إسلام ويب

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتبر السلم أو السلف عقداً من عقود الإرفاق بين المسلمين؛ وقد جعل الشارع عليه الصلاة والسلام له شروطاً حتى لا يقع الغرر أو التعدي على أي من طرفي العقد؛ وفي هذه الشروط: معرفة كيل ومقدار ونوع الشيء المسلم فيه، وعلى هذا جرى الصحابة رضوان الله عليهم في معاملاتهم.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، متفق عليه، وللبخاري : (من أسلف في شيء) ] .

    يقال في اللغة: السلف؛ بالفاء، والسلم؛ بالميم. والسلف لغة أهل الحجاز كما هو في الحديث، والسلم لغة أهل العراق، وكلاهما اسم لمسمى واحد.

    جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، فوجدهم على منهج وطريق في التعامل في البيع والشراء، والبيع والشراء من عقود الحاجيات؛ لأن الأمور: إما ضروريات، وإما حاجيات، وإما تتميمات:

    فالضروريات: حفظ الجواهر الست: الأديان، والعقول، والدماء، والأعراض والأنساب، وحفظ الأموال.

    فحفظ هذه المسميات ضرورية لكل مجتمع، مسلماً كان أو غير مسلم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بسلامتها وحفظها.

    والحاجيات: تبادل المنافع؛ مثل: البيع، والإجارة، والوكالة، والحوالات؛ فكل هذه حاجيات؛ أي: الحاجة تدعو إليها، وقد يعيش الإنسان طيلة حياته ولا يعقد صفقة واحدة؛ لأنه يجد من يكفيه في ذلك.

    والتتميمات: مثل الرهن، وهو تابع لعقد في الحاجيات؛ وهي المبيع، فهو متمم لعقد القرض بضمان سداده، فالسلم من العقود التي هي من ضمن الحاجيات؛ لأن الحاجة تدعو إليها:

    الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

    قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً [الزخرف:32]؛ لمصلحة الحياة، ولو كان الناس كلهم سادة لا يعملون شيئاً لفسدت الحياة، ولو كانوا كلهم عملة وليس هناك سادة لديهم المال والعقارات ما وجدوا ما يعملون فيه، فلابد من هذه الطبقية لإعمار الكون، والنتيجة الشرعية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] .

    فقدم النبي صلى الله عليه وسلم لهم عقوداً في البيع، والسلم، والإيجارات، وقد حصل تعديل بعض تلك العقود، كالإجارة، كما في حديث جابر ؛ فإنه أتى إلى أهل قباء وقال : (أتيتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كانت لكم فيه منفعة، ولكن طاعة الله ورسوله أنفع)، فقد كانوا يؤاجرون الأرض للزراعة على أن لصاحب الأرض ما في رءوس الجداول وما على القناطر من زرع، وللمستأجر وسط الأحواض، أو أن لصاحب الأرض الجزء الشرقي أو الغربي -لجزء معلوم المساحة- والباقي للمستأجر، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد يصاب هذا ويثمر ذاك؛ فيكون ذلك غبناً. فأما إن كان على جزء معلوم من الثمر فلا مانع، كأن تؤجر الأرض قمحاً على جزء منه؛ إما على الربع، أو على الثمن، أو السدس، فإن صحت فللجميع، وإن نقصت فعلى الجميع، ولا يكون هناك غبن.

    كذلك المبيعات التي كانت ممنوعة، عدّل فيها، وذلك مثل السلم.

    شروط السلم

    لابد في العين المسلف فيها: أن تكون معلومة للطرفين، وأن يغلب على الظن وجودها عند التسليم. أما إذا كانت نادرة ويغلب على الظن عدم وجودها؛ فيكون إحراجاً على المشتري، لذلك لابد في المسلم فيه من تحديد وبيان يمنع النزاع عند تسليم السلعة، فإذا أسلم في حبوب فيكون نوعها معروفاً، وإذا أسلم في تمور فيكون نوعها معروفاً، والمدينة كان فيها أكثر من مائتي صنف من التمر، فلابد أن يسمي الصنف الذي وقع عليه العقد، ويكون متميزاً معروفاً عند الطرفين، وإذا أسلف قمحاً فلابد أيضاً أن يحدد النوع؛ لأن القمح أنواع: البيضاء، والسمراء، والشامية، والحجازية، ولابد أن يكون المسلم فيه مسمى.

    وكذلك الكيل لابد أن يكون معلوماً من جهتين:

    الجهة الأولى: مقدار المكيل: بالصاع، أو بالإردب، أو بالقفيز، أو بالتنكة، وتكون مشاعة عند الناس؛ فلابد أن يكون الكيل معلوماً للطرفين حجماً ومقداراً، وإذا كان بالصاع؛ فهل هو الصاع الشامي أو المدني؟ وهل هو خمسة أو عشرة؟ بحيث أنه إذا جاء الأجل يقول: هذا عقدك عشرة آصع من تمر برني، أو هذا عقدك عشرة آصع من البر الشامي حباً، حتى لا يكون هناك نزاع.

    الجهة الثانية: إذا كان المسلم فيه زيت أو نحوه - كما سيأتي- لابد من تبيين نوعية الزيت؛ هل هو من الزيتون، أو السمسم، وكذلك المقدار، فإذا جاء الأجل سلمه النوع والمقدار الذي تعاقدوا عليه.

    هذا المكيل والموزون، وإذا كان المسلم فيه ليس مكيلاً ولا موزوناً، فهل يصح فيه السلم أم لا يصح؟

    ينص الحنابلة وغيرهم: أن غير المكيل والموزون؛ وهو المعدود، إن كان يصح أن يوصف ولو وصف استوفت الأوصاف عينه، بحيث يتميز عند التسليم، ولا تقع المشاحة؛ جاز.

    والآن في الوقت الحاضر نحتاج إلى هذا، ولنفرض وقوعه في: كاسات الشاهي، أو الصحون الصيني، أو كاسات الماء، أو الفنايل، أو الشماغ، فإذا أردنا أن نشتري أو نبيع سلماً، فكيف سيكون ذلك؟

    إن كان يمكنك أن تصف هذا اللباس بوصف معروف عند الناس يميزه عن غيره، بحيث أننا لو جئنا عند التسليم لا نتنازع في المعقود عليه، وذلك بذكر النوع والخامة؛ هل هو قطن أو كتان أو حرير، وهناك قاعدة في علم الغزل: كم في الـ (سم) من مدَّة خيط؛ السدى واللحمة، ويعرف عندهم بكثافة النسيج وخفته، فتأتي وتأخذ المسطرة وتنظر كم خيطاً في الـ ( سم )، وكلما كان الغزل رفيعاً كان أقوى وأكثر، وكلما كان متيناً كان أضخم وأضعف، فإذا أمكن وصفه بكل الصفات بحيث أنه لا يختلط مع غيره صح.

    والآن توجد ماركات وأسماء معينة وقد تشتبك في الأسماء، ولكن المقصود: الوصف الذاتي؛ وذلك مثل الملابس الجاهزة؛ ماركة كذا، ورقم كذا، وقماش كذا، فإذا وصف الملابس وقياساتها، ونوع نسجها، ولو أمكن أن يذكر أيضاً الشركة المنتجة بحيث أنها لا تختلف مع إنتاج شركة أخرى لكان أفضل، فإذا توافرت هذه المواصفات فلا مانع . ومثلها الصحون والملاعق، وأثاث المنازل.

    يقول الحنابلة: أما الأمور التي لا تنضبط كالقماقم والأسطال؛ فلا يسلم فيها، والقمقم: عبارة عن إناء مستدير يختلف حجمه، وتختلف قاعدته، ووسطه، وعنقه، فلا نستطيع أن نحدد قدر الضيق ولا السعة، ولا أن نحدد كم بين الضيق والوسط والقاعدة. فهذه لا تنضبط، ولكن إذا أمكن ذلك بالإنتاج المكنيكي الآن، وذلك مثل القالب الواحد الذي يصب آلاف الأسطال بمقياس واحد، وأمكن تحديد قاعدته ومحيطه، وذكر الوصف الذي يحدده ويميزه عن غيره، هل من هو من زجاج أو فضة، فإذا أمكن الوصف وأن يحدد المسلم فيه بحيث لا يختلف مع غيره فلا مانع.

    إذاً: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم)؛ أي: وصفات معلومة، والغرض من ذلك: منع النزاع عند التسليم، فكل ما يسبب نزاعاً عند التسليم بعدم التميز أو وصف مشترك لا يصح أن يكون سلماً. وكل ما يقضي على النزاع عند التسليم وليس فيه وصف مشترك مع غيره صح فيه السلم.

    وعلى رأي الجمهور: أن السلم يكون في كل ما يمكن وصفه، ولا يكون قاصراً على المكيل والموزون كما قال البعض؛ لأن هذا تحجير، وقد جاء النص : (من أسلف في شيء)، و(شيء) أعم العمومات، حتى أنه يشمل المولى سبحانه، قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88].

    إذاً: هذا موضوع السلف، أو موضوع السلم.

    شرط تسليم الثمن في مجلس العقد

    إذا تعاقدا في المجلس فلابد من تسليم الثمن في مجلس العقد، ولو تعاقدا في مجلس وقال: سأعطيك المال فيما بعد، وعندما يأتي الأجل تأتيني بالمبيع؛ فإنه لا ينعقد سلماً، فلابد من دفع الثمن في مجلس العقد، فإن افترقا ولم يدفع الثمن لم يتم العقد، لكن إذا دفع الثمن في المجلس فلابد أن يكون معلوماً، ولا يصح أن يكون صبرة في كيس، لماذا؟ لأنه في النهاية إما أن يوفي التزامه ويأتي بالمبيع، وإما أن يعجز عن الوفاء بأن يفتقد الصنف في ذلك الوقت، فماذا يكون الحكم؟ إما أن يسترجع ما دفع. وإما أن ينتظر حتى يوجد المسلم فيه، ولا يجوز أن يأخذ على ذلك شيئاً، فإذا دفع ألفاً وكان الأجل إلى سنة ولم يوجد الصنف وتعذر فإنه يأخذ الألف، أو ينتظر حتى يوجد الصنف ولو لسنة ثانية، ولا يجوز أن يحوله إلى صنف آخر عندما يتعذر وجود الصنف المعقود عليه، فيكون الثمن معلوماً كما أن المثمن يكون معلوماً.

    مكان تسليم المسلَم فيه

    أين يسلم البائع العين التي أسلم فيها؟

    إن كان مجلس العقد في مكان يصلح للتسليم فعلى حسب العادة، واستصحاباً للأصل: أن يأتي به البائع إلى محل المشتري، وإن كان العقد قد وقع في مكان لا يصلح للتسليم فعلى ما اشترطاه، فإن لم يشترط نرجع إلى الأصل وهو مجلس العقد.

    متى ينعقد عقد السلم في مكان لا يصلح للوفاء؟

    لو كنت في سفر على متن طائرة وجاءت المناسبة، وكنت تريد تمراً سلماً أو براً أو أثواباً من القماش، فقال صاحبك: عندي ما أبيعك، وأسلمك في العين بعد ستة أشهر، فيقول: اشتريت، خذ الثمن، فدفع الثمن في مجلس الطائرة وانعقد البيع، والمبيع أجله إلى ستة أشهر، فأين يأتي البائع بالمبيع؟ هل يأتي به في الطائرة؟ يتعذر هذا، فإن اشترطا عند العقد محل التسليم؛ فيلزم البائع أن يوفي بذلك.

    وإذا فاتهم أن يشترطوا ومكان العقد لا يصلح للتسليم، فإننا نرجع إلى الأصل؛ ويوفيه إلى المشتري في المكان الذي يصلح للتسليم؛ لأن مكان العقد وهو الأصل غير صالح للتسليم، وكذلك لو كانوا في سفينة في عرض البحر ... إلى آخره.

    ومباحث السلم واسعة، وأهمها ما جاء في الحديث: من ضرورة تعيين المسلم فيه مقداراً ووصفاً وجنساً، حتى لا يتأتى فيه النزاع عند التسليم، وكل ما صح وصفه، وأمكن تمييزه، وانتفى النزاع عند تسليمه، جاز فيه السلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087886590

    عدد مرات الحفظ

    774566466