الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يقول علماء أصول التفسير: لماذا نسخ نص الحكم بالرجم؟
قالوا: تكريماً لهذه الأمة، فكأن الله سبحانه لم يرد أن يسجل عليها في كتابها زناً يقع من شيخ وشيخه، والمولى سبحانه ينهى الناس أن يشيعوا الفاحشة في المؤمنين، فكيف يسجله على الأمة في القرآن الذي يتلى في المساجد؟!
فلما وقع الحكم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعلوا ذلك، وعلم الجميع به؛ لم يعد هناك حاجة إلى بقاء النص بهذه الصفة في كتاب الله.
وهذا الحكم هل يكون معه جلد ثم رجم كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أو يكفي الرجم دون الجلد كما هو مذهب الجمهور؟
استدل الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجلان، زنى ابن أحدهما بزوجة الآخر، فقال زوج المرأة: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، وكان الآخر أفقه، فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة من الغنم وبأمة، وسألت العلماء فقالوا: إنما على ابنك الجلد، وعلى المرأة الرجم، فقال رسول الله: نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، أما غنمك والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، ولم يذكر جلداً قبل الرجم.
يهمنا هنا أن الإسلام يعصم دم الإنسان إلا بتلك الأمور الثلاثة، ولكن مسألة: لماذا يرجم؟ ومسألة: الفرق بين الرجم والجلد؟ تلك مسائل يجتهد فيها العلماء، وقد يصيبوا وقد يخطئوا.
وهل يقتل الحر بالعبد؟
التحقيق -وهو قول الجمهور- أن الحر لا يقتل بعبد.
وهل يقتل المسلم بكافر؟
إن كان الكافر حربياً فلا يقتل به إجماعاً، وإن كان ذمياً أو مستأمناً أو له عهد وأمان من الإمام، فـأبو حنيفة رحمه الله قال: يقتل به المسلم؛ لأن من قتل المعاهد الذي له من الإمام عهد بالأمان فقد افتات على الإمام بنقض عهده مع هذا الذمي، والجمهور يقولون: لا يقتل به، وإنما لأوليائه الدية، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
فهذا الحكم: النفس بالنفس؛ لو عمل به الناس، لحفظت الدماء، وكانت لهم الحياة، كما قال سبحانه: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
[البقرة:179].
ومن الأسف أن بعض الناس قد يستخف ببعض السنن، وقد قال الحنابلة: من استخف بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها سنة، فقد ارتد عن الإسلام عياذاً بالله! كمن رأى إنساناً قد وفر لحيته، وأكرمها، فهزأ به وقال: هذا رجعي، هذا متأخر، فإنها ردة عن الإسلام عياذاً بالله! فليحذر الإنسان أن يفعل شيئاً يوقعه في خطر لا يعلم مداه، أو يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً فيدخل بها جهنم، كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أربعين خريفاً) .
وقد كان الصحابة في غزوة، وكان منهم بعض ضعاف الإيمان، فأخذوا يتكلمون ويسخرون من أصحاب رسول الله، وقالوا: ما رأينا أكبر بطوناً، وأجبن عند اللقاء، من أصحاب محمد!! فجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كفروا، فقال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
[التوبة:66]، فقالوا: كنا نتحدث حديث الركب، وما كنا جادين، فلم تقبل معذرتهم، فقد كفروا بالله عندما سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهكذا كل من فعل فعلاً يضر بالإسلام أو ينقض الإسلام فهو ردة والعياذ بالله!
ومذهب الأئمة الثلاثة مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة رحمهم الله أن قتل تارك الصلاة حد من حدود الله، وأما الإمام أحمد رحمه الله فيقول: يقتل تارك الصلاة ردة وكفراً عياذاً بالله!
والنتيجة المترتبة على هذا الخلاف: أن الأئمة الثلاثة يعاملونه في تركته وفي زوجه معاملة المسلمين، أي: أنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه ذووه؛ لأنه مسلم عاصٍ قتل في حد من حدود الله، كما لو قتل نفساً فقتل بها، وأحمد رحمه الله يقول: لا يشرع له تغسيل ولا تكفين، بل يدفن ويوارى، ولا يرثه أهله، وتركته وماله فيء لبيت مال المسلمين، ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل ردة وكفراً والعياذ بالله!
ومنهم من يقول: يدخل في عموم التارك لدينه، المفارق للجماعة الذي يخرج على جماعة المسلمين، ويقطع عليهم الطريق، ويسلب الأموال، ويعتدي على الأعراض، وقد يسفك الدماء، فهذا يقتل ويصلب، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو يغرب، وكل ذلك جاء في حد قاطع الطريق.
وإذا بايع الناس إماماً، ثم جاء رجل يطلب البيعة لنفسه، فإنه يقتل؛ لأنه جاء ليشق عصا المسلمين.
لو فكر الإنسان في وصف البكر الذي لم يتزوج رجلاً كان أو امرأة لعلم الحكمة، فالمرأة البكر التي لم تتزوج، لو زلت قدمها ووقعت في الزنا، فزناها أهون من المحصنة وقد جاء في الحديث: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فهو يصيب ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها اللمس، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وفي رواية: (والقلب يزني وزناه التشهي والهوى) ، فكل ذلك من الزنا، والفرج يصدق أو يكذب، فلو قدر أن فتاة بكراً زلت بها قدمها فزنت، فلو حملت من هذا الزنا هل يمكن أن تلصق هذا الولد بزوج سابق؟ لا، ويعلم الجميع أنه لا أب له، أما الثيب المرأة المتزوجة، فلو أنها زنت وحملت من الزنا، فولدها سيكون تحت مظلة الزوج، وتلحق بالزوج من ليس له، فتفسد الأنساب، ويكون هناك مفاسد كبرى، فولدها من الرجل الأجنبي يعيش مع بنات هذا الزوج كأخ لهن، وهو أجنبي عنهن، ويعيش مع هذه المرأة على أنها أمه، ويرثها، وإذا مات الزوج ورثه على أنه ابنه، وهو ليس ابناً له، ولا يحل له الميراث.
إذاً: زنا الثيب يلحق أضراراً كثيرة بالمجتمع، ويوجد في الأسرة ولداً تحت مظلة الزوج، ولو كانت مطلقة، أو توفي زوجها، ثم بعد سنة ارتكبت الزنا وجاءت بولد، فممكن أن تقول: هو من الميت أو من الزوج المطلق، فتتعلق بوسيلة ما، أما البكر فليس لها طريق عذر، وإن قدر شيء فهو محدود ومحصور وقائم بذاته، وولدها لا يلحق ولا يناط بأحد.
وكذلك حد قتل النفس فيه حكم عظيمة، فلو ترك الناس يقتل بعضهم بعضاً لانتشر الفساد في الأرض، ولما أمن أحد.
وهكذا قتل التارك لدينه، فلو ترك لكل إنسان أن يلعب بالدين كيفما شاء، لعظم الفساد والشر، وقد يقول قائل: وماذا تقول في قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
[البقرة:256]، فيرتد أو لا يرتد فهو حر؟!! نقول: لا، آية:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
سبب نزولها معروف، ولو ترك الباب مفتوحاً لكل من أراد التلاعب بالدين، لصار اليوم مسلماً، وغداً يهودياً، وبعدها نصرانياً، وعاش مع المسلمين، وورث من أموالهم، وتزوج من نسائهم، ثم ينتقل إلى النصارى بأموال وميراث المسلمين، وبعد أن علم بأحوالهم وانتقل إلى الآخرين، وهكذا ينتقل إلى الدين الثالث، ثم يرجع، ويصبح كاللولب يلعب بالأديان كلها، فهذا فساد عظيم، وإشارة إلى عدم صلاحية دين من هذه الأديان، فآية:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
لا تتعارض مع هذا الحديث، ولا مع هذه القضية، فنزولها كان في أول الأمر، فكان لا يكره أحد، بل يترك له الاختيار إلى أن يقتنع ويرى وينظر، ثم بعد ذلك نسخت بهذا الحديث، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا...)، ولم يقل: حتى يتخيروا، وأتركهم على اختيارهم، وكان إذا بعث جيشاً أو سرية قال لقائدها: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فكف عنهم، وإن هم أبوا فأعلمهم أن عليهم الجزية، فإن دفعوها فكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم)، فما ترك الناس على اختيارهم بل يلزمهم أن يختاروا الإسلام أو الجزية أو السيف، فهذا الحديث عظيم بين حرمة المسلم في الإسلام، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر