حكم المرتد، وذكروا في هذا الباب أشياء يكفّر بها، وهي دون ما يزعمونه من جواز صرف العبادة لله سبحانه وتعالى.

    قال الشيخ رحمه الله: (ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يُكفِّر ويُحلُّ دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه) كأن يسب الله أو يسب رسوله أو يسب الدين أو يستهزئ بآيات الله ورسوله دون قلبه (أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب) كأن يسب الله مازحاً أو يستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم أو يضحك مازحاً، وهذا له شواهد سيذكرها الشيخ رحمه الله، منها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى وقصه علينا في نبأ أولئك الذين استهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة تبوك.

    قال رحمه الله: [ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة:74] أما سمعت أن الله كفرهم بكلمة؛ مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون؟! وكذلك الذين قال الله فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح].

    ومن هذا يتبين عظيم خطر اللسان، وأن الإنسان قد يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، فالواجب امتثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالأصل الصمت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا) فإن احتجت إلى الكلام فانظر هل في هذا الكلام خير؟ فإن كان فيه خير فبادر إليه وسابق فإنك مأمور بالمسابقة إلى الخيرات، وإن كان غير ذلك فتوقف حتى تنظر عاقبة كلامك.

    فالشاهد من إيراد هذه القصة أن هؤلاء قوم آمنوا بالله، وآمنوا برسوله، وآمنوا بالبعث فيما يظهر، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفروا بسبب كلمة قالوها، وهذا يدل على أن من أقر ببعض الدين وأتى بمكفر من جهة أخرى فإنه يحكم بكفره، ولا يُنظر إلى إقراره بلا إله إلا الله، بل لابد أن يُقِر بلا إله إلا الله، وأن يأتي بجميع ما يقتضيه هذا الإقرار.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766197639