الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) متفق عليه ].
هذه صورة من معاملة أصحاب الديون في ثمن المبيعات؛ لأن الرجل قد يكون مديناً في ثمن مبيعات، أو في أجرة أعيان، أو في قرضٍ عيني نقدي، وغيرها من الالتزامات المتعددة التي يلحقه الدين فيها، فإذا أفلس رجل، وصدر الحكم من الحاكم بأن يحجر عليه، وجب أن يعلن ذلك للعامة؛ حتى لا يتعاملوا معه، ومن تعامل معه بعد الحجر عليه لا يشارك الغرماء في قسمة الموجود من ماله؛ لأنه دخل على بينة بأنه محجور عليه، وتكون المعاملة معه في الذمة غير متعلقة بماله فلا يشارك الغرماء فيما يخصه، بخلاف من له دين قبل الحجر عليه، فإذا حجر الحاكم على المفلس، ثم أراد أن يبيع موجوداته، فوجد أحد الدائنين سلعته بعينها التي باعها عليه ديناً، فهو أحق بها من الغرماء سواء كان الدين كيس رز مثلاً، أو سيارة، أو بعيراً، فإذا وجد سلعته ستباع وتقسم على الغرماء بحصص ديونهم بالنسبة المئوية، وهو من ضمنهم، لكن سلعته موجودة بعينها بخلاف الديون الأخرى التي تصرف فيها، استدان سيارة وباعها، استدان ناقة ونحرها، استدان كذا وصرفه، أو استدان كذا وصنّعه، لكن هذه السلعة بالذات ما زالت موجودة على ما هي عليه، فصاحبها أولى بها، ولكن بشروط أوصلها بعضهم إلى خمسة شروط:
1- ألا يكون أخذ من الثمن شيئاً؛ لأنه لو كان أخذ من الثمن شيئاً سيكون هناك اشتراك.
2- ألا يكون المشتري المفلس المحجور عليه باع بعضها، كما لو اشترى منه وسقاً من التمر، ثم باع منه خمسة أو ستة صيعان.
3- ألا يكون تصرف بجزء منها.
4- ألا يكون تعلق بها حق الآخرين، كما لو أدخلها في شركة مع أناس آخرين.
5- ألا تكون السلعة تغيرت بزيادة أو بنقص، زيادة في ذاتها لا في قيمة السوق، فلو اقترضها يوم اقترضها وهي تساوي ألف ريال، والآن صارت تساوي ألفين أو تساوي نصف ألف فالدائن أحق بماله، لكن لو اشتراها وهي حائل، فحملت، فهذا الحمل زيادة من حق المفلس، ولو اشتراها وهي حامل فنتجت، فإذا أبعدنا النتاج نقصت، أو إذا اشترى العبد بنسيئة، وعند الحجر كان العبد قد تعلم صنعة، أو تعلم مهنة يكتسب منها فهذه زيادة، أو اشترى الجارية البكر وعند الحجر عليه لم تعد بكراً؛ لأنه قد استمتع بها، فهذا نقص فيها، فيقولون: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء ما لم يحدث فيها تغير، وما لم يكن قد استلم من قيمتها شيئاً، وما لم يطرأ عليها زيادة أو نقص، وما لم يتعلق بها حق الآخرين.
فقوله: (من أدرك ماله بعينه) يعني: أدرك ماله بعينه وذاته في أموال المفلس التي يراد بيعها لتوزيع القيمة على الغرماء، فأدركها بعينها فهو أحق بها، ونقول له: خذ سلعتك لكن بتلك الشروط.
هذا الشرط منصوص عليه، أي: (أيما رجل باع متاعاً ثم أفلس الذي ابتاعه، ولم يكن قد تقاضى شيئاً من ثمنه فهو أحق به) وهذا أحد الشروط التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [ (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) ].
لو مات المشتري الذي أفلس، ولم يستطع السداد، والورثة عجزوا عن سداد الديون، والتركة لم تتحمل؛ لأن الورثة غير ملزمين بقضاء دين الميت من مالهم، والميت مرهون بتركته، فإن ترك وفاءً سدد منه الديون، والدين مقدم على حق الورثة، بل إن البعض يقدمه على الوصية وعلى حقوق الله، والبعض يقدم حق الله على حق العباد، وجملة ذلك أن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة، ومنها:
مئونة تجهيز الكفن والحنوط، وإذا كان لنقله أجرة، وإذا كان لقبره ثمن، فكل ذلك يسمى مئونة تجهيزه، وهو مقدم على حق الورثة.
وهناك من يقول: لا، الدين أحق من هذا، ومئونة التجهيز تكون على بيت مال المسلمين.
وبعضهم يقول: لا، حق الله يقدم، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت: (إن أمي ماتت أينفعها إن حججت عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)، وقال الذين قالوا دين العباد مقدم: دين الله مبني على المسامحة، ودين العباد مبني على المشاحة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قدم له ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا، صلى عليه، فقدم له ميت فسأل عن دينه: فقالوا: نعم عليه دين ديناران، فقال: صلوا عليه، فقال
والذي يهمنا أن من لحقه دين، فإن وجد في التركة سداد الدين فبها، وإن لم يوجد، فالورثة غير مسئولين، فنقول للدائن: خذ من تركته دينك، ثم إن بقي شيء فللورثة؛ لأن حق الورثة آخر حق في التركة.
فإذا مات المفلس وترك شيئاً لا يفي بالدين، وجاء الحاكم ليبيع الموجود ويقسمه على الغرماء، فإن أحب الورثة تطوعاً من عندهم أن يسددوا عن أبيهم فجزاهم الله خيراً، وإذا كانوا عاجزين عن سداد دينه، وجاء أحد الدائنين فوجد سلعته بعينها، فهل يأخذها كما لو كان المدين حياً؟ نجد النص هنا يقول: (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء).
أي: وإن مات المشتري المفلس فصاحب المتاع الذي وجده على حالته، والذي كان له الحق أن يأخذه لو كان المدين حياً، أسوة الغرماء، يعني: ماله يباع مع المال الموجود، ثم يقاسم الغرماء في مجموع ما يحصل من قيمة الذي وجد بالنسبة المئوية كما تقدم.
قال رحمه الله: [ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة قال: (أتينا
قضاء أبي هريرة فيه أن من مات أو أفلس فهو أحق بمتاعه، ولكن الأول مقدم على هذا، ولعله الأرجح إن شاء الله.
المفلس الذي ليس عنده وفاء لمجموع الديون، تباع موجوداته، ويسدد الغرماء بحصص متساوية، وهذا حكم المفلس الذي لم يجد ما يسدد ديونه، فإذا كان غنياً ولم يسدد فهل هو مفلس؟
لا، فالمال موجود لكن صاحبه مماطل، والمطل هو التأخير والتسويف والروغان:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها
ويقصد الشاعر أنها لا تفي له بوعد، وتماطله وهو معنى أي: تعبان، فالمطل هو التسويف والتأخير، فالغني يجب عليه أن يسدد الدين في أجله، فإن لم يسدد فهو مماطل، وفي بعض الروايات: (مطل الغني ظلم). وقوله: (يحل عرضه وعقوبته) أي: يحل عرضه بشكواه وذكر حاله، فيقول: هذا فلان مماطل، وهذا لا يعتبر غيبة بالنسبة للدائن، لأنه متشك من حاله، وليست هذه من باب الغيبة، فأحل عرضه للدائن بأن يتكلم فيه، وما كان يحق له ذلك، وغير الدائن ليس له حق أن يتكلم عليه؛ لأنه ليس له حق عنده.
ومعنى قوله: (وعقوبته) أي: حبسه، ويقولون: المفلس يحجر عليه ويباع ما معه، والغني يحبس ويلزم بالدفع كرهاً، فإن لم يدفع فقال الأئمة الثلاثة: الحاكم يبيع من ماله لغرمائه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أنتم لا تملكون المال فتبيعونه، ولا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، لكن يضيق عليه في حبسه حتى يتولى هو البيع ويفك نفسه، والذي يهمنا أن الغريم قسمان:
واجد يماطل، ومفلس لا يجد، فالمفلس يباع ما تحت يده، وليس للغرماء فوق ذلك، كما لو كانت موجودات المفلس لا تفي بالديون مثلاً: كانت خمسين في المائة من الديون، فماذا يفعل الغرماء في بقية حقوقهم؟
لا شيء، وكما قال سبحانه وتعالى فيما يتعلق بتصفية الربا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
وهذا -والله- هو الحق، بخلاف ما يجري في إنسان يدعي الإفلاس، ويأتي بشهود بأنه لا يملك شيئاً، ومع هذا يحبس إلى أن يرفع أمره إلى الحاكم، وربما يحبس السنة والسنتين، فماذا استفاد بالسجن؟ كلف الدولة مئونته، وضيع من ورائه أهله، والغرماء لم يستفيدوا شيئاً!
وأول قضية عرضت علي في المحكمة هي لشخص مطالب بثلاثين ألف ريال لبعض جيرانه، وكنت أعرفهم قبل القضاء، فقلت: أتعلم أن عنده مالاً؟ قال: لا والله! إني لأصرف على أهله وهو في سجنه، فقلت: فماذا تريد من سجنه؟ يا أخي! اتركه يخرج من السجن، ويكفيك مئونة أهله، أنت لك عليه دين وتصرف على أهله شفقة منك، فاتركه يخرج ليكفيك هذه المئونة لعله يفعل شيئاً، قال: ما أدري هل يرضى بقية الغرماء؟ فجمعتهم وكلمتهم، وذكرت لهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقالوا: ماذا تريد؟ قلت: أريد منكم أن تعطوه مهلة ليعمل فيها، وكان يعمل في البيع والشراء، وكان ذلك في شعبان، وقد قرب رمضان والموسم، فقلت: أعطوه مهلة ليحاول أن يسددكم بالتقسيط، فقالوا: وإذا لم يفعل؟ قلت: إذا ما فعل فالسجن موجود! اتركونا نعملها تجربة، فقلنا للمفلس: ماذا يا فلان؟ قال: أنا لا أريد إعلان إفلاسي؛ لأن التجار لن يتعاملوا معي بالدين إذا خرجت، فأعطوني مهلة وأستعين بالله، وطلب مهلة سنة ونصف، فقلت: لك سنتان، نصف سنة من عندي حتى توفي دينك، وسبحان الله! كان مقابل المسجد عمارة تحتها معارض، وليس كل إنسان يستطيع أن يستأجرها، فأملاها بالبضائع، والزبائن والحجاج يمرون من عندها بكثرة، والحركة عنده شديدة، فما مضى ستة أشهر إلا وقد سدد نصف الدين! فهذه الطريقة لماذا تتركونها؟!
الآن يمكث الغريم سنة وسنتين وثلاثاً في السجن حتى يوفي دينه، فمن أين سيوفي دينه؟ السجن ليس محل اكتساب، فلو عومل الناس المدينين بهذه الطريقة التي يراها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لخفت المسئولية على السجون، وحفظت الأسر التي تضيع، وكانت سبباً لسداد الديون.
إذاً: المفلس إذا لم يجد ما يسدد دينه، فإدخاله السجن مفسدة لا مصلحة فيها، وهم يريدون بسجنه أنه لو كان عنده شيء يخفيه فسيظهره، ولو كان ذلك لأظهره من قبل، والذي يهمنا هي الناحية الشرعية في حق المعسر، قال الله: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] ، أما إذا كان موسراً عنده المال، ويتأخر ويماطل؛ فهذا ظلم نفسه قبل أن يظلم الغرماء، وفعله هذا ظلم يحل عرضه بالكلام عليه وشكواه، ويحل عقوبته بحبسه، وإن لزم الأمر ضربه، وبعضهم يقول: الضرب ممنوع، ولكن الحبس إلى أن يبيع الحاكم من ماله ما يسدد حق الغرماء.
ويقولون: بعض الغرماء لا يملك حبس غريمه، كالولد لا يملك حبس أبيه في الدين لحديث: (أنت ومالك لأبيك)، فإذا تعامل معه وأراد أن يأخذ من ماله فله الحق في ذلك لكن بشروط:
1- ألا يأخذ من مال الأكبر ويعطي الأصغر أو العكس؛ لأنه يكون قد ملك أحد الإخوة من مال أخيه بدون حق.
2- ألا يكون مال الولد تعلق به حق الآخرين؛ بأن دخل مع أناس في شراكة برأس المال، فلا يذهب للشريك ويقول له: آخذ من حق ولدي؟ لا؛ لأنه مرتبط بمال الغير.
3- ألا يكون الولد في حاجة لهذا المال في نفسه ولمن تلزمه مئونته.
4- أن يكون الوالد محتاجاً له، وحاجة الوالد هذه يفرع عليها المالكية: في الضروريات والكماليات، سواء في الأكل والشرب واللبس، أو في الزواج إذا كان محتاجاً للزواج، وهل الزواج ضرورة أو حاجة أو ترفيه؟
على حسب حالة الأب، وهذه تفصيلات في حديث: ( أنت ومالك لأبيك ).
إذاً: (مطل الغني ظلم)، وللدائن الحق أن يشتكيه ويتكلم عليه، وللحاكم الحق أن يحبسه حتى يسدد ما عليه، ما دام أنه يوجد عنده يسار.
في هذا الحديث أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، وشارح هذا المتن يربط بين هذا الحديث وبين حديث وضع الجوائح بعموم: (أصيب في ثمار ابتاعها) أي: اشتراها، والواقع أنه ليس بين الحديثين ارتباط، وليس بينهما تعارض، وموضوع ذاك الحديث أنه اشترى الثمار بعد بدو صلاحها، ولا زالت على أصولها، فأصابتها جائحة، فأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، وهذا الحديث أصيب في ثمار ابتاعها، أي: اشتراها فلحقته ديون، وليس في هذا الحديث ذكر الجوائح، لكن أصيب في ثمار، والإصابة في الثمار أعم من كونها جوائح وهي على رءوس النخل، وفي مثل هذا أحب من طلبة العلم أن يرجعوا في الحديث الذي فيه مثل هذا الإشكال إلى مرجعه، فإذا قال المؤلف ابن حجر مثلاً: رواه أبو داود ، فنرجع إلى أبي داود لننظر كلام الشراح عليه، فيكون القول هناك أولى من قول شارح جديد على أبي داود .
موضوع هذا الحديث أن الرجل اشترى ثماراً، وأصيب في ثماره، وما نوع الإصابة؟ لم يحدد لنا الحديث نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟
فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولكن ما جُمِع من الصدقات لا يسدد الديون التي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: ( خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ) يعني: في الوقت الحاضر ليس لكم عليه وليس لكم عنده إلا ما وجدتم، ماذا يفعل؟ لا يوجد إلا هذا، وهل معنى هذا إسقاط بقية حقوقهم؟ لا، بل الطلب يرتفع عنه في الوقت الحاضر، وليس لهم عليه إلا هذا الموجود، فإذا أيسر فيما بعد فعليه قضاؤهم، وذمته لا زالت مشغولة، فعليه أن يوفي أصحاب الديون بقية حقوقهم، ويتفقون على هذا في المفلس وغير المفلس.
الشارح هنا يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتصدقوا عليه يتعارض مع الأمر بوضع الجوائح، وهذا لا تعارض فيه، ويقول: إن الأمر بالصدقة إنما هو جبراً لخاطره، وتخفيفاً للمصيبة عليه؛ لأنه أصيب في الثمار، لكن الإصابة المذكورة في هذا الحديث لا نعرف نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ لأن وضع الجوائح معروف مسمى، واتفقوا أن الجوائح هي الحوادث العامة مثل: ريح عاصفة، برد ينزل ويتلف الزرع، مطر شديد، آفة من آفات الزراعة، غرق، حريق، فالجائحة محددة بأحداث عامة، والخطابي في شرح السنن يقول: إن إصابته في ثماره لم يذكر فيها جائحة، فقد يكون أصيب في ثماره بعد أن اشتراها، نضجت وجذها ووضعها في الجرين ينتظر تجفيفها، وخرجت من عهدة صاحب الشجر، فأصيبت وهي في الجرين، مثلاً: جاء لص فحملها، أو باعها على إنسان ولم يدفع له الثمن، أو فاض عليها ماء فغرقت، قال: إصابة تلك الثمار لا تتعين أن تكون بجائحة على رءوس النخيل، أو على رءوس الشجر، فيحتمل أن تكون قد أصيبت بما أصابها بعد أن استوعبها، وانقطعت علاقته بصاحب أصول النخيل، وأصبحت في عهدته وفي جرينه، إذاً: لا علاقة لصاحب الأصول هنا بوضع الجوائح؛ لأن الجائحة لم تكن في زمن عهدته، بل هي بعد أن انفصل عنه بجني الثمر ونشره في الجرين، وانتظار إدخاله في مستودعاته، فلا علاقة لصاحب النخيل البائع بالجائحة.
ويكون أمره صلى الله عليه وسلم للناس بالتصدق عليه من باب الإرفاق ومن باب التخفيف عليه، ولكن كل الذي جمعوه من الصدقة لا يفي بدينه، والناس غير ملزمين بسداد دينه: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، وكل تطوع بما جادت به نفسه، وكان المجموع لا يفي بالدين، إذاً: هذا الحديث لا علاقه له بوضع الجوائح، فلا حاجة لأن يربط به، وأن يتطلب الجمع بينهما؛ لأن كلاً منهما مستقل عن الآخر.
ونفهم من هذا أن من أفلس أو أعسر في دين، فإن كان عنده شيء بيع وسلم للغرماء، فإن وفى بالدين الذي عليه فبها ونعمت، وإن لم يف فليس لغرمائه عليه طريق، وأشرنا إلى قضاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما طلب الغرماء أن يحبس المدين لهم، فقال: لا، لأن حبسه ليس فيه فائدة له ولا لأهله ولا لكم أنتم، فلماذا نحبسه وليس في الحبس فائدة؟! وكذلك معاذ رضي الله تعالى عنه لما طلب غرماؤه حقوقهم، باع النبي صلى الله عليه وسلم ممتلكاته، ولم تف بالدين، فقال: (ليس لكم إلا هذا)، وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعله يصيب شيئاً.
فمن هنا نعلم أن المفلس الذي لا يجد ما يسدد دينه ننظر: ما كان زائد عن ضرورياته، مثل ثيابه، مسكنه، مركبه، مأكله ومشربه، آلات صنعته التي يتعيش منها، فهذا لا يباع في الإفلاس بالدين؛ لأنه أحق بذلك لحياته، وما زاد عن ذلك يباع، فإذا لم يف بالدين أطلق سراح المدين ليسعى ويعمل، وليس للغرماء متابعته ولا حبسه؛ لأن ذلك لا يفيد أحداً شيئاً، فإذا يسر الله عليه، وتيسر أمره نقول له: سدد ما بقي عليك في ذمتك.
قضية معاذ مشهورة في عهده، وكان من خيرة شباب قومه وأكرمهم وأسخاهم يداً، فكان يستدين ليكرم الناس، وكان أكثر دائنيه من اليهود، فطالبوه بدينه فلم يستطع أن يقضيهم، ولم يواجه الناس وذهب مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم اشتكوه إليه، فقال: ما عندي ما أسدد ديونهم، فليأخذوا ما عندي، فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وباع ماله، وكان من طريقته صلى الله عليه وسلم أن يوصي الغرماء بالحط من الدين، فينبغي عند المطالبة بالدين، وكثرة الدين على المدين أن يوصى الدائن بأن يسقط من الدين شيئاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان في حجرته، فسمع لجاجاً في المسجد فخرج عليهم وقال: ما هذا؟ فقالوا: فلان يطالب فلاناً بدين عليه، فقال: يا فلان! حط من دينك، فحط من دينه الشطر، فقال للآخر: قم فاقضه) ، وهكذا ينبغي لمن حضر عند خصومة الغرماء مع غريمهم أن يتوسط بالصلح، وبإسقاط شيء من الدين، حتى في المحكمة يحق للقاضي أن يعرض على الدائن أن يسقط من الدين شيئاً.
وفي الآونة الأخيرة صارت الدولة تسدد عن بعض المعسرين، وهناك شروط يشترطونها إدارياً، والقاضي يساعد على هذا بأن يوصي الدائن أن يسقط شيئاً من دينه، والدولة تسدد الباقي، وهذا من باب التعاون فجزاهم الله خيراً.
فعلى هذا: إذا كان الدائن يرى أن المدين ليس قادراً على سداده فينبغي الإرفاق به، كما جاء أيضاً في حق المكاتب، فالمكاتب أمر الله سبحانه بأن يعطى فقال: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، قالوا: بأن يسقط عن المكاتب بعض الأقساط، ولو الأخير أو ما قبل الأخير، وكل ذلك مساعدة له في وفاء الدين الذي عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من غرماء معاذ أن يسقطوا من الدين، فقالوا: لا، وكان هذا الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في محله بالنسبة لـمعاذ ، وبالنسبة لأصحاب الدين؛ لأن الدائن موسر يريد أن يستلم ويقبض ماله، والمدين ما عنده ما يسلم، فالدائن أحق بأن يخاطب بأن يترك شيئاً من الدين، وأن يرفق بالمدين ويخفف عنه، قالوا: إنهم لم يقبلوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يهود، وقد جاء فيهم حديث عائشة (أنه بلغها أن رجلاً جاء بخز من الشام فقالت: يا رسول الله! لو أرسلت إليه لتشتري منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع)!! امتنع أن يداين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إنه يهودي، ولم يتسامح في ذلك، وهؤلاء لم يتسامحوا مع معاذ ، وقال الراوي للحديث: لو أحد من اليهود أسقط شيئاً لأحد لكان أولى الناس بذلك معاذ لطلب رسول الله، فلما لم يقبلوا لم يلزمهم؛ لأن هذا حقهم، وهذا من العدل والإنصاف والمساواة في الحكم، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل سلطته ولا مكانته أمام اليهود حيث أنه طلب منهم أن يسقطوا شيئاً من دين معاذ ولم يقبلوا، فهم أحرار، ولم يغصبهم.
لكنهم قالوا: بعه لنا! وبيع المدين بسبب دينه كان إلى عهد قريب في القوانين الأوروبية، كان الرجل يباع في دينه، أو يباع أحد أولاده، وكانت المزارع إذا بيعت بيع معها العمال الذين يعملون فيها، فقالوا: بعه لنا، وهذا على ما عندهم من السابق، فقال لهم: (ليس لكم طريق إليه)، وجاء الوعيد لمن باع حراً وأكل ثمنه، وكيف يبيع الحر؟ قد يتواطأ معه ويقول له: ادعي أني ملكك، ونتقاسم المبلغ، وإذا تواطؤا على ذلك فهم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، كما جاء في الحديث.
يقولون في فقه اللغة: مادة الحاء والجيم والراء تدل على القوة والصلابة واليبوسة.
وهنا الحجر: حبس وتضييق وشدة على المحجور عليه، فلا يتصرف في ماله، وقالوا: الحجرة من الحجر أيضاً؛ لأن الحجرة ما أحيطت بالجدران، وحجرت حتى امتنع خروج شيء منها كامتناع الحجر أن يخرج منه فلتة، ومنه الحجر بحفظ الولد، والحجر في الخلاء حافظ نفسه، وكذلك الحِجر: وهو الجزء الذي خرج من الكعبة ولا يدخل في عموم الكعبة.
واحجر بمعنى: ضيق، واحجر عليه يعني: شدد عليه وامنعه من التصرف في ماله، وهذا الحجر إذا تم -كما أشرنا سابقاً- يمنع صاحب المال أن يتصرف فيه تصرفاً ينقل الملك، فلا يرهن، ولا يبيع، ولا يهب.
والإخوة طلبة العلم قد يقرءون في بعض الدوريات: الانتقاد على الإسلام باسترقاق الأحرار، ويذكرون كلمة عمر : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!)، ويقولون: الإسلام هو الذي ابتدع الرق، وهذه فرية، والذي يصغي إليها جاهل، فالرق كان موجوداً قبل الإسلام، والإسلام غاير جميع النظم في مبدأ الرق، في إيجاده وفي تصفيته، أما إيجاده فلا رق في الإسلام؛ إلا من أخذ أسيراً في أرض معركة بين المسلمين والكفار، وما عدا ذلك فليس هناك رق، فإذا ثبت عليه الرق انسحب عليه وعلى ذريته.
وفي الوقت الذي شرع الرق؛ فالأبواب متعددة لإخراج الرقيق من رقه إلى سعة الحرية، فجعل في الكفارات اعتاق رقبة، مثل كفارة من جامع في نهار رمضان أو أكل أو شرب متعمداً عند مالك ، وبم تكون الكفارة؟ تبدأ بعتق رقبة، ثم صوم شهرين، ثم إطعام ستين مسكيناً.
وإذا ظاهر أحد من زوجه فما الذي يفك عنه هذا الظهار؟ عتق رقبة، أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً.
ومن حلف يميناً وأراد أن يكفر عنها فكفارته العتق أو الإطعام أو الكسوة، وليس هناك ترتيب كما في غيرها.
وإذا أراد أن يتبرر ويعتق نفسه من النار أعتق رقبة كما في الحديث: (من أعتق رقبة أعتقه الله بها من النار، كل عضو بعضو منه، حتى البضع بالبضع)، أي: والرأس بالرأس، واليد باليد، والرجل بالرجل، والبضع بالبضع، فيعتقه لوجه الله فيكون فكاكه من النار.
وإذا أساء إلى العبد أدنى إساءة بأن لطمة فليس لها كفارة إلا عتقه.
بينما نجد الذين يعيبون على الإسلام الرق يوسعون أبواب استرقاق الأحرار، ويضيقون باب إخراجهم عن ربقة الرق إلى الحرية، فتجدون في قوانينهم: إذا كان السيد مديناً بيع وصار عبداً، وإذا أفشى سر الدولة، أو أطلع على نقطة ضعف في الجيش أو إذا نظر إلى زوجة سيده بنظرة غير عادية، وغير ذلك؛ فإنها تستوجب استرقاق الحر، فوسعوا دائرة الإدخال، ومتى يتحرر الرقيق عندهم؟
لا يحق عندهم للسيد أن يحرر عبده إلا بإذن من الدولة؛ لأن تحرير العبيد يجعل ارتباك في الإنتاج والاقتصاد؛ لأن العبيد تقوم عليهم عملية الإنتاج، بينما الإسلام يعطي للإنسان الحرية في أن يعتق ما شاء.
وعلى هذا: لو أعتق المفلس عبيداً له، والشرع يتشوف إلى حرية أو تحرير العبيد، فهل يمضي عتقه أو لا يمضي؟
قالوا: لا يمضي عتقه بعد أن أعلن إفلاسه أو أعتقهم هروباً من سداد الديون التي عليه، وقد رد (النبي صلى الله عليه وسلم العتق على المدين الذي أعتق ستة أعبد عن دبر ليس له مال غيرهم، وباعهم وسدد دينه).
إذاً: من حجر عليه لا يتصرف في ماله بما يضر الغرماء. ومسألة البيع يتولى أمرها الحاكم، فيبيع ماله ثم يوفي الغرماء من هذا المبيع بحسب حصصهم من الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ، وباع ما يملك، وقسمه على الغرماء، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، وباقي الدين يكون في الذمة وليس لهم أي مطالبة الآن، فيتركونه إلى ميسرة.
ثم بعث صلى الله عيه وسلم معاذاً إلى اليمن قاضياً ومعلماً ومرشداً وجابياً للزكاة، ولعله أن يصيب من عمالته شيئاً، وأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الهدية على غير العادة، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً مقبولة، ولكنها للعمال رشوة، وذلك لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه من ورعه، ومن معرفته، ومن زهده لن يقبل الهدية التي هي رشوة؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر