الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:
[ ومن السنة: تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ].
يقول المؤلف رحمه الله في بيان ما يجب اعتقاده فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن السنة) أي: التي يجب اعتقادها والعمل بها، وليس المقصود هنا السنة الاصطلاحية التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل السنة هنا هي الطريقة التي يسلكها أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالصحابة رضي الله عنهم.
قوله: (تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) التولي: مأخوذ من ولي الشيء إذا قرب منه، والمقصود بالتولي هنا القرب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك بمحبتهم وإجلالهم وتقديرهم ومعرفة سابقتهم.
وهذا بيان مجمل لما يجب للصحابة رضي الله عنهم، ثم جاء تفصيل ذلك في قوله: (ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم)، فكل هذا إنما هو من معاني التولي، فإن من لوازم التولي ما ذكر رحمه الله من هذه الواجبات التي تجب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعلى الصحابة صحبة هو: أبو بكر رضي الله عنه، فله من المحبة والفضل والسبق والتولي ما ليس لغيره من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبل الفتح، كما ميز الله جل وعلا ذلك فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فهذه الآية ميزت بين طبقات الصحابة، فحق الذين أسلموا قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- من المحبة وذكر المحاسن والترحم والاستغفار والولاية أعظم من حق من جاء بعد ذلك؛ لأن من أسلموا قبل الفتح تحقق الصحبة فيهم أعظم من تحقق الصحبة فيمن أسلموا بعد الفتح، وهذا هو معنى قولنا: الصحبة وصف يزداد فيه الحق بازدياد هذا الوصف، فكلما ازداد نصيب الإنسان من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حقه من هذه الخصال الذي ذكرها المؤلف رحمه الله.
ويكفيهم فضلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم) فهم خير الناس، وهم أحق من يدخل في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وهم أحق من يدخل في قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] فالمهاجرون والأنصار السابقون منهم هم الذين رضي الله عنهم رضاً مطلقاً فلم يقيد ذلك باتباع بإحسان فيما كان منهم، بل قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] فاشترط الإحسان في التابعين لا فيهم هم.
فهم رضي الله عنهم لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من المنزلة والمكانة ما ليس لغيرهم، فحقهم أن يحبوا؛ لأن محبة الصالحين من عبادة الله عز وجل ومن طاعته التي يؤجر عليها الإنسان ويثاب، فينبغي للمؤمن أن يستشعر هذا المعنى وأن يلاحظه، فليست المحبة لكوننا مأمورين بمحبتهم، بل نحن نحبهم محبة قلبية لما كانوا عليه من الفضل، ولما كانوا عليه من الخير، ولما وصلنا عن طريقهم من الشريعة، فهم حفظة الشريعة وحملتها رضي الله عنهم.
يقول: ( وذكر محاسنهم )، فالواجب ذكر محاسنهم؛ لأن ذكر المحاسن مما يزداد به حبهم ويزداد به توليهم.
قال: ( والترحم عليهم ) أي: والواجب أيضاً أن نترحم عليهم وأن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وأن ندعو لهم بالرضى وبكل خير.
قال: (والاستغفار لهم)؛ أيضاً يجب طلب المغفرة لهم؛ لأنه ما من إنسان إلا ويخطئ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فنحن لا نقول: إنهم معصومون، لكننا نقول لهم: من السبق والفضل والمكانة والخير والتقوى ما يستوجب أن يحبوا وأن يذكروا بإحسان، وأن يترحم عليهم وأن يستغفر لهم رضي الله عنهم.
يقول رحمه الله: ( والكف عن ذكر مساوئهم ) الكف: الامتناع، فيجب الامتناع عن ذكر مساوئهم، أي: عن ذكر ما ينسب إليهم من المساوئ سواء كانت صحيحة النسبة أو لم تصح؛ لأنهم قد رضي الله عنهم، ومن رضي الله عنه فلا يسوغ لمؤمن أن يبحث عن عيوبه أو أن يتلقط زلاته أو أن يبحث عن عثراته، فإن هذا مما يضعف مكانتهم وينزل في منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها.
ثم اعلم أن كثيراً مما يذكر من المساوئ المنسوبة إلى الصحابة: إما أنها آثار لا تصح، وإما أنها صحيحة لكن فيها زيادة أو نقص، وإما أنها غيرت عن الوجه الذي جاءت عليه، فبدل أن تكون إحساناً حولت إلى أن تكون سيئة ومثلبة.
كذلك إذا ثبت هذا الذي ينسب إليهم فالواجب أن نعتقد أنهم مجتهدون رضي الله عنهم، ولا يخلو حالهم عن إصابة فيكون لهم أجران، أو أن يكونوا قد أخطئوا فيكون لهم أجر واحد رضي الله عنهم، وهذا لا يعني أننا نقول: إنهم معصومون كما تقدم قبل قليل، لكننا نعتقد فيهم كل خير، ونعتقد فيهم كل بر، ونسأل الله لهم العفو والعافية والمغفرة، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال رحمه الله: [واعتقاد فضله] أي: يجب أن يعتقد فضلهم، فالواجب أن نعتقد فضلهم رضي الله عنهم، وأن نعرف ما لهم من السابقة والمكانة؛ ولذلك قال: (واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم) أي: أنهم سبقوا إلى الخير، وسبقوا إلى الفضل، وسبقوا إلى نصرة الشريعة ونصرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم استدل المؤلف رحمه الله لما تقدم من واجبات في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]] هذه الآية جاءت في سياق بيان الذين يستحقون الأخذ من الفيء، والفيء: هو ما يوقف عليه من أموال الكفار بلا قتال، فجعل الله عز وجل الحق فيها: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8] ثم ذكر الله عز وجل ممن يستحق الفيء بعد ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد المهاجرين والأنصار، لكن ليس كل أحد جاء بعدهم إنما من كان على هذه الصفة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فهذا فيه الدعوة لهم بالرحمة والدعوة لهم بالمغفرة.
قال: [وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]] وهذا من أبرز ما تميز به الصحابة رضي الله عنهم أنهم أشداء على أعداء الله الذي يحادون الله ويكذبون رسله، وهم فيما بينهم أهل رحمة وتواضع وخفض جناح وذلة وتقارب، حتى إنه وصفهم الله عز وجل بهذا الوصف في قوله تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] والرحماء: جمع رحيم، والرحيم: هو الذي يسعى في إيصال الخير وقطع الشر عن المرحوم، فهم رضي الله عنهم كانوا يسعون في إيصال كل خير لكل من يعرفونه من أهل الإسلام، ويسعون في قطع كل شر عمن يعرفونه من أهل الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم، وكفى بتزكية الله عز وجل لهم تزكية في هذه الآية وفي غيرها من الآيات.
معنى هذا: أن هذا النهي نهي لكل مسلم عن أن يسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ممن تقدم إسلامه أو ممن تأخر إسلامه؛ لأن نسبة من بعد الصحابة إلى الصحابة كنسبة المتأخرين منهم إلى المتقدمين، وهذا دليل على ما ذكرنا قبل قليل من أنه كلما ازداد وصف الصحبة في شخص فإنه يستحق من الفضل والمكانة والمحبة وسائر ما يلزم من التولي أكثر من غيره، فإن عبد الرحمن بن عوف يستحق من المحبة والتولي والاستغفار والترحم، أكثر ممن جاء بعده كـ خالد بن الوليد، وإن كان الجميع يشتركون في أصل الحق وهو التولي والمحبة والاستغفار والكف عن مساوئهم والكف عما شجر بينهم والاستغفار لهم، وما إلى ذلك مما تقدم ذكره في كلام المؤلف.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الإسلام عن سب أصحابه، فكل من كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز سبه، لكن أيهما أعظم وأشد في السب: أن يسب الإنسان أبا بكر رضي الله عنه أو أن يسب وحشياً رضي الله عنه؟
الجواب: أن يسب أبا بكر.
وأيهما أعظم أن يسب عمر أو أن يسب من تأخر إسلامه أو من تأخر إيمانه من الصحابة رضي الله عنهم؟
الجواب: لا شك أن سب عمر رضي الله عنه أعظم، ولذلك يجب أن يكف المؤمن عن سب كل أهل الإيمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يشتد الأمر بالمؤاخذة والذنب بقدر ما يكون من الوقيعة فيهم رضي الله عنهم، فسب معاوية -مثلاً- ممن أسلم بعد فتح مكة، أو عمرو بن العاص رضي الله عنه محرم؛ لكن سب أبي موسى وأبي هريرة أعظم من سبهما، وكذلك سب طلحة والزبير وسعد وسعيد أعظم من سب أبي موسى وأبي هريرة ، وكذلك سب أبي بكر وعمر أعظم من سب من دونهم من الصحابة رضي الله عنهم.
فقوله: (لا تسبوا أصحابي) نهي عن سب الجميع، ويتأكد هذا النهي في حق من عظمت منزلته في الصحبة وطالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً) أي: مثل جبل أحد وهو جبل معروف بالمدينة، يقع في جهة الشمال منها، فلو أنفق غير الصحابي مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، أي: ما بلغ في الأجر والمثوبة قدر ما ينفق أحد المتقدمين من الصحابة ملء يديه، فالمد هو: ملء اليدين أو نصيفها أي: نصف المد، وهذا يبين أن الفضل فيما يقوم في القلب، وأن السابقة لها فضل عند الله عز وجل كما قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10].
فكل من سبق إلى الفضل فله من المنزلة والمكانة ما ليس لغيره ممن تأخر عن هذا الفضل وعن هذا الخير، فمعنى الحديث: لو أنفق قدر ما تملأ اليدين نفقة في سبيل الله، فإن نفقة الواحد منهم نصف المد خير من أن ينفق غيره مثل جبل أحد ذهباً.
ومعاوية خال المؤمنين ، وكاتب وحي الله ، أحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم ].
الجواب: سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أحوال:
الحالة الأولى: أن يسبهم بالكفر، بمعنى أن يكفر من علم إسلامه منهم، ويقول -مثلاً-: الصحابة كفروا إلا نفراً قليلاً، فهذا لا شك في كفره.
الحالة الثانية من أحوال السب: أن يسبهم ويلعنهم ولا يتهمهم بالكفر، فهذا لا شك أنه ذنب عظيم كبير يوجب المؤاخذة والعقوبة، وهذا باتفاق أئمة الدين ولا خلاف بينهم.
الحالة الثالثة: أن يصفهم بما لا يقدح في دينهم من بغض أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً من المحرمات، والفارق بين هذا والذي قبله أن الذي قبله اختلف العلماء فيه على قولين: فقيل: إنه يكفر، وقيل: إنه لا يكفر، أما هذا الذي هو سب بما يقدح وينقص منزلتهم لكن بما لم يلحقهم به نقص في دينهم فإنه يكون من الكبائر والآثام.
فهذه هي منازل ومراتب سب الصحابة رضي الله عنهم.
وأشهر من عرف بسب الصحابة هم الباطنية الرافضة عليهم من الله ما يستحقون، فإنهم يتقربون إلى الله بسب الصحابة، وهم لا يزدادون بهذا من الله إلا بعداً، ويسوغون هذا ويبررونه بحب آل البيت، وأهل السنة والجماعة أعظم منهم حباً لآل البيت، وأعظم منهم نصرة لله ورسوله، وقد جمعوا بين الفضيلتين، وليس بين حب آل البيت وحب الصحابة تعارض، بينما عند الرافضة أنه لا ولاء إلا ببراء، ولا ولاء لأهل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر ، والسابقين الأولين من الصحابة رضي الله عنهم.
ونحن نقول: لا ولاء إلا بولاء، فلا ولاء لأهل البيت إلا بمحبة وولاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهن رضي الله عنهن قد أثنى الله عليهن وبين منزلتهن في قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6] وهذا الخبر من الله عز وجل فيه بيان ما لهن رضي الله عنهن من المنزلة، فهن أمهات المؤمنين، ومعنى الأمومة هنا أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإعظام والإكرام، وليست أمومة نسب بلا شك، ولا توجب محرمية، أي: ليست أمومة تبيح الخلوة، وتبيح ما يستبيحه الإنسان من النظر إلى أمه وما إلى ذلك، وإنما هي أمومة احترام وإجلال وتقدير لما لهن رضي الله عنهن من المنزلة، فهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأزواجه في الآخرة.
والمؤلف رحمه الله أثبت هذا لجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، فهن رضي الله عنهن في أصل هذه المنزلة سواء باستحقاقهن ذلك.
يقول: ( المطهرات المبرآت من كل سوء ) المطهرات: اللواتي طهرهن الله جل وعلا، وذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] فلا شك أن المراد بأهل البيت في هذه الآية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فهن من أهل البيت بنص القرآن؛ لأن الكلام السابق واللاحق كله في شأن زوجاته صلى الله عليه وسلم وفي شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( المبرآت من كل سوء ) أي: أنهن سليمات بريئات من كل سوء يلحقه أحد بهن، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم منهن من توفيت في حياته وهن خديجة بنت خويلد أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها، وهي مشهورة بـ أم المساكين ، هاتان الزوجتان توفيتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقي من أزواجه: عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وصفية بنت حيي ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث الهلالية ، وميمونة بنت الحارث المخزومية ، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية وسودة بنت زمعة .
وأما مارية فليست زوجته، وإنما هي سريته رضي الله عنها.
فتلك هن اللواتي توفي عنهن رسول الله صلى اله عليه وسلم، أضف إليهن الثنتين اللتين توفيتا قبله، فيكون المجموع إحدى عشرة امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولهن من الحق والمكانة ما ذكر رحمه الله.
وأما أقوال العلماء: فمنهم من قال: خديجة أفضل، ومنهم من قال: عائشة أفضل، ومنهم من توقف وقال: لا نفضل، ومنهم من قال: إن خديجة أفضل من وجه وعائشة أفضل من وجه، خديجة في صدر الإسلام لما كان لها من المكانة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإعانته وتثبيته على الرسالة، وعائشة أفضل في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لها من حفظ الشريعة وحسن التبعل للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما سئل صلى الله عليه وسلم : (من أحب الناس إليك؟ قال:
قال: (فمن قذفها) أي: قذف عائشة رضي الله عنها (بما برأها الله منه) أي: بما طهرها الله من الإثم ومن الزنا والفاحشة: (فقد كفر بالله العظيم)، ولماذا كفر بالله العظيم؟
الجواب: لأنه كذب القرآن الذي فيه البراءة واضحة جلية في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] فسماه الله عز وجل إفكاً لكذب وفداحة ما وقعوا فيه من وصف عائشة رضي الله عنها بما وصفوها به من الزنا الذي برأها الله منه! رضي الله عنها.
واختلفوا أيضاً في آبائهن -آباء أمهات المؤمنين- هل يوصفون بأنهم أجداد المؤمنين وأمهاتهن جدات المؤمنين؟
الذي عليه جمهور العلماء أنهم لا يوصفون بذلك؛ لأن هذه الفضيلة خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهن، وهي أمومة حرمة واحترام وتقدير وفضل وإجلال، وليست أمومة نسب حتى تنتشر وتتسع، فوصف معاوية بخال المؤمنين هو من هذا الوجه، وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز أن يوصف بهذا الوصف.
يقول: ( وكاتب وحي الله ) أي: أنه كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو من كتبة الوحي رضي الله عنهم، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم إذ اجتمع عليه المسلمون بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة، فاجتمع المسلمون في سنة إحدى وأربعين على معاوية رضي الله عنه، وأصبح بذلك الخليفة للمسلمين الذي ولي من قبله من الخلفاء.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر